ها قد استجيبت دعوتك.
عبد الله بن علي الطريف
ها قد استجيبت دعوتك. 2/9/1439هـ
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [الحشر:18] أيها الإخوة: دعونا اليوم نخترق حجب الزمن ونطوى سجل الأيام.. فننتقل من هذا اليوم الثاني من رمضان إلى أيام في رمضان الماضي أو غيره، وقد دعونا الله فيها وربما ألححنا بالدعاء، وناشده الإجابة أن يبلغنا شهر رمضان.. ولم تكن تلك الدعوة دعوة فردية، وإنما هي دعوة عامة يدعو بها المسلمون في قنوتهم وجمعهم ومراسلاتهم أن يبلغهم الله هذا الشهر ويرزقهم التوفيق لصيامه وقيامه.. وها نحن قد بُلغنا.. وسمع اللهُ دعاءَنا فلله الحمد رب العالمين..
أحبتي: قفوا هنا وانتقلوا إلى يوم العيد يومَ ودعنا فيه شهر رمضان، وتزينا بزينة العيد وجلسنا في المصلى ننتظر دخول الإمام، وقد علت فيه تكبيرات المصلين لتعانق القلوب قبل الآذان وتدوي في فضاء المصلى كدوي نحل عند خلاياها..
تخيل نفسك في ذاك المقام الروحاني العظيم.. وأنت تستعرض سجل عملك في هذا الشهر ستكون أحد اثنين اختر أيهما الآن.؟ وستكون يوم العيد فيما اخترته إن أتبعت النية العمل إن شاء الله: فإن استعنت بالله وطرحت العجز والكسل، وشمرت عن ساعد الجد واستثمر الفرصة في هذا الشهر وخططت لها، واهتبلت ثوانيَها قبل دقائقها.. مهتدياً بما رَوَاهُ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: دَخَلَ رَمَضَانُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هَذَا رَمَضَانُ قَدْ جَاءَكُمْ شَهْرٌ مُبَارَكٌ، فَرَضَ اللهُ عَزَ وَجَلَ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ، إِذَا كَانَتْ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ صُفِّدَتْ الشَّيَاطِينُ وَمَرَدَةُ الْجِنِّ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ فَلَمْ يُفْتَحْ مِنْهَا بَابٌ، وَفُتِحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ فَلَمْ يُغْلَقْ مِنْهَا بَابٌ، وَنَادَى مُنَادٍ: يَا بَاغِيَ الْخَيْرِ أَقْبِلْ وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ وَللهِ عُتَقَاءُ مِنْ النَّارِ، وَذَلِكَ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ حَتَّى يَنْقَضِيَ رَمَضَانُ، وَفِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، مَنْ حُرِمَهَا فَقَدْ حُرِمَ الْخَيْرَ
كُلَّهُ، وَلَا يُحْرَمُ خَيْرَهَا إِلَّا مَحْرُومٌ" رواه النسائي وابن ماجة وأحمد.
أخي الحبيب: ها هو الـمُنَادِي يقول: "يَا بَاغِيَ الْخَيْرِ أَقْبِلْ وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ" احرص ألا تدعَ عملاً من أعمالِ البرِ التي حثَّ عليها النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا أخذْتَ منهُا بحظٍ وافرٍ.. ولا عملاً نهى عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا تركته أو استغفرت منه.
