نقضُ تشييد البناء في إثبات حِلِ الغناء
مازن النجاشي-عضو الفريق العلمي
1431/08/15 - 2010/07/27 15:40PM
نقضُ التشييد
محمد بن السَّيد بن سليمان الغنام
قراءة نقدية لبحث القارئ / عادل الكلباني المسمى ( تشييد البناء في إثبات حِلِ الغناء )
الحمد لله الهادي إلى سبيل الرشاد، والصلاة والسلام على نبينا محمدٍ خيرِ العباد، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه حتى المعاد، وبعد:
فقد طالع الكثيرُ من الناس ما ثار مؤخرا حول ( حكم الغناء ) بين قولٍ بالتحريم، وقولٍ بالجواز والإباحة. وجاء ظهور هذا النقاش والجدال حول الغناء وحُكمه في الشريعة الإسلامية إبان ما أعلنه القارئ/ عادل بن سالم الكلباني عن رأيه في إباحة الغناء بجميع أنواعه، حتى مع المعازف.
وقد نهض جمعٌ غفيرٌ من أهل العلم للرد على هذه الأطروحة التي قدمها – القارئ - الباحثُ فانبرى لذلك وأخرج بحثا، عرضه على موقعه الإلكتروني، أسماه (تشييد البناء في إثبات حِلِ الغناء)، يعرض فيه رأيه في إثبات حِلِ الغناء بجميع أنواعه، حتى مع المعازف، مستدلا بجملة من الأدلة التي تُمكنه من إثبات قوله، وتجعلُ القارئ يُسلم له بالحجة.
ولما كانَ مِن المقرر عند جمهور الناس عامة- والباحثين خاصة- أنَّه إنما يُسلَّمُ للحجة القاطعة، والبراهين الساطعة، كان لزاما على كلا الفريقين- القائلِ بالجواز والقائلِ بالحرمة، أن يعرضَ لقوله وحُججه عرضا علميا سليما، يقومُ على أصولٍ علمية ثابتة. وعليه فكان من الضروري أن يكون هذا البحثُ خاضعا لهذه الأصول، ومُراعيا لتلك الضوابط- أعني ضوابطَ البحث العلمي.
ومِنْ جُملةِ هذه الأصول التي ينبغي للباحث مراعاتها:
أولا- أن يأتي بأقوى أدلته العلمية، الدالة على صحة مذهبه، ثم يعرضُ لها عرضا مُفصلا يصلُ بالقارئ للتسليم له بقوة الحجة والبرهان.
ثانيا- أنْ يعزو جميعَ الأقوال والنقول- قدر الإمكان- لأصحابها، ويذكرَ المصادر التي استلَّها منه، ثم يعرِضَ لصحتها وموافقتها للأصول العلمية، والقواعد الثابتة للفن الذي يتناوله بالبحث.
ثالثا- أن يتعرضَ لأدلة المُخالفينَ بالتحليل والنقد، ويثبتَ ضعفها، أو عدمِ دلالتها على ما استدلوا بها عليه. وبذلك يظهر للقارئ قوة حجته وأدلته مع ضعف أدلة المخالفين.
رابعا- ألا يتعرضَ الباحثُ لأشخاص مُخالفيه بالتجريح واللمز، وعبارات التقليل من أشخاصهم وذواتهم، إذ القوةُ للطرح العلمي الصحيح، والأدلة الواضحة الساطعة، لا لكلمات النبذ والتقليل من الآخرين.
خامسا- مُراعاة الصدق العلمي في الدلالات والفهوم، واحترام عقلية المُخاطب الذي يُرادُ منه تبني ما ذهبَ إليه الباحث، وعدم استخدام عمومات لا تخصيص لها. ولذا يجدُر بالباحث مُراعاةُ الصدق، والتزامُ الإنصاف مع القارئ حتى تكون قناعتُه بالأطروحة حاضرة.
سادسا - أن يتجنب الباحثُ عبارات التغرير بالقارئ، والإيهام بأنَّ الحقَ معه لكن الشفقة بالقارئ خشية الإطالة دفعت الباحثَ أن يُقلِّص بحثَه، ويُقصِّرَ في عرضه، نحو قول قائل: "والأدلة على صحةِ ما ذهبت إليه- أو بطلانِ ما ذهب إليه المخالف- كثيرةٌ لا يتسعُ المقام لذكرها"، أو "لا أود الإطالة على القارئ بتفاصيل ذلك".. ونحو ذلك من العبارات التي ليس لها سوى معنى واحد، ألا وهو ( ضعفُ الطرح العلمي للباحث، وتهافت أدلته)، وإلا لانبرى لعرضها، وإن طال المقام ما طال.
سابعا - أن يتحلى الباحث بأخلاق أهل الحق والإنصاف من ورعٍ وتجردٍ، ورغبةٍ في ظهور الحق، وصدقٍ في القول، وأن ينأى بنفسه عن أن يكونَ الطرحُ ذاتيا- أي رغبة في تلميع ذاته وبزوغ نجمه، وإظهارًا غلَبته، وحطًا لمخالفيه، وطرحًا لآرائهم فضلا عن ذواتهم.
كانت هذه بعض الجوانب الأساسية التي يجدرُ بالباحث مراعاتها، صُغتها من خلال تجربتي البحثية. وقد رأيتُ في البحثِ افتقارا واضحا لجُل هذه الجوانب، بل لكلها. وقد قصدت من مقالي هذا عرضَ نقدٍ علمي لبحث القارئ وفق الضوابط السابقة، لا إنصافا لقوله بالجواز أو لقول غيره بالتحريم. وفيما يلي نتناول بعض ما جاء في البحثِ بالنقد والتحليل وفق الضوابط البحثية السابقة:
•أولا:
جاء الباحثُ بأدلةٍ ليست بالقوية والتي لم تنهض لنُصرة ما ذهبَ إليه من إباحة الغناء، وللتدليل على ذلك تجدُرُ الإشارةُ -أولا- إلى مصادر التلقي المُجْمعِ عليها عند أهل السُّنة والجماعة، والتي منها يستقون أدلتهم على صِحة دينهم واعتقادهم وعباداتهم ومعاملاتهم..الخ، وهي: ( القرآن الكريم، والسنة المطهرة، والإجماع ). إذن هذه هي مصادر الأدلة الشرعية التي يجب على كل باحث يتناول أمرا شرعيا بالبحث والدراسة أن تكونَ في مُقدمةِ أدلته البحثية، وهذا ما لم يكن في هذا البحث، فقد افتقر بوضوح إلى أدلةِ الكتاب والسُّنة وإجماع أهل العلم في بيان مذهبه. ولم يٌقدِّم للقراء سوى جملةٍ من الأحوال والأقوال لبعض السلف- افتقرت للتوثيق والعزو- لإثبات صحة مذهبه.
وإن تعجب فعجبٌ قوله- مُعيبا على مُخالفيه:" ومن دلائل إباحته أيضا أنك لن تجد في كتب الإسلام ومراجعه نصا بذلك..الخ "، وهذا مالا يُسَلَّم له به كما سيأتي لاحقا بإذن الله، غيرَ أنَّه لم يعرضْ- كذلك- لأدلة الإباحة سواء من القرآن أو السُّنة أو الإجماع. وأما ما استدلَ به، وعدَّه أكبرَ أدلة الإباحة، مما كان يُفعل إبانَ نزول القرآن من الغناء بقوله:" ومن أكبر دلائل إباحته أنه مما كان يفعل إبان نزول القرآن، وتحت سمع وبصر الحبيب ، فأقره، وأمر به، وسمعه، وحث عليه، في الأعراس، وفي الأعياد"، وكذا حديث" هَذِهِ قَيْنَةُ بَنِي فُلاَنٍ تُحِبِّينَ أَنْ تُغَنِّيَكِ ؟ "، فلم يبين صحة قوله، ولا عزاه لمصادره( من دواوين السُّنة وكتب الإسلام.. ) على نحو ما سيأتي الكلام عنه في المبحث التالي.
ولعله تبين أنَّ الباحث لم يُراعِ في بحثه هذا الجانب العلمي في الطرح، فلم يذكر أقوى أدلته للانتصار لمذهبه على النحو المعروف في الفنِ نفسه، فلم يأتِ بأدلة قوية ثابتة صحيحة من مصادر التلقي المتفق عليها بين أهل هذا الفن، فلم يعرض دليلا من القرآن، ولا السُّنة الصحيحة سوى ما ذكره أنَّ الغناء مما كان يُفعلُ إبان نزول القرآن، وتحت سمع النبي ..الخ ما قال، ولم يُثبت شيئا من ذلك.
ثم هو لم يحكي – أثرا واحد- عن كبار الصحابة وعلماءهم، والفقهاء منهم، كالخلفاء الراشدين، والعشرة المبشرين بالجنة، وأصحاب العقبة وبدر، أو ابن مسعودٍ وابن عباس وابن عمر وغيرهم، اللهم إلا أثرا واحدا عن عمر بدون عزو لمصدره أو حتى بيان لصحته أو ضعفه، أو دلالته على الغناء الذي يعنيه لا غناء الحداء ونحوه، كما سيأتي بيان ذلك بإذن الله تعالى. ولا تزال الحاجة ماسة لذكر أقوال الصحابةِ- لاسيما كبارهم وفقهاءهم- في الغناء، خاصة وأنَّه كان منتشرا بينهم- على حد تعبير الباحث، وكانت صناعته مشهورة عندهم. فما هي أقوال الصحابة في الغناء، سواء كانت بالإباحة أو التحريم أو الكراهة..؟!
وكذا لم ينقل القارئ حكايةَ إجماعِ أهل العلم في حُكمِ الغناء، لاسيما ما دام مُباحا دون مراء- كما ذكر. وقد نقل آثارا حكاية عن أحمد والشافعي تُعضد ما ذهب إليه من القول بإباحة الغناء. لكن السؤال الذي يشغلني: هل هناك نقول عنهم- وعن غيرهم من الأئمة المعتبرين- في تحريم الغناء أو كراهته؟ لقد تتبعت ذلك فوجدت ما يلي:
» قال ابن الجوزي في تلبيس إبليس:" قال الطبري: فقد أجمع علماء الأمصار على كراهية الغناء والمنع منه، وإنما فارق الجماعة إبراهيم بن سعد وعبيد الله العنبري".
»قال الحافظ في الفتح:" وأما الآلات فسيأتى الكلام على اختلاف العلماء فيها، عند الكلام على حديث المعازف في كتاب الأشربة، وقد حكى قوم الإجماع على تحريمها ".
» قال الشاطبي في الاعتصام:" سئل مالك بن أنس رضي الله عنه عن الغناء الذي يستعمله أهل المدينة، فقال: إنما يفعله الفساق".
» قال في الشرح الكبير، وكذا في المغني:" واختار القاضى أنه مكروه غير محرم وهو قول الشافعي، وقال من اللهو المكروه. وقال أحمد: الغناء ينبت النفاق في القلب لا يعجبني، وذهب آخرون من أصحابنا إلى تحريمه".
فهلا قامَ القارئ في بحثه بذكر مثل هذه النقول وغيرها للأئمة الأربعة وأصحابهم إتماما للفائدة، وذكرا لرأيه ورأي غيره، وبدلا من تكليف القارئ عناء البحث والتقصي؟ أم هي الرغبة في الإقناع بالقول الذي يتبناه – دون غيره- على حساب القارئ ؟!!
تأمل قول القارئ:" فلو كان تحريم الغناء واضحا جليا لما احتاج المحرِّمون إلى حشد النصوص من هنا وهناك، وجمع أقوال أهل العلم المشنعة له ، وكان يكفيهم أن يشيروا إلى النص الصريح الصحيح ويقطعوا به الجدل"، قلت: وكذلك الكلام للمبيحين، فإنَّه حشدَ نصوصا- من هنا وهناك، غير صريحة في نُصرةِ ما ذهبَ إليه، وكان يكفيه الإشارة إلى نصٍ صريحٍ صحيحٍ من كتابٍ أو سُنةٍ أو إجماع.
وعليه فإنَّ الباحثَ مُطالبٌ بأدلةٍ ونصوصٍ صريحةٍ من القرآن، وكذا السُّنة المطهرة، وأقوال السلف تؤكدُ صحة ما ذهبَ إليه، ونحن- معاشر القراء- بانتظارها.
•ثانيا:
لم نجد الباحثَ يعزو نقوله، والأقوال التي نقلها عن قائليها إلى مصادرها- إلا فيما نَدُر- حتى يتسنى للقارئ والباحث تتبُع تلك الأقوال – عند رغبته في التأكد من صحتها، أو نحو ذلك- الأمر الذي يُكسب القارئ ثقةً في الباحث، وراحة في متابعة بحثه، بل وقد تصل به إلى تبني آرائه ومذهبه. والأدلة على ذلك – في بحث القارئ عادل على عدم التزامه بالعزو والتوثيق- ليست بحاجة لإشارة، إذ البحث كله- بلا مبالغة- خلا من العزو سوى في مواضع لا تزيد عن أصابع كفٍ واحدة، فهل يسوغ مثلُ ذلك في بحثٍ كهذا؟!
ثم ما هي هذه المراجع التي أشار إليها؟ هل هي المعتمدة من أمهات الكتب المتناولة للفن موضوع البحث والدراسة؟ نود ذلك! لكنها كما ذكر: ( قوت القلوب- الإمتاع – العمدة - الأغاني !!-إبطال دعوى الإجماع على تحريم السماع). ولعلك تعجب – مثلي- من خلو مراجع القارئ في بحث شرعي من ذكرِ كتاب واحد في( التفسير، أو دواوين السُّنة، أو الفقه للمذاهب الأربعة، أو التراجم والطبقات، أو غيرها) فهل خلت هذه الكتب جميعا من تناول مسألة الغناء- التي جزم القارئ بإباحتها- أو حتى التعريض بها ؟ فإن لم تخلو منها فأين نقلُ القارئ عنها، واقتفاؤه للسلف في التلقي والاستدلال؟ هذه أسئلة بحاجة لجواب!
ومما تجدر الإشارة إليه أنَّ الباحث لم يعزو الأحاديث والآثار إلى دواوين السُّنة المعتمدة، أو كتب الرجال والطبقات والتاريخ، وهذا مما يُوجد نوعا من الارتياب لدى القارئ من صحة هذه الأخبار- غير الموثَّقة. ولو اعتُذرَ للباحث في عدم عزوه للآثار عن السلف وغيرهم فلا يُعذر في عدم عزوه للأحاديث الموجودة في بحثه- على قلتها.
ومن ذلك قوله أنَّ النبي قال لعائشة رضي الله عنها:" هَذِهِ قَيْنَةُ بَنِي فُلاَنٍ تُحِبِّينَ أَنْ تُغَنِّيَكِ ؟ "،فأين نجده؟ وما مدى صحته؟ هذه أمور تَلْزم القارئ، بل لا غنى له عنها، وللأسف لم نجدها في البحث.
