نهاية العام وصوم عاشوراء
بوانس الروقي
1434/12/26 - 2013/10/31 18:04PM
صلاح بن محمد البدير
7/1/1428
ملخص الخطبة
1- سرعة انقضاء الليالي والأيام. 2- الاتعاظ بمضيّ عام. 3- اغتنام الأوقات. 4- التذكير بالموت. 5- الحث على المسارعة إلى التوبة. 6- فضل صيام المحرم وعاشوراء.
الخطبة الأولى
أمَّا بعد: فيا أيّها المسلمون، اتَّقوا الله فإنَّ تقواه عليها المعوَّل، وعليكم بما كان عليه سلَف الأمّة والصَّدر الأول، واشكرُوه على ما أولاكم من الإنعام وطوَّل، وقصِّروا الأمَل، واستعدّوا لبغتةِ الأجل، فما أطال عبدٌ الأمَلَ إلا أساءَ العمل، يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر: 18].
أيّها المسلمون، إنَّ الشهورَ والأعوامَ واللياليَ والأيام مواقيتُ الأعمال ومقاديرُ الآجال، تنقضِي جميعًا وتمضِي سريعًا، واللّيلُ والنهار يتَعاقبان لا يفتُران، ومَطيَّتان تقرِّبان كلِّ بعيد، وتدنِيان كل جديد، وتجيئَان بكلِّ موعود إلى يوم القيامة، والسعيدُ لا يركَن إلى الخُدَع، ولا يغتَرُّ بالطمع، فكم من مستقبِل يومًا لا يستكمِلُه، وكم مِن مؤَمِّلٍ لغدٍ لا يدركه، وَلَن يُؤَخّرَ ٱللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاء أَجَلُهَا وَٱللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المنافقون: 11].
أيَّها المسلِمون، هذا عامٌ مِن أعمارِكم قد تصَرَّمَت أيّامه، وقُوِّضَت خِيامه، وغابت شمسه، واضمحلَّ هلاله، إيذانًا بأن هذه الدنيا ليست بدار قرار، وأن ما بعدَها دارٌ إلا الجنّة أو النار، فاحذروا الدنيا ومكائِدَها، فكم غرَّت من مُخلِدٍ فيها، وصرعت من مكِبّ عليها، فعن ابن عمرَ رضي الله عنهما قال: أخَذَ رسول الله بمَنكبي فقال: ((كُن في الدنيا كأنك غريبٌ أو عابر سبيل))، وكان ابن عمر يقول: (إذا أمسيتَ فلا تنتظرِ الصباح، وإذا أصبحتَ فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتِك لموتك) أخرجه البخاري[1].
أيها المسلمون، ذهب عامُكم شاهدًا لكم أو عليكم، فاحتقِبوا زادًا كافيًا، وأعِدّوا جوابًا شافيًا، واستكثِروا في أعمارِكم من الحسنات، وتدارَكوا ما مضَى من الهفَوات، وبادروا فرصةَ الأوقات، قبلَ أن يناديَ بكم منادي الشتات ويفجَأكم هادم اللّذات، فعن جابر رضي الله عنه قال: سمعت النبيَّ وهو يَعِظ رجلاً ويقول له: ((اغتنم خمسًا قبلَ خمسٍ: شبابَك قبل هرَمِك، وصحَّتَك قبل سقمَك، وغِناك قبل فقرك، وفراغك قبلَ شغلك، وحياتك قبل مَوتِك، فما بعد الدنيا من مستَعتَب، ولا بعد الدنيا دارٌ إلا الجنة أو النار)) أخرجه الحاكم[2].
فيا من قد بَقِي من عمُره القليل، ولا يدرِي متى يقَع الرّحيل، يا مَن تُعدّ عليه أنفاسه استدرِكها، يا من ستفوت أيامه أدرِكها، نفسك أعزُّ ما عليك فلا تهلِكها، فعن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((كلُّ النّاس يغدو، فبائعٌ نفسَه فمُعتِقُها أو موبقها)) أخرجه مسلم[3].
