نهاية وبداية

الخطيب المفوه
1432/12/29 - 2011/11/25 05:49AM
نهاية وبداية
الدكتور / سعد الدريهم
بسم الله الرحمن الرحيم
إنَّ الحمدَ لله ، نحمدُه ونستعينه ونستغفره ، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا ، ومن سيئات أعمالنا . من يهده الله ؛ فلا مضلَّ له ، ومن يضللْ ؛ فلا هاديَ له ، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهدُ أن محمداً عبده ورسوله .
أما بعدُ : فإنَّ أصدق الحديث كتابُ الله ، وخيرَ الهدي هديُ محمد e، وشرَّ الأمور مُحـدثاتُها ، وكلَّ محـدثةٍ بدعــةٌ ، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ ، وكلَّ ضلالةٍ في النار .
أَيُّهَا الأحبة ، يوم واحد أو بعضُ يومٍ ، وبعده نكون في عام آخر ؛ فنتقدم خطوة نحو الآخرة، ونبعدُ كذلك خطوة عن الدنيا، وكل لحظة ـ لو تدبرت ـ تدنيك من الآخرة وتُبعِدُك عن الدنيا ؛ والإنسانُ لو تأمل لوجد أنه ومنذُ خُلِق وخرج إلى هذه الدنيا ، وهو يسير إلى ربِّه سبحانه ، والناس في ذلك متفاوتون ؛ فمنهم مَن مَسِيره طويل جداً ، ومنهم من مسيره يسير ، لا يلبث أن يدخل على ربه ، وكلٌّ بأجلٍ مسمَّى ، والسعيدُ من أخذ أُهبته ، وأعدَّ عدته ؛ وجاء ربه بقلب سليم ..
يوم أو بعضُ يوم أيها الأحبة في الله ، ويزاد في عمر الإنسان ، ويزاد في خبرته ، ويزاد في رتبته ، ويزاد في معاشه ، بل الزيادة بتقدم العمر تزيد في كل شيء ؛ فإن كان شاباً ازداد قوة وفتوة وعقلاً ونضجاً ، وإن كان كبيراً ضعيفاً ازداد ضعفه وحلَّ الوَهْن ؛ ففي تقلب الأيام ودورانها ، والانتقالِ من عام إلى عام عبرةٌ وموعظةٌ لمن أراد الاعتبار والاتعاظ ، وفي التَّغَيُّرِ وَالتَّبَدُّلِ الحاصل بسبب منها إيمانٌ بالله الذي لا يتغير ولا يتأثر ؛ فهو سبحانه لا تغيره الحوادث ولا تؤثر فيه الأزمان ؛ فسبحانك ربنا ما أعظمك! سبحانك ربنا ما أجل قدرك وما أحكمك !
وبانقضاء العام وخروجه وولوجِ عام ودخولِهِ أيها الأحبة في الله ، نتذكر قوافل الخلق التي مرت على ظهر هذا الكوكب ، ومنها ـ ولا ريب ـ شقي ومنها السعيد ، ونتذكر كذلك أولئك المصلحين من أنبياء الله ورسله ونتذكر كذلك الصالحين من عباد الله ، لقد كابد أولئك القوم وشدوا مآزرهم في إعلاء كلمة الله ونشر الخير ؛ لقد ذهب تعبهم ، ولكن بقي أجرهم مسطراً في كتاب لا يمحوه الليل ولا النهار ، وكذلك أيها الجمع ، أهل المعصية والميلِ والانحرافِ ذاقوا لذة الدنيا وتمتعوا بِزُخْرُفِهَا ، وانقضت تلك المتعُ وتلك الملذاتُ ، ولكن بقي الوزرُ ، وسيُفَضُّ ختمه يوم تبلى السرائر ، وأنت كذلك أيها الموفق ، سينقضي جدُّك وهزلك ، وستبقى بعد ذلك التبعة ، والسعيد من جعل الخير رائده ، والشقيُّ من أتبع النفس هواها وتمنى على الله الأماني ؛ فيا أيها السابقون بالخيرات ، لا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور ، خذوا من دنياكم لأخراكم ، ومن صحتكم لمرضكم ، ومن فراغكم لشغلكم ، فلعلكم لا تدركون كثيرًا ، وكونوا في الدنيا كأنكم غرباء أو عابرو سبيل، وأحسنوا العمل فإن الناقد بصير ..