ثم تعجب من قوله بعدها:" فسبحان الله كيف تُعارَض مثل هذه النصوص بالمشتبهات من نصوص التحريم ، ثم يعاب على المتمسك بالنص الواضح الصريح ، الصحيح ".فهل يُفهم من هذا إلا تصحيح القارئ للحديث الذي ذكر دون عزو، إذ اعتبره نصا صريحا صحيحا- بقوله- فمن صححه من أهل العلم غيرك ؟!. وإن كنتُ أرى أن ثمة نوع من التهويل والتضخيم في قول الباحث إذ اعتبر نصا واحدا من السُّنة ذكره- دون بيان وعزو- نصوصا ! صريحة صحيحة، فسبحان الله!.
ومن دلائل الضعف البحثي ما ذكره القارئ بقوله:" ومن أكبر دلائل إباحته أنه مما كان يفعل إبان نزول القرآن ، وتحت سمع وبصر الحبيب صلى الله عليه وسلم ، فأقره ، وأمر به ، وسمعه ، وحث عليه ، في الأعراس ، وفي الأعياد ".أقول للشيخ: لا زالت المسألة على حالها، فأين نجدُ – في دواوين السُّنة المعتمدة- ما يُثبت صحة قولك مِن أنَّ الغناء كانَ مما يحدُث إبانَ نزول القرآن، بل وتحت سمع النبي وإقراره؟ بل وأمره به وحثه عليه؟
وهنا لفتة تتضح للقارئ الكريم أنَّ ثمةَ خلطٍ واضح بين موقفين قد يُسبب نوعا من اللبس لدى أيِّ مُطلعٍ على البحث، ألا وهما الربط بين كون الغناء يحدث إبان نزول القرآن وبين كونه في الأعراس والأفراح. والسؤال- هنا- للشيخ أي الموقفين تعني بقولك" فأقره ، وأمر به ، وسمعه ، وحث عليه "، هل هو حدوث الغناء عند نزول القرآن أو بعده، أو في الأعراس والأعياد، أو في كليهما؟ وأين نجد – بعد التأكد من صحة ما قلت- أنَّ هذا من أكبر دلائل إباحة الغناء ؟ نود الجواب، وبعدها السؤالُ للقارئ الكريم: هل وجدت فيما ذكر الباحث دليلا – صغيرا أو كبيرا- على صحة ما ذهب إليه ؟.
ولنَقُلْ نفسَ الكلام عن تلك الآثار التي أودعها القارئ بحثَه، ومنها قوله:" وقد صح عن عمر رضي الله عنه ، أنه قال : الغناء من زاد الراكب " فأين نجده؟ ومن صححه كما قلت ؟ وأيُّ نوعٍ من الغناءِ عناه الفاروق ؟ أهو الحداء وإنشادُ الشعر؟ أم الغناء تصحبُه المعازف والآلات؟ مع الدليل.
أما بالنسبة لبقية الآثار فقد جاءت- كذلك- خالية من العزو والتوثيق، وأكبرَ منه كونها مُجرَدةٌ من الحكم عليها أو بيان صحتها وضعفها، أو حتى التأكد من دلالتها على المُراد. ولن أطيل على القارئ في سردها، بل أسوق له دليلين اثنين منها تتبعتهما فوجدت فيهما ما يؤكد ما ذكرت.
1)- ذكر القارئ ( عادل ) نقلا عن صاحب قوت القلوب بقوله:" وذكر أبو طالب المكي في قوت القلوب عن شعبة أنه سمع طنبورا في بيت المنهال بن عمرو المحدث المشهور ". وقد احتج بهذا على صحة ما ذهب إليه، فهل تتبع بالبحث هذا الأثر؟ وهل تكلَّف العناءَ في تتبع أقوال أهل العلم تعليقا على هذا الأثر.
فإلي القارئ الكريم تتمةُ الخبر وتعليق أهل العلم عليه، ذكر الحافظ الأثر في تهذيب التهذيب:" قال وهب بن جرير عن شعبة: أتيت منزل المنهال فسمعت منه صوت الطنبور، فرجعت ولم أسأله، قلت: فهلا سألته عسى كان لا يعلم ؟ ".
قال الذهبي في ترجمة المنهال بن عمرو:" ثم إن شعبة ترك الرواية عنه، لكونه سمع آلة الطرب من بيته "، وقال في ميزان الاعتدال:" وهذا لا يوجب غمز الشيخ ".
وهذا اعتذارٌ للمنهال بأنَّه يُحتمل أنْ يكون هذا وقع دون علمه أو رضاه، أضف لذلك أنَّ الأثرَ حُجة على صاحب " تشييد البناء"- والقائلين بمثل قوله- حين احتج به إذ فيه إنكار شعبة رحمه الله على ما سمعه في بيت المنهال حتى أنَّه ترك الرواية عنه..
2)- قال الباحث- ذاكرا أسماء من كانت لهم شهرة في صناعة الغناء، وتطريبه، والبراعة فيه من السلف، من المشهودِ لهم بالعلمِ والديانة:" وشهر بن حوشب، وكان فقيها قارئا عالما، أحد المشاهير برواية الحديث، كان يسمع الغناء بالآلات ". فإلى الباحث والقارئ الكريمين أنقلُ ما ذكره الحافظ الذهبي في السير[ 4 / 373- 374] حيث قال:" إسماعيل بن عياش: حدثنا عثمان بن نويرة، قال: دُعِي شهر بن حوشب إلى وليمة وأنا معه، فدخلنا، فأصبنا من طعامهم، فلما سمع شهرٌ المزمارَ، وضع أصبعيه في أذنيه، وخرج".
القارئ الكريم: هذا الباحثُ يقول عن شهر بن حوشب أنَّه ممن له شهرة في الغناء وصناعته وتطريبه، فما له – كما روى الحافظ الذهبي- وضع أصبعيه في أذنيه، وخرج لما سمع المزمار ؟!! إننا بحاجة – معاشر القراء- إلى جواب من الباحث، ونحن بانتظار جواب !
ثم إننا بحاجة إلى توجيه للقاعدة التي قررها أهل العلم، ألا وهي:( أنَّ كلا يُؤخذُ منه ويُردُ إلا المعصوم )، فهل تُعارَض النصوص الواردة – كتابا وسنة- في النهي عن الغناء- أو غيره من المحرمات- بفعل أي شخصٍ، كائنا مَن كان؟ لو صحت نسبة هذا الكلام لهذا التابعي الجليل أو غيره.
وهَب- أيها القارئ الكريم- أنَّ مُنكرا من المنكرات، أو مُحرَّما من المحرمات، جاء أنَّ شخصا من أجلة الصحابة- وحاشاهم- فضلا عن غيرهم فعلَه، مع عدم ذيوعه فيهم، أو إقرار غيره له. أقول: هل يُعدُّ ذلك دليلا أو مسوغا للإتيان بمثل هذا الفعل لمجرد أنَّه جاء فيه أثرٌ عن صحابي أو تابعي جليل، ولو صح الخبر؟! أم الحجة في قول الله جل وعلا، وقول رسوله ؟!! وأيضا.. فإنَّ هذه التساؤلات الأخيرة بحاجة إلى جواب... ونحن بانتظاره من الباحث الكريم.
وبعد ما سبق، هلَّا قام القارئ ( عادل ) بالتحقيق والتفصيل في مثل هذه الدقائق بدلا من إطلاق الكلام على علاته، أو قبوله عن ناقليه دون رَوِيَّة أو تحرٍ؟ والله لقد كنا بحاجة لذلك منه إن كان بحثه قائما على أصول علمية بحثية صحيحة. والقراء بحاجة لقيام القارئ بتحليل بقية الآثار – بعد عزوها والتأكد من صحتها- على نحو مما ذكرتُ حتى تزيدَ قناعتهم بأطروحة القارئ، فهلا أتحفنا بها تامة بارك الله فيه ؟
مما سبق يتبين للقارئ الكريم خلِو البحث من العزو والتوثيق، وافتقاره الواضح لهذا الجانب الركين من جوابِ البحث العلمي السليم.
•ثالثا:
بعد العرض - للجانبين السابقين ( أولا و ثانيا )- لعله تبين للقارئ الكريم أن بحثَ القارئ عادل جاء مُفتقرا لأدلة علمية قويةٍ، تنهض لحجته وقوله الذي ذهب إليه ونافح لأجله، الأمر الذي سببَ ضعفا في قوةِ الرأي الذي تبناه الباحث، فجاء هزيلا ضعيفا. غير أنَّه ثمة أمرٍ آخر زاد الضعفَ ضعفا، وجعلَ الاقتناعَ برأي الباحثِ- للقارئ المتبع للدليل والحجة القوية- بعيدَ المنال، ألا وهو ( التعرضُ لأقوال المخالفين وحججهم بالدراسة والنقد ). وهذا الأمرُ لا مناص منه لكل صاحبِ أطروحة ورأى، له من يخالفه ويقول بخلاف قوله، بل بنقيضه. فما بالك لو كان الرأيُّ المخالفُ من القوة بمكان حتى أنَّ جمهور الناس- لا سيما أهل العلم- يقول به. عندئذٍ تكون الحاجة لنقض- ونقد- أقوال المخالفين ماسةً لكي يجدَ الرأيُ الجديدُ مكانا في عقول ونفوس المخاطبين.
والقارئ- بتحرٍ- لأطروحة الباحث يرى أنها جاءت خاليةً تماما من هذا الجانب، فلم يتعرض من قريبٍ ولا بعيد لأقوال مُخالفيه. بل إنَّ أقصى ما تفتقت عنه قريحته، وسطَّره قلمه، قولَه:" والرد على أدلة المحرمين ومناقشتها يطول ، ولكني أشير إلى نكتة ينبغي أن يتنبه لها المسلم ... !! ". وللأسف لم يذكر منها دليلا واحد فضلا عن الرد عليه، مع حاجة القراء الماسة للتعرف عليها، و شهودهم الردَّ- المُفحم القوي- عليها. إنما اكتفى الباحث الكريم بالإتيان بعبارة- هزيلة ضعيفة- لا يقتنع بها أحد من المنصفين- أو غيرهم- كردٍ مُجمل على أدلة المخالفين، ألا وهي" والرد على أدلة المحرمين ومناقشتها يطول "، فهل يُعدُّ ذلك عذرا معاشر الكرام ؟! أم هو الضعفُ العلمي في الرد على أدلة قوية، وحجج بهية ؟! وأخشى أن يظنَّ ظانٌ أني أتحامل على الباحث، لكنه الإنصاف ورب الكعبة، وإلا قولوا لي- بالله عليكم- ما هو تفسيركم لحيدة الباحث عن ذكرِ أدلةِ المخالفين، فضلا عن إبطالها، والإتيان عليها، ونقضها من أساساتها؟ الأمر الذي دفعه لتلك الحيدة، والالتفات، وهذا واضح من قوله" ولكني أشير إلى نكتة ".أليست هذه حيدةٌ واضحة ؟!!
وجاء التعرض الثاني لأدلة المخالفين قويا- في ظاهره وأولِّه، حيثُ قال الباحث الكريم:" ولهذا سأبدا مقالتي هذه بذكر المجيزين على طريقة الإجمال "، فظننتُ عندها- ولعل القارئ كذلك- أنَّه سيأتي على أدلة المخالفين في نهاية مقالته، بعد عرضه لأقوال المجيزين في أولها، إذ الإنصاف، والأمانة العلمية يقتضيان ذلك. لكن !! وماذا بعد لكن ؟
لكن جاءت خاتمة البحث ولم يتناول الباحث شيئا من تلك الأقوال، بعدما توهمت أنَّه سيعرضُ إليها، ويأتي عليها. ويا ليته فعل. عندها كنا استفدنا علما، واطلعنا على آرائه وأقواله، بل وقد يستطيعُ قائلٌ بهذا الرأي- أعني رأي الباحث في جواز الغناء- أن يردَّ على مخالفيه، أو أن يدحض حججهم، ويُفند أقوالهم. لكن أبى الباحثُ إلى أن يُحوجنا لغيره في بيان ما غفل- أو تغافل- عن بيانه.
ثم تعرض الباحث لأقوال مخالفيه للمرة الثالثة بطريقة- وللأسف- أوْهَى من سابقتيها، وأشدُّ خوَرا وضعفا، فها هو يقول- وإليكم نص كلامه كاملا، فتأملوه رحمكم الله:
" وكل دليل من كتاب الله تعالى استدل به المحرمون لا ينهض للقول بالتحريم ...، ثم أنبه إلى أني قد قرأت أقوال المحرمين قبل ، وبعد ، وكنت أقول به ، ولي فيه خطبة معروفة ، ورجعت عن القول بالتحريم لما تبين لي أن المعتمد كان على محفوظات تبين فيما بعد ضعفها ، بل بعضها موضوع ومنكر، وعلى أقوال أئمة ، نعم نحسبهم والله حسيبهم من أجلة العلماء ، ولكن مهما كان قول العالم فإنه لا يملك التحريم ولا الإيجاب ، إنما ذلكم لله تعالى ولنبيه صلى الله عليه وسلم".
في هذا الكلام صرَّح الباحثُ- بوضوح- أنَّه كان من القائلين بالتحريم، ثم صارَ إلى القول بخلافه لما تبين له خطأ ما كان يذهبَ إليه، وهذا – أي الرجوع للحق، ونبذ التقليد الأعمى- أمرٌ محمودٌ حينَ تكونُ الصيرورة من الباطل إلى الحق، ومن الضلالة إلى الهدى. لكن، ما الذي دفع الباحث الكريم إلى الرجوع عن قوله، والانتقال لغيره ؟ الجواب الذي قد لا يتخلف عن القول به قائل: أنَّه ظهر له بطلانُ الأول، وصحةُ الثاني.
إذن، فالقراء كذلك بحاجة إلى إثبات وبيان بطلان القول الأول- أي تحريم الغناء والمعازف- وصحة القول الثاني- وهو كونها حلال، حتى يتسنى لهم الاقتداء بالباحث الكريم، والسير على طريقه، واقتفاء أثره. لكنَّ هذا – أيضا- بحاجة لنقض الرأي الأول، وبيان ضعفه وخطئه، فهلا قام الباحث، والذي ما قام ببحثه، وانبرى له قلمُه إلا لبيان ما يُدين اللهَ به للناسِ، وعدم كتمانه، هلاَّ قام بنقض أقوال المحرمين قولا قولا ؟ وكلمة كلمة ؟
ولما كان البيان للحق يقتضي عدم الكتمان، كانَ الناسُ بحاجة إلى بيان ضعف أدلة المحرِّمين للغناء، بل وبيان ضعفها، ولم ؟ لأنهم سيتحولون لهذا القول- أي بحِلِّ الغناء والمعازف، بل وسيعتقدونه ويقولون به، بل لن يجدَ أحدهم غضاضة في الاستماع له، ومشاهدته، بل قد يحثُ أبناءه ومن هم تحت ولايته على فعله لكونه مما جاءت الشريعة بإباحته. لكن هل يكفي المسلمين- في أصقاع الدنيا وحتى تقوم الساعة- في ذلك أن يقول الباحثُ- أو غيره:" تبين فيما بعد ضعفها، بل بعضها موضوع ومنكر " حتى يقتدي به الناس ويسيروا خلفه، ويَدعوا قولَ مَن خالفه مع قُوة حجتهم، وسطوع أدلتهم، وشهرة مقالتهم ؟!!.
