نهاية عام وبداية آخر
فهد عبدالله الصالح
ن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمد عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعدُ عبادَ الله، فأوصيكم ونفسي بوصية الله لعباده المؤمنين ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102]، ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70، 71].
أيها المؤمنون: ها نحن ودعنا عاماً هجرياً ونستقبل أخر جديداً، نسأل الله المغفرة عما سلف ومضى والهداية والتوفيق فيما نستقبل، إنما هذه الحياة كدارٍ يدخلها المرء من باب ويخرج من الباب الآخر إنها كظل شجرة يقيل فيه المرء ثم سرعان ما يستيقظ، ألا ترون كيف تنصرم أيامها، وكيف تنقضي أعوامها، وإنما هي نفس واحدة لها فرصة واحدة فانظروا أين توضع هذه النفس وفي أي اتجاه تمضي هذه الفرصة، روى البخاري في صحيحه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعض جسدي فقال: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل وعد نفسك من أهل القبور)، وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال مر بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا وأمي نطين شيئاً فقال: ما هذا يا عبد الله؟ قلت: شيء نصلحه قال: الأمر أسرع من ذلك).
فالحياة فرصة سانحة سريعة الفوات يسرع إليها الموت فيحسمها، ويسارع فيها المرض والهرم والشواغل فتشل حركة الإنسان وتفقده القدرة على استثمارها واغتنامها.
أيها المؤمنون: لقد أكد الوحي العظيم على سرعة انقضاء الزمان وساق القرآن الكريم صوراً من الحسرة والكمد التي تصيب المفرطين فكم يصيحون ﴿ أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَاحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ ﴾ [الزمر: 56]، ﴿ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ ﴾ [الروم: 55].
هكذا تتصاغر الدنيا وتضمحل في نظر العابثين حين يرون الساعة وأهوالها، إنهم يقيسونها يوم القيامة بقدر ما أنجزوا فيها واستثمروها فهم إذا خسروها أصبحت في نظرهم كأنها ساعة أو عشية أو ضحاها كأنها يوم أو بعض يوم، تلك السنين الطوال العمر، بمراحله بشبابه وكهولته وشيخوخته غدا شيئاً لا يذكر إذ ذهبت به الغفلة وضاع في التفريط.
والإسلام حينما يؤكد على سرعة تصرم الدنيا وسرعة الأجل ودنوا الموت ويحذر من طول الأمل يوقظ القلوب إلى حقيقتها ما داموا فيها لتسمو نفوسهم وتعلوا هممهم فلا يتعلقوا بفائت فإنه زائل.
إن تحقير الدنيا والتأكيد على قصر الأمل - أيها المسلمون - ليس دعوة إلى السلبية والصدود عن العمل والإنتاج ولكنه تربية للنفس على علو الهمة وتدريب للعقل على الموازنة بين الشواغل وحفز للعزائم على اختيار أعلى الرتب وأسمى المشاغل، وما دامت الدنيا قصيرة والعيش فيها فرصة لا تتكرر فلتكن في معالي الأمور فإن الموت لا يترك متسعاً في حياة العقلاء الفطناء.
ولما روى التاريخ عن رجال عاشوا في الإسلام سنوات قلائل كانت لهم انجازات ضخمة ومواقف مشهودة وتاريخ عاطر، بنو للمجد صروحاً وتركوا في أمتهم آثاراً وكم درج على الدنيا أناس عاشوا عقوداً من الزمان في فراغ وصحة وجدة وشبوا وشابوا ما عرف لهم أثر، ولا مشوا في سهل ولا وعر، انشغلوا بأنفسهم بتحصيل مال أو جاه أو ولد فعاشوا صغاراً وماتوا صغاراً.
أجل أيها المؤمنين: ليست الحياة الناجحة والعيش السعيد أن تجمع ثروة أو تبني قصراً، أو يشار إليك في محفل، إنما الحياة الناجحة أن تترك اثر خير يعلوا به ذكرك في الدنيا والآخرة، الحياة الناجحة أن تشارك في نصرة الأمة والنهوض بها، أن يكون لك قدم صدق في عمل الخير بالكلمة والمال والنفس، أن تستعلي على المطامع الرخيصة والأهداف الدنيئة انظروا إلى همة الأنبياء عليهم صلوات الله وسلامه فكيف كانت محصورة في الجهاد مبذولة في الدعوة، انظروا إلى حياة الصحابة رضي الله عنهم يعيش سعد بن معاذ رضي الله عنه خمس سنوات في الإسلام فيهتز لموته عرش الرحمن، وكم يعيش غيره في الإسلام فلا يشعر بموته غير بنيه وحليلته.
إذا علت الهمة وسمت النفس كان الإنجاز وكان المجد رغم العوائق والشواغل، فأبو هريرة رضي الله عنه جائع معدوم يروى الدين والعلم لأمة بأكملها على تعاقب أجيالها، وبلال رضي الله عنه عبد حبشي يجسد الصمود والتضحية ويشق لأجيال الإسلام درب الثبات، وابن أم مكتوم رضي الله عنه ضرير يشارك في صناعة تاريخ الأمة فيذكره القرآن ويدوي بصوته الآذان، بل إن اليتم والغربة والعمى والفقر قد تكون محفزات النبوغ والإنجاز، ألف ابن الأثير كتبه الرائعة وقد كان كسيحاً مقعداً، وألف السرخسي كتابه الشهير (المبسوط) خمسة عشر مجلداً وكان محبوساً في الجب، وكتب ابن القيم زاد المعاد وهو مسافر، وشرح القرطبي صحيح مسلم وهو على ظهر سفينة، وإنما أبدع هؤلاء المبدعون وأنجزوا ما أنجزوه لأنهم ساروا على نهج الأنبياء وترسموا طريقهم، ولهؤلاء العظماء طريقتهم في فهم الدنيا والتعامل معها فقد كانوا خلصاء مخلصين ثم إنهم صدقوا في عزمهم على السير إلى الله كما قال الله جلا الله ﴿ طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ ﴾ [محمد: 21]، ثم إنهم خرجوا عن المألوفات والعادات ووطنوا أنفسهم على أن يشقوا لأنفسهم درباً من العزم والجد يفارقون بها أهل الغفلة ويخالفون به عامة الناس الذين يألفون الراحة ويتسابقون إلى أنواعها وفنونها ويتنافسون في الترف والمرفهات وتلك اتجاهات سلبية تقتل الإبداع وتقضي على الهمم وتذهب الأعمار سدى، ولذا كان لابد لأهل الجد والهمم العالية من قوة واستعداد، وإن من أهم قواعد الاستثمار الصحيح للحياة أن يحدد المرء جملة من اشرف الأمور وأعلاها ثم يحصر جهده فيها ويمنحها صفاء وقته وقوة جهده، فالتركيز واحد من أعظم مصادر النجاح، والمترددون هم الذين تضيع أعمارهم بين ليت وعسى، والمشتتون هم الذين يخرجون من الدنيا لا في العير ولا في النفير. ومشتت العزماتِ ينفقُ عمرهُ ♦♦♦ حَيْرَانَ لا ظَفَرٌ وَلا إِخْفَاقُ
وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المؤمنين فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم
الخطبة الثانية
المسلم الفطن هو من يشغل نفسه بعمل الطاعات والصالحات و من يعرف قيمة نفسه فلا يبذلها فيما لا فائدة فيه، ويا سعادة لمن يقال له يوم القيامة والحساب ﴿ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ ﴾ [الحاقة: 24].
وهو شديد الحرص على اغتنام فرصة العمر باستثمار الليالي والأيام في كل خير يرضي به ربه ويعلو به قدره وتطيب به حياته، ويكسب به أخرته.
ولذا فإنه يفرح بما من الله عليه من نعمة الإمهال حتى بلغ العام الجديد ليستكثر فيه من أسباب الزلفى إلى ربه وليستدرك ما فاته وما فرط منه بالتوبة والإنابة وهذا مصداق ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم بقوله (لا يزيد المؤمن عمره إلا خيراً) أخرجه مسلم في صحيحه.
فاتقوا الله ـ يا عباد الله - واشكروا الله الذي بلغكم ما لم يقدر لكثير من إخوانكم ممن طويت صحائفهم ووسدوا الثرى فلم يستكملوا عامهم بعد أن كانوا فيه ملء الأسماع والأبصار.
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله (رؤى بعض السلف في المنام فقال: ندمنا على أمر عظيم: نعلم ولا نعمل، وأنتم تعملون ولا تعلمون، والله لتسبيحه أو تسبيحتان أو ركعة أو ركعتان في صحيفة أحدنا أحب إليه من الدنيا وما فيها)، وقال بعض السلف (كل يوم يعيش فيه المؤمن غنيمة).
فاغتنموا يا عباد الله فرصة العام الجديد في الاستزادة من كل خير عاجل أو آجل لعلكم تكونوا من المفلحين الفائزين، وحذارا من إضاعة أيامه ولياليه فإن هذا شأن الغافلين اللاهيين العابثين.
هذا وصلوا وسلموا على خاتم رسل الله الكرام....