هادم الذات ومفرق الجماعات !!!!!

عبدالله منوخ العازمي
1439/03/05 - 2017/11/23 14:43PM

 :الخطبة الاولى:

الحمد لله الذي قضى بالفناء على هذه الدار، وأمر بأخذ العدة لدار القرار، أحمده تعالى وأشكره وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، أزهد الناس في الدنيا، وأكثرهم للموت ذكراً وللآخرة استعداداً، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه أهل الفضل والتقى، والتابعين ومن تبعهم بخيرٍ وإحسانٍ واقتفى.

أما بعد:

أيها المسلمون: اتقوا الله تبارك وتعالى.

عباد الله: حقيقةٌ قاسيةٌ لا محيد عنها، وقضيةٌ رهيبةٌ مسلمةٌ لا مفر منها تواجه أهل الدنيا، فلا يستطيعون لها رداً، ولا يملكون لها دفعاً، حقيقةٌ تتكرر كل لحظة، ونعايشها مرة بعد مرة، والناس سواءٌ أمام هذه الحقيقة المُسَلَمة، والمصير المحتوم، يواجهها الآباء والأبناء، والأغنياء والفقراء، والضعفاء والأقوياء، والرجال والنساء، والمرءوسون والرؤساء، والعامة والعلماء، والمغمورون والوجهاء، وأهل الشجاعة والجبناء، يقفون منها موقفاً موحداً، لا يستطيعون لها حيلة، ولا يملكون لردها وسيلة، ولا يقدرون تجاهها دفعاً ولا تأجيلاً، إنها حقيقة النهاية والفناء والموت، الموت الذي لا مفر ولا محيد من الاستسلام له، ولا يملك البشر حياله شيئاً.

إخوة الإسلام: إن كل حيٍ يسلم بهذه الحقيقة عقيدة ونظراً، لكن الذين يتذكرونها ويعملون لما وراءها قليل، فالقلوب عن هذه الحقيقة غافلة، والنفوس شاردة، والعقول منصرفة، والهمم مشغولة، ومشاغل الحياة وزخرفها من الأموال والقصور، والأولاد والدور، والمراكب والمراتب، والأعمال والمناصب، كل ذلك وغيره أطال أمل الناس فيها، وإلا فالله عز وجل يقول: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [العنكبوت:57] ويقول جل وعلا: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ [الرحمن:26-27]. ونبينا محمد  صلى الله عليه وسلم، يقول لـعبد الله بن عمر رضي الله عنهما: {كن في الدنيا كأنك غريبٌ أو عابر سبيل } وكان ابن عمر يقول: [[إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك ]] رواه البخاري .

وروى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {أكثروا من ذكر هادم اللذات } أي: الموت، وكان عليه الصلاة والسلام، إذا ذهب ثلث الليل قام فقال: {يا أيها الناس! اذكروا الله، جاءت الراجفة تتبعه الرادفة، جاء الموت بما فيه، جاء الموت بما فيه } خرّجه الترمذي من حديث أبي بن كعب رضي الله عنه، فالكل مرجعهم إلى الله، والجميع محشورون إليه، الموت في الموعد المحتوم، والأجل المقسوم: وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَاباً مُؤَجَّلاً [آل عمران:145]، فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [الأعراف:34] وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المنافقون:11] وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ [لقمان:34].

أمة الإسلام: إنه لابد أن تستقر هذه الحقيقة في نفوس الناس استقراراً واستشعاراً؛ حتى يكون له أثرٌ عمليٌ في حياة المسلم، بالإقبال على الطاعات وترك المعاصي والمحرمات، والمبادرة إلى التوبة وترك التسويف، فاستشعار قصر الأمل، يتطلب الجد في العمل، يجب أن نتذكر هذه الحقيقة دائماً وأبداً، حقيقة أن الدنيا مدبرةٌ فانية: إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ [غافر:39] وأن المرد إلى الله، وأن الحياة موقوتة، والآجال محدودة، والأنفاس معدودة، ثم تأتي النهاية الحتمية، ويحل هادم اللذات، ومفرق الجماعات، ثم بعد ذلك يكون الناس فريقين فإما إلى جنة عالية، قطوفها دانية، وإما إلى نار حامية، نعوذ بالله من غضبه وأليم عقابه، فكأس الموت تتذوقه كل النفوس، وجرعته يتحساها كل حيٍ في هذه الحياة، لا فرق بين إنسانٍ وآخر، إنما الشأن كل الشأن ما بعد هذه اللحظة الحاسمة، من المصير الذي يستحق أن يعمل من أجله العاملون.