فحفظت الرأس وما وعى، والبطن وما حوى.. وامتثلت قَولَ الـمُصْطَفَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ». وقَولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ». فلم تدع القيام مع الإمام حتى ينصرف.. قد أتيت بكل عزم وحب ورغبة للوقف بين يدي الله وسماع آياته تتلى، وتقلبت بين سجودٍ وركوعٍ وذكر متأملاً لقراءة القرآن مغتبطاً مسروراً متطلعاً للوعد النبوي عندما قال: «مَنْ قَامَ مَعَ الْإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ كُتِبَ لَهُ قِيَامُ لَيْلَةٍ» رواه أصحاب السنن وأحمد وصححه الألباني. وَقَولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ».. وفي رواية: «مَنْ يَقُمْ لَيْلَةَ الْقَدْرِ». روها البخاري ومسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وقرأت كتاب الله وختمته عدة ختمات في شهره الذي فيه أنزل رغبة في الأجر العظيم الذي رُتبَ على تلاوته؛ فَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ فِي الصُّفَّةِ، فَقَالَ: «أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنْ يَغْدُوَ كُلَّ يَوْمٍ إِلَى بُطْحَانَ، أَوْ إِلَى الْعَقِيقِ، فَيَأْتِيَ مِنْهُ بِنَاقَتَيْنِ كَوْمَاوَيْنِ فِي غَيْرِ إِثْمٍ، وَلَا قَطْعِ رَحِمٍ؟»، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ نُحِبُّ ذَلِكَ، قَالَ: «أَفَلَا يَغْدُو أَحَدُكُمْ إِلَى الْمَسْجِدِ فَيَعْلَمُ، أَوْ يَقْرَأُ آيَتَيْنِ مِنْ كِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، خَيْرٌ لَهُ مِنْ نَاقَتَيْنِ، وَثَلَاثٌ خَيْرٌ لَهُ مِنْ ثَلَاثٍ، وَأَرْبَعٌ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَرْبَعٍ، وَمِنْ أَعْدَادِهِنَّ مِنَ الْإِبِلِ» رواه مسلم.. وجعلت لبيتك من قراءتك وصلاة نافلتك نصيباً تيمناً بقول الرَسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ مَقَابِرَ، إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْفِرُ مِنَ الْبَيْتِ الَّذِي تُقْرَأُ فِيهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ» رواه مسلم. قَالَ اِبْنُ تَيْمِيَة رَحِمَهُ الله: مَعْنَى الْحَدِيث: لَا تُعَطِّلُوا الْبُيُوت مِنْ الصَّلَاةِ فِيهَا وَالدُّعَاءِ وَالْقِرَاءَةِ؛ فَتَكُونَ بِمَنْزِلَةِ الْقُبُورِ، فَأَمَرَ بِتَحَرِّي الْعِبَادَةِ بِالْبُيُوتِ، وَنَهَى عَنْ تَحَرِّيهَا عِنْد الْقُبُور.. وقال المناوى: لا تجعلوها كالقبور في خلوها عن الذكر والعبادة.. وتمثلت قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَفْضَلُ الصَّلَاةِ صَلَاةُ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ إِلَّا الْمَكْتُوبَةَ» رواه البخاري عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. فجعلت شيئاً من صلاتك وقراءتك في بيتك طمعاً بهذا الفضل وعمارة للبيت بالذكر..
إلا الفرائض والتراويح والقيام فتكون مع جماعة المسلمين لتحوز أجر قيام رمضان.. ومتى ما حافظت عليها كل ليلة أدركت ليلة القدر إن شاء الله، التي هي خيرٌ من عبادة ألف شهر.. إن كنت كذلك فسيكون عيدك عيداً سعيداً وستصبح في يومه مسروراً..
وإن كنت من الصنف الثاني أعاذنا الله من حالهم وهم الذين ينظرون إلى الفرصة بعدما ذهبت ويتوجدون عليها ألماً وكمداً قد ضربوا بعد فواتها أخمساً بأسداس، فلم يتلذذوا بموسم الطاعة بطاعة، ولم يستثمروا الفرصة التي لن تأتيَ إلا بعد سنة تقريباً..