وإن تعجب! فمن قول الباحث :" بل بعضها موضوع ومنكر "، فمع كونه حكمَ على أدلة المخالفين- جملةً ودون تعرض بذكرها- بأنها ضعيفة بل موضوعة ومنكرة، إلا أنه لم يُبين شيئا من ذلك، فهل هذا ضعفٌ واضحٌ في نقض الأدلة جبره الباحث بعبارة رنانة، أم هو كتمان العلم الذي بدا له- دون غيره ؟! أمران أحلاهما مُر !!
أيها القارئ الكريم:
لايضرنَّك- بارك الله فيك وفي عُمرك- إطالة النقاش في هذا الأمر، فالمقامُ يقتضي البسطَ لا الاختصار، لا سيما وموضوعنا متعلق بدين الله جل وعلا، علاوةً على أنَّ الناس اضطربوا فيه لهذه الأطروحة الأخيرة، محل الدراسة في مقالنا هذا.
لقد تبين الآن أنَّ الباحث- القارئ عادل- لم يراع هذا الجانب البحثي في أطروحته- فلم يتعرض لأقوال مخالفيه لا بذكر ولا تفنيد، سوى ما جاء في عبارة مُجملة، خالية من البيان العلمي والبرهان البحثي، حيث زعم – أقول زعم لكونه أخفى عنا علة حكمه- أنَّ أدلة مخالفيه " تبين .. ضعفها ، موضوع ومنكر ". والسؤال الآن: هل هذا الكلام كافٍ في الاقتناع بأطروحة الباحث، وتبني قوله والذهاب إليه، وطرح ما عاداه ؟! والجواب لك أيها القارئ الحصيف.
غير أني قبل أن أطوي الكلام في هذا الجانب، يلزمني أنَّ أذكر- على سبيل الإجمال- طرفا من أقوال المخالفين للباحث- أعني القائلين بحرمة الغناء، لا المُحرِّمين كما وسمهم- وهذا إذ يقتضي المقامُ ذلك، وليتبين للقارئ المبارك صحةُ ما ذهبت إليه من أنَّه كان يلزم الباحث ذكرَ هذا الأدلة ونقضها لتكونَ القناعة بفكرته حاضرة. وإليكم معاشر القراء هذه الأدلة إجمالا:
- قول الله جل وعلا في سورة لقمان [ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ ] ، قال ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهما، وكذا من التابعين مجاهد وعكرمة والحسن وسعيد بن جبير وقتادة وغيرهم- في تفسير (لَهْوَ الْحَدِيثِ) بأنه الغناء. وقد وقفت- بنفسي- على ذلك في تفسير القرآن الكريم لثلة جليلة من أهل العلم الأثبات كـ ( ابن جرير الطبري في جامع البيان- والقرطبي في أحكام القرآن، وله كلامٌ نفيس في هذه المسألة فليُرجع إليه- ابن كثير- ابن الجوزي في زاد المسير- ابن القيم فيما جُمِعَ من تفسيره، والمسمى"بدائع التفسير"- الشوكاني في فتح القدير- الألوسي في روح المعاني). والأمانةُ تقتضي أن أقول أنَّ بعض المفسرين أوردَ معانٍ أخرى لـ (لَهْوَ الْحَدِيثِ) كالشرك، وباطل الحديث، و شراء الرجل اللعب والباطل، وغير ذلك.
- قول الله عز وجل في سورة النجم [ وَأَنتُمْ سَامِدُونَ ] ، ذكر بعض المفسرين أنَّ معناها: أي "تتغنون ، وهي بالحميرية" ، ونقلوا ذلك عن ابن عباس ، وعكرمة رحمه الله. وكذا من معانيها لاهون، غافلون، مبرطمون.. الخ.
- قول الله جل ذكره في سورة الفرقان [ وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا ] ، قالوا في معنى ( الزُّورَ ): الغناء واللهو، ونقلوا ذلك عن مجاهد والحسن وأبي الجحاف. وقيل في معناه:الشرك، مجالس السوء، الكذب..الخ.
- قول النبي فيما رواه البخاري عن أبي مالك الأشعري :" لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ يَسْتَحِلُّونَ الْحِرَ وَالْحَرِيرَ وَالْخَمْرَ وَالْمَعَازِفَ ".
- قوله فيما أخرجه البزار وغيره عن أنس :" صوتان ملعونان في الدنيا والآخرة : مزمار عند نعمة ورنة عند مصيبة ".
- قوله فيما رواه الحاكم والبيهقي والترمذي وابن أبي شيبة:" إِنَّمَا نَهَيْتُ عَنِ النَّوْحِ ، عَنْ صَوْتَيْنِ أَحْمَقَيْنِ فَاجِرَيْنِ , صَوْتٍ عِنْدَ نِغمَة لَهْوٍ وَلَعِبٍ , وَمَزَامِيرِ شَيْطَانٍ , وَصَوْتٍ عِنْدَ مُصِيبَةٍ , خَمْشِ وُجُوهٍ , وَشَقِّ جُيُوبٍ , وَرَنَّةِ شَيْطَانٍ ".
وأدلةُ القائلين بالتحريم أكثر مما ذكرت، وإنما أردت الاقتصارَ- على ماذكرتُ- طلبا للاختصار، ومن شاء فليرجع إلى كتبهم التي استطردوا في ذكرِ الأدلة بها، فالكتبُ – ولله الحمد- متوفرةٌ مبذولة . ومما أختم به هذا الجانب سؤالٌ، ألا وهو: ألم يكن حريٌّ بالباحث الكريم أن يذكر شيئا من أدلة مخالفيه، ونقدها، وبيان ضعفها ونكارتها- على حد زعمه؟، فإن لم يفعل فعلام يرجو من الناس تبني قوله أو اقتفاء أثره؟ بل وعلام نشر ما نشر، وأعلن ما أعلن من مخالفته الصريحة لما انتشر بين الناس، وأجمع عليه جموعٌ غفيرة من أهل العلم الأثبات، مِن عهد الصحابة حتى يومِ الناس هذا ؟!
•رابعا:
إنَّ من لوازم البحث العلمي الهادف، الشفاف، الرامي إلى بيان الصواب، وإقرار الحق، ألا يتعرضَ الباحثُ لأشخاص مُخالفيه بالتجريح واللمز، وعبارات التقليل من أشخاصهم وذواتهم، إذ القوةُ للطرح العلمي الصحيح، والأدلة الواضحة الساطعة، لا لكلمات النبذ والتقليل من الآخرين.
وعند التأمل في البحث- موضوع الدراسة- نرى أنَّه- وبكل أسفٍ وأسى- لم يُراعَى فيه هذا الجانب الضروري، حيث رأينا افتقارا شديدا لهذا السلوك الحميد، والخُلق القويم. وليتنبه القارئ الكريم أنني لا أتعرضُ لشخصِ الباحث، ولا لأخلاقه، وإنما أتعرضُ لبحث مطروح أمام الناسِ جميعا، لذا فالنقد قائمٌ على المكتوب المنشور، لا على الأشخاص والصدور.
ومما يبرهن لما أقول من عبارات الباحث ما يلي:
- قوله :" فلو كان تحريم الغناء واضحا جليا لما احتاج المحرمون إلى حشد النصوص من هنا وهناك ، وجمع أقوال أهل العلم المشنعة له ". ولي فيها عدة مآخذ. أولها: وصفُه مخالفيه- وهم من العلماء، بل من أجلة العلماء كما وصفهم، وبعضِ طلبة العلم- بأنهم ( المُحرِّمون ).
وهذه عبارة فيها نوع من اللمز والغمز بهم، بل والتشنيع عليهم، وإن شئت قُل رميهم بأنهم يحرمون ويحللون. والواقع- والذي أظن أنَّ الباحث لا يُخالف فيه- أنَّ هؤلاء العلماء ممن شهد لهم القاصي والداني برسوخ القدم في العلم، بل منهم من أهل العمل والورع الكثير والكثير. فكيف يتسنى وصفهم بأنهم (محرِّمون). ومعلومٌ أنَّ التحليل والتحريم إنما هو لله جل وعلا، ولرسوله مُبلغا عن ربه سبحانه وتعالى، فكيف يُقالُ هذا عن أحد من الناس، فضلا عن أهل العلم؟.ومما يبرهن لذلك ما أردف به من قوله:" لما احتاج المحرمون إلى حشد النصوص من هنا وهناك "، والمعنى أنَّ الحجج لم تنهض لقولهم الذي تعنتوا فيه، فبلغَ بهم الأمر أنْ شرعوا يجمعون الأدلة ويحشدونها، لا لبيان الحق بل انتصارا لمذهبهم، وتأييدا لقولهم.
كما أنَّ اللفظة توحي كذلك بأنهم إنما يتعنتون في الأحكام، ويحرِّمون لغاية التحريم، وليس أدل على هذا المعني من نقيض هذه الكلمة( يستحلون) أي يجعلون الحرام حلالا. قلت: أفلا قال عنهم- وعن غيرهم: (القائلون بالتحريم) بدلا من هذه اللفظة النابية التي أُنزِّه الباحثَ عن النطق بها فضلا عن كتابتها ونشرها.
- قوله:" إن الحدث قد كشف عوار أمة تحمل لواء النص ، وتزعم اتباعه ، وتنهى عن التقليد المقيت ، ثم هي تقلد أئمتها دون بحث أو تمحيص ، وتقف من النص موقف المخصص ، والمتحكم ، لأنه لم يوافق هواها ".
وقوله: " وكشف الحدث أيضا أن هناك فئة كبيرة من علمائنا وطلبة العلم منا مصابون بجرثومة التحريم ، فلا يرتاح لهم بال إلا إذا أغلقوا باب الحلال ، وأوصدوه بكل رأي شديد ، يعجز عن فكه كل مفاتيح الصلب والحديد ، لأنه يغلق العقول فلا تقبل إلا ما وافقها ، ولا تدخل رأيا مهما كان واضحا جليا ، ومهما كان معه من نصوص الوحيين ، لأنها اعتقدت واقتنعت بما رأت ".
أخي القارئ ! هل قرأت هذا النص الجارح؟! وهل أصابك مثلَ ما أصابني؟ قل لي بربك: أبمثل هذا يقول رجلٌ من عامة الناس، أو ممن يوقر أهل العلم ويعرفُ لهم قدرهم؟
ربي !! رُحماك رحماك. اللهم اغفر لنا وارحمنا، واهدنا سواء السبيل، وأرنا الحقَ حقا وارزقنا اتباعه. لا أدري معاشر القراء ما أقول، وبمَ أُعلِّق على مثل هذه العبارات- النابية- القادحة في أهل العلم والعلماء. أحقيقٌ ما أرى؟
تأملوا رحمكم الله- وامسكوا برؤوسكم لئلا يُصيبكم ما أصابني حين قرأت تلك السطور. أيُّ علماء هؤلاء الذين لا يرتاحُ لهم بال إلا إذا أغلقوا باب الحلال على العباد، وأوصدوه بكل رأي شديد..الخ؟ أيستحقون هذا الوصف العالي، والوسام الراقي، والشرفَ بوصفهم ( علماء) وهم- بزعمه وما صدق- يتبعون أهوائهم، وينفذون عن آرائهم، ويقلدون بعمىً وليسوا من الاجتهاد في شيء؟ ثم إنهم ليسوا قلة- بل كثرة بزعمه الباطل وبهتانه الزاهق؟ فمن بقي للعلم إذا كان هؤلاء هم العلماء، وهذا وصفهم ؟!! ولتعجب- أيها المُنصف- من وصْفِ الباحث لهم بهذا الوصف العجيب الذي لا يستقيم وتلك العبارات- العوجاء العرجاء:" وعلى أقوال أئمة ، نعم نحسبهم والله حسيبهم، من أجلة العلماء ". فأي تناقض هذا؟ أجلة في موضع، ومُصابون بجرثومة التقليد، مُحرِّمون، في موضعٍ آخر، لا يفصل بينهما سوى كلمات يسيرات!!.
عباد الله !! معاشر القراء الكرام !! إن لم يكن هذا هو اللمز والغمز، والحطُّ مِن قدر المخالفين، بل ومن أشرف الناس وأحسنهم قولا، وأعظمهم للناس نفعا، فليس إذن في الدنيا شيء اسمه اللمز والغمز. إنَّ الرجل لم يلتزم الإنصاف- بل الأدب- مع مخالفيه، ولاسيما وهم جمهور أهل العلم من لدن الصحابة حتى يومِ الناس هذا، فرماهم بما يعجزُ البنانُ والمداد عن رسمهِ وكَتْبِه.
أيها الناس !! ابكوا على أنفسكم، ونوحوا على علمائكم، فقد أصابتهم تلك الجرثومة الخبيثة، وذلك الداء العضال. ألا سامحَ الله من سطَّر هذه الكلمات الشواذ، المناقضات لصريح كلام الله جل وعلا، وسُنة رسول الله . لقد جاء القرآن – الذي يحفظه الباحث ويتلوه- بتشريف أهل العلم، ورفعِ درجتهم على من سواهم، نعم! على مَن سواهم، وكذا سُنة النبي حافلةٌ بتكريم أهل العلم، والحضِ على التزام سيرتهم، واقتفاء آثارهم. أما كان للباحث في كتاب الله وسُنة رسوله أسوة؟!
ألا رحم الله الإمام الشافعي لما قال ليونس بن عبد الأعلى لما ناظره:" يا أبا موسى، ألا يستقيم أن نكون إخواناً، وإن لم نتفق في مسألة؟ " . ألا ما أحوجنا لمثل هذا الأدب في زمنٍ نَدُرَ فيه الأدب!
- وإليك أيها القارئُ الكريم وصفًا مُقززا، غيرَ لائق بأي مُخالفٍ وإن كان مِن أهل الأدواءِ والأهواء، فضلا عن أنْ يكونَ طالب علم، أو حتى مِن العلماء. قال الباحث يصف مُخالفيه، وتأمل ماذا قال:" ولكني أضغط منبها على أنَّ بعض العلماء عندنا ، وبعض طلبة العلم إنما هم صحف سطرت فيها معلومات لا تمحوها الحقيقة ، ولا يغيرها الدليل ، منطلقة من قول السابقين : {إنا وجدنا آباءنا على أمة} ، وحاملة شعار أبي جهل : أترغب عن ملة عبد المطلب ".
