نفح الطيب فى محبة الحبيب الشيخ (على بن عبد الخالق القرنى
محمد مرسى
1436/03/04 - 2014/12/26 20:17PM
الحمدُ لله بارئ النَّسم وخالق الخلق من عدم, نجي نوحاً في السفينةِ من الغرقِ الذي عم, وسلَّم موسي من طغيان فرعونَ ونجاه من اليم, لا يخيبُ من قصد بابه وأمّ, ولا يندمُ من رجا ثوابه ولا يهتم, إلهٌ لهُ الفضل إذا أنعم تم, وأشهد أن لا اله إلا الله وحدهُ لا شريكَ له شهادة من آمن به وأسلم وانقاد واستسلم, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله النبي الهادي خيرُ من حضر النوادي وأبرُّ من ركب الخوادي وفاق الليوث العوادي, قرن الله ذكره بذكره علي لسان كل ذاكر, وشَرُفت برسالته المنائر والمنابر, بُعث ومعلمُ طريق الإيمان قد عفي ونورهُ خبي فأنار ما خبي, وشيَّد منه ما عفي وشفي بكلمة التوحيد من كان علي شفي, اللهم صلي وسلم علي محمدٍ وعلي آله الأطهار الأبرار وصحبه المصطفين الأخيار ومن نهلَ من معينه الثَّر المدرار, ما ناح الشادي وحدي الحادي..
يا ربِّ صلي علي النبي المصطفي ** ما غردت في الأيك ساجعةُ الرُّبا
يا ربِّ صلي علي النبي وآله ** ما أمت الزوارُ مسجدَ يثربَ
صلوا علي من تدخلون بهديه ** دار السلامة تبلغون المطلبَ
صلوا علي من ظللته غمامة ** والجذعُ حنَّ له وناصر في الصبا
يا أيها الراجون خير شفاعةٍ ** من أحمدٍ صلوا عليه وسلموا
صلي وسلم عليه ذو الجلالِ ما لبي ملبٍ أو تحلل محرمُ وعلي قرابته المقرر فضلهم وعلي صحابته الذين هموا هموا..
جادوا علوا ضائوا حموا زانوا هدوا ** فهموا علي الست الجهات الأنجمُ
والتابعين لهم بإحسان فهم ** نقلوا لما حفظوه منهم عنهمُ..
أما بعد:
فنضر الله هذه الوجوه التي أحسبها فيما يرضي الله مسفرة مستبشرة ومما يسخطه باسرة متمعرة, تواردت إلي الخير توارد القطي علي منهل لا مقصرة ولا وانية ولا مغبونة سيوفٌ مأثورة تروع مغمدة ومسلولة, تُحدثك عنها سيماها وتُنبؤك عنها عيناها, ففي وجهها عنوان ما بين أضلعي ورب لحاظ نائب عن تكلم, وبتحية الإسلام أحيي هذه الوجوه تحيات دونها عبير السحر وإن كان قريباً وعنبرُ البحر وإن كان غريباً فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته تحياتٍ طيباتٍ زاكياتٍ تغشاكم وتنفحُ الطيبَ في مقدمكم وممشاكم, تحياتٍ إذا زُفت أثارت أريج المسك أو ريح الخزامَ مع ضراعة إلي الله أن يزيد توفيقكم وأن يجعل السداد رفيقكم من أخٍ فخورٍ بكم شفيقٍ عليكم يرجوا أن يكون نصحهُ لكم هدي وشانئكم لكم فدي
فما ضائت بغيركم الليالي ** ولا تمت بغيركم الأمورُ
تميدُ بحسن لقياكم صدور ** وتفتر المباسم والثغورُ
ويشتاقُ الفؤاد إلي لقاكم ** فتغشاه المسرة والحبور
وليس يقاس حبكم بشيءٍ ** وهل وشلٌ تقاس به البحور
خطبتم حسان العُلي فتية ** وسقتم لها الغالي المدخر
فهل من يبلغ عنا الأصول ** بأن الفروع اقتدت بالسير
محي ظلمة اليأس صبح الرجا ** بكم أيها الفلق المنتظر
أيا رب أيا رب عاملنا بلطفك ** إننا نري بجميل الظن ما أنت فاعل
أعذنا من الأهواءِ والفتن التي** أواخرها توهي القوي والأوائل
وحبب إلينا الحق واعصم قلوبنا ** من الزيغ والأهواء يا خير عاصم
معشر الإخوة لا يخفاكم أنه ثبت بالنقل أنَّ الشيطانَ قد يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب, لكنه يسعي في التحريش بينهم بالخصومات والشحناء والحروب والفتن كما صح في مسلم من حديث جابر رضي الله عنه وأرضاه, وجزيرة العرب هي جزيرة الإسلام بكعبتها المشرفة ومدينتها النبوية مهبطُ الوحي ومحضن الإسلام وقبلة المسلمين ومهوي أفئدتهم تتعرض لأخطرِ مرحلة مرة بها منذ أن جمع الله شملها بالإسلام من تربص يهودي صهيوني رابض في فلسطين الجريحة شمالها, وتربص نصراني صهيوني قد تدخل في العراقِ شرقها مشرئباً لها, إلي تسربٍ لأهل الأهواء المنافقين في بعض مساربها, إلي أحداثٍ داخلية مرفوضة تخلخل تماسكها وتهدد وحدتها وتسهل علي المتربصين بها في الخارج مَهَمة اجتياحها, زادت طينها بِلَّة ومرضها علة والله يكلؤها وإيانا بمنه, وعلي هذا معشر الإخوة فإن استقرارها مسؤولية كل مسلم يحمل بين جنبيه قلباً ناصحاً للمسلمين ووحدتها علي الحقِ وحدةٌ للمسلمين وقوتها في مواجهة الباطل قوةٌ لجميع الموحدين وهذا يتطلب من كل ذي عقلٍ ودين أن يبرأ من استباحة حِماها وهدر حرماتها, وأن نوفر كل قطرة دم وقطعة نقد وخلجة نفس وخفقة قلب وحركة ساعد لمواجهة العدو الحقيقي الصهيوني الصليبي الذي يتأهب للانقضاض عليها وهي آخر حصنٍ يمكن أن يستعيدوا المسلمين فيه عافيتهم ويستأنفوا مسيرة دعوتهم