ويا من أقعده الحِرمانُ، يا مَن أركسه العِصيان، كم ضيّعتَ من أعوام، وقضيتَها في اللّهوِ والمنام، كم أغلقتَ بابًا على قبيح، كم أعرضتَ عن قول النصيح، كم صَلاةٍ تركتَها، ونظرةٍ أصبتها، وحقوقٍ أضعتها، ومناهِي أتيتَها، وشرورٍ نشَرتها، أنسيتَ ساعةَ الاحتضار، حين يثقُل منك اللِّسان، وترتخي اليّدان، وتَشخصُ العينان، ويبكي عليكَ الأهل والجيران؟! أنسيتَ ما يحصل للمحتَضَر حالَ نزعِ روحه، حين يشتدُّ كربه، ويظهر أنينه، ويتغيّر لونه، ويعرق جبينُه، وتضرِب شماله ويمينه؟! هذا رسول الله ، وليس أكرَم على الله من رسولِه، إذ كان صفيَّه وخليلَه، حين حضرته الوفاةُ كان بين يديه رَكوةٌ فيها ماء، فجعل يُدخل يدَه في الماء فيمسَح بها وجهه ويقول: ((لا إله إلا الله، إنَّ للموتِ سكرات)) أخرجه البخاري[4].
أيها المسلمون، أين مَن عاشَرناه كثيرًا وألفنا؟! أين من مِلنا إليه بالوِداد وانعطفنا؟! كم أغمَضنا من أحبابِنا جَفْنًا، كَم عزيزٍ دفنّاه وانصَرَفنا، كم قريبٍ أضجعنَاه في اللّحد وما وقفنا، فهل رحِم الموت منَّا مريضًا لضعف حاله وأوصاله؟! هل تركَ كَاسِبًا لأجلِ أطفالِه؟! هل أمهَلَ ذا عِيال من أجلِ عِياله؟! أين من كانوا معَنا في الأعوام الماضية؟! أتَاهم هادِم اللذات وقاطع الشهوات ومفرّق الجماعات، فأخلى منهم المجالِسَ والمساجد، تراهُم في بطون الألحاد صرعَى، لا يجِدون لما هم فيه دَفعًا، ولا يملِكون لأنفسهم ضرًّا ولا نفعًا، ينتظِرون يومًا الأمَمُ فيه إلى ربها تُدعَى، والخلائق تُحشر إلى الموقف وتسعَى، والفرائِصُ ترعد من هولِ ذلك اليوم والعيون تذرف دَمعًا، والقلوب تتصدَّع من الحسابِ صَدعًا.
فيا من تمرّ عليه سنَةٌ بعد سنة وهو في نوم الغفلة والسِنة، يا من يأتي عليه عام بعد عامٍ وقد غَرق في بحر الخطايا وهام، قل لي بربِّك: لأي يوم أخَّرتَ توبتك؟! ولأيِّ عام ادَّخرت أوبتك؟! إلى عام قابِل وحول حائل؟! فما إليك مدَّةُ الأعمارِ ولا معرفةُ المقدار، فبادِر التوبةَ واحذر التسويف، وأصلح من قلبك ما فسَد، وكن من أجلك على رصَد، وتعاهَد عمرك بتحصيلِ العِدد، وفرَّ من المجذوم فرارَك من الأسد، فقد أزف الرحيل وقرب التحويل، والعمر أمانَة، سيُسأل عنه المرء يومَ القيامة، فعن عبدِ الله بن مسعودٍ رضي الله عنه أنَّ رسولَ الله قال: ((لا تزول قدما ابنِ ادم يوم القيامة من عند ربِّه حتى يُسأل عن خمس: عن عمره فيم أفناه؟ وعن شبابِه فيم أبلاه؟ وعن مالِه من أين اكتسبه؟ وفيمَ أنفقه؟ وماذا عمِل فيما علِم؟)) أخرجه الترمذي[5]، ويقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (ما ندمتُ على شيء ندَمي على يوم غربت شمسه، نقص فيه أجلي ولم يزِد فيه عملي).