حقًا !! أنا في حيرةٍ من أمري، فلا أدري أيُّ كلام أصدق، أهم علماءُ- أجلاء كما الباحثُ يحسبهم ؟! أم هم مرضى مصابون بجرثومة التقليد، يحرِّمون على الناس، بل إنهم- وتأمل رحمك الله- ليسوا مِن العلم في شيء. نعم، ليسوا من العلم في شيء كما وصفهم الباحث، وإلا فما معنى قوله واصفا لهم" صحف سطرت فيها معلومات لا تمحوها الحقيقة ". أليس هذا رميا واضحا بالجهل؟ ولا ينقضي مِني العجب لوصفه لهم بأنهم ( علماء )! ثم إليك نعتُهم ( صحفٌ سُطرت فيها معلومات)، حاملي شعار أبي جهل، فأي علماء- عفوا صحفٍ- هؤلاء؟!! وتأمل التناقض بين (علماء) و(أبي جهل)!!
إنني- وبكل صراحة- لا أشم من هذا الكلام سوى رائحة الانتقاص- العفنة- لأهل العلم والعلماء، وإلا فما معنى هذه الكلمات؟ فسروها – وحاولوا الاعتذار لكاتبها- يرحمكم الله.
لقد ذكرني الباحث – في نعته الجائر هذا لمخالفيه- بكتاب الله جل وعلا، حين نعت اليهود بقوله: [ مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ] ، ألستم ترون مثلَ ما أرى، الله جل وعلا وصف أهل الكتاب الذين حملوا العلم ولم ينفعهم حملُه بالحمار يحمل أسفارا لا ينتفع بها، وكذا الباحث يصفُ مخالفيه، ومن؟ أهل العلم، بأنهم صحفٌ سُطرت فيها معلومات، أضف إليه ذلك الوصف الشاذ بأنهم مقلدة، محرمون، حاملي شعار أبي جهل..الخ فهل ترى- عندئذٍ- بين المثَلَين فَرْقا ؟!! ألا وإنِّي أُجلُ أهلَ العلم، فهم مِلءُ السمع والبصر، بهم نقتدي، ولآثارهم نقتفي، ألا بارك الله في الأحياء و سددهم، ورحم الأموات منهم.
وللإنصاف، فبعد كل هذا الزخم الشديد من العبارات غير اللائقة لمخالفيه، قام الباحث الكريم بما أعتبره تلطُّفًا في الحديث، لعله يحتج به حين يُوَاجَه بمثل هذا اللوم، فتراه يقول مختتما مقاله:" ولست متهما كل من خالفني بذلك ، أبرا إلى الله تعالى ، ولكني أشير على من حكر القول فيما يراه ، وظن أنه يحمل الحق وحده ، وأن كل من خالفه فإنه جاهل ". ولعلك – كذلك- لا ينقطع منك العجب من قوله واصفا مخالفيه:
" متناسيا أن الله تعالى وهو الذي لم يشر إلى الغناء ولو إشارة بتحريم ، قد حرم الهمز واللمز بل توعد عليهما بالويل ، والنار ، دلالة على شدة تحريمهما وأنهما من كبائر الذنوب. فسبحان الله كيف تعمى القلوب فتبصر تحريم الغناء وتحشد أدلة لذلك وتتجاهل العمل بما نص الكتاب والسنة على تحريمهما دون ارتياب ، وما ذاك إلا لأن القوم يتبعون أهواءهم ، ومن أضل ممن اتبع هواه بغير علم ؟ "
فها هو يعيبُ عليهم الهمز واللمز، بل ويُذكرهم بأنَّ الله جل وعلا حرَّمه، وتوعد عليه، ومقالةُ الرجلِ تطفحُ بهذا القيح المُسمى بـ ( اللمز والغمز)- [ رمتني بدائها وانسلت !!].
ولستُ بمتحامل على الرجل، وإليك دليلُ ذلك بما أردف به" وما ذاك إلا لأن القوم يتبعون أهواءهم ". والسؤال: من هؤلاء القوم الذين يتبعون أهواءهم؟ أهم عامة الناس، أم قاطعو الطرق ولصوص الأعراض،...أمَّنْ؟!! إنهم مخالفوه من أهل العلم والعلماء !! فيا له من تقدير وتوقيرٍ لأهل العلم! عفوا: للصحف المحشوة بالمعلومات، متَّبعي الأهواء، المصابين بجرثومة التقليد، (المُحرِّمون)، رافعي شعار أبي جهل...الخ.
وفيما يبدو لي أنَّ هذا منهجٌ للباحث، ولا أدلَ على ذلك من مقالته- التي نشرتها جريدة عكاظ في عددها 16007 في الصفحة السابعة عشرة- والتي ردَّ فيها على علمٍ من عُلماء الأمة، ورمزٍ من رموزها، العلامة الشيخ/ صالح اللحيدان، والذي نصح الباحث بأن يكتفي بإمامة المصلين وقراءة القرآن، وعدم التجرؤ على الفتيا- وصدق. فكان الردُّ من الباحث كهذا الذي كتبه في بحثه، علاوة على مُطالبته للشيخ بالاعتذار للنبي إن قصد الانتقاص من الإمامة والقراءة. ولا أزال في عجبٍ وزهول من هذا الفهم – الغريب العجيب- لكلام الشيخ اللحيدان، فهل استنبط أحدٌ منه انتقاصا من أئمة أو غيرهم فضلا عن النبي ؟ أم أنَّ الباحث انفرد – دون سواه – بهذا الفهم لكونه المقصود بالنصح ؟!
هذا كان موقفُ الباحث مِن مخالفيه. وأرجو أن يكون قد اتضح الأمر وانجلى لكم – معاشر القراء- أنَّ الباحث لم يُراعي – في بحثه- هذا الجانب الهام من جوانب البحث العلمي، ليزدادا بذلك بحثُه ضعفا فوق ضعف، ووهنا على وهن.
خامسا:
من الجوانب البحثية الهامة في البحث، حتى تكون قناعة القارئ بالأطروحة حاضرة- مُراعاة الصدق العلمي في الدلالات والفهوم، واحترام عقلية المُخاطب الذي يُرادُ منه تبني ما ذهبَ إليه الباحث، وعدم استخدام عمومات لا تخصيص لها. ولذا فنتأمل مدى توفر هذا الجانب في البحث موضوع الدراسة.
وقبل الولوج في مدى التزام الباحث بهذا الجانب من عدمه أودُ الإشارة إلى ما أعنيه بـ ( الدلالات والفهوم ). لما كان مُقررا أنَّ لكلِ فن من الفنون، وعلمٍ من العلوم، قواعد ومفاهيم وضوابط تحكمُ هذا العلم، وتُحدد الصواب من غيره في كل ما يطرأ عليه، بل وتضعُ مفاهيم ومصطلحات لهذا العلم، يتناقلها المشتغلون به، ولا يحيد عنها كل من يريدُ أن يضرب فيه بسهم. بل لا يجوزُ لباحثٍ في هذا الفن أنْ يأتي بتفسيرات و دلالات لأمورٍ هي مِن المسلَّمات في هذا العلم. ولأضربَ لذلك مثلا: فلا يجوزُ لباحثٍ في الفيزياء أنْ يصفَ شيئا متحركا بأنَّه ساكن، لأنَّ ذلك فهمٌ يُخالِف القواعد المقررة لعلم الفيزياء.
وعليه، يكونُ السؤال: هل دلالات الألفاظ والأدلة التي استندَ إليها الباحثُ – في أطروحته للقول بقوله في إباحة الغناء والمعازف- موافقة للقواعد والضوابط التي قررها أهل العلم- أعني الشرعي؟ لنتأمل سويا..
- استدلَ الباحثُ على القول بإباحة الغناء بفعل جماعةٍ مِن سلفِ هذه الأمة، وذكرَ منهم ( عبدالله بن جعفر بن أبي طالب) وقال عنه:" وكانت له صحبة "، ووصفه بأنَّه ممن اشتهر به وذاع صيته, وذكر كذلك غيرَه . ومع كون هذا الاستدلال يفتقر للعزو والتوثيق، والتأكد من صحتها، فإنَّه لا يُسلَّم به، ولماذا؟
لأنَّ الباحثَ فهمَ من ذيوع الغناء وانتشاره- وشهرته الذائعة على حد تعبيره- بين هؤلاء على إباحة الغناء، ولا أدري مَنْ أقرَّه- أو مَن يُقره- على هذا الفهم، إذ هل يُعتبر انتشارُ المنكر- أو الشيء المُحرَّم- في وقت ما، وفي بلد ما دليلٌ على جوازه وإباحته؟
وقد يحتج الباحث- وغيره من أنصار مذهبه- بفعل عبدالله بن جعفر ، ولا يحتجون بأقوال وأفعال سائر الصحابة الأجلاء لاسيما الفقهاء منهم كابن مسعود وابن عباس وغيرهم, ومع هذا فلم يعرِض الباحثُ أثرا واحدا حول ما نسبّه لعبدالله بن جعفر من اشتهاره بالغناء وذيوع صيته به، فهل أعجزه البحث عن أن يجد أثرا واحد يذكره؟ ومع ذلك فإلى القارئ الكريم ما ذكره ابن حزم رحمه الله في المحلى أَنَّ رَجُلاً قَدِمَ الْمَدِينَةَ بِجَوَارٍ، فَأَتَى إلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ فَعَرَضَهُنَّ عَلَيْهِ، فَأَمَرَ جَارِيَةً مِنْهُنَّ فَأَحْدَتْ، قَالَ أَيُّوبُ: "ِالدُّفِّ", وَقَالَ هِشَامٌ: "ِالْعُود"، حَتَّى ظَنَّ ابْنُ عُمَرَ أَنَّهُ قَدْ نَظَرَ إلَى ذَلِكَ ،فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: "َسْبُك سَائِرَ الْيَوْمِ مِنْ مَزْمُورِ الشَّيْطَانِ".وهذا يردُ استنباط وفهمَ واستدلال الباحث بإباحة الغناء، وذلك من وجوه:
أولها: أن الجارية أحدت، وأنَّ ذلك كان بالدف- وهو جائز- مع الشك بينه وبين العود.
ثانيا: أنَّه سمعه من جارية يريد شراءها، وإن اشتراها حلَّ له منها كلُ شيءٍ حتى صوتها.
ثالثا: وهو الأهم، أنَّه لم يحظ بإقرار الصحابة على ذلك، فهذا ابن عمر رضي الله عنهما يُنكرُ عليه بقوله:" َسْبُك سَائِرَ الْيَوْمِ مِنْ مَزْمُورِ الشَّيْطَانِ "، فلو لم يكن حراما لما كان للإنكار وجه، وتأمل تسمية حُداء الجارية بـ (مَزْمُورِ الشَّيْطَانِ).
فهل الفهم والاستنباط الذي ذهبَ إليه الباحث صحيح، سائرٌ وفق قواعد العلم الشرعي في الاستنباط والاستدلال؟ فما بالك لو كانَ هذا الفهمُ منقوضَا بأدلةٍ مِن الكتابِ والسنة؟ وإنكارُ ابن عمر رضي الله عنهما يقطعُ خطَ الرجعة على من يقولُ بأنَّ هذا كان ذائعا أو منتشرا في عصر الصحابة رضي الله عنهم.
- مما استدل به الباحث، وفهم منه إباحة الغناء ما نقله عن الأصمعي من قصة وأبيات شعرية- يرجع إليها من شاء، وكذا استدل بما كان يحدثُ في مجالس الخلفاء التي كانت تجمع الأدباء والفقهاء والشعراء...الخ. والسؤال: هل تُعدُّ هذه الحكايات- التي تُشبه منامات الصوفية- دليلا شرعيا على الإباحة أو التحريم أو غيرهما؟ بل ومنذ متى ومجالس الخلفاء- غير الراشدين الأوائل طبعا- والملوك وغيرهم حجة على الشريعة؟.. وخلاصة القول: هل ما فهمَه الباحث مُنضبطٌ بقواعد الفهم والاستنباط والاستدلال عند أهل العلم؟!
- جاء الباحث بطريقة مُبتكرة- مبتَدعة- في الاستنباط والفهم والاستدلال على الأحكام الشرعية، وأوجزها بقوله:" يكفي في إثبات حل الغناء أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحرمه نصا ، ولم يستطع القائلون بالتحريم أن يأتوا بهذا النص المحرم له ، مع وجود نصوص في تحريم أشياء لم يكن العرب يعرفونها ، كالخنزير ، وتحدث عن أشياء لم يكونوا يحلمون بها كالشرب من آنية الذهب والفضة".
- ذكرني هذا الكلام، وتلك الحجة المتهافتة- بكلام المدخنين وأضرابهم حينما يرغبون في تقرير صحة مذهبهم- الباطل، ويُجيزون ويزينون لأنفسهم و لغيرهم باطلهم، فيقولون:" ليس في القرآن ولا في السُّنة ما يُحرِّم الدخان صراحة"، وقد سار الباحث على نهجهم، وقال بقولهم، غيرَ أنَّه زاد زيادة أخرى حيث قال:" ولم يستطع القائلون بالتحريم أن يأتوا بهذا النص المحرم له ، مع وجود نصوص في تحريم أشياء لم يكن العرب يعرفونها ". فأيُّ فهم هذا؟ وهل يُعتبر هذا الاحتجاج صحيح، قائمٌ على أسس علمية سليمة ؟
إنَّ هؤلاء القائلين بمثل هذه الأقوال يريدون- وإن لم يصرحوا أحيانا- أن يكونَ القرآن، وكذا السُّنة، كتابا يحوي ألوان الأشربة والألبسة والأطعمة وغيرها، القديمة والحديثة، بل وما لم يظهر بعد، ليكون للقائل بالحل أو الحرمة مستندٌ شرعي واضح للناس جميعا. ونسي هؤلاء- أو تناسوا، وجهلوا- أو تجاهلوا- أَّن للشريعة قواعد كلية تضبط شتى جوانبها، سواء مما ظهر في عصر النبوة الأولى أو ما جاء بعده.
ومن تلك القواعد – على سبيل المثال- قوله :" كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ "، والتي بنا عليها أهل العلم أحكامهم في الدخان والتبغ وغيره من الأمور الحادثة، والتي تُحدِث السُّكر. وقل مثل ذلك في قوله :" لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ "، وغير ذلك من القواعد الشرعية العامة، التي يحتاج لمعرفتها أصحاب مثل هذه الآراء والفهوم.
وعليه فقد كان ينبغي على الباحث الكريم أن يضبطَ استنباطاته وفهومه بما تعارف عليه أهل العلم، من قواعد الاستدلال والاستنباط، بل وأن يكون فهمه وفق فهم السلف الصالح- من الصحابة ومن تبعهم بإحسان- الذين عاصروا التنزيل، وتلقوا عن النبي ، أو عن صحابته الكرام. هذا هو الضابط، وإلا فلن يكونَ التسليمُ لكل صاحب فكرةٍ حادثةٍ، أو رأي مُصطنعٍ، أو فهمٍ شارد.
وهنا تنويه لما يتعلق بمسألة احترام عقول المُخاطبين. فمن احترامِ عقول المخاطبين عدمُ التدليس عليهم، خاصة غير المتبحرين في العلم موضوع البحث، وكذا عدم إطلاق العبارات الرنانة التي توحي بأنَّ الحق مع الباحث دون مخالفيه. وقد حوى
محمد بن السَّيد بن سليمان الغنام
قراءة نقدية لبحث القارئ / عادل الكلباني المسمى ( تشييد البناء في إثبات حِلِ الغناء )
الحمد لله الهادي إلى سبيل الرشاد، والصلاة والسلام على نبينا محمدٍ خيرِ العباد، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه حتى المعاد، وبعد:
فقد طالع الكثيرُ من الناس ما ثار مؤخرا حول ( حكم الغناء ) بين قولٍ بالتحريم، وقولٍ بالجواز والإباحة. وجاء ظهور هذا النقاش والجدال حول الغناء وحُكمه في الشريعة الإسلامية إبان ما أعلنه القارئ/ عادل بن سالم الكلباني عن رأيه في إباحة الغناء بجميع أنواعه، حتى مع المعازف.
وقد نهض جمعٌ غفيرٌ من أهل العلم للرد على هذه الأطروحة التي قدمها – القارئ - الباحثُ فانبرى لذلك وأخرج بحثا، عرضه على موقعه الإلكتروني، أسماه (تشييد البناء في إثبات حِلِ الغناء)، يعرض فيه رأيه في إثبات حِلِ الغناء بجميع أنواعه، حتى مع المعازف، مستدلا بجملة من الأدلة التي تُمكنه من إثبات قوله، وتجعلُ القارئ يُسلم له بالحجة.
ولما كانَ مِن المقرر عند جمهور الناس عامة- والباحثين خاصة- أنَّه إنما يُسلَّمُ للحجة القاطعة، والبراهين الساطعة، كان لزاما على كلا الفريقين- القائلِ بالجواز والقائلِ بالحرمة، أن يعرضَ لقوله وحُججه عرضا علميا سليما، يقومُ على أصولٍ علمية ثابتة. وعليه فكان من الضروري أن يكون هذا البحثُ خاضعا لهذه الأصول، ومُراعيا لتلك الضوابط- أعني ضوابطَ البحث العلمي.
ومِنْ جُملةِ هذه الأصول التي ينبغي للباحث مراعاتها:
أولا- أن يأتي بأقوى أدلته العلمية، الدالة على صحة مذهبه، ثم يعرضُ لها عرضا مُفصلا يصلُ بالقارئ للتسليم له بقوة الحجة والبرهان.
ثانيا- أنْ يعزو جميعَ الأقوال والنقول- قدر الإمكان- لأصحابها، ويذكرَ المصادر التي استلَّها منه، ثم يعرِضَ لصحتها وموافقتها للأصول العلمية، والقواعد الثابتة للفن الذي يتناوله بالبحث.
ثالثا- أن يتعرضَ لأدلة المُخالفينَ بالتحليل والنقد، ويثبتَ ضعفها، أو عدمِ دلالتها على ما استدلوا بها عليه. وبذلك يظهر للقارئ قوة حجته وأدلته مع ضعف أدلة المخالفين.
رابعا- ألا يتعرضَ الباحثُ لأشخاص مُخالفيه بالتجريح واللمز، وعبارات التقليل من أشخاصهم وذواتهم، إذ القوةُ للطرح العلمي الصحيح، والأدلة الواضحة الساطعة، لا لكلمات النبذ والتقليل من الآخرين.
خامسا- مُراعاة الصدق العلمي في الدلالات والفهوم، واحترام عقلية المُخاطب الذي يُرادُ منه تبني ما ذهبَ إليه الباحث، وعدم استخدام عمومات لا تخصيص لها. ولذا يجدُر بالباحث مُراعاةُ الصدق، والتزامُ الإنصاف مع القارئ حتى تكون قناعتُه بالأطروحة حاضرة.
سادسا - أن يتجنب الباحثُ عبارات التغرير بالقارئ، والإيهام بأنَّ الحقَ معه لكن الشفقة بالقارئ خشية الإطالة دفعت الباحثَ أن يُقلِّص بحثَه، ويُقصِّرَ في عرضه، نحو قول قائل: "والأدلة على صحةِ ما ذهبت إليه- أو بطلانِ ما ذهب إليه المخالف- كثيرةٌ لا يتسعُ المقام لذكرها"، أو "لا أود الإطالة على القارئ بتفاصيل ذلك".. ونحو ذلك من العبارات التي ليس لها سوى معنى واحد، ألا وهو ( ضعفُ الطرح العلمي للباحث، وتهافت أدلته)، وإلا لانبرى لعرضها، وإن طال المقام ما طال.
سابعا - أن يتحلى الباحث بأخلاق أهل الحق والإنصاف من ورعٍ وتجردٍ، ورغبةٍ في ظهور الحق، وصدقٍ في القول، وأن ينأى بنفسه عن أن يكونَ الطرحُ ذاتيا- أي رغبة في تلميع ذاته وبزوغ نجمه، وإظهارًا غلَبته، وحطًا لمخالفيه، وطرحًا لآرائهم فضلا عن ذواتهم.
كانت هذه بعض الجوانب الأساسية التي يجدرُ بالباحث مراعاتها، صُغتها من خلال تجربتي البحثية. وقد رأيتُ في البحثِ افتقارا واضحا لجُل هذه الجوانب، بل لكلها. وقد قصدت من مقالي هذا عرضَ نقدٍ علمي لبحث القارئ وفق الضوابط السابقة، لا إنصافا لقوله بالجواز أو لقول غيره بالتحريم. وفيما يلي نتناول بعض ما جاء في البحثِ بالنقد والتحليل وفق الضوابط البحثية السابقة:
•أولا:
جاء الباحثُ بأدلةٍ ليست بالقوية والتي لم تنهض لنُصرة ما ذهبَ إليه من إباحة الغناء، وللتدليل على ذلك تجدُرُ الإشارةُ -أولا- إلى مصادر التلقي المُجْمعِ عليها عند أهل السُّنة والجماعة، والتي منها يستقون أدلتهم على صِحة دينهم واعتقادهم وعباداتهم ومعاملاتهم..الخ، وهي: ( القرآن الكريم، والسنة المطهرة، والإجماع ). إذن هذه هي مصادر الأدلة الشرعية التي يجب على كل باحث يتناول أمرا شرعيا بالبحث والدراسة أن تكونَ في مُقدمةِ أدلته البحثية، وهذا ما لم يكن في هذا البحث، فقد افتقر بوضوح إلى أدلةِ الكتاب والسُّنة وإجماع أهل العلم في بيان مذهبه. ولم يٌقدِّم للقراء سوى جملةٍ من الأحوال والأقوال لبعض السلف- افتقرت للتوثيق والعزو- لإثبات صحة مذهبه.
وإن تعجب فعجبٌ قوله- مُعيبا على مُخالفيه:" ومن دلائل إباحته أيضا أنك لن تجد في كتب الإسلام ومراجعه نصا بذلك..الخ "، وهذا مالا يُسَلَّم له به كما سيأتي لاحقا بإذن الله، غيرَ أنَّه لم يعرضْ- كذلك- لأدلة الإباحة سواء من القرآن أو السُّنة أو الإجماع. وأما ما استدلَ به، وعدَّه أكبرَ أدلة الإباحة، مما كان يُفعل إبانَ نزول القرآن من الغناء بقوله:" ومن أكبر دلائل إباحته أنه مما كان يفعل إبان نزول القرآن، وتحت سمع وبصر الحبيب ، فأقره، وأمر به، وسمعه، وحث عليه، في الأعراس، وفي الأعياد"، وكذا حديث" هَذِهِ قَيْنَةُ بَنِي فُلاَنٍ تُحِبِّينَ أَنْ تُغَنِّيَكِ ؟ "، فلم يبين صحة قوله، ولا عزاه لمصادره( من دواوين السُّنة وكتب الإسلام.. ) على نحو ما سيأتي الكلام عنه في المبحث التالي.
ولعله تبين أنَّ الباحث لم يُراعِ في بحثه هذا الجانب العلمي في الطرح، فلم يذكر أقوى أدلته للانتصار لمذهبه على النحو المعروف في الفنِ نفسه، فلم يأتِ بأدلة قوية ثابتة صحيحة من مصادر التلقي المتفق عليها بين أهل هذا الفن، فلم يعرض دليلا من القرآن، ولا السُّنة الصحيحة سوى ما ذكره أنَّ الغناء مما كان يُفعلُ إبان نزول القرآن، وتحت سمع النبي ..الخ ما قال، ولم يُثبت شيئا من ذلك.
ثم هو لم يحكي – أثرا واحد- عن كبار الصحابة وعلماءهم، والفقهاء منهم، كالخلفاء الراشدين، والعشرة المبشرين بالجنة، وأصحاب العقبة وبدر، أو ابن مسعودٍ وابن عباس وابن عمر وغيرهم، اللهم إلا أثرا واحدا عن عمر بدون عزو لمصدره أو حتى بيان لصحته أو ضعفه، أو دلالته على الغناء الذي يعنيه لا غناء الحداء ونحوه، كما سيأتي بيان ذلك بإذن الله تعالى. ولا تزال الحاجة ماسة لذكر أقوال الصحابةِ- لاسيما كبارهم وفقهاءهم- في الغناء، خاصة وأنَّه كان منتشرا بينهم- على حد تعبير الباحث، وكانت صناعته مشهورة عندهم. فما هي أقوال الصحابة في الغناء، سواء كانت بالإباحة أو التحريم أو الكراهة..؟!
وكذا لم ينقل القارئ حكايةَ إجماعِ أهل العلم في حُكمِ الغناء، لاسيما ما دام مُباحا دون مراء- كما ذكر. وقد نقل آثارا حكاية عن أحمد والشافعي تُعضد ما ذهب إليه من القول بإباحة الغناء. لكن السؤال الذي يشغلني: هل هناك نقول عنهم- وعن غيرهم من الأئمة المعتبرين- في تحريم الغناء أو كراهته؟ لقد تتبعت ذلك فوجدت ما يلي:
» قال ابن الجوزي في تلبيس إبليس:" قال الطبري: فقد أجمع علماء الأمصار على كراهية الغناء والمنع منه، وإنما فارق الجماعة إبراهيم بن سعد وعبيد الله العنبري".
»قال الحافظ في الفتح:" وأما الآلات فسيأتى الكلام على اختلاف العلماء فيها، عند الكلام على حديث المعازف في كتاب الأشربة، وقد حكى قوم الإجماع على تحريمها ".
» قال الشاطبي في الاعتصام:" سئل مالك بن أنس رضي الله عنه عن الغناء الذي يستعمله أهل المدينة، فقال: إنما يفعله الفساق".
» قال في الشرح الكبير، وكذا في المغني:" واختار القاضى أنه مكروه غير محرم وهو قول الشافعي، وقال من اللهو المكروه. وقال أحمد: الغناء ينبت النفاق في القلب لا يعجبني، وذهب آخرون من أصحابنا إلى تحريمه".
فهلا قامَ القارئ في بحثه بذكر مثل هذه النقول وغيرها للأئمة الأربعة وأصحابهم إتماما للفائدة، وذكرا لرأيه ورأي غيره، وبدلا من تكليف القارئ عناء البحث والتقصي؟ أم هي الرغبة في الإقناع بالقول الذي يتبناه – دون غيره- على حساب القارئ ؟!!
تأمل قول القارئ:" فلو كان تحريم الغناء واضحا جليا لما احتاج المحرِّمون إلى حشد النصوص من هنا وهناك، وجمع أقوال أهل العلم المشنعة له ، وكان يكفيهم أن يشيروا إلى النص الصريح الصحيح ويقطعوا به الجدل"، قلت: وكذلك الكلام للمبيحين، فإنَّه حشدَ نصوصا- من هنا وهناك، غير صريحة في نُصرةِ ما ذهبَ إليه، وكان يكفيه الإشارة إلى نصٍ صريحٍ صحيحٍ من كتابٍ أو سُنةٍ أو إجماع.
وعليه فإنَّ الباحثَ مُطالبٌ بأدلةٍ ونصوصٍ صريحةٍ من القرآن، وكذا السُّنة المطهرة، وأقوال السلف تؤكدُ صحة ما ذهبَ إليه، ونحن- معاشر القراء- بانتظارها.
•ثانيا:
لم نجد الباحثَ يعزو نقوله، والأقوال التي نقلها عن قائليها إلى مصادرها- إلا فيما نَدُر- حتى يتسنى للقارئ والباحث تتبُع تلك الأقوال – عند رغبته في التأكد من صحتها، أو نحو ذلك- الأمر الذي يُكسب القارئ ثقةً في الباحث، وراحة في متابعة بحثه، بل وقد تصل به إلى تبني آرائه ومذهبه. والأدلة على ذلك – في بحث القارئ عادل على عدم التزامه بالعزو والتوثيق- ليست بحاجة لإشارة، إذ البحث كله- بلا مبالغة- خلا من العزو سوى في مواضع لا تزيد عن أصابع كفٍ واحدة، فهل يسوغ مثلُ ذلك في بحثٍ كهذا؟!
ثم ما هي هذه المراجع التي أشار إليها؟ هل هي المعتمدة من أمهات الكتب المتناولة للفن موضوع البحث والدراسة؟ نود ذلك! لكنها كما ذكر: ( قوت القلوب- الإمتاع – العمدة - الأغاني !!-إبطال دعوى الإجماع على تحريم السماع). ولعلك تعجب – مثلي- من خلو مراجع القارئ في بحث شرعي من ذكرِ كتاب واحد في( التفسير، أو دواوين السُّنة، أو الفقه للمذاهب الأربعة، أو التراجم والطبقات، أو غيرها) فهل خلت هذه الكتب جميعا من تناول مسألة الغناء- التي جزم القارئ بإباحتها- أو حتى التعريض بها ؟ فإن لم تخلو منها فأين نقلُ القارئ عنها، واقتفاؤه للسلف في التلقي والاستدلال؟ هذه أسئلة بحاجة لجواب!
ومما تجدر الإشارة إليه أنَّ الباحث لم يعزو الأحاديث والآثار إلى دواوين السُّنة المعتمدة، أو كتب الرجال والطبقات والتاريخ، وهذا مما يُوجد نوعا من الارتياب لدى القارئ من صحة هذه الأخبار- غير الموثَّقة. ولو اعتُذرَ للباحث في عدم عزوه للآثار عن السلف وغيرهم فلا يُعذر في عدم عزوه للأحاديث الموجودة في بحثه- على قلتها.
ومن ذلك قوله أنَّ النبي قال لعائشة رضي الله عنها:" هَذِهِ قَيْنَةُ بَنِي فُلاَنٍ تُحِبِّينَ أَنْ تُغَنِّيَكِ ؟ "،فأين نجده؟ وما مدى صحته؟ هذه أمور تَلْزم القارئ، بل لا غنى له عنها، وللأسف لم نجدها في البحث.
ثم تعجب من قوله بعدها:" فسبحان الله كيف تُعارَض مثل هذه النصوص بالمشتبهات من نصوص التحريم ، ثم يعاب على المتمسك بالنص الواضح الصريح ، الصحيح ".فهل يُفهم من هذا إلا تصحيح القارئ للحديث الذي ذكر دون عزو، إذ اعتبره نصا صريحا صحيحا- بقوله- فمن صححه من أهل العلم غيرك ؟!. وإن كنتُ أرى أن ثمة نوع من التهويل والتضخيم في قول الباحث إذ اعتبر نصا واحدا من السُّنة ذكره- دون بيان وعزو- نصوصا ! صريحة صحيحة، فسبحان الله!.
ومن دلائل الضعف البحثي ما ذكره القارئ بقوله:" ومن أكبر دلائل إباحته أنه مما كان يفعل إبان نزول القرآن ، وتحت سمع وبصر الحبيب صلى الله عليه وسلم ، فأقره ، وأمر به ، وسمعه ، وحث عليه ، في الأعراس ، وفي الأعياد ".أقول للشيخ: لا زالت المسألة على حالها، فأين نجدُ – في دواوين السُّنة المعتمدة- ما يُثبت صحة قولك مِن أنَّ الغناء كانَ مما يحدُث إبانَ نزول القرآن، بل وتحت سمع النبي وإقراره؟ بل وأمره به وحثه عليه؟
وهنا لفتة تتضح للقارئ الكريم أنَّ ثمةَ خلطٍ واضح بين موقفين قد يُسبب نوعا من اللبس لدى أيِّ مُطلعٍ على البحث، ألا وهما الربط بين كون الغناء يحدث إبان نزول القرآن وبين كونه في الأعراس والأفراح. والسؤال- هنا- للشيخ أي الموقفين تعني بقولك" فأقره ، وأمر به ، وسمعه ، وحث عليه "، هل هو حدوث الغناء عند نزول القرآن أو بعده، أو في الأعراس والأعياد، أو في كليهما؟ وأين نجد – بعد التأكد من صحة ما قلت- أنَّ هذا من أكبر دلائل إباحة الغناء ؟ نود الجواب، وبعدها السؤالُ للقارئ الكريم: هل وجدت فيما ذكر الباحث دليلا – صغيرا أو كبيرا- على صحة ما ذهب إليه ؟.
ولنَقُلْ نفسَ الكلام عن تلك الآثار التي أودعها القارئ بحثَه، ومنها قوله:" وقد صح عن عمر رضي الله عنه ، أنه قال : الغناء من زاد الراكب " فأين نجده؟ ومن صححه كما قلت ؟ وأيُّ نوعٍ من الغناءِ عناه الفاروق ؟ أهو الحداء وإنشادُ الشعر؟ أم الغناء تصحبُه المعازف والآلات؟ مع الدليل.
أما بالنسبة لبقية الآثار فقد جاءت- كذلك- خالية من العزو والتوثيق، وأكبرَ منه كونها مُجرَدةٌ من الحكم عليها أو بيان صحتها وضعفها، أو حتى التأكد من دلالتها على المُراد. ولن أطيل على القارئ في سردها، بل أسوق له دليلين اثنين منها تتبعتهما فوجدت فيهما ما يؤكد ما ذكرت.
1)- ذكر القارئ ( عادل ) نقلا عن صاحب قوت القلوب بقوله:" وذكر أبو طالب المكي في قوت القلوب عن شعبة أنه سمع طنبورا في بيت المنهال بن عمرو المحدث المشهور ". وقد احتج بهذا على صحة ما ذهب إليه، فهل تتبع بالبحث هذا الأثر؟ وهل تكلَّف العناءَ في تتبع أقوال أهل العلم تعليقا على هذا الأثر.
فإلي القارئ الكريم تتمةُ الخبر وتعليق أهل العلم عليه، ذكر الحافظ الأثر في تهذيب التهذيب:" قال وهب بن جرير عن شعبة: أتيت منزل المنهال فسمعت منه صوت الطنبور، فرجعت ولم أسأله، قلت: فهلا سألته عسى كان لا يعلم ؟ ".
قال الذهبي في ترجمة المنهال بن عمرو:" ثم إن شعبة ترك الرواية عنه، لكونه سمع آلة الطرب من بيته "، وقال في ميزان الاعتدال:" وهذا لا يوجب غمز الشيخ ".
وهذا اعتذارٌ للمنهال بأنَّه يُحتمل أنْ يكون هذا وقع دون علمه أو رضاه، أضف لذلك أنَّ الأثرَ حُجة على صاحب " تشييد البناء"- والقائلين بمثل قوله- حين احتج به إذ فيه إنكار شعبة رحمه الله على ما سمعه في بيت المنهال حتى أنَّه ترك الرواية عنه..
2)- قال الباحث- ذاكرا أسماء من كانت لهم شهرة في صناعة الغناء، وتطريبه، والبراعة فيه من السلف، من المشهودِ لهم بالعلمِ والديانة:" وشهر بن حوشب، وكان فقيها قارئا عالما، أحد المشاهير برواية الحديث، كان يسمع الغناء بالآلات ". فإلى الباحث والقارئ الكريمين أنقلُ ما ذكره الحافظ الذهبي في السير[ 4 / 373- 374] حيث قال:" إسماعيل بن عياش: حدثنا عثمان بن نويرة، قال: دُعِي شهر بن حوشب إلى وليمة وأنا معه، فدخلنا، فأصبنا من طعامهم، فلما سمع شهرٌ المزمارَ، وضع أصبعيه في أذنيه، وخرج".
القارئ الكريم: هذا الباحثُ يقول عن شهر بن حوشب أنَّه ممن له شهرة في الغناء وصناعته وتطريبه، فما له – كما روى الحافظ الذهبي- وضع أصبعيه في أذنيه، وخرج لما سمع المزمار ؟!! إننا بحاجة – معاشر القراء- إلى جواب من الباحث، ونحن بانتظار جواب !
ثم إننا بحاجة إلى توجيه للقاعدة التي قررها أهل العلم، ألا وهي:( أنَّ كلا يُؤخذُ منه ويُردُ إلا المعصوم )، فهل تُعارَض النصوص الواردة – كتابا وسنة- في النهي عن الغناء- أو غيره من المحرمات- بفعل أي شخصٍ، كائنا مَن كان؟ لو صحت نسبة هذا الكلام لهذا التابعي الجليل أو غيره.
وهَب- أيها القارئ الكريم- أنَّ مُنكرا من المنكرات، أو مُحرَّما من المحرمات، جاء أنَّ شخصا من أجلة الصحابة- وحاشاهم- فضلا عن غيرهم فعلَه، مع عدم ذيوعه فيهم، أو إقرار غيره له. أقول: هل يُعدُّ ذلك دليلا أو مسوغا للإتيان بمثل هذا الفعل لمجرد أنَّه جاء فيه أثرٌ عن صحابي أو تابعي جليل، ولو صح الخبر؟! أم الحجة في قول الله جل وعلا، وقول رسوله ؟!! وأيضا.. فإنَّ هذه التساؤلات الأخيرة بحاجة إلى جواب... ونحن بانتظاره من الباحث الكريم.
وبعد ما سبق، هلَّا قام القارئ ( عادل ) بالتحقيق والتفصيل في مثل هذه الدقائق بدلا من إطلاق الكلام على علاته، أو قبوله عن ناقليه دون رَوِيَّة أو تحرٍ؟ والله لقد كنا بحاجة لذلك منه إن كان بحثه قائما على أصول علمية بحثية صحيحة. والقراء بحاجة لقيام القارئ بتحليل بقية الآثار – بعد عزوها والتأكد من صحتها- على نحو مما ذكرتُ حتى تزيدَ قناعتهم بأطروحة القارئ، فهلا أتحفنا بها تامة بارك الله فيه ؟
مما سبق يتبين للقارئ الكريم خلِو البحث من العزو والتوثيق، وافتقاره الواضح لهذا الجانب الركين من جوابِ البحث العلمي السليم.
•ثالثا:
بعد العرض - للجانبين السابقين ( أولا و ثانيا )- لعله تبين للقارئ الكريم أن بحثَ القارئ عادل جاء مُفتقرا لأدلة علمية قويةٍ، تنهض لحجته وقوله الذي ذهب إليه ونافح لأجله، الأمر الذي سببَ ضعفا في قوةِ الرأي الذي تبناه الباحث، فجاء هزيلا ضعيفا. غير أنَّه ثمة أمرٍ آخر زاد الضعفَ ضعفا، وجعلَ الاقتناعَ برأي الباحثِ- للقارئ المتبع للدليل والحجة القوية- بعيدَ المنال، ألا وهو ( التعرضُ لأقوال المخالفين وحججهم بالدراسة والنقد ). وهذا الأمرُ لا مناص منه لكل صاحبِ أطروحة ورأى، له من يخالفه ويقول بخلاف قوله، بل بنقيضه. فما بالك لو كان الرأيُّ المخالفُ من القوة بمكان حتى أنَّ جمهور الناس- لا سيما أهل العلم- يقول به. عندئذٍ تكون الحاجة لنقض- ونقد- أقوال المخالفين ماسةً لكي يجدَ الرأيُ الجديدُ مكانا في عقول ونفوس المخاطبين.
والقارئ- بتحرٍ- لأطروحة الباحث يرى أنها جاءت خاليةً تماما من هذا الجانب، فلم يتعرض من قريبٍ ولا بعيد لأقوال مُخالفيه. بل إنَّ أقصى ما تفتقت عنه قريحته، وسطَّره قلمه، قولَه:" والرد على أدلة المحرمين ومناقشتها يطول ، ولكني أشير إلى نكتة ينبغي أن يتنبه لها المسلم ... !! ". وللأسف لم يذكر منها دليلا واحد فضلا عن الرد عليه، مع حاجة القراء الماسة للتعرف عليها، و شهودهم الردَّ- المُفحم القوي- عليها. إنما اكتفى الباحث الكريم بالإتيان بعبارة- هزيلة ضعيفة- لا يقتنع بها أحد من المنصفين- أو غيرهم- كردٍ مُجمل على أدلة المخالفين، ألا وهي" والرد على أدلة المحرمين ومناقشتها يطول "، فهل يُعدُّ ذلك عذرا معاشر الكرام ؟! أم هو الضعفُ العلمي في الرد على أدلة قوية، وحجج بهية ؟! وأخشى أن يظنَّ ظانٌ أني أتحامل على الباحث، لكنه الإنصاف ورب الكعبة، وإلا قولوا لي- بالله عليكم- ما هو تفسيركم لحيدة الباحث عن ذكرِ أدلةِ المخالفين، فضلا عن إبطالها، والإتيان عليها، ونقضها من أساساتها؟ الأمر الذي دفعه لتلك الحيدة، والالتفات، وهذا واضح من قوله" ولكني أشير إلى نكتة ".أليست هذه حيدةٌ واضحة ؟!!
وجاء التعرض الثاني لأدلة المخالفين قويا- في ظاهره وأولِّه، حيثُ قال الباحث الكريم:" ولهذا سأبدا مقالتي هذه بذكر المجيزين على طريقة الإجمال "، فظننتُ عندها- ولعل القارئ كذلك- أنَّه سيأتي على أدلة المخالفين في نهاية مقالته، بعد عرضه لأقوال المجيزين في أولها، إذ الإنصاف، والأمانة العلمية يقتضيان ذلك. لكن !! وماذا بعد لكن ؟
لكن جاءت خاتمة البحث ولم يتناول الباحث شيئا من تلك الأقوال، بعدما توهمت أنَّه سيعرضُ إليها، ويأتي عليها. ويا ليته فعل. عندها كنا استفدنا علما، واطلعنا على آرائه وأقواله، بل وقد يستطيعُ قائلٌ بهذا الرأي- أعني رأي الباحث في جواز الغناء- أن يردَّ على مخالفيه، أو أن يدحض حججهم، ويُفند أقوالهم. لكن أبى الباحثُ إلى أن يُحوجنا لغيره في بيان ما غفل- أو تغافل- عن بيانه.
ثم تعرض الباحث لأقوال مخالفيه للمرة الثالثة بطريقة- وللأسف- أوْهَى من سابقتيها، وأشدُّ خوَرا وضعفا، فها هو يقول- وإليكم نص كلامه كاملا، فتأملوه رحمكم الله:
" وكل دليل من كتاب الله تعالى استدل به المحرمون لا ينهض للقول بالتحريم ...، ثم أنبه إلى أني قد قرأت أقوال المحرمين قبل ، وبعد ، وكنت أقول به ، ولي فيه خطبة معروفة ، ورجعت عن القول بالتحريم لما تبين لي أن المعتمد كان على محفوظات تبين فيما بعد ضعفها ، بل بعضها موضوع ومنكر، وعلى أقوال أئمة ، نعم نحسبهم والله حسيبهم من أجلة العلماء ، ولكن مهما كان قول العالم فإنه لا يملك التحريم ولا الإيجاب ، إنما ذلكم لله تعالى ولنبيه صلى الله عليه وسلم".
في هذا الكلام صرَّح الباحثُ- بوضوح- أنَّه كان من القائلين بالتحريم، ثم صارَ إلى القول بخلافه لما تبين له خطأ ما كان يذهبَ إليه، وهذا – أي الرجوع للحق، ونبذ التقليد الأعمى- أمرٌ محمودٌ حينَ تكونُ الصيرورة من الباطل إلى الحق، ومن الضلالة إلى الهدى. لكن، ما الذي دفع الباحث الكريم إلى الرجوع عن قوله، والانتقال لغيره ؟ الجواب الذي قد لا يتخلف عن القول به قائل: أنَّه ظهر له بطلانُ الأول، وصحةُ الثاني.
إذن، فالقراء كذلك بحاجة إلى إثبات وبيان بطلان القول الأول- أي تحريم الغناء والمعازف- وصحة القول الثاني- وهو كونها حلال، حتى يتسنى لهم الاقتداء بالباحث الكريم، والسير على طريقه، واقتفاء أثره. لكنَّ هذا – أيضا- بحاجة لنقض الرأي الأول، وبيان ضعفه وخطئه، فهلا قام الباحث، والذي ما قام ببحثه، وانبرى له قلمُه إلا لبيان ما يُدين اللهَ به للناسِ، وعدم كتمانه، هلاَّ قام بنقض أقوال المحرمين قولا قولا ؟ وكلمة كلمة ؟
ولما كان البيان للحق يقتضي عدم الكتمان، كانَ الناسُ بحاجة إلى بيان ضعف أدلة المحرِّمين للغناء، بل وبيان ضعفها، ولم ؟ لأنهم سيتحولون لهذا القول- أي بحِلِّ الغناء والمعازف، بل وسيعتقدونه ويقولون به، بل لن يجدَ أحدهم غضاضة في الاستماع له، ومشاهدته، بل قد يحثُ أبناءه ومن هم تحت ولايته على فعله لكونه مما جاءت الشريعة بإباحته. لكن هل يكفي المسلمين- في أصقاع الدنيا وحتى تقوم الساعة- في ذلك أن يقول الباحثُ- أو غيره:" تبين فيما بعد ضعفها، بل بعضها موضوع ومنكر " حتى يقتدي به الناس ويسيروا خلفه، ويَدعوا قولَ مَن خالفه مع قُوة حجتهم، وسطوع أدلتهم، وشهرة مقالتهم ؟!!.
وإن تعجب! فمن قول الباحث :" بل بعضها موضوع ومنكر "، فمع كونه حكمَ على أدلة المخالفين- جملةً ودون تعرض بذكرها- بأنها ضعيفة بل موضوعة ومنكرة، إلا أنه لم يُبين شيئا من ذلك، فهل هذا ضعفٌ واضحٌ في نقض الأدلة جبره الباحث بعبارة رنانة، أم هو كتمان العلم الذي بدا له- دون غيره ؟! أمران أحلاهما مُر !!
أيها القارئ الكريم:
لايضرنَّك- بارك الله فيك وفي عُمرك- إطالة النقاش في هذا الأمر، فالمقامُ يقتضي البسطَ لا الاختصار، لا سيما وموضوعنا متعلق بدين الله جل وعلا، علاوةً على أنَّ الناس اضطربوا فيه لهذه الأطروحة الأخيرة، محل الدراسة في مقالنا هذا.
لقد تبين الآن أنَّ الباحث- القارئ عادل- لم يراع هذا الجانب البحثي في أطروحته- فلم يتعرض لأقوال مخالفيه لا بذكر ولا تفنيد، سوى ما جاء في عبارة مُجملة، خالية من البيان العلمي والبرهان البحثي، حيث زعم – أقول زعم لكونه أخفى عنا علة حكمه- أنَّ أدلة مخالفيه " تبين .. ضعفها ، موضوع ومنكر ". والسؤال الآن: هل هذا الكلام كافٍ في الاقتناع بأطروحة الباحث، وتبني قوله والذهاب إليه، وطرح ما عاداه ؟! والجواب لك أيها القارئ الحصيف.
غير أني قبل أن أطوي الكلام في هذا الجانب، يلزمني أنَّ أذكر- على سبيل الإجمال- طرفا من أقوال المخالفين للباحث- أعني القائلين بحرمة الغناء، لا المُحرِّمين كما وسمهم- وهذا إذ يقتضي المقامُ ذلك، وليتبين للقارئ المبارك صحةُ ما ذهبت إليه من أنَّه كان يلزم الباحث ذكرَ هذا الأدلة ونقضها لتكونَ القناعة بفكرته حاضرة. وإليكم معاشر القراء هذه الأدلة إجمالا:
- قول الله جل وعلا في سورة لقمان [ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ ] ، قال ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهما، وكذا من التابعين مجاهد وعكرمة والحسن وسعيد بن جبير وقتادة وغيرهم- في تفسير (لَهْوَ الْحَدِيثِ) بأنه الغناء. وقد وقفت- بنفسي- على ذلك في تفسير القرآن الكريم لثلة جليلة من أهل العلم الأثبات كـ ( ابن جرير الطبري في جامع البيان- والقرطبي في أحكام القرآن، وله كلامٌ نفيس في هذه المسألة فليُرجع إليه- ابن كثير- ابن الجوزي في زاد المسير- ابن القيم فيما جُمِعَ من تفسيره، والمسمى"بدائع التفسير"- الشوكاني في فتح القدير- الألوسي في روح المعاني). والأمانةُ تقتضي أن أقول أنَّ بعض المفسرين أوردَ معانٍ أخرى لـ (لَهْوَ الْحَدِيثِ) كالشرك، وباطل الحديث، و شراء الرجل اللعب والباطل، وغير ذلك.
- قول الله عز وجل في سورة النجم [ وَأَنتُمْ سَامِدُونَ ] ، ذكر بعض المفسرين أنَّ معناها: أي "تتغنون ، وهي بالحميرية" ، ونقلوا ذلك عن ابن عباس ، وعكرمة رحمه الله. وكذا من معانيها لاهون، غافلون، مبرطمون.. الخ.
- قول الله جل ذكره في سورة الفرقان [ وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا ] ، قالوا في معنى ( الزُّورَ ): الغناء واللهو، ونقلوا ذلك عن مجاهد والحسن وأبي الجحاف. وقيل في معناه:الشرك، مجالس السوء، الكذب..الخ.
- قول النبي فيما رواه البخاري عن أبي مالك الأشعري :" لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ يَسْتَحِلُّونَ الْحِرَ وَالْحَرِيرَ وَالْخَمْرَ وَالْمَعَازِفَ ".
- قوله فيما أخرجه البزار وغيره عن أنس :" صوتان ملعونان في الدنيا والآخرة : مزمار عند نعمة ورنة عند مصيبة ".
- قوله فيما رواه الحاكم والبيهقي والترمذي وابن أبي شيبة:" إِنَّمَا نَهَيْتُ عَنِ النَّوْحِ ، عَنْ صَوْتَيْنِ أَحْمَقَيْنِ فَاجِرَيْنِ , صَوْتٍ عِنْدَ نِغمَة لَهْوٍ وَلَعِبٍ , وَمَزَامِيرِ شَيْطَانٍ , وَصَوْتٍ عِنْدَ مُصِيبَةٍ , خَمْشِ وُجُوهٍ , وَشَقِّ جُيُوبٍ , وَرَنَّةِ شَيْطَانٍ ".
وأدلةُ القائلين بالتحريم أكثر مما ذكرت، وإنما أردت الاقتصارَ- على ماذكرتُ- طلبا للاختصار، ومن شاء فليرجع إلى كتبهم التي استطردوا في ذكرِ الأدلة بها، فالكتبُ – ولله الحمد- متوفرةٌ مبذولة . ومما أختم به هذا الجانب سؤالٌ، ألا وهو: ألم يكن حريٌّ بالباحث الكريم أن يذكر شيئا من أدلة مخالفيه، ونقدها، وبيان ضعفها ونكارتها- على حد زعمه؟، فإن لم يفعل فعلام يرجو من الناس تبني قوله أو اقتفاء أثره؟ بل وعلام نشر ما نشر، وأعلن ما أعلن من مخالفته الصريحة لما انتشر بين الناس، وأجمع عليه جموعٌ غفيرة من أهل العلم الأثبات، مِن عهد الصحابة حتى يومِ الناس هذا ؟!
•رابعا:
إنَّ من لوازم البحث العلمي الهادف، الشفاف، الرامي إلى بيان الصواب، وإقرار الحق، ألا يتعرضَ الباحثُ لأشخاص مُخالفيه بالتجريح واللمز، وعبارات التقليل من أشخاصهم وذواتهم، إذ القوةُ للطرح العلمي الصحيح، والأدلة الواضحة الساطعة، لا لكلمات النبذ والتقليل من الآخرين.
وعند التأمل في البحث- موضوع الدراسة- نرى أنَّه- وبكل أسفٍ وأسى- لم يُراعَى فيه هذا الجانب الضروري، حيث رأينا افتقارا شديدا لهذا السلوك الحميد، والخُلق القويم. وليتنبه القارئ الكريم أنني لا أتعرضُ لشخصِ الباحث، ولا لأخلاقه، وإنما أتعرضُ لبحث مطروح أمام الناسِ جميعا، لذا فالنقد قائمٌ على المكتوب المنشور، لا على الأشخاص والصدور.
ومما يبرهن لما أقول من عبارات الباحث ما يلي:
- قوله :" فلو كان تحريم الغناء واضحا جليا لما احتاج المحرمون إلى حشد النصوص من هنا وهناك ، وجمع أقوال أهل العلم المشنعة له ". ولي فيها عدة مآخذ. أولها: وصفُه مخالفيه- وهم من العلماء، بل من أجلة العلماء كما وصفهم، وبعضِ طلبة العلم- بأنهم ( المُحرِّمون ).
وهذه عبارة فيها نوع من اللمز والغمز بهم، بل والتشنيع عليهم، وإن شئت قُل رميهم بأنهم يحرمون ويحللون. والواقع- والذي أظن أنَّ الباحث لا يُخالف فيه- أنَّ هؤلاء العلماء ممن شهد لهم القاصي والداني برسوخ القدم في العلم، بل منهم من أهل العمل والورع الكثير والكثير. فكيف يتسنى وصفهم بأنهم (محرِّمون). ومعلومٌ أنَّ التحليل والتحريم إنما هو لله جل وعلا، ولرسوله مُبلغا عن ربه سبحانه وتعالى، فكيف يُقالُ هذا عن أحد من الناس، فضلا عن أهل العلم؟.ومما يبرهن لذلك ما أردف به من قوله:" لما احتاج المحرمون إلى حشد النصوص من هنا وهناك "، والمعنى أنَّ الحجج لم تنهض لقولهم الذي تعنتوا فيه، فبلغَ بهم الأمر أنْ شرعوا يجمعون الأدلة ويحشدونها، لا لبيان الحق بل انتصارا لمذهبهم، وتأييدا لقولهم.
كما أنَّ اللفظة توحي كذلك بأنهم إنما يتعنتون في الأحكام، ويحرِّمون لغاية التحريم، وليس أدل على هذا المعني من نقيض هذه الكلمة( يستحلون) أي يجعلون الحرام حلالا. قلت: أفلا قال عنهم- وعن غيرهم: (القائلون بالتحريم) بدلا من هذه اللفظة النابية التي أُنزِّه الباحثَ عن النطق بها فضلا عن كتابتها ونشرها.
- قوله:" إن الحدث قد كشف عوار أمة تحمل لواء النص ، وتزعم اتباعه ، وتنهى عن التقليد المقيت ، ثم هي تقلد أئمتها دون بحث أو تمحيص ، وتقف من النص موقف المخصص ، والمتحكم ، لأنه لم يوافق هواها ".
وقوله: " وكشف الحدث أيضا أن هناك فئة كبيرة من علمائنا وطلبة العلم منا مصابون بجرثومة التحريم ، فلا يرتاح لهم بال إلا إذا أغلقوا باب الحلال ، وأوصدوه بكل رأي شديد ، يعجز عن فكه كل مفاتيح الصلب والحديد ، لأنه يغلق العقول فلا تقبل إلا ما وافقها ، ولا تدخل رأيا مهما كان واضحا جليا ، ومهما كان معه من نصوص الوحيين ، لأنها اعتقدت واقتنعت بما رأت ".
أخي القارئ ! هل قرأت هذا النص الجارح؟! وهل أصابك مثلَ ما أصابني؟ قل لي بربك: أبمثل هذا يقول رجلٌ من عامة الناس، أو ممن يوقر أهل العلم ويعرفُ لهم قدرهم؟
ربي !! رُحماك رحماك. اللهم اغفر لنا وارحمنا، واهدنا سواء السبيل، وأرنا الحقَ حقا وارزقنا اتباعه. لا أدري معاشر القراء ما أقول، وبمَ أُعلِّق على مثل هذه العبارات- النابية- القادحة في أهل العلم والعلماء. أحقيقٌ ما أرى؟
تأملوا رحمكم الله- وامسكوا برؤوسكم لئلا يُصيبكم ما أصابني حين قرأت تلك السطور. أيُّ علماء هؤلاء الذين لا يرتاحُ لهم بال إلا إذا أغلقوا باب الحلال على العباد، وأوصدوه بكل رأي شديد..الخ؟ أيستحقون هذا الوصف العالي، والوسام الراقي، والشرفَ بوصفهم ( علماء) وهم- بزعمه وما صدق- يتبعون أهوائهم، وينفذون عن آرائهم، ويقلدون بعمىً وليسوا من الاجتهاد في شيء؟ ثم إنهم ليسوا قلة- بل كثرة بزعمه الباطل وبهتانه الزاهق؟ فمن بقي للعلم إذا كان هؤلاء هم العلماء، وهذا وصفهم ؟!! ولتعجب- أيها المُنصف- من وصْفِ الباحث لهم بهذا الوصف العجيب الذي لا يستقيم وتلك العبارات- العوجاء العرجاء:" وعلى أقوال أئمة ، نعم نحسبهم والله حسيبهم، من أجلة العلماء ". فأي تناقض هذا؟ أجلة في موضع، ومُصابون بجرثومة التقليد، مُحرِّمون، في موضعٍ آخر، لا يفصل بينهما سوى كلمات يسيرات!!.
عباد الله !! معاشر القراء الكرام !! إن لم يكن هذا هو اللمز والغمز، والحطُّ مِن قدر المخالفين، بل ومن أشرف الناس وأحسنهم قولا، وأعظمهم للناس نفعا، فليس إذن في الدنيا شيء اسمه اللمز والغمز. إنَّ الرجل لم يلتزم الإنصاف- بل الأدب- مع مخالفيه، ولاسيما وهم جمهور أهل العلم من لدن الصحابة حتى يومِ الناس هذا، فرماهم بما يعجزُ البنانُ والمداد عن رسمهِ وكَتْبِه.
أيها الناس !! ابكوا على أنفسكم، ونوحوا على علمائكم، فقد أصابتهم تلك الجرثومة الخبيثة، وذلك الداء العضال. ألا سامحَ الله من سطَّر هذه الكلمات الشواذ، المناقضات لصريح كلام الله جل وعلا، وسُنة رسول الله . لقد جاء القرآن – الذي يحفظه الباحث ويتلوه- بتشريف أهل العلم، ورفعِ درجتهم على من سواهم، نعم! على مَن سواهم، وكذا سُنة النبي حافلةٌ بتكريم أهل العلم، والحضِ على التزام سيرتهم، واقتفاء آثارهم. أما كان للباحث في كتاب الله وسُنة رسوله أسوة؟!
ألا رحم الله الإمام الشافعي لما قال ليونس بن عبد الأعلى لما ناظره:" يا أبا موسى، ألا يستقيم أن نكون إخواناً، وإن لم نتفق في مسألة؟ " . ألا ما أحوجنا لمثل هذا الأدب في زمنٍ نَدُرَ فيه الأدب!
- وإليك أيها القارئُ الكريم وصفًا مُقززا، غيرَ لائق بأي مُخالفٍ وإن كان مِن أهل الأدواءِ والأهواء، فضلا عن أنْ يكونَ طالب علم، أو حتى مِن العلماء. قال الباحث يصف مُخالفيه، وتأمل ماذا قال:" ولكني أضغط منبها على أنَّ بعض العلماء عندنا ، وبعض طلبة العلم إنما هم صحف سطرت فيها معلومات لا تمحوها الحقيقة ، ولا يغيرها الدليل ، منطلقة من قول السابقين : {إنا وجدنا آباءنا على أمة} ، وحاملة شعار أبي جهل : أترغب عن ملة عبد المطلب ".
حقًا !! أنا في حيرةٍ من أمري، فلا أدري أيُّ كلام أصدق، أهم علماءُ- أجلاء كما الباحثُ يحسبهم ؟! أم هم مرضى مصابون بجرثومة التقليد، يحرِّمون على الناس، بل إنهم- وتأمل رحمك الله- ليسوا مِن العلم في شيء. نعم، ليسوا من العلم في شيء كما وصفهم الباحث، وإلا فما معنى قوله واصفا لهم" صحف سطرت فيها معلومات لا تمحوها الحقيقة ". أليس هذا رميا واضحا بالجهل؟ ولا ينقضي مِني العجب لوصفه لهم بأنهم ( علماء )! ثم إليك نعتُهم ( صحفٌ سُطرت فيها معلومات)، حاملي شعار أبي جهل، فأي علماء- عفوا صحفٍ- هؤلاء؟!! وتأمل التناقض بين (علماء) و(أبي جهل)!!
إنني- وبكل صراحة- لا أشم من هذا الكلام سوى رائحة الانتقاص- العفنة- لأهل العلم والعلماء، وإلا فما معنى هذه الكلمات؟ فسروها – وحاولوا الاعتذار لكاتبها- يرحمكم الله.
لقد ذكرني الباحث – في نعته الجائر هذا لمخالفيه- بكتاب الله جل وعلا، حين نعت اليهود بقوله: [ مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ] ، ألستم ترون مثلَ ما أرى، الله جل وعلا وصف أهل الكتاب الذين حملوا العلم ولم ينفعهم حملُه بالحمار يحمل أسفارا لا ينتفع بها، وكذا الباحث يصفُ مخالفيه، ومن؟ أهل العلم، بأنهم صحفٌ سُطرت فيها معلومات، أضف إليه ذلك الوصف الشاذ بأنهم مقلدة، محرمون، حاملي شعار أبي جهل..الخ فهل ترى- عندئذٍ- بين المثَلَين فَرْقا ؟!! ألا وإنِّي أُجلُ أهلَ العلم، فهم مِلءُ السمع والبصر، بهم نقتدي، ولآثارهم نقتفي، ألا بارك الله في الأحياء و سددهم، ورحم الأموات منهم.
وللإنصاف، فبعد كل هذا الزخم الشديد من العبارات غير اللائقة لمخالفيه، قام الباحث الكريم بما أعتبره تلطُّفًا في الحديث، لعله يحتج به حين يُوَاجَه بمثل هذا اللوم، فتراه يقول مختتما مقاله:" ولست متهما كل من خالفني بذلك ، أبرا إلى الله تعالى ، ولكني أشير على من حكر القول فيما يراه ، وظن أنه يحمل الحق وحده ، وأن كل من خالفه فإنه جاهل ". ولعلك – كذلك- لا ينقطع منك العجب من قوله واصفا مخالفيه:
" متناسيا أن الله تعالى وهو الذي لم يشر إلى الغناء ولو إشارة بتحريم ، قد حرم الهمز واللمز بل توعد عليهما بالويل ، والنار ، دلالة على شدة تحريمهما وأنهما من كبائر الذنوب. فسبحان الله كيف تعمى القلوب فتبصر تحريم الغناء وتحشد أدلة لذلك وتتجاهل العمل بما نص الكتاب والسنة على تحريمهما دون ارتياب ، وما ذاك إلا لأن القوم يتبعون أهواءهم ، ومن أضل ممن اتبع هواه بغير علم ؟ "
فها هو يعيبُ عليهم الهمز واللمز، بل ويُذكرهم بأنَّ الله جل وعلا حرَّمه، وتوعد عليه، ومقالةُ الرجلِ تطفحُ بهذا القيح المُسمى بـ ( اللمز والغمز)- [ رمتني بدائها وانسلت !!].
ولستُ بمتحامل على الرجل، وإليك دليلُ ذلك بما أردف به" وما ذاك إلا لأن القوم يتبعون أهواءهم ". والسؤال: من هؤلاء القوم الذين يتبعون أهواءهم؟ أهم عامة الناس، أم قاطعو الطرق ولصوص الأعراض،...أمَّنْ؟!! إنهم مخالفوه من أهل العلم والعلماء !! فيا له من تقدير وتوقيرٍ لأهل العلم! عفوا: للصحف المحشوة بالمعلومات، متَّبعي الأهواء، المصابين بجرثومة التقليد، (المُحرِّمون)، رافعي شعار أبي جهل...الخ.
وفيما يبدو لي أنَّ هذا منهجٌ للباحث، ولا أدلَ على ذلك من مقالته- التي نشرتها جريدة عكاظ في عددها 16007 في الصفحة السابعة عشرة- والتي ردَّ فيها على علمٍ من عُلماء الأمة، ورمزٍ من رموزها، العلامة الشيخ/ صالح اللحيدان، والذي نصح الباحث بأن يكتفي بإمامة المصلين وقراءة القرآن، وعدم التجرؤ على الفتيا- وصدق. فكان الردُّ من الباحث كهذا الذي كتبه في بحثه، علاوة على مُطالبته للشيخ بالاعتذار للنبي إن قصد الانتقاص من الإمامة والقراءة. ولا أزال في عجبٍ وزهول من هذا الفهم – الغريب العجيب- لكلام الشيخ اللحيدان، فهل استنبط أحدٌ منه انتقاصا من أئمة أو غيرهم فضلا عن النبي ؟ أم أنَّ الباحث انفرد – دون سواه – بهذا الفهم لكونه المقصود بالنصح ؟!
هذا كان موقفُ الباحث مِن مخالفيه. وأرجو أن يكون قد اتضح الأمر وانجلى لكم – معاشر القراء- أنَّ الباحث لم يُراعي – في بحثه- هذا الجانب الهام من جوانب البحث العلمي، ليزدادا بذلك بحثُه ضعفا فوق ضعف، ووهنا على وهن.
خامسا:
من الجوانب البحثية الهامة في البحث، حتى تكون قناعة القارئ بالأطروحة حاضرة- مُراعاة الصدق العلمي في الدلالات والفهوم، واحترام عقلية المُخاطب الذي يُرادُ منه تبني ما ذهبَ إليه الباحث، وعدم استخدام عمومات لا تخصيص لها. ولذا فنتأمل مدى توفر هذا الجانب في البحث موضوع الدراسة.
وقبل الولوج في مدى التزام الباحث بهذا الجانب من عدمه أودُ الإشارة إلى ما أعنيه بـ ( الدلالات والفهوم ). لما كان مُقررا أنَّ لكلِ فن من الفنون، وعلمٍ من العلوم، قواعد ومفاهيم وضوابط تحكمُ هذا العلم، وتُحدد الصواب من غيره في كل ما يطرأ عليه، بل وتضعُ مفاهيم ومصطلحات لهذا العلم، يتناقلها المشتغلون به، ولا يحيد عنها كل من يريدُ أن يضرب فيه بسهم. بل لا يجوزُ لباحثٍ في هذا الفن أنْ يأتي بتفسيرات و دلالات لأمورٍ هي مِن المسلَّمات في هذا العلم. ولأضربَ لذلك مثلا: فلا يجوزُ لباحثٍ في الفيزياء أنْ يصفَ شيئا متحركا بأنَّه ساكن، لأنَّ ذلك فهمٌ يُخالِف القواعد المقررة لعلم الفيزياء.
وعليه، يكونُ السؤال: هل دلالات الألفاظ والأدلة التي استندَ إليها الباحثُ – في أطروحته للقول بقوله في إباحة الغناء والمعازف- موافقة للقواعد والضوابط التي قررها أهل العلم- أعني الشرعي؟ لنتأمل سويا..
- استدلَ الباحثُ على القول بإباحة الغناء بفعل جماعةٍ مِن سلفِ هذه الأمة، وذكرَ منهم ( عبدالله بن جعفر بن أبي طالب) وقال عنه:" وكانت له صحبة "، ووصفه بأنَّه ممن اشتهر به وذاع صيته, وذكر كذلك غيرَه . ومع كون هذا الاستدلال يفتقر للعزو والتوثيق، والتأكد من صحتها، فإنَّه لا يُسلَّم به، ولماذا؟
لأنَّ الباحثَ فهمَ من ذيوع الغناء وانتشاره- وشهرته الذائعة على حد تعبيره- بين هؤلاء على إباحة الغناء، ولا أدري مَنْ أقرَّه- أو مَن يُقره- على هذا الفهم، إذ هل يُعتبر انتشارُ المنكر- أو الشيء المُحرَّم- في وقت ما، وفي بلد ما دليلٌ على جوازه وإباحته؟
وقد يحتج الباحث- وغيره من أنصار مذهبه- بفعل عبدالله بن جعفر ، ولا يحتجون بأقوال وأفعال سائر الصحابة الأجلاء لاسيما الفقهاء منهم كابن مسعود وابن عباس وغيرهم, ومع هذا فلم يعرِض الباحثُ أثرا واحدا حول ما نسبّه لعبدالله بن جعفر من اشتهاره بالغناء وذيوع صيته به، فهل أعجزه البحث عن أن يجد أثرا واحد يذكره؟ ومع ذلك فإلى القارئ الكريم ما ذكره ابن حزم رحمه الله في المحلى أَنَّ رَجُلاً قَدِمَ الْمَدِينَةَ بِجَوَارٍ، فَأَتَى إلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ فَعَرَضَهُنَّ عَلَيْهِ، فَأَمَرَ جَارِيَةً مِنْهُنَّ فَأَحْدَتْ، قَالَ أَيُّوبُ: "ِالدُّفِّ", وَقَالَ هِشَامٌ: "ِالْعُود"، حَتَّى ظَنَّ ابْنُ عُمَرَ أَنَّهُ قَدْ نَظَرَ إلَى ذَلِكَ ،فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: "َسْبُك سَائِرَ الْيَوْمِ مِنْ مَزْمُورِ الشَّيْطَانِ".وهذا يردُ استنباط وفهمَ واستدلال الباحث بإباحة الغناء، وذلك من وجوه:
أولها: أن الجارية أحدت، وأنَّ ذلك كان بالدف- وهو جائز- مع الشك بينه وبين العود.
ثانيا: أنَّه سمعه من جارية يريد شراءها، وإن اشتراها حلَّ له منها كلُ شيءٍ حتى صوتها.
ثالثا: وهو الأهم، أنَّه لم يحظ بإقرار الصحابة على ذلك، فهذا ابن عمر رضي الله عنهما يُنكرُ عليه بقوله:" َسْبُك سَائِرَ الْيَوْمِ مِنْ مَزْمُورِ الشَّيْطَانِ "، فلو لم يكن حراما لما كان للإنكار وجه، وتأمل تسمية حُداء الجارية بـ (مَزْمُورِ الشَّيْطَانِ).
فهل الفهم والاستنباط الذي ذهبَ إليه الباحث صحيح، سائرٌ وفق قواعد العلم الشرعي في الاستنباط والاستدلال؟ فما بالك لو كانَ هذا الفهمُ منقوضَا بأدلةٍ مِن الكتابِ والسنة؟ وإنكارُ ابن عمر رضي الله عنهما يقطعُ خطَ الرجعة على من يقولُ بأنَّ هذا كان ذائعا أو منتشرا في عصر الصحابة رضي الله عنهم.
- مما استدل به الباحث، وفهم منه إباحة الغناء ما نقله عن الأصمعي من قصة وأبيات شعرية- يرجع إليها من شاء، وكذا استدل بما كان يحدثُ في مجالس الخلفاء التي كانت تجمع الأدباء والفقهاء والشعراء...الخ. والسؤال: هل تُعدُّ هذه الحكايات- التي تُشبه منامات الصوفية- دليلا شرعيا على الإباحة أو التحريم أو غيرهما؟ بل ومنذ متى ومجالس الخلفاء- غير الراشدين الأوائل طبعا- والملوك وغيرهم حجة على الشريعة؟.. وخلاصة القول: هل ما فهمَه الباحث مُنضبطٌ بقواعد الفهم والاستنباط والاستدلال عند أهل العلم؟!
- جاء الباحث بطريقة مُبتكرة- مبتَدعة- في الاستنباط والفهم والاستدلال على الأحكام الشرعية، وأوجزها بقوله:" يكفي في إثبات حل الغناء أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحرمه نصا ، ولم يستطع القائلون بالتحريم أن يأتوا بهذا النص المحرم له ، مع وجود نصوص في تحريم أشياء لم يكن العرب يعرفونها ، كالخنزير ، وتحدث عن أشياء لم يكونوا يحلمون بها كالشرب من آنية الذهب والفضة".
- ذكرني هذا الكلام، وتلك الحجة المتهافتة- بكلام المدخنين وأضرابهم حينما يرغبون في تقرير صحة مذهبهم- الباطل، ويُجيزون ويزينون لأنفسهم و لغيرهم باطلهم، فيقولون:" ليس في القرآن ولا في السُّنة ما يُحرِّم الدخان صراحة"، وقد سار الباحث على نهجهم، وقال بقولهم، غيرَ أنَّه زاد زيادة أخرى حيث قال:" ولم يستطع القائلون بالتحريم أن يأتوا بهذا النص المحرم له ، مع وجود نصوص في تحريم أشياء لم يكن العرب يعرفونها ". فأيُّ فهم هذا؟ وهل يُعتبر هذا الاحتجاج صحيح، قائمٌ على أسس علمية سليمة ؟
إنَّ هؤلاء القائلين بمثل هذه الأقوال يريدون- وإن لم يصرحوا أحيانا- أن يكونَ القرآن، وكذا السُّنة، كتابا يحوي ألوان الأشربة والألبسة والأطعمة وغيرها، القديمة والحديثة، بل وما لم يظهر بعد، ليكون للقائل بالحل أو الحرمة مستندٌ شرعي واضح للناس جميعا. ونسي هؤلاء- أو تناسوا، وجهلوا- أو تجاهلوا- أَّن للشريعة قواعد كلية تضبط شتى جوانبها، سواء مما ظهر في عصر النبوة الأولى أو ما جاء بعده.
ومن تلك القواعد – على سبيل المثال- قوله :" كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ "، والتي بنا عليها أهل العلم أحكامهم في الدخان والتبغ وغيره من الأمور الحادثة، والتي تُحدِث السُّكر. وقل مثل ذلك في قوله :" لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ "، وغير ذلك من القواعد الشرعية العامة، التي يحتاج لمعرفتها أصحاب مثل هذه الآراء والفهوم.
وعليه فقد كان ينبغي على الباحث الكريم أن يضبطَ استنباطاته وفهومه بما تعارف عليه أهل العلم، من قواعد الاستدلال والاستنباط، بل وأن يكون فهمه وفق فهم السلف الصالح- من الصحابة ومن تبعهم بإحسان- الذين عاصروا التنزيل، وتلقوا عن النبي ، أو عن صحابته الكرام. هذا هو الضابط، وإلا فلن يكونَ التسليمُ لكل صاحب فكرةٍ حادثةٍ، أو رأي مُصطنعٍ، أو فهمٍ شارد.
وهنا تنويه لما يتعلق بمسألة احترام عقول المُخاطبين. فمن احترامِ عقول المخاطبين عدمُ التدليس عليهم، خاصة غير المتبحرين في العلم موضوع البحث، وكذا عدم إطلاق العبارات الرنانة التي توحي بأنَّ الحق مع الباحث دون مخالفيه. وقد حوى