كفَّ الله بأسهم ولم يجعل بأسنا بيننا بل بينهم
ويتحتم أن نعلم أنا كنا أذل قوم فأعزنا الله بالإسلام فهما نطلب العزة بغير ما أعزنا الله به أذلنا الله ونعملَ في ضوء ذلك علي هُدي الله أقول هذا والأمة اليوم بعمومها تمر بمرحلة عصيبة حرجة وخطوبٍ شديدة فها هي المجازر والفظائع والفجائع والفضائح صيحاتٌ ولوعات آهاتٌ وأناتٌ وصرخات, مساجد تُهدم علي المصلين وبيوتٌ تدك علي الآمنين في فلسطين والرافدين بل في غالب بلاد المسلمين
تلك الفجائعُ لو يمر حديثها ** بوليدِ قومي شاب قبل المحملِ
في عالمٍ يقف مع الظالم يُشير ويبارك ويُعين ويُشارك
قد يممته المخازي فهي نازلةٌ منه ** بحيث تلاقي اللؤم والذامُ
كأنما أنفه من طول سجدته ** في حانة الغدر حرفٌ فيه إدغام
تداعوا عليها فصارت كأنها قصعاتٌ طاب مأكلها وقد تداعت علي أصنافها الأممُ ثم ابتليت أخري بمسوخٍ في كل محنة يبرزون يُكثرون النعيق ويتابعون النهيق في ضجيج وعجيج يغسلون النجيع بالرجيع رِيحهم رِيحُ كلابٍ هارشة في يوم طل, يدفعونها للانغماس في مستنقع عدوها بمُره وشره لأنهم عبيدهُ والعبد وما ملك لسيده..
حاروا عليها أغوي من غوغاء الجراد بل كانوا كذئب السُوء لما رأي دماً بصاحبه يوماً أحال علي الدمِ, رموها بسهام من قوسٍ واحدة فأصابوها في مقاتل عدة في حدة
ولو أنه رمحٌ إذاً لاتقيته ** ولكنه رمحٌ وثانٍ وثالثُ
ولم تزل الأحداث تتابع والصراعُ ينتقل من طورٍ إلي طور وهي كأدوات التصدير يسبقها حرف الجر فلا يعمل فيها
فإنك لو رأيتَ عبيد تيم ** وتيماً قلت أيهما العبيد
ويقضي الأمر حين تغيب تيم ** ولا يستأمرون وهم شهود
أقامت دليلاً لا يكذب علي أنها لم ترث من قبيلة امرئ القيس إلا الخلقَ الذي مدحها بها الشاعر فقال:
وأمثل أخلاق امرئ القيس أنها ** صِلابٌ علي طول الهوان جلودها
فهي نائمة ملئ جفونها لم تتمثل من سنن الله إلا أنه جعلَ الليل لباساً بُحَّ الحادي
يا حادي الركبِ هل في القوم يقظانُ ** لبي الجمادُ وما لبَّاك إنسانُ
لو كان صوتك في الصحراءِ أعشبها ** وصار للصخرات الصم آذان
فلا الأذان أذانٌ في منائرها ** إذا تعالي ولا الآذان آذان
تضارب بلا ربح وفي بهيم الليل لا تبحث عن صبح شعر عدوها بخلو غابها من أشباله وميدانها من أبطاله فتجرئوا, حفظوها شعراً بلا روي وفكرة بلا روية فأخذوها ارتجالاً حسبوها عمدة في التركيب الأممي فألفوها مفاعيل وأحوالاً فأعربوها إعرابَ الفضلات وعاملوها معاملة المُهملات راضوها علي المهانة حتى لان جانبها فصاروا لا يبالون برضاها ولا يأبهون لسخطها علموا أن غضبتها غضبة عاجزٍ لا تبكي ولا تنكي
أخني الوهن علي الفنن أبدله صاباً بمن, يشهد بذلك الواقع والتاريخ والخبر
صارت كلفظةِ شاعرٍ يُؤتي بها ** لضرورة الأوزانِ في كلماته
وما ظلمهم الله فقد قضي الله (إنَّ الله لا يُغِّيرُ ما بقومٍ حتى يُغيِّروا ما بأنفسهم ) ويميناً برة لا حنث فيها ولا تأويل لو أن الأمة فَهِمَتْ القرآن علي حقيقته وقامت بحقوقه كما جاء بها رسوله صلي الله عليه وسلم واستثمرت العقول المهتدية المنيرة بهداة لكانت شمساً لا تحجبها الغرابيل ترفع الإشكال وتزهق الأباطيل, لكنها حادت فعوقبت بما كسبت فعلي نفسها جنت
دائُنا فينا ولو أنَّا اعتصمنا ** بكتاب الله ما استفحل دائنا
ومع ذا فما زالت الرصافة منبت حصافة وما فتئنا نلمح وراء كل داجيةٍ نجم يُشرق ونسمع بعد كل خفتة صوتاً يخرِق يهدي الحائر إلي مخرج..
