هَبَّتْ هَبُوبُ الجَنَّة
راشد بن عبد الرحمن البداح
26 صفر 1441 هـ. الحمدُ للهِ الذي ظَهَر لأوليائهِ بنعوتِ جلالِه، وتعرَّف إليهم بما أسداه إليهم من إنعامِه وإفضالِه، وأشهدُ ألا إله إلا هو، وأشهدُ أن محمداً عبدُه ورسولُه، أرسله رحمةً للعالمين، وحسرةً على الكافرين، وسَدَّ إلى جنتهِ جميعَ الطُرقِ، فلم يَفتحْ لأحدٍ إلا من طريقهِ. فصلى اللهُ وسلمَ عليه تسليمًا كثيرًا مزيدًا. أما بعد: فاتقوا ربَّكم، واعبدوُه واشكروهُ.
يا عبدَ الله: تخيلْ أنكَ الآنَ تَدخلُ مع بابِ الجنةِ، ثم ترحبُ بك وتسلِّمُ عليك الملائكةُ، ثم تأويْ إلى قصورِك الباذخةِ، مسرورًا قد زالَ عنكَ تعبُ الدنيا ومرضُها وفقرُها وهمومُها، ثم تنظرُ من شُرفةِ قصرِك إلى الأشجارِ والأنهارِ، وأنتَ متكئٌ وبجانبكَ زوجاتُكَ وأهلُكَ، وكلُ قريبٍ لكَ قد ماتَ. والخدمُ ينتظرونَ منك إشارةً. حقًا إنه شعورٌ يبعثُ على الشوقِ ويستحقُ الصبرَ. {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا}.
هبَّت هَبوبُ الجنةِ، هواءً تتنسمُه مناخًا لطيفًا، وأجواءً صافيةً، ناعمةً في غيرِ حرٍ، نديةً لطيفةً في غيرِ بردٍ: {لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا}.
أما التعبُ والنّصَبُ في الجنةِ فقد ولّى زمانُه في الدنيا.
وأما فاكهةُ الجنةِ فنخلٌ ورمانٌ، ومن كلِ الفواكهِ: {وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا} إن قامَ تَناولهَا بسهولةٍ، وإن قعدَ تناولهَا بسهولةٍ، وإن اضطجعَ تناولهَا بسهولةٍ.
كلما قَطَفَ منها شيئًا خَلَفَه آخرُ:{كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} في اللونِ والشكلِ، مختلفًا في الطعمِ والحجمِ. ثم يخرجُ طعامُهم وشرابُهم عَرَقًا من جلودِهم كريحِ المسكِ، فلا بولَ ولا غائطَ ولا مُخاطَ.
أما الزوجاتُ فإنهن: "حُورٌ عِينٌ" واسعةُ الْعُيُونِ مع شدةِ سوادِها وصفاءِ بياضِها وطولِ أهدابِها. {وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ} من الحيضِ والبولِ والغائطِ، مطهَّرةٌ من الغيرةِ والتبرجِ، قاصراتُ الطرفِ على زوجِها؛ من محبتِها له، ورضاها بهِ.
قَالَ e: يُغَنِّينَ أَزْوَاجَهُنَّ بِأَحْسَنِ أَصْوَاتٍ سَمِعَهَا أَحَدٌ قَطُّ([1]):
فيا لذةََ الأبصــــار ِإنْ هيَ أقْبَـلــتْ ..... ويا لذَّةَ الأسمـــاع ِحينَ تَكَلَّمُ
وأما لذةُ نكاحِهن: فقد قَالَ e: إِنَّ الرَّجُلَ لَيُفْضِي فِي الْغَدَاةِ الْوَاحِدَةِ إِلَى مِائَةِ عَذْرَاءَ"([2])... قد تكعَّب ثديُها واستدارَ ولم يتدلَّ للأسفلِ. وكلما وطِئَها عادت بكرًا كما كانت بلا تَوالُد:
لكنهنَّ كواعبٌ ونواهـــــــدٌ ... فثُديُّهـــــن كأحسنِ الرمانِ
وجِماعُها فهو الشِّفاءُ لصَبــِّـها ... فالصَّبُ منه ليس بالضَّجْرانِ
حتى إذا ما واجهَتـــْــهُ تَقابَلا ... أرأيتَ إذ يَتقابـَلُ القَمـَران([3])
أيها الإخوةُ: لنعلمْ أنَّ هذهِ الدنيا لا تدومُ لحيٍ، إن سعِدَ فيها المرءُ يومًا شقيَ أيامًا، وإن تنعمَ ساعةً تألمَ ساعاتٍ بل أعواماً. إن كان فيها فقيرًا تعبَ في تحصيلِ قوتهِ وقوتِ عيالهِ، وإن رُزقَ المالَ شقيَ في حفظهِ وإنمائهِ، وإن ذاقَ فيها ما لذَّ وطابَ أُتْخِمَ ثم ضاقَ بعدَها بإخراجَ فضلاِتهِ، فما أحقرَ نعيمَ الدنيا الزائفَ أمامَ النعيمِ الحقيقيِ الأُخرويِ.