فهل يرضيك أن تنظر إلى صيامك وقد تخرق بالأخطاء والتقصير فهذه نظرة محرمة، وذاك لمز أو عيب لمسلم، وإضاعة للصلاة في وقتها فضلاً عن إضاعتها مع الجماعة، وهذا تقصير في حق قريب حقه الصلة.. وهذه ساعات قضيتها في قيل وقال والسيئ من المقال في وسائل التواصل الاجتماعي، أو في مطالعة مشاهد ليس فيها نفع أو موعظة بل ربما إثم وخطيئة، فلم يسلم من صيامك إلا الإمساك عن الأكل والشرب، وغفلت عن قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالعَمَلَ بِهِ وَالجَهْلَ، فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ» رواه البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
أما التراويح والقيام فنصيبك منها نزر يسير.. وأما تفطير الصائمين ومساعدة المنكوبين فلك فيهما وجهة نظر.. وأما ما خصصته من وقت لقراءة شيء من كتاب الله فتزاحمه المكالمات الهاتفية والرسائل الواتسية والإطلاع على التغريدات والتعليق عليها..
ونظرت أيمن منك فلم تجد إلا عملاً قليلاً يعتريه التقصير والتفريط.. ونظرت أشأم منك فرأيت التفريط والتقصير فأخذت الحسرة والندامة تلف قلبك وتدميه؛ فلم تحز إلا على أجر الندم على التقصير وشيء من العمل قليل..
أخي المبارك: اختر لنفسك الآن.. وشد مئزرك واستعن بالله ولا تعجز وانطلق في سماء العمل الصالح فأنت في حال ووقت حُرمها كثيرٌ من الناس فمنهم من إخترمه الأجل، ومنهم من أقعده المرض، ومنهم من ضل سواء السبيل وتنكب الطريق المستقيم.. ومنهم من فقد الوطن والأمن والأمان، ومنهم من أوذي في الله وحُرم الطاعة وضُيق عليه..
أيها الإخوة: أدعو نفسي وإياكم إلى الولوج في بوابة الخير ومرتع الطاعة وجنة الدنيا.. اغتنامُ شهرِ الصيامِ فحيا هلاً به.. وأجملُ تحية نقدمها له العزمُ على الطاعة ولو لم تكن من أهلها قبله.. اللهم كما بلغتنا رمضان وسلمتنا رمضان فتسلمه منا كاملاً مقبولاً وصلى الله على نبينا محمد..
الثانية:
أيها الإخوة: من وفق للعمل الصالح في هذا الشهر عاش فرحة الصالحين في العيد.. ولم يندم ندم المفرطين..
وسيكون في يوم العيد مسروراً لأنه وفق أن يستثمر أفضل الأوقات وأغلى الساعات التي لا تقدر بكنوز الدنيا..
وبعد: تعالوا بنا نبدأ شهرنا بتوبة نصوح استجابة لنداء الله حين نادى المؤمنين فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [التحريم:8]
أتى رمضــــــــــــــــانُ مــزرعةُ العبــادِ ... لتطـهيرِ القلــوبِ من الفســادِ
فــأد حقــوقَــه قـــــــــــولاً وفعـــلاً ... وزادَك فــاتـخـذْه إلى الـمعــــادِ
فـمـن زرعَ الحبوبَ وما سقـاها ... تـأوه نـادمــــــاً يــومَ الـحصــــــــادِ
فيا من ترك الطعام والشراب والشهوة سراً وعلانية تبتغي وجه الله، لا يعلم فيك غيره، وقد عزمت على الإمساك عنها طيلةَ شهرٍ كامل في أيام طويلة حارة.. غالب نفسك على الصيام المعنوي عن الذنوب والمعاصي والتقصير بالواجبات.. واغتنم غلَّ الشياطين، وإغلاقَ أبواب الجحيم فيه.. وأقبل على الله فقد فتح لك أبواب جنته ونادك بنداء حبيب ودود فقال: "يَا بَاغِيَ الْخَيْرِ أَقْبِلْ وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ" اللهم كما بلغتنا رمضان فسلمه لنا وتسلمه منا كاملاً مقبولاً وأعنا على ذكرك وشكرك...