فإن رمي الليل بظلمائه ** فوق الروابي واعتزي بالرياح
وصار كهفاً مرعباً مظلماً ** فبشر الدنيا بنور الصباح
وعليه فإن علة العلل في الضعف والوهن هي ضياع الحقوق وعلي رأس الحقوق المضيعة توحيدُ الله ووالله لطلوع الشمسِ من مغربها وانصباب ماء النهر في منبعه أقرب من رجوع المسلمين إلي سالف عزهم ما دام فئام منه يقفون بين يدي أهل القبور بلا نكير كما يقفون بين يدي العزيز الغفور والتمسوا الحاجات من موتاهم واتخذوا إلههم هواهم لأن الله قضي ولا راد لما قضي (وليبدلنَّهم منْ بعدِ خوفهم أمناً يعبدونني لا يُشْركُون بي شيئاً)..
(الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن )..
فيا شديد الطول والإنعام ** إليك نشكوا محنة الإسلام
ومما ضُيِّعَ من الحقوق محبة رسول الله صلي الله عليه وسلم فقد شوهت بين غلو الغالي وجفاء الجافي وهي نص حديثنا الآتي:
بتنا علي ظمئٍ وفينا المنهل ** وحي النبوة والكتاب المنزل
والداء منا والطبيبُ أمامنا ** يَصِفُ الدواء لنا ونحن نعطل
لهذا كانت هذه الكلمات بعنوان:
نفحُ الطيب في محبة الحبيب
حداني إليها حُبُّ رسول الله صلي الله عليه وسلم ومن أحبَّ شيئاً أكثر ذكره وأفاض وأطنب كيف وقد حكم أن المرء مع من أحب
إني أري حبَّ النبي عبادةً ** ينجوا بها يوم الحساب المسلم
لكن إذا سلك المحبُ سبيلهُ ** متأسياً ولهدية يترسم
إنها لُمعٌ نقدمها لمن أحبَّ رسول الله فأحب هديه وسنته تقولُ له عضَّ علي هديه واقف أثره كالنعت يتبعُ دائماً منعوته ** في وضع صيغته وفي حركاته،
إنها ندبة تفجع تقول وا ضيعتاه أتصبحُ محبةُ رسول الله صلي الله عليه وسلم عند فئة حيدة عن دينه..
كيف لا أدري لماذا ربما ** أني يوماً عرفت السبب
عالم يدعوا بدعوي جاهل ** وليوث الحرب ترجوا الأرنب
إنها وخزة لعلها تثير الإحساس عند أدعياء المحبة من رأسُ مالهم التدجيل والأباطيل من أحكموا الحيلة علي العامة فخدروهم وزعزعوا عقيدتهم وأفسدوا فطرتهم وأضلوهم ثم أذلوهم أرادوهم أن يعبدوهم من دون الرحمن وهو ما يئس منه الشيطان لصوصٌ ويزيدون علي اللص وما يزيدون إلا في النقص أنهم يتلصصون باسم الدين فنسبتهم إلي المحبة والسنة كنسبةِ عمرو الذي قال فيه الشاعر:
إرفق بعمرو إذا حركت نسبته ** فإنه عربي من قوارير
لا جرم أنهم أدعياء من قوارير لا يحسن أن يرفق بمثلهم علي النحو الذي دعي له الشاعر الهازئ فعمرو ما ضرَّ أحداً بادعائه النسبة العربية أما هؤلاء فضروا بل أضلوا ثم أذلوا فمن الرفق بالأمة وبهم أن تكسر القوارير لينكسر معها الضلال والإضلال
يا غافلاً حتى متى تتوهم ** والفعل يفضح ما تقول وتزعمُ
إنها صيحة تقول
يا مسلمون لسنة الهادي ارجعوا ** واسترشدوا بدروسها وتعلموا
هل ضيع الإسلامَ إلا قائل ** أفعاله تنفي المقال وتهدم
وهي كذلك شجاً في حلق كل مغرضٍ أفَّاك يرمي من أرسله الله للناس رحمه بالجفاءِ والقسوة والإرهاب والغلظة هولٌ هائل وقولٌ لا تسعه لهاة القائل
فويل لهم من وصفهم أشرف الورى ** بما اختلقوا من عندهم والتزعم
وهل أنكروا إلا فضائل جمة ** وهل يبصر الخَفَّاشُ والنور ساطعُ
كلمات لذلك الموتور الشعرور حامل لواء حملة مليون ضد محمد صلي الله وسلم علي نبينا محمد تقول له قع أنت ومن معك أو طيروا فإنا نعرفُ قدر نبينا ونحنُ له فدي ومعه علي الهدي ولو في سمِّ الخياط أو علي مثل حدِّ الصراط كلمات عبَّر عنها أولنا ويقولها أخرنا وماتَ عليها سلفنا ويلقي عليها الله خلفنا بإذن ربنا وحسان إمامنا
فإن أبي ووالدهُ وعرضي ** لعرضِ محمدٍ منكم وقاء
نقولها إنذاراً ونقسم لو أنَّ دعواك شخصاً تمثلت لصبت عليك اللعن ثم اضمحلت وهل ينفعُ الإنذار من ضاع عقله وما معه إلا صورة اللحم والدم إنَّ رسول الله صلي الله عليه وسلم سماء ووالله وتالله وبالله لو تحولت أنت ومعك رعاعُ الأرض إلي زبالين لتغبروا علي السماء لبقيت السماءُ هي السماء صافيةً متلألئة ثم لم يرجع الغبارُ إلا علي رؤوس من أثاروه فمت بغيظك ومن معك إنَّ زكاه وكفاه زكي هديه ونطقه وعلمه وفؤاده وبصرهُ وخلقه وشرح صدره ورفع ذِكره ووضع وزره
أبي الله إلا رفعهُ وعلوهُ ** وليس لما يعليه ذو العرشِ واضع
فما أنت وما معك جُعلتم فداءاً أجمعين لنعله فكلكموا من جيفة الكلب أقذرُ وكلكموا منها أذل وأحقر لأن الذي جئتم ضلالٌ مزور تمارون في المحسوس ولا يماري في المحسوس إلا ممسوس..