أيّها المسلمون، أينَ الحسَرات على فواتِ أمس؟! أين العَبرات على مُقاساة الرمس؟! أين الاستعداد ليوم تدنو فيه منكم الشَّمس؟! فتوبوا إلى بارئكم قبل أن يشتملَ الهدم على البناء، والكدَر على الصفاء، وينقطع من الحياة حبلُ الرَّجاء، وقبل أن تخلُوَ المنازل من أربَابها، وتؤذِنَ الديار بخرابها، واغتَنِموا ممرَّ الساعاتِ والأيام والأعوام، وليحاسِب كلُّ واحدٍ منكم نفسه، فقد سعِد من لاحظها وحاسبها، وفازَ من تابعها وعاتَبها، وهلمّوا إلى دار لا يموت سُكّانها، ولا يخرَب بُنيانها، ولا يهرَم شَبَابها، ولا يتغيَّر حُسنُها، يقول النبيُّ : ((من يدخلِ الجنة ينعم لا يبأس، لا تبلى ثيابُه ولا يفنى شبابُه)) أخرجه مسلم[6].
يا عبدَ الله، استدرِك من العمر ذاهبًا، ودع اللهو جانبًا، وقم في الدُّجى نادِبًا، وقف على الباب تائبًا، فعن أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله : ((إنَّ الله عزّ وجلّ يبسط يده بالليل ليتوبَ مسيء النهار، ويبسُط يدَه بالنهار ليتوبَ مسيء الليل، حتى تطلعَ الشمس من مغربها)) أخرجه مسلم[7].
فأحسِن فيما بقي يُغفَر لك ما مضى، فإن أسأتَ فيما بقِي أُخِذت بما مضَى وبما بقي.
يٰأَيُّهَا ٱلإِنسَـٰنُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبّكَ كَدْحًا فَمُلَـٰقِيهِ فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَـٰبَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا وَيَنقَلِبُ إِلَىٰ أَهْلِهِ مَسْرُورًا وَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَـٰبَهُ وَرَاء ظَهْرِهِ فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا وَيَصْلَىٰ سَعِيرًا إِنَّهُ كَانَ فِى أَهْلِهِ مَسْرُورًا إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ بَلَىٰ إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا [الانشقاق: 6-15].
بارَكَ الله لي ولَكم في القرآنِ، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآي والبيان، أقول ما تَسمَعون، وأستغفر الله لي ولَكم ولسائرِ المسلمين من كلِّ ذنب وخطيئة فاستغفِروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إِحسَانه، والشّكر له على توفيقِه وامتنانِه، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحده لا شريكَ له تعظيمًا لشأنه، وأشهَد أنّ نبيَّنا محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أمّا بعد: فيا أيّها المسلمون، اتقوا الله وراقبوه، وأطيعوهُ ولا تَعصوه، يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ ٱلصَّـٰدِقِينَ [التوبة: 119].
أيّها المسلمون، الصوم في شهر الله المحرَّم عبادةٌ جليلة وقربة وفضيلة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((أفضل الصلاة بعد المكتوبة الصلاة في جوف الليل، وأفضل الصيام بعد شهر رمضان صيام شهر الله المحرم)) أخرجه مسلم[1].
ويتأكّد صيام يوم عاشوراء وهو اليوم العاشر من المحرم، وكان رسول الله يتحرّى صومه على سائر الأيام، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ما رأيتُ النبيَّ يتحرَّى صيام يوم فضَّله على غيره إلا هذا اليوم يوم عاشوراء، وهذا الشهر يعني: شهر رمضان. أخرجه البخاري[2]. وعن أبي قتادة رضي الله عنه أن رسول الله سئل عن صيام يوم عاشواء فقال: ((يكفّر السنة الماضية)) أخرجه مسلم[3].
ويستحبّ أن يصوم التاسع معه، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((لئن بقيت إلى قابِلٍ لأصومَنَّ التاسعَ)) أخرجه مسلم[4]. قال ابن عباس رضي الله عنهما: (صوموا اليوم التاسع والعاشر وخالفوا اليهود) أخرجه البيهقي. قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: "فإن اشتبه عليه أوّل الشهر صام ثلاثةَ أيام، وإنما يفعل ذلك ليتيقّن صوم التاسع والعاشر".
وفقني الله وإياكم لصالح العمل، ووقانا جميعا من الإثم والزلل.
عبادَ الله، إن الله أمَركم بأمرٍ بدأ فيه بنفسِه، وثنى بملائكته المسبِّحة بقدسه، وأيّه بكم أيّها المؤمنون من جِنِّه وإنسِه، فقال قولا كريمًا: إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَـٰئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِىّ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].