أيها الأحبةُ: لابدَّ أن نجلوَ صدأَ قلوبِنا بتذكرِ هذه السلعةِ الغاليةِ الجنةِ، وبالخوفِ من الحطمةِ النارِ. وأن يكونَ في قلبِك خوفٌ شديدٌ من فواتِ الجنةِ؛ فإنه كما أن الجنةَ قريبةٌ منك فالنارُ قريبةٌ كذلك، وكما قد تدخلُ هذه قد تدخلُ تلك.
قال ابنُ القيمِ: وإذا خلا القلبُ من ملاحظةِ الجنةِ والنارِ، ورجاءِ هذهِ، والهربِ من هذهِ: فَتَرتْ عزائمُه، وضعُفتْ همتُه([4]).
ولذا جاءتْ يوماً جاريةٌ لعمرَ بنَ عبدِ العزيزِ فقالت: يا أميرَ المؤمنين لقد رأيتُ فيكَ رؤيا؛ رأيتُ كأن القيامةَ قامتْ، وكأنَّ الناسَ يمرونَ على جسرِ جهنمَ، ورأيتُك يا أميرَ المؤمنين!! وقبلَ أن تُكمِلَ الجاريةُ وقعَ عمرُ مغشيًا عليه، فأسرَعُوا إليه، والجاريةُ تصرخُ وتقولُ: رأيتُك يا أميرَ المؤمنينَ واللهِ قد نجوتَ، رأيتُك واللهِ قد نجوتَ.
نعم؛ إن للجنةِ ثمانيةَ أبوابٍ، وهذه الأبوابُ في غايةِ الوُسعِ والكِبَرِ.
قالَ رسولُ الله e: مَا بَيْنَ مِصْرَاعَيْنِ مِنْ مَصَارِيعِ الْجَنَّةِ مَسِيرَةُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَلَيَأْتِيَنَّ عَلَيْهَا يَوْمٌ وَهُوَ كَظِيظٌ مِنَ الزِّحَامِ([5])
لكنْ: هل تَضمَنُ مع هذا الزحامِ أن تجِدَ لك فيها موضعاً إلا برحمةِ أرحمِ الراحمين؟ قال رجلٌ لابن السِّمَاكِ: عِظني، فقال: احذرْ أن تَقْدَمَ على جنةٍ عَرْضُها السماواتُ والأرضُ، وليس لك فيها موضعُ قَدَمٍ.
فهلمَّ أخيْ من الآنَ فالآنَ لنأمَلْ ولنعملَ ولنُعدَّ ولنستعدَّ إلى الدخولِ على اللهِ ومجاورتهِ في دارِ السلامِ، بلا نصبٍ ولا تعبٍ، بل من أقربِ الطرقِ وأسهلِها.
ذلك أنك في وقتٍ هو في الحقيقةِ عمُرُك، وهو بينَ وقتينِ، بين ماضٍ ومستقبلٍ، فالذي مضى تصلحُه بالتوبةِ والندمِ، وما يُستقبلُ تُصلحُه بالعزمِ على التوبةِ ما سارتْ بك القَدَمُ.
- فاللهم إِنَّكَ قُلْتَ: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}، وَإِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ، وَإِنّا نسألك الفردوس من الجنة، وليس شيءٌ غيرُ الفردوس ربَّنا.
- اللهُمَّ إِنّا نسْأَلُكَ إِيمَانًا لَا يَرْتَدُّ، وَنَعِيمًا لَا يَنْفَدُ، وَمُرَافَقَةَ نَبِيِّكَ محمدٍ e فِي أَعْلَى جَنَّةِ الْخُلْدِ.
- اللهم يا مقلبَ القلوبِ ثبت قلوبَنا على دينِك.
- اللهم أصلح لنا دينَنا الذي هو عصمةُ أمرِنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشُنا، وأصلح لنا آخرتَنا التي إليها معادُنا، واجعل الحياةَ زيادةً لنا في كل خير، والموتَ راحةً لنا من كل شر.
- اللهم اجمع كلمتَنا على الحق وسددْ إمامَنا ووليَ عهده، وبارك في علمائِنا، واحفظ جنودَنا في حدودِنا.
- اللهم اهد ضُلالَنا وأرشد غُواتَنا، وامحُ عثراتِ ماضينا، وأصلح حاضرَنا، ومستقبلَنا.
([1]) رواه الطبراني في المعجم الأوسط (4917 ) وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير (2441)
([2]) رواه الطبراني في المعجم الكبير (313) وصححه الحافظ أبو عبد الله المقدسي وابن القيّم في حادي الأرواح (307). والألبانيّ في السلسلة الصحيحة ( 367)
المرفقات
هبوب-الجنة
هبوب-الجنة
هبوب-الجنة-2
هبوب-الجنة-2