فالحسُّ يشهدُ أنَّه ** فاقَ الورى خُلُقاً وحلماً
عينٌ إلي العليا سمت ** أذنٌ عن الفحشاء صما
إن رحت تكتم حبه ** لم تستطع للمسك كتماً
فهو الذي لولاهُ ** ما ملئت بيوتُ الله علماً
شَهِدَ الأنامُ بأنه ** ما مثلهُ عُرباً وعُجماً
من ذا يساوي علمَهُ ** بالبحر إن أمسي خضماً
لا يستوي البحران ذا عذبٌ ** وذاك الملح طعماً
من لم يغترف من دُرِّ بحره ولم يعترف برفيع قدره سقط قدره وهانت نفسه إذا ما أهان امرؤٌ نفسه فلا أكرم الله من يكرمه ووالله يا معشر الإخوة ما هذه الكلمات إلا لبنة في بناء وقطرةٌ في إناء فمن لي بخوض البحر والبحر زاخر ومن لي بإحصاء الحصى والكواكبِ فلو أنَّ أعضائي غدت ألسناً إذاً لما بلغت في القول بعض مآربي ولو أن كل العالمين تسابقوا إلي مدحه لم يبلغوا بعض واجب من أنزل القرآن في أخلاقه ماذا عسيَ أقول فيه من المِدح ألا حسبي من القلادة ما أحاط بالعنق ومن السوار ما أحاط بالمعصم فلعلها أن تكون غيثاً علي جدب وفراتاً علي ظمأ يزداد بها المهتدي هداً ويُبدَّلُ الجافي إلفاً والبعيدُ قرباً والغالي قصداً وأسألُ الله العظيم ذا السلطان الأمنَ من مكائد الشيطان وأن تكون خُلَّصاً بلا ريا لوجه من له الثنا والكبريا وأن يُثيبنا بها لطفاً إذا حللنا الأجداث ويكفينا الأذى..
أقولُ والله تعالي المستعان ** ومن بغيره استعانَ لا يُعان
محبة رسول الله صلي الله عليه وسلم ما محبته محبته أصلٌ إيماني وواجب شرعي وبغضه ناقض إيماني وفسادٌ اعتقادي كمال حبه من كمال الإيمان ونقصه من نقص الإيمان قال صلي الله عليه وسلم فيما رواهُ مسلم لا يُؤمنُ أحدكم حتى أكون أحب إليه من أهله وماله والناس أجمعين..
والله ما محبته كلماتٍ تقال ولا قصص تثار إنها عملٌ قلبي من اجل أعمال القلوب وعاطفة يجدها المحب في قلبه تدفع لإتباعه وإن تفاوتت لقوة الإيمان وضعفه, إنها رابطةٌ من أوثق الروابط التي تربط المسلم برسول الله صلي الله عليه وسلم وتجعل إرادته متوجهة لتحصيل ما يُحبُّ الله ورسوله وهي مع ذا محبة تابعة لمحبة الله كما قال شيخُ الإسلام رحمه الله، فليس في الوجود من يستحق أن يُحبَّ لذاته من كل وجه إلا الله وكل محبوب سواه فمحبته تبعٌ له, فإن رسول الله صلي الله عليه وسلم إنما يُحبُ لأجل الله ويُطاعُ لأجل الله (قل إن كنتم تُحبون الله فاتبعوني يُحببكم الله )..
روي البخاري من حديث ابن هشام قال: كنا مع النبي صلي الله عليه وسلم وهو آخذٌ بيد عمر رضي الله عنه فقال له عمر بحسب الطبع يا رسول الله لأنت أحب إليَّ من كل شيء إلا من نفسي فأقسم النبي صلي الله عليه وسلم تأكيداً وهو الصادقُ المصدوقُ وإن لم يقسم لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك يا عمر فتأمل عمر وتفكَّر والتفت وأدرك بالاستدلال أنَّ رسول الله صلي الله عليه وسلم أحبُ إليه من نفسه فهو السببُ في نجاته فبادر فقال قول صدقٍ فيه بدائعُ ما دري أهل البلاغة ما اسمُهُنَّ
قال: فإنه الآن والله يا رسول الله لأنت أحبُ إليَّ من نفسي فقال النبي صلي الله عليه وسلم الآن يـا عُمر أي عَرفت الآن فنطقت بما يجبُ يا عُمر كما يقولُ ابن حجر..