فلو أنا إذا متنا تركنا لكان الموت غاية كل حي

ولكنا إذا متنا بعثنا ونسأل بعدها عن كل شيء

فيا أيها المسلمون: تذكروا هذه الحقيقة: فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ [لقمان:33]. ين الاتعاض والاعتبار؟ عشرات الجنائز نصلي عليها في اليوم والليلة، وعشرات الموتى نشيعهم إلى القبور، حيث ضيق اللحود ومراتع الدود، أما نعتبر بكثرة الموتى من حوادث السيارات، ومن موتى الفجأة والسكتات؟!كم من إنسان أمسى ولم يصبح، وأصبح فلم يمسِ، وخرج من بيته فلم يعد، وكم من صحيحٍ سليم يأتيك خبره، ويبلغك موته:

تزود من التقوى فإنك لا تدري إذا جن ليلٌ هل تعيش إلى الفجر

فكم من سليمٍ مات من غير علةٍ وكم من سقيمٍ عاش حيناً من الدهر

وكم من فتىً يمسي ويصبح آمناً وقد نسجت أكفانه وهو لا يدري

فتذكروا -يا عباد الله- هجوم هادم اللذات، وتصوروا نزول ملك الموت بكم، في هذه اللحظات يندم المفرطون ويتحسر المقصرون: حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون:99-100]. تذكروا الموت وسكراته، يا من تلهون وتعبثون في دنياكم، وأنتم عن الآخرة غافلون! تذكروا هذا الموقف العصيب يا من تتثاقلون عن أداء الصلاة، وتبخلون بإخراج الزكاة! تذكروا ساعة الاحتضار يا من تظلمون عباد الله، وتقعون في أعراضهم، وتبخسونهم أشياءهم، وتغشونهم وتماطلونهم حقوقهم! فلله يومٌ يجمع فيه الأولين والآخرين لفصل القضاء بينهم، وكتابٌ لا يغادر صغيرةً ولا كبيرةً إلا أحصاها، هل تظنون أنكم مخلدون في هذه الحياة؟!

 

روى الترمذي في سننه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين، وأقلهم من يجوز ذلك } فماذا قدم كل واحدٍ منا لهذه اللحظات الحاسمة، والمواقف العصيبة: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ [فاطر:37].

كان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، إذا ذكر عنده الموت انتفض انتفاض الطير، وقال الحسن البصري رحمه الله: [[ فضح الموت الدنيا، فلن يترك لذي لبٍ بها فرحاً ]] هكذا كان سلف هذه الأمة، من قوة الإيمان وشدة الخوف من عذاب الله، مع اجتهادهم في طاعة الله، فغريب حالنا اليوم، كلنا قد أيقن بالموت وما نرى له من مستعد! وكلنا قد أيقن بالجنة وما نرى لها عاملاً! وكلنا قد أيقن بالنار وما نرى لها خائفاً! فعلام الفرح مع التفريط في جنب الله! إنه لا ينبغي لمن آمن بالله واليوم الآخر، ولا يليق بمن عرف مصير الأوائل والأواخر، ويرى أن الموت يأخذ الأصاغر والأكابر، أن يركن إلى هذه الدنيا وقد امتلأت المقابر.

فيا من يفاخرون بأموالهم وأولادهم وأعمالهم: كيف بكم إذا واراكم الثرى وسرى بكم البلى! حقاً كفى بالموت واعظاً.

 

وإنه ليجدر بنا أن نحاسب أنفسنا: ماذا عملنا في ايامنا المنصرمة ؟ وماذا عسانا أن نعمل في  ايامنا المقبلة ؟ وأن نأخذ الدروس والعبر من مرور الليالي والأيام، وتصرم الشهور والأعوام، فيدفعنا ذلك إلى التوبة الصادقة، والإقلاع عن المعاصي والذنوب والاستعداد للآخرة.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر:18].

نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي سيدي المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنبٍ ومعصية، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

:الخطبة الثانية:  الحمد لله غير مقنوط من رحمته ولا ميؤوس من مغفرته أحمده سبحانه وأشكره على سوابغ نعمته وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ومصطفاه وخيرته من خلقه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه وأقتفى أثره إلى يوم الدين أما بعد

 

عباد الله :

روى الترمذي وغيره وحسنه الألباني أن عثمان رضي الله عنه كان إذا وقف على قبر بكى حتى يبل لحيته فقيل له تذكر الجنة والنار فلا تبكي وتبكي من هذا؟ فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن القبر أول منازل الآخرة فإن نجا منه فما بعده أيسر منه وإن لم ينج منه فما بعده أشد منه . قال وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما رأيت منظرا قط إلا القبرُ أفظعُ منه .

القبر أول منازل الآخرة,فإن كان من أهل الجنة عرض له مقعده من الجنة, وإن كان من أهل النار عرض عليه مقعده من النار, ويُفسح للمؤمن في قبره سبعون ذراعًا, ويملأ عليه نوراً ونعيماً إلى يوم يبعثون, وأما الكافر فيضرب بمطرقة من حديد ويضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه .

وروى الطبراني وصححه الألباني، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بقبرٍ فقال: ((من صاحب هذا القبر؟)) فقالوا: فلان، فقال: ((ركعتان أحبّ إلى هذا من بقية دنياكم)) وفي رواية قال : ((ركعتان خفيفتان مما تحقرون وتنفلون يزيدها هذا في عمله أحب إليه من بقية دنياكم)).

الله أكبر .. غاية أمنية الميت المقصر أن يُمدَّ له في أجله ليركع ركعتين يزيد فيها من حسناته ويتدارك ما فات من أيام عمره في غير طاعة .. فأين نحن من هذا المقام .

يا غافـلاً عن العمل *** وغرَه طـولُ الأمـل

الموتُ يأتـي بغتـةً *** والقبرُ صندوق العمل

إذا هممتَ بمعصية، تذكّر أماني الموتى، تذكّر أنهم يتمنّون لو عاشوا ليطيعوا الله، فكيف تعصي الله؟ .. إذا فترت عن الطاعة، تذكّر أماني الموتى، واجتهد في الطاعة، وبادر إلى التوبة قبل أن يأتيك الموت بغتة، فتقول: يا ليتني قدمت لحياتي، واعلم أن ملايين الموتى يتمنون مثل الدقيقة التي تمر من حياتك ليستثمروها في طاعة الله، وذكره والتوبة إليه، فلا تضيع دقائق عمرك ، لئلا تتحسر في آخرتك .. (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنْ السَّاخِرِينَ أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنْ الْمُتَّقِينَ أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنْ الْمُحْسِنِينَ) .

هذا وصلوا وسلموا -رحمكم الله- على النبي المصطفى والرسول المجتبى كما أمركم بذلك ربكم جل وعلا، فقال عز من قائل: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الأحزاب:56].

 

اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمد بن عبد الله، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين، اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل اللهم ولاية المسلمين فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.

اللهم وفق إمامنا بتوفيقك، وأيده بتأييدك، اللهم ارزقه البطانة الصالحة، اللهم اكتب على يده جمع كلمة المسلمين يا رب العالمين.

اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر يا سميع الدعاء.

اللهم انصر إخواننا المجاهدين في سبيلك في كل مكان، اللهم انصرهم عاجلاً غير آجل يا قوي يا عزيز.

اللهم اجعل خير أعمالنا أواخرها، وخير أعمالنا خواتمها، وخير أيامنا يوم نلقاك، واجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير، والموت راحةً لنا من كل شر.

اللهم اجعل عامنا الجديد عام عزٍ ونصرٍ للمسلمين، اللهم اجعله عام نصرٍ للمسلمين يا رب العالمين.

اللهم حرر فيه مقدساتهم، وانصرهم فيه على أعدائهم، واجمع كلمتهم على الحق والهدى يا ذا الجلال والإكرام.

ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.

عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تصْنَعُونََ

المرفقات

نفس-ذائقة-الموت-1

نفس-ذائقة-الموت-1

المشاهدات 2837 | التعليقات 0