أيها الأحبة في الله ، عندما يذكر الصالحون يذكر سيد الصالحين وإمامهم محمد r ، وعندما يذكر محمد r ونتذكر شيئاً من عبق سيرته ؛ لن يصادفنا في مثل هذا المقام مثلُ الحديث عن هجرته ، إذ بنينا عليها تاريخنا الهجري العظيم ، والأمم غالباً لا تبدأ تواريخها إلا بالعظيم من أحوالها ، وهكذا كان الحال منا معشر المسلمين ؛ حيث كانت الهجرة نقلة للإسلام من المحلية إلى العالمية ، ومن الذِّلة إلى العزة ، لقد كانت الهجرة تركاً للدون في كل شيء وارتقاء لا حدَّ له ، ومنذ ذلك اليوم والأمة في رقي وفلاح ، لم تتخلف ولم تتردى ؛ وإن توقف سيرها للحظات ، لا لتتراجع ، ولكن لتأخذ منه عزماً يعينها على مشاقِّ الطريق ، وكل ذلك لو تأملنا بسبب من قوة التأسيس والأخذِ بسنة التدرج ؛ وهذا ظاهر في المرحلة التي سبقت الهجرة ؛ إذ كانت المرحلة المكية مرحلة مفعمة بتقرير العقيدة وتأسيسها ؛ لتأتي بعد ذلك المرحلة المدنية لتأخذ بالأمة بعد ذلك إلى بناء الشخصية والتميز ؛ فكان للأمة منطلقاتها ، وكان لها أسسها التي تجعلها مستقلة في كل شؤونها ..
لقد أخذت الأمة من حياة محمد قبل الهجرة وبعدها منهاج حياتها ؛ فهي إن استمرت ستعلو كما علت في بداياتها ، كما أن هذا المنهاج يبني الأفراد ؛ فمن تدرج وبدأ بالأهم فالمهم لا ريب أنه ذو سعي رشيد ، وسيبلغ ما أمل عاجلاً أو آجلاً ؛ وإن رغب في حياة الكمال منذ البدايات فلن يصل لمقصوده ؛ فالتدرج سنة الحياة ونسقُها المعتدل ؛ فعليكم أيها الجمع الكريم ، بالتدرج والتؤدة والسير الحثيث المتأني، وستصلون لما رغبتم فيه ، ولا يفتن في أعضادكم ما ترون من سرعة من أسرع ؛ فالعبرة بالنهايات وهي حاصلة لمن سار مهتدياً على صراط مستقيم ، وإن أبطأ ؛ فمحمد r ، مكث ثلاثة عشر عاماً لا يريد من قومه إلا كلمة لا إله إلا الله، لا يريد منهم غيرها ، وإلى هذه الكلمة جلس يناجز قومه ليلاً ونهاراً سراً وإعلاناً ، لقد أمضى هذه السنين من أجل هذا الهدف ، وأنعم به من هدف لو علمناه . وهذا المنهج منهج مُجْدٍ مع من أحببت ؛ فلو توخيت الرفق مع الأبناء والقرابة ، وكل يوم أزجيت لهم نصيحة ، فلن تمضي بك الأيام حتى تجدهم هداة مهتدين ، فما تقوله تختزنه العقول منهم ، وسيخرج نتاجها ولا ريب ، لكن لا تمل ولا تكل ، كما لم يمل محمد r ولم يعروه الكلل ؛ وقد كان أحد الصالحين ينصح أحد أبنائه ، ولكن لم ير استجابة منه ؛ فأغلظ له القول ؛ فقال له الابن : يا أبي ، إن ما قلته لم يذهب أدراج الرياح وسترى نتاجه يوماً علي ؛ فما لبث أن أصبح الابن من خيرة الناس ؛ وكذلك أنتم أيها الأحبة ، وجهوا النصح لأبنائكم وتخولوهم بالموعظة ، وسترون منهم ما يسركم يوماً من الأيام لكن لا تملوا ولا تكلوا ، واجعلوا مع ذلك شيئاً من الدعاء ، وما أجمل أن نقول : ) رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلمُتَقِينَ إِمَاماً ( [ الفرقان : 74 ] .
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم .
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب؛ فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه ، كما ينبغي لجلال وجهه، وعظيم سلطانه ، أحمده سبحانه وأشكره ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسله ، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فيأيها الأحبة في الله ، دروس الهجرة كثيرةٌ لا تُعَدُّ ولا تحصى ، ولن يأتي على بعضها وقفةٌ من على منبر ، ولكن حسبُنا منها هنا ما لطف من مغزى ، وقد وقفت على واحد في الخطبة الأولى ، وها أنا أعززه بثانٍ في خطبتي هذه. وهو أن الإنسان الذي يقلب الأمور على وجوهها ، لا بد أنه سيدرك النجاح في مسعاه ، وفي الحركة كما قيل بركة ، فأنت قد تلزم عملاً في مكان ما ، ولا يؤتي العمل حينذاك ثماره ، لكن عندما تذهب به وجهة أخرى ربما يتحقق ما كنت ترجو وتؤمل ، وكذلك كان الرسول r جلس ثلاثة عشر عاماً في مكة ، ولم يسلم له إلا نفرٌ قليلٌ ، ولكن ما إن تحول للمدينة ، حتى دان له الخلق لا في المدينة وحسب ، ولكن في الجزيرة قاطبة ، ثم في العالم كله.
وهكذا نحن أيها الجمع الكريم ، قد نكون على عمل أو تجارة أو علم من العلوم ، لكن لا نرى لذلك العمل نتاجاً أو نجاحاً ، وعندما نتوجه وجهة أخرى نحقق من النتائج ما نُدْهش به العقول ، فأنت قد يَعوقك عن النجاح مكان أو زمان أو عمل من الأعمال ، وعندما تغير من نفسك أو من عملك فأنت تحقق النجاح ، وهذا يجعل الإنسان لا يستسلم أو يتهم نفسه بالخمول أو الشؤم ، وما أجمل الفألَ والطموحَ وعدم اليأس ! وكلها تقود للنجاح ، وهنا أذكر قصة من تراثنا العربي تؤكد هذا ؛ يحكى أن الأصمعي رحمه الله ، وهو من حفاظ العرب وأذكيائهم ، جاء إلى الخليل يتعلم منه علم العروض، وبذل جهداً كبيراً في تحصيل هذا العلم مع ذكائه وقوة حافظته ، ولكنه لم ينجح فيه ، ولما رأى الخليل أنه لم يحقق نجاحاً وأراد صرفه عنه ؛ قال له : هذا بيت من الشعر قطعه عروضياً :
إذا لم تستطع شيئاً فدعه وجاوزه إلى ما تستطيع
ففهم الأصمعي المقصود ؛ فترك هذا العلم إلى رواية الشعر واللغة وأخبار العرب ، فحقق نجاحاً وشهرة واسعة إلى زماننا هذا ، ولو جلس لربما مات ولم يدرك لا علماً ولا شهرة ، وهكذا كلُّ إنسان منا ربما كان النجاح مقدراً له في مكان واتجاه معين ، ولكن إصراره على غيره يكبده فشلاً ذريعاً ، ولو تحرك في كل اتجاه لربما أدركه ، وهكذا نبينا محمد r تحرك جهة الطائف وانتجع أسواق وقبائل العرب بحثاً عن النصرة ، ووجدها في المدينة ؛ فتحرك أيها الآدمي ، وستجد النجاح ، ولا تيأسن فأصحاب الإرادة قد ركنوا اليأس ولشؤم في ركن قصي ، وجلسوا يعالجون أقدار الله بأقداره ، فيعالجون قدر الفشل بقدر النجاح ، وقدر الخسارة بقدر الربح ، وكذلك محمد r عالج بطء الدعوة وعداوة القرابة لها بالهجرة وانتجاعِ من يحقق لها النجاح ، وكم في هذا الدرس من عبرة وموعظة ؟ وكم فيها من فتح لأصحاب النفوس التي أنهكها اليأس ، وهنا كلمة جميلة دائماً نسمعها من كبار السن ، ولها معنى جميل ، حيث يقولون : يقول الله : اسع يا عبدي وأسعى معك ، ومعناها : ابذل الجهد أيها العبد وعلي التوفيق . فهيا جميعاً لنعمل ، والله محقق وعده ..
المشاهدات 1728 | التعليقات 0