نعم معشر الإخوة حتى يكون أحبَّ إليك من نفسك وذلك مرتقيٍ عالٍ لا يصلُ إليه القلبُ إلا بمجاهدةٍ طويلة وترويض دائم ويقظة مستمرة ورغبة تستنزلُ عون الله فما تعثَّر مطلبٌ أنت طالبه بالله ولقد ضرب الصادقون أروع الأمثلة في تقديم رسول الله صلي الله عليه وسلم علي النفس, ففي الحديبية يُرسلُ رسول الله صلي الله عليه وسلم عثمان إلي قريش يخبرهم أنه لم يأتي ومن معه لقتال إنما جاءوا عُمًّاراً إنطلق عثمان وبلَّغ رسالة رسول الله صلي الله عليه وسلم ولما رجع عثمان قال المسلمون هنيئاً أبا عبد الله لقد اشتفيت من الطواف بالبيت فقال بئس ما ظننتم بي والذي نفسي بيده لو مكثت بها سنةً ورسول الله بالحديبية ما طفت بها حتى يطوفَ رسول الله صلي الله عليه وسلم ولقد دعتني قريش إلي الطواف بالبيت فأبيت
فعن حبه حدث عن البحر إنه ** لبحرٍ ولكن بالمعاني انسيابه
لقد كان عثمان يستشعر قول النبي صلي الله عليه وسلم حتى أكونَ أحبَّ إليك من نفسك ويستشعر تهديد الله لمن قدَّم علي تلك المحبة أحداً في أشد آية نعت علي الناس ما لا يتخلص منه إلا من تداركه الله بلطفه فقال (كن إن كان آبائكم وأبنائكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموالٌ اقترفتموها وتجارةٌ تخشون كسادها ومساكنُ ترضونها أحبَّ إليكم من الله ورسوله وجهادٍ في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين ) فانظر كيف قرَّع الله من قدم تلك المحبوبات علي محبته وتوعدهم بقوله فتربصوا ثم فسقهم بتمام الآية وحكم انهم ممن ضل ولم يهده الله, إن تقديم حب الله ورسوله علي كل شيءٍ عقيدة لا تحتمل شريكاً لا حرج فيها من الاستمتاع بطيبات الحياة علي أن يكون العبد مستعد لبذلها ونبذها كلِّها إذا تعارضت مع حبِّ الله ورسوله وجهادٍ في سبيله, ولذا جاء في إسلام طلحة بن البراء رضي الله عنه أنه لما لقي النبي صلي الله عليه وسلم جعل يدنوا منه ويقول: يا رسول الله مُرني بما أحببت والله لا أعصي لك أمراً
نطقَ اللسانُ عن الضمير ** والبِشْرُ عنوان البشير
فعجب النبي صلي الله عليه وسلم من ذلك وهو غلامٌ صغير ثم قال له "اذهب فاقتل أباك" فما تردد وانطلق ليفعل وحاله
دعاني إلي الجُلي فقمت مبادراً ** وإني لأمثال تلك لسابق
فإن كان عصياناً قيامي فإنني ** أردت بعصياني إطاعة خالقي
فدعاه صلي الله عليه وسلم وقال "أقبل إنِّي لم أبعث لقطيعية رحم", نعم إن رسول الله صلي الله عليه وسلم أهلٌ لتلك المحبة
أولاً: لحب الله واصطفائه له فهو خليله (الله أعلم حيث يجعل رسالته)..
وثانياً: لأنه رحمة للعالمين فعموم العالمين حصل لهم النفعُ برسالته أما أتباعه فنالوا بها كرامة الدنيا والآخرة, وأما من قتلهم من المحاربين له فذلك لهم رحمة لأن طولَ أعمارهم في الكفر تغليظٌ للعذاب عليهم في الآخرة, وأما المعاهدون له فعاشوا تحت ظله وعهده وذمته خيرَ معيشة, وأما المنافقون فحصل لهم بإظهار الإيمان حقن دمائهم وأموالهم وجريانُ أحكام المسلمين عليهم, فهو لكل أحدٍ رحمة وإنما بُعِث رحمة
هو رحمة للناس مهداة فيا ** ويل المعاند إنَّه لا يرحم
وثالثاً: لكمال رحمته ورأفته بأمته خاصة (عزيزٌ عليه ما عنتم حريصٌ عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم)..
ثبت في مسلم أنه صلي الله عليه وسلم تلي قول الله عن عيسي (إن تعذبهم فإنهم عبادُك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم).. فرفع يديه صلي الله عليه وسلم اللهم أمتي أمتي ثم بكي فقال الله يا جبريل اذهب إلي محمد فقل إنا سنرضيك في أمتك ولا نسؤك جدير والله بمن كان علي مثل تلك الرأفة والرحمة أن تتوجه قلوبُ المسلمين إليه وقد كان..
ملكت سجاياهُ القلوبَ محبةً ** إنَّ الرسول إلي القلوب حبيبُ
وكيف لا يكون كذلك وقد قضي أنَّ من كتب له محبته أحبه أهل السماء بأمر الله ثم وضع له القبول في أرض الله كما ثبت في صحيح البخاري رحمه الله..
فيا عبد الله إذا كان هذا الشأنَ في عامة عباد الله فأولي الناس بهذه المحبة أفضل خلق الله رسول الله
صلي عليه ما هبَّ الصبا ** وغرد الورقُ علي ذُري الرُبي
ووالذي نفسي بيده لقد تحقق هذا وأضعاف أضعافه فلم تعرف الدنيا رجلاً فاضت القلوب بحبه وفدته بالغالي والنفيس مثلَ ما عُرف عن رسول الله صلي الله عليه وسلم.
يخرج أهل مكة من الحرم ليقتلوا أسيراً مسلماً محباً صادقاً ويُرفع علي الخشبة ثم يُقال له ننشدك الله أتحبُّ أن محمداً مكانك تُضربُ عنقه وأنَّك آمنٌ في أهلك فقال: والله الذي لا إله إلا هو ما أُحِبُّ أن محمداً الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وأني جالس في أهلي من هول موقفه وشامخ حُبه ** لم يدري قسٌ ما البيان وأكثم
لا عجب فأن الذين ناصبوه العداوة لم يملكوا أنفسهم من سيطرة الإعجاب به صلي الله عليه وسلم..