اللهم صل وسلم على النبي المصطفى المختار...
7/1/1428
ملخص الخطبة
1- سرعة انقضاء الليالي والأيام. 2- الاتعاظ بمضيّ عام. 3- اغتنام الأوقات. 4- التذكير بالموت. 5- الحث على المسارعة إلى التوبة. 6- فضل صيام المحرم وعاشوراء.
الخطبة الأولى
أمَّا بعد: فيا أيّها المسلمون، اتَّقوا الله فإنَّ تقواه عليها المعوَّل، وعليكم بما كان عليه سلَف الأمّة والصَّدر الأول، واشكرُوه على ما أولاكم من الإنعام وطوَّل، وقصِّروا الأمَل، واستعدّوا لبغتةِ الأجل، فما أطال عبدٌ الأمَلَ إلا أساءَ العمل، يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر: 18].
أيّها المسلمون، إنَّ الشهورَ والأعوامَ واللياليَ والأيام مواقيتُ الأعمال ومقاديرُ الآجال، تنقضِي جميعًا وتمضِي سريعًا، واللّيلُ والنهار يتَعاقبان لا يفتُران، ومَطيَّتان تقرِّبان كلِّ بعيد، وتدنِيان كل جديد، وتجيئَان بكلِّ موعود إلى يوم القيامة، والسعيدُ لا يركَن إلى الخُدَع، ولا يغتَرُّ بالطمع، فكم من مستقبِل يومًا لا يستكمِلُه، وكم مِن مؤَمِّلٍ لغدٍ لا يدركه، وَلَن يُؤَخّرَ ٱللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاء أَجَلُهَا وَٱللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المنافقون: 11].
أيَّها المسلِمون، هذا عامٌ مِن أعمارِكم قد تصَرَّمَت أيّامه، وقُوِّضَت خِيامه، وغابت شمسه، واضمحلَّ هلاله، إيذانًا بأن هذه الدنيا ليست بدار قرار، وأن ما بعدَها دارٌ إلا الجنّة أو النار، فاحذروا الدنيا ومكائِدَها، فكم غرَّت من مُخلِدٍ فيها، وصرعت من مكِبّ عليها، فعن ابن عمرَ رضي الله عنهما قال: أخَذَ رسول الله بمَنكبي فقال: ((كُن في الدنيا كأنك غريبٌ أو عابر سبيل))، وكان ابن عمر يقول: (إذا أمسيتَ فلا تنتظرِ الصباح، وإذا أصبحتَ فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتِك لموتك) أخرجه البخاري[1].
أيها المسلمون، ذهب عامُكم شاهدًا لكم أو عليكم، فاحتقِبوا زادًا كافيًا، وأعِدّوا جوابًا شافيًا، واستكثِروا في أعمارِكم من الحسنات، وتدارَكوا ما مضَى من الهفَوات، وبادروا فرصةَ الأوقات، قبلَ أن يناديَ بكم منادي الشتات ويفجَأكم هادم اللّذات، فعن جابر رضي الله عنه قال: سمعت النبيَّ وهو يَعِظ رجلاً ويقول له: ((اغتنم خمسًا قبلَ خمسٍ: شبابَك قبل هرَمِك، وصحَّتَك قبل سقمَك، وغِناك قبل فقرك، وفراغك قبلَ شغلك، وحياتك قبل مَوتِك، فما بعد الدنيا من مستَعتَب، ولا بعد الدنيا دارٌ إلا الجنة أو النار)) أخرجه الحاكم[2].
فيا من قد بَقِي من عمُره القليل، ولا يدرِي متى يقَع الرّحيل، يا مَن تُعدّ عليه أنفاسه استدرِكها، يا من ستفوت أيامه أدرِكها، نفسك أعزُّ ما عليك فلا تهلِكها، فعن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((كلُّ النّاس يغدو، فبائعٌ نفسَه فمُعتِقُها أو موبقها)) أخرجه مسلم[3].
ويا من أقعده الحِرمانُ، يا مَن أركسه العِصيان، كم ضيّعتَ من أعوام، وقضيتَها في اللّهوِ والمنام، كم أغلقتَ بابًا على قبيح، كم أعرضتَ عن قول النصيح، كم صَلاةٍ تركتَها، ونظرةٍ أصبتها، وحقوقٍ أضعتها، ومناهِي أتيتَها، وشرورٍ نشَرتها، أنسيتَ ساعةَ الاحتضار، حين يثقُل منك اللِّسان، وترتخي اليّدان، وتَشخصُ العينان، ويبكي عليكَ الأهل والجيران؟! أنسيتَ ما يحصل للمحتَضَر حالَ نزعِ روحه، حين يشتدُّ كربه، ويظهر أنينه، ويتغيّر لونه، ويعرق جبينُه، وتضرِب شماله ويمينه؟! هذا رسول الله ، وليس أكرَم على الله من رسولِه، إذ كان صفيَّه وخليلَه، حين حضرته الوفاةُ كان بين يديه رَكوةٌ فيها ماء، فجعل يُدخل يدَه في الماء فيمسَح بها وجهه ويقول: ((لا إله إلا الله، إنَّ للموتِ سكرات)) أخرجه البخاري[4].
أيها المسلمون، أين مَن عاشَرناه كثيرًا وألفنا؟! أين من مِلنا إليه بالوِداد وانعطفنا؟! كم أغمَضنا من أحبابِنا جَفْنًا، كَم عزيزٍ دفنّاه وانصَرَفنا، كم قريبٍ أضجعنَاه في اللّحد وما وقفنا، فهل رحِم الموت منَّا مريضًا لضعف حاله وأوصاله؟! هل تركَ كَاسِبًا لأجلِ أطفالِه؟! هل أمهَلَ ذا عِيال من أجلِ عِياله؟! أين من كانوا معَنا في الأعوام الماضية؟! أتَاهم هادِم اللذات وقاطع الشهوات ومفرّق الجماعات، فأخلى منهم المجالِسَ والمساجد، تراهُم في بطون الألحاد صرعَى، لا يجِدون لما هم فيه دَفعًا، ولا يملِكون لأنفسهم ضرًّا ولا نفعًا، ينتظِرون يومًا الأمَمُ فيه إلى ربها تُدعَى، والخلائق تُحشر إلى الموقف وتسعَى، والفرائِصُ ترعد من هولِ ذلك اليوم والعيون تذرف دَمعًا، والقلوب تتصدَّع من الحسابِ صَدعًا.
فيا من تمرّ عليه سنَةٌ بعد سنة وهو في نوم الغفلة والسِنة، يا من يأتي عليه عام بعد عامٍ وقد غَرق في بحر الخطايا وهام، قل لي بربِّك: لأي يوم أخَّرتَ توبتك؟! ولأيِّ عام ادَّخرت أوبتك؟! إلى عام قابِل وحول حائل؟! فما إليك مدَّةُ الأعمارِ ولا معرفةُ المقدار، فبادِر التوبةَ واحذر التسويف، وأصلح من قلبك ما فسَد، وكن من أجلك على رصَد، وتعاهَد عمرك بتحصيلِ العِدد، وفرَّ من المجذوم فرارَك من الأسد، فقد أزف الرحيل وقرب التحويل، والعمر أمانَة، سيُسأل عنه المرء يومَ القيامة، فعن عبدِ الله بن مسعودٍ رضي الله عنه أنَّ رسولَ الله قال: ((لا تزول قدما ابنِ ادم يوم القيامة من عند ربِّه حتى يُسأل عن خمس: عن عمره فيم أفناه؟ وعن شبابِه فيم أبلاه؟ وعن مالِه من أين اكتسبه؟ وفيمَ أنفقه؟ وماذا عمِل فيما علِم؟)) أخرجه الترمذي[5]، ويقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (ما ندمتُ على شيء ندَمي على يوم غربت شمسه، نقص فيه أجلي ولم يزِد فيه عملي).
أيّها المسلمون، أينَ الحسَرات على فواتِ أمس؟! أين العَبرات على مُقاساة الرمس؟! أين الاستعداد ليوم تدنو فيه منكم الشَّمس؟! فتوبوا إلى بارئكم قبل أن يشتملَ الهدم على البناء، والكدَر على الصفاء، وينقطع من الحياة حبلُ الرَّجاء، وقبل أن تخلُوَ المنازل من أربَابها، وتؤذِنَ الديار بخرابها، واغتَنِموا ممرَّ الساعاتِ والأيام والأعوام، وليحاسِب كلُّ واحدٍ منكم نفسه، فقد سعِد من لاحظها وحاسبها، وفازَ من تابعها وعاتَبها، وهلمّوا إلى دار لا يموت سُكّانها، ولا يخرَب بُنيانها، ولا يهرَم شَبَابها، ولا يتغيَّر حُسنُها، يقول النبيُّ : ((من يدخلِ الجنة ينعم لا يبأس، لا تبلى ثيابُه ولا يفنى شبابُه)) أخرجه مسلم[6].
يا عبدَ الله، استدرِك من العمر ذاهبًا، ودع اللهو جانبًا، وقم في الدُّجى نادِبًا، وقف على الباب تائبًا، فعن أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله : ((إنَّ الله عزّ وجلّ يبسط يده بالليل ليتوبَ مسيء النهار، ويبسُط يدَه بالنهار ليتوبَ مسيء الليل، حتى تطلعَ الشمس من مغربها)) أخرجه مسلم[7].
فأحسِن فيما بقي يُغفَر لك ما مضى، فإن أسأتَ فيما بقِي أُخِذت بما مضَى وبما بقي.
يٰأَيُّهَا ٱلإِنسَـٰنُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبّكَ كَدْحًا فَمُلَـٰقِيهِ فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَـٰبَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا وَيَنقَلِبُ إِلَىٰ أَهْلِهِ مَسْرُورًا وَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَـٰبَهُ وَرَاء ظَهْرِهِ فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا وَيَصْلَىٰ سَعِيرًا إِنَّهُ كَانَ فِى أَهْلِهِ مَسْرُورًا إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ بَلَىٰ إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا [الانشقاق: 6-15].
بارَكَ الله لي ولَكم في القرآنِ، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآي والبيان، أقول ما تَسمَعون، وأستغفر الله لي ولَكم ولسائرِ المسلمين من كلِّ ذنب وخطيئة فاستغفِروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إِحسَانه، والشّكر له على توفيقِه وامتنانِه، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحده لا شريكَ له تعظيمًا لشأنه، وأشهَد أنّ نبيَّنا محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أمّا بعد: فيا أيّها المسلمون، اتقوا الله وراقبوه، وأطيعوهُ ولا تَعصوه، يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ ٱلصَّـٰدِقِينَ [التوبة: 119].
أيّها المسلمون، الصوم في شهر الله المحرَّم عبادةٌ جليلة وقربة وفضيلة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((أفضل الصلاة بعد المكتوبة الصلاة في جوف الليل، وأفضل الصيام بعد شهر رمضان صيام شهر الله المحرم)) أخرجه مسلم[1].
ويتأكّد صيام يوم عاشوراء وهو اليوم العاشر من المحرم، وكان رسول الله يتحرّى صومه على سائر الأيام، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ما رأيتُ النبيَّ يتحرَّى صيام يوم فضَّله على غيره إلا هذا اليوم يوم عاشوراء، وهذا الشهر يعني: شهر رمضان. أخرجه البخاري[2]. وعن أبي قتادة رضي الله عنه أن رسول الله سئل عن صيام يوم عاشواء فقال: ((يكفّر السنة الماضية)) أخرجه مسلم[3].
ويستحبّ أن يصوم التاسع معه، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((لئن بقيت إلى قابِلٍ لأصومَنَّ التاسعَ)) أخرجه مسلم[4]. قال ابن عباس رضي الله عنهما: (صوموا اليوم التاسع والعاشر وخالفوا اليهود) أخرجه البيهقي. قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: "فإن اشتبه عليه أوّل الشهر صام ثلاثةَ أيام، وإنما يفعل ذلك ليتيقّن صوم التاسع والعاشر".
وفقني الله وإياكم لصالح العمل، ووقانا جميعا من الإثم والزلل.
عبادَ الله، إن الله أمَركم بأمرٍ بدأ فيه بنفسِه، وثنى بملائكته المسبِّحة بقدسه، وأيّه بكم أيّها المؤمنون من جِنِّه وإنسِه، فقال قولا كريمًا: إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَـٰئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِىّ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].
اللهم صل وسلم على النبي المصطفى المختار...