نهايةُ العامِ-30-12-1443ه-مستفادةٌ من خطبةِ الشيخِ هلالٍ الهاجريِ
محمد محمد
الحمدُ للهِ كما ينبغي لجلالِ وجهِهِ وعظيمِ سلطانِه، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ-صلى اللهُ وسلمَ وباركَ عليهِ وآلِهِ وصحبِهِ-.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا*يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)، أَمَّا بَعْدُ: فيا إخواني الكرامُ:
هَلْ في آخرِ العَامِ أَحكَامٌ خَاصةٌ وعِباداتٌ؟ لَيسَ لِنِهايةِ العامِ عِباداتٌ، ولَكِنْ فِيهِ ذِكرى وعِظاتٌ، فِيمَا نَراهُ مِن عَجيبِ أقدارِ ربِّ العالمينَ، في أَحداثِ الأيامِ والشُّهورِ والسِّنينَ، (يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ)، يَغفرُ ذَنبًا، ويُفرِّجُ كَرْبًا، ويَكْشِفُ غَمًّا، ويَنصُرُ مَظلومًا، ويَأَخُذُ ظَالـِمًا، ويَفُكُّ عَانيًا، ويُغني فَقيرًا، ويَـجْبُرُ كَسيرًا، ويَشفي مَريضًا، ويُقيلُ عَثرةً، ويَسترُ عَورةً، ويُعِزُّ ذَليلًا، ويُذِلُّ عَزيزًا، ويُعطي سَائلًا، ويَذهبُ بِدَولٍ، ويَأتي بِأُخرى، ويُداولُ الأيّامَ بينَ الناسِ، يَرفعُ أَقوامًا، ويَضعُ آخرينَ، كَم وَدَّعنا مِن مَفقودٍ، وكَم استَقبلنا مِن مَولودٍ، زَلازِلُ لا يَستَطيعونَ لها مَنعًا، وفيضاناتٌ لا يَمْلِكونَ لَها رَدْعًا، أوبئةٌ حارَ فيها العُلماءُ، وحُروبٌ لا يَعلمُ خَطَرها إلا العُقلاءُ، وهكذا يَسوقُ ربُّنا المقاديرَ التي قَدَّرَها قَبلَ خَلقِ السماواتِ والأرضِ بخَمسينَ أَلفِ عَامٍ، فَلا يَتقدَّمُ شَيءٌ منها عَن وَقتِهِ ولا يَتأخَّرُ، كُلٌّ مِنها قَد أَحصاهَا كِتابُه، وجَرى بِهَا قَلمُه، ونَفذَ فيهَا حُكْمُه، وسَبقَ بِهَا عِلْمُه، عِندَها يُدْرِكُ الْعَبْدُ شَيْئًا مِنْ عَظَمَةِ اللَّهِ-تَعَالَى-وَقُدْرَتِهِ-سُبْحَانَهُ-، وَإِحَاطَتِهِ بِخَلْقِهِ، فَهو المُتصرِّفُ في المَمَالكِ كلِّها، وَحدَه لا شَريكَ لَهُ، تَصرُّفَ مَلِكٍ عَادلٍ قَادِرٍ، رَحيمٍ كاملٍ قَاهِرٍ، لا يُنازعُهُ في مُلْكِهِ مُنازعٌ، ولا يُعَارضُه فيه مُعَارِضٌ، (أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ).
سُبْحَانَ رَبِّيْ عَظِيْمِ الشَّانِ مُقْتَـدِرٍ*
وَرَوْعَـةُ الْكَـوْنِ آيَاتٌ وَتِبْيَــــــانُ
نَتَذكَّرُ في آخرِ العامِ ونَحنُ نَرى شِدةَ الحِسابِ في الشَّرِكاتِ، وصَرامةَ تَدقيقِ التَّقاريرِ المَاليةِ والكُشوفاتِ، نتذكرُ ذَلكَ الحِسابَ الدَّقيقَ يومَ القيامةِ، (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ*وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)، ذَلكَ الكِتابَ الذي أحصى كُلَّ شيءٍ، (وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَاّ أَحْصاها وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا)، فَحَاسِبْ نَفسَكَ اليومَ في زَمَنِ التَّرفِ والمُلهياتِ، وانتَبِه مِن التَّوسُعِ في المَلَذاتِ والشَّهواتِ، وقُلْ لِنَفسِكَ مَا قَالَه اللهُ-تعالى-لنبيِّهِ-عَليهِ وآلِهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-: (وَلَا تَـمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زُهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى)، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ-رحمَهُ اللهُ تعالى-: "إِنِّي خَلَّفْتُ زِيَادَ بْنَ أَبِي زِيَادٍ-رحمَهُ اللهُ تعالى-وَهُوَ يُخَاصِمُ نَفْسَهُ-يـُحاسِبُها-فِي الْمَسْجِدِ، يَقُولُ: اجْلِسي، أَيْنَ تُرِيدِينَ؟ أَيْنَ تَذْهَبِينَ؟ أَتَخْرُجِينَ إِلَى أَحْسَنَ مِنْ هَذَا الْمَسْجِدِ؟ انْظُرِي إِلَى مَا فِيهِ، تُرِيدِينَ أَنْ تُبْصِرِي دَارَ فُلَانٍ، وَدَارَ فُلَانٍ، مَا لَكِ مِنَ الطَّعَامِ يَا نَفْسُ إِلَّا هَذَا الْخُبْزُ وَالزَّيْتُ، وَمَا لَكِ مِنَ الثِّيَابِ إِلَّا هَذَانِ الثَّوْبَانِ، وَمَا لَكِ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا هَذِهِ الْعَجُوزُ، أَفَتُحِبِّينَ أَنْ تـَمُوتِي؟ ويُجِيبُ عَنْ نَفْسِهِ فَيَقولُ: أَنَا أَصْبِرُ عَلَى هَذَا الْعَيْشِ".
ألَيْسَ مِنَ الخُسْـــــــرَانِ أن لَيَالِيَا*
تَمُرُّ بِلَا نَفْعٍ وتُحْسَبُ مِنْ عُمُرِي
ونَتَذكَّرُ في آخرِ العامِ ونَحنُ نرى تَقييمَ الموظفينَ السَّنويَّ، فَمنهُم الفَائزُ والخَاسرُ، ومِنهُم الرَّاضي والسَّاخطُ، كَيفَ يتَفاوتُ النَّاسُ يومَ القِيامةِ، (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ*فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ*خالِدِينَ فِيها مَا دامَتِ السَّماواتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ*وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ)، وأنَّ الفَوزَ الحقيقيَّ عِندما تَنجو في ذَلكَ اليومِ العَظيمِ، فَتكونُ من أصحَابِ جَنَّةِ النَّعيمِ، (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَاّ مَتاعُ الْغُرُورِ)، إنَّهُ-واللهِ-الفَوزُ الذي لا خَسارةَ بَعدَه.
أستغفر اللهَ لي ولكم وللمسلمين...
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ كما يحبُ ربُنا ويرضى، أَمَّا بَعْدُ:
فنَتَذكَّرُ في آخرِ العامِ ونَحنُ نرى تَصفيَّةَ التُّجارِ للبَضائعِ القَديـمةِ، تَصفيةَ القُلوبِ مِن الشَّحناءِ والخِلافاتِ الأثيمةِ، فلا صَلاةَ تُرفعُ، ولا عِبادةَ تَنفعُ، ولا دُعاءَ يُسمعُ، يَقولُ الرسولُ-عَليهِ وآلِهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-: (تُفْتَحُ أَبْوَابُ الجَنَّةِ يَوْمَ الاِثْنَيْنِ، وَيَوْمَ الخَمِيسِ، فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لَا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا، إِلَاّ رَجُلًا كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ، فَيُقَالُ: أَنْظِرُوا-أَخِّروا-هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا-أَخِّروا-هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا)، فَكُنْ خَيرَهما الذي يَبدأُ بالسَّلامِ، وكُنْ سَليمَ القَلبِ عَلى أهلِ الإسلامِ، لَتَنجوَ يَومَ تُبلى السَّرائرُ، وَمَا لَكَ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ، (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ*إِلَاّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ).
نَتَذكَّرُ ونَحنُ في نِهايةِ كُلِّ عَامٍ من الأعوامِ، نِهايةَ الدُّنيا وكأنَّها حُلُمٌ مِن الأحلامِ، يَومَ نَستيقِظُ مِن رَقدَتِنا ونَحنُ غَافِلونَ، ونَقولُ هَذا ما وَعَدَ الرَّحمنُ وصَدَقَ المُرسلونَ، قَالَ مَيْمُونُ بنُ مِهرانَ للحَسَنِ البَصريِّ-رحمَهُما اللهُ تعالى-: "يَا أَبَا سَعِيدٍ قَدْ آنَسْتُ مِنْ قَلْبِي غِلْظَةً فَاسْتَلِنْ لِي مِنْهُ-ليِنْهُ لي بـِموعظتِك،-فَقَرَأَ الْحَسَنُ: (أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ*ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ*مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ)، فَسَقَطَ مَيمونٌ-أُغْمِيَ عليهِ-يَفْحَصُ بِرِجْلِهِ كَمَا تَفْحَصُ الشَّاةُ الْمَذْبُوحَةُ، فَأَقَامَ طَوِيلًا ثُمَّ أَفَاقَ، فَأَخَذَهُ وَلَدُهُ بِيَدِهِ فَخَرَجَ بِهِ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: يَا أَبَتَاهُ، هَذَا الْحَسَنُ؟ قَدْ كُنْتُ أَحْسِبُ أَنَّهُ أَكْبَرُ مِنْ هَذَا، فَوَكَزَهُ فِي صَدْرِهِ وَكْزَةً، ثُمَّ قَالَ لَهُ: يَا بُنَيَّ، لَقَدْ قَرَأَ عَلَيْنَا آيَةً لَوْ فَهِمْتَهَا بِقَلْبِكَ لَأَبْقَى لَهَا فِيكَ كُلُومٌ-جُروحٌ-".
فما أحسنَ أنَ نُبادرَ إلى اللهِ-تَعالى-ولِسانُ حَالِنا يقولُ: (يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ)، عسى أن يُقالَ لَنَا: (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ).
يا حيُّ يا قيومُ، يا ذا الجلالِ والإكرامِ، أسألكَ بأسمائِك الحُسْنَى، وصفاتِك العُلَى، يا ولي الإسلامِ وأهلِه ثبتْنا والمسلمينَ به حتى نلقاكَ.
اللهمَّ احفظ علينا وعلى المسلمينَ الأمنَ والإيمانَ، واجمعْ الكلمةَ على الحقِّ والهُدى، واغفرْ ما سَلفَ من ذُنوبٍ وأَخطاءٍ في العامِ الـمَاضي، واجعلْ العامَ الجديدَ عَامَ خَيرٍ وبَركةٍ، ونَصرٍ للإسلامِ والمسلمينَ، اللهمَّ أَعنَّا والمسلمينَ فيه على الصَّالحاتِ وجنِّبنا الموبقاتِ والمهلكاتِ.
اللهم اهدنا والمسلمينَ لأحسنِ الأخلاقِ والأعمالِ، واصرفْ عنا وعنهم سيِئها، اللهم اغفرْ لوالدينا وارحمْهم واجعلْهم في الفردوسِ الأعلى من الجنةِ وإيانا والمسلمينَ، اللهم إنَّي أسألك لي وللمسلمينَ من كلِّ خيرٍ، وأعوذُ وأعيذُهم بك من كلِّ شرٍ، وأَسْأَلُكَ لي ولهم العفوَ والْعَافِيَةَ في كلِّ شيءٍ، اللهم اشفنا واشفِ مرضانا ومرضى المسلمينَ، اللهم اجعلنا والمسلمينَ ممن نصرَك فنصرْته، وحفظَك فحفظتْه، اللهُمَّ عليك بأعداءِ الإسلامِ والمسلمينَ والظالمينَ فإنهم لا يعجزونَك، اكفنا واكفِ المسلمين شرَّهم بما شئتَ، اللهُمَّ إنَّا نجعلُكَ في نـُحورِهم، ونعوذُ بكَ مِنْ شرورِهم، اللهم إنَّا والمسلمينَ مستضعفونَ فانتصرْ لنا يا قويُ يا عزيزُ.
اللهم أصلحْ وُلاةَ أُمورِنا وأُمورِ المسلمينِ وبطانتَهم، ووفقهمْ لما تحبُ وترضى، وانصرْ جنودَنا المرابطينَ، ورُدَّهُم سالمينَ غانمينَ.
اللهم صلِ وسلمْ وباركْ على نبيِنا محمدٍ وأنبياءِ اللهِ ورسلِه وآلِهِ وصحبِهِ، والحمدُ للهِ ربِ العالمينَ.
المرفقات
1658943196_نهاية العام-30-12-1443ه-مستفادة من خطبة الشيخ هلال الهاجري.docx
1658943200_نهاية العام-30-12-1443ه-مستفادة من خطبة الشيخ هلال الهاجري.pdf