نطق العداة بفضله لظهوره كُرهاً ** وقد حرصوا علي إخفائه
(فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون) يقولُ اليهودي حين رأي رسول الله صلي الله عليه وسلم لأول مرة والله ما وجههُ بوجه كذَّاب حاله:
فهبني قُلتُ هذا الصبحُ ليلٌ ** أيعمي العالمون عن الضياءِ؟
وقالت الظعينة المسافرة حين رأته لأول مرة لقد رأيت وجه رجل لا يغدُر ما رأيت شيئاً أشبه بالقمر ليلة البدر من وجهه
إن القلوب إذا طوت أسرارها ** أبدت لك الأسرارَ فيها الأوجه
معشر الإخوة إن رسول الله صلي الله عليه وسلم لغني عن حُبنا له فلا يزيده حُبنا رفعة ولا يبخس بعدمه منزلة
فكم حباه ربنا وفضله ** وخصه سبحانه وقوَّله
من أحبه كانت له هذه الثمرات
أولاً: الشعورُ بحلاوة الإيمان تلذذاً بالطاعات وتحملاً للمشقات وإيثاراُ لذلك علي جميع أعراض وأغراض الحياة ثبت أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: ثلاثٌ من كُنَّ فيه وجد بهنَّ حلاوة الإيمان منها أن يكونَ الله ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما
وللإيمان حلاوة في القلب لا يعبر عنها إلا من ذاقها فاللهم لا تحرمناها..
ثانياً:أن محبه سيكون معه في الآخرة وكفي بها من ثمرة عالية في الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: جاء رجل إلي رسول الله صلي الله عليه وسلم فقال يا رسول الله كيف تقولُ في رجلٍ أحبَّ قوماً ولم يلحق بهم فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم: "المرءُ مع من أحب" وقال لآخر "أنت مع من أحببت"..
ورد البشيرُ بما أقرَّ الأعينَ ** وشفي النفوس فنلنَ غاية المني
فما فرح الصحابة بشيءٍ فرحهم بذلك يقولُ أنسٌ رضي الله عنه "فأنا أحب النبي وأبو بكر وعمر وأرجوا أن أكون معهم وإن لم أعمل بأعمالهم", عبد الله إن أردت اللحاق بهم فأحبهم واسلك طريقهم وابذل غاية جهدك واستفرغ وسعك إن فعلت كنت معهم ولو لم تبلغ عملهم
يـا رب فاجمعنا معاً بنبينا ** في جنة تَثني عيون الحسد
في جنة الفردوس فاكتبها لنا ** يا ذا الجلالة والعلي والسؤدد
معشر الإخوة ولما كَثر المدعون للمحبة طولبوا بإقامة البينة علي صحة ما ادعوا
فإن كنت في دعوى المحبة صادقاً ** ففي شرعنا برهانُ دعوى المحبة
وفي شرعنا أن المحبة طاعةٌ ** وسيرٌ علي منهاج خير البرية
فيا عبد الله قلب ناظريك في هذه الشواهد والبراهين فإن توفرت فيك فاحمد الله وسل الثبات علي ذلك, وإن فقدت بعضها أو كلها فحاسب نفسك قبل أن تُحاسب في يومٍ لا ينفع فيه مالٌ ولا بنون, في موقفٍ ما فيه إلا شاخصٌ أو مهطعٌ أو مُقنعٌ للراسِ
فلا خير في قولٍ أتي دون حجةٍ ولن تثبت الأقوال للعبد هكذا ولابد في إثباتها من أدلة..
شاهدُ المحبة الأول:
الحرص علي رؤيته صلي الله عليه وسلم وصحبته حياً وميتاً من أحبهُ حقاً رَغِبَ في صحبته وحرص في الدنيا والآخرة علي رُفقته لو خُيِّر بين نعيم الدنيا بحذافيرها وبين رأيته ما آثر شيئاً علي رُؤيته وصحبته وحاله:
خيالك في ذهني وذكرك في فمي ** ومثواك في قلبي فأين تغيب؟
ها هو أبو بكرٍ رضي الله عنه وأرضاه يُجسِّدُ ذلك في حديث الهجرة كما ثبت في البخاري أنَّ رسول الله صلي الله عليه وسلم خرج في نحر الظهيرة مستخفياً في وقتٍ يلوذ الناس فيه ببيوتهم من شدة الحر فلا يتجولُ في تلك الساعة في الطرق سوي السموم والسراب
ويُقبل علي الصديق وذلك في نحر الظهير وساعةٍ زيارته في مثلها لم تقدَّمي
فصاحت له أسماءُ إذ بَصُرَتْ به تقول أبي ذا جاءك المصطفي السمي
فقال أبو بكرٍ فداءٌ له أبي وأمي لماذا جاء في غير مقدمي
وبالغ في إكرامه ثم قال يا رسول الإله الحقِ خذ في التكلمي
فقال أزل عنك الصواحب قال لا يضرن فهنَّ الأهلُ لا بأس كلِّمي
فقال إني أمرت بهجرتي وأخرجَ من بيتي لطيبة فاكتمي
وقال نعم إذ رام صحبته له فعين أبي بكرٍ سروراً همت هُميّ
الصِّحابة بأبي أنت وأمي يا رسول الله قال رسول الله صلي الله عليه وسلم نعم فاندفع يبكي فرحاً وقمة الفرحِ أن يشفع ببكي إنه حُبٌ صادق أفرزه أيمانٌ وُزن بإيمان الأمة فرجح بها فصار يري المخاطرة مع الرسول قربة وشرفاً يُعبر عنها بالبكي
فعلمتُ أن من الدموع محدثاً ** وعلمتُ أنَّ من الحديث دموعاً
تقول عائشةُ رضي الله عنها: "والله ما شعرتُ قط قبل هذا اليوم أن رجلاً يبكي من الفرح حتى رأيتُ أبا بكر يبكي يوم إذ " وحُقَّ له ذلك إذ صار ثاني اثنين فائزاً برفقة خاتم النبيين فكيف يملك العينين؟ حاله:
كيف السبيل لكتم أسرار الهوى ** ولسانُ دمعي بالغرام يترجم
وها هي الأنصار تجسد المحبة في أبهي صورها في استقباله عند هجرته
حُبٌ مدي الأيامِ ينشر ذكره ** ويُذاع في كل البقاع وينقل
لما سمعوا بمخرج رسول الله صلي الله عليه وسلم من مكة ساروا علي طريق مكة يترددون يغدون كل غداة إلي الحرة ينتظرون حتي تغلبهم الشمس علي الظلال وبِحرِّ الظهيرة يؤذون فيرجعون وما زال الموكب الميمون يسير
يصبوا إلي بان العقيق ورنده ** وعراره وأراكه وبشامه
وحال الانصار في انتظاره
أقبل فتلك ديار طيبة تقبل ** تهديك من أشواقها ما تحمل
القوم مذ فارقة مكة أعينٌ ** تأبي الكرا وجوانح تتململُ
يتطلعون إلي الفجاجِ وقولهم ** أفما يُطالعنا النبي المرسل
وفي ذات يوم وقد عادوا إلي بيوتهم غير آيسين وإذا بيهودي يصرخ يا معشر بني قيلة هذا جدكم الذي تنتظرون.
خفَّ الرجالُ إليه يهتف جمعهم ** وقلوبهم فرحاً أخفُ وأعجل
لو يقدرون مشوا علي وجناتهم ** وعيونِهم فضلاً عن الأقدام
تلقوه وقد تحولوا إلي مشاعر تُقله تظله تتوهج من حوله فمال بهم ذات اليمين إلي قُبي لينزل فيها في بني عمرٍ الكمي, نزلَ في بني عمرو بن عوف فما نزلَ بها مثلهُ من ضيف نعمت قُباء به تحتضنه كأمه وتبشر به من أمه مكث بها بضع عشرة ليلة وحال من في المدينة:
مرحباً يا مرحباً يا مرحباً ** بنسيمٍ هبَّ من تلك الرُبي
عبقُ الأرجاء طيب دلني ** أنهُ من طيب سُكان قبي
ثم اندفع إلي المدينة في يوم فرحٍ وابتهاجٍ لم تري المدينة يوماً مثله أبداً, المدينة في تلك اللحظات تتيهُ بالمشاعر تتزين للقاءِ من طالَ الشوق له
فيكاد من فرط التشوق عندها ** ترب الصحاري يستخف فيُورق
إنها لحظات يتمني كل مسلم أن يعيشها وأن يسكُبَ شيئاً من الدموع فرحاً بها الموكب يتحرك ببطئ, الطريق قد ازدحم بسيل الدموع وابتسامات الأطفال ولفتات الجموع
يقف الخطيب بها ويهتف ** شاعرٌ قلبي المقامُ لكم وفيه المنزل
وسار علي القصواء يُرخي زمامها يقول له كلٌ بننزل وهل مُمي كلما مر بدارٍ من دور الأنصار امسكوا بزمام الناقة لينزل عليهم وهو يقول: دعوها فإنها مأمورة وعلي الطرق وفي البيوت لا تكاد تسمع إلا الله أكبر جاء رسولُ الله فكأنما في كل قلبٍ روضة وكأنما في كل دارٍ بلبلُ المدينة كلها سلاحها رجالها نسائها أطفالها شعابها جبالها أشجارها أحجارها فجاجها كلٌ كني عن حبه بلغاته ولربما أبكي الفصيحَ الأعجمُ, الموكب يتهادي بين القلوب والبيوت الأطفال يركضون يقفزون يهتفون وببرائة العيون في خلل الزحام عن صاحب الناقة يبحثون وبلغتهم يُعبِّرون, فيهم أنسٌ رضي الله عنه يصفُ ذلك بحروف تنبض بالمشاعر فيقول: إني لأسعي في الغلمان وهم يقولون جاء محمدٌ رسول الله فلا أري شيئاً وأسعي ولا أري شيئاً فكم أنا له في بعض جدر المدينة حتي جاء فخرج أهل المدينة حتي إن العواتق فوق البيوت يترائينه فما رأين منظراً شبيهاً به يومئذ والله لقد أضاء من المدينة كلُّ شيء, ولم يُري في تاريخها من حفاوة تعادلها مهما يفد من معظم فذاك يومٌ طيبه من كل طيب أطيب من طيبه أرجائهم ما برحت تختضب
أنسٌ رضي الله عنه لم يزل الطفل الذي لا يهدأ طافَ المدينة ينظر وينقل فيذكر بعد أن النبي صلي الله عليه وسلم مرَّ بحيٍ من بني النجار وجويرياتٌ يُنشدن:
نحنُ جوارٍ من بني النَّجارِ ** يـا حبذا محمدٌ من جارِ
فيقول صلي الله عليه وسلم "اللهُ يعلمُ أن قلبي يُحبكن", يا له من نبي ما أعظمه ما أرقَّ مشاعره يعلن حبه للصغير والكبير في البيوت وعلي الطرقات بل ويُعلن حبه حتي للجبال يمرُ بعد من عند أحد فيقول: "هذا أحد جبلٌ يحبنا ونحبه "..
فحال أحد:_
من أبي أنت وأمي أقربُ ** مذ رأي وجهك طرفي المعجبُ
وما زال الموكب يسير القلوب له بيوت والبيوت له قلوب الأيدي إلي الزمام تمتد العيون تشخص القلوب تحتضن الركب يتواصل النداء يشتد المنزلُ عليَّ أيها النبي تتنافس الأنصارُ فيه وما دروا لمن المفازُ وأيهم هو أوَّلُ؟
متجعون كأنهم سربُ القطا ** متدفقون كأنهم أنهار
بهم القلوب حدائقٌ بسَّامةٌ ** أني التفت جلالةٌ ووقار
وأمام بيت ابي أيوب ذهبت مطيته فقيل لها قفي هذا المناخ فلستِ ممن يجهلُ لم يُنزلوه علي الخئولة وحدها كل المواطن للنبوة منزل, نزل صلي الله عليه وسلم عن ناقته ازدحم عليه أنصاره كلٌ يعرض عليه النزول ويتسللُ أبو أيوب رضي الله عنه فيأخذ رحل النبي صلي الله عليه وسلم إلي بيته وهم في خضم ذلك قال صلي الله عليه وسلم أين رحلي؟ قال أبو أيوب هو عندي قال: المرئ مع رحله هيئ لنا مقيلاً وقد هيأه حلَّ في دارِ أبي أيوب وقلب أبي أيوب المدينة كلها تغبطه تعرف الشَّرف الذي حلَّ بين جدران منزله لا تسأل المغبوط عن حالهِ جارٌ كريم ومحل خصيب..
شكراً ابا ايوب فُزت بنعمة ** فيها لنفسك ما تريد وتسأل
لله دارك من محلة مؤمنٍ ** نزل الحمي فيها وحلَّ المعقل
نزل النبي بها فحل بنائها ** مجدٌ يقيم وسؤددٌ ما يرحلُ
أي والله .. لكن رسول الله صلي الله عليه وسلم نزل في سفل الدار عن رغبة منه أما أبو ايوب فبرغم شدة فرحه برسول الله صلي الله عليه وسلم فقد كان في حرجٍ عظيم لو رأيته وهو يسير في منزله لأشفقت عليه لا يتحرك إلا في مساحة ضيقة من عُلية بيته لا يتعداها في حسٍ مرهف وإيمانٍ عميق يخاطب نفسه ويقول: ويحك أبا أيوب أتعلو رسول الله صلي الله عليه وسلم, وأصبح فأتي النبي صلي الله عليه وسلم فقال : لا تكون تحتنا بأبي أنت وأمي ونفسي يا رسول الله, فقال صلي الله عليه وسلم يا أبا أيوب السفلُ بنا وبمن يغشانا فقال أبو أيوب والله لا أعلو سقيفةً أنت تحتها يا رسول الله, فتحول رسول الله صلي الله عليه وسلم وقرَّت أعينُ أبي أيوب رضي الله عنه وأرضاه
خلقٌ كما خطر النسيم ** فهزَّ أعطاف النبات
وشمائلٌ علويةٌ أصفي ** من الماء الفرات
أما إنه لا غرابة فيما قام به أبو أيوب إنه ابن سحابة تحوم في سماء الإيثار إسمها الأنصار (يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون علي أنفسهم ولو كان بهم خصاصة) هذه شهادة الله يتغني بها الأنصار يتغني بها بنوا النجار أخوال المختار وأبو ايوب من بني النجار خير دور الأنصار وشهادة رسول الله أن آية الإيمان حبُّ الأنصار وآية النفاق بغض الأنصار
إذا الله أثني بالذي هو أهلهُ ** عليهم فما مقدارُ ما يمدح الورى
لقد أحبوه حباً ملك عليهم مشاعرهم وخالط دمائهم وحلَّ في سويدائهم
وهل يُطيق المرئ ستر الهوي ** من بعد ما استولي علي لبه
ها هو أحدهم يأتي رسولَ الله صلي الله عليه وسلم ذات يومٍ وقد تغيَّر لونه يُعْرَفُ الحزن في وجهه فقال له رسول الله ما بك؟ فقال يا رسول الله ما بي من شيء إلا أني إذا لم أرك استوحشت وحشة شديدة حتي ألقاك ثم أني إذا ذكرتُ الآخرة أخافُ ألا أراك, إن دخلت الجنة كنتُ في منزلة دون منزلتك, وإن لم أدخلها لم أرك أبداً فصمت رسول الله صلي الله عليه وسلم يوحي إليه ثم قال: قال الله (ومن يُطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبين والصديقين والشهداء والصالحين وحَسن أولئك رفيقاً ) فلا تسأل عن حاله نطقت مدامعه بسرِّ ضميره وبكت جوانحه بنار غرامه والكونُ أشرق والفضاء تعطر والأفق كلله السرور فلا أسي..
وبعد عامٍ من وفاة رسول الله صلي الله عليه وسلم قام الصديقُ رضي الله عنه يخطب فلم يملك عينه حين ذكر رسولَ الله صلي الله عليه وسلم يقول: سمعتُ رسولَ الله في هذا اليوم من عام الأول ثم استعبر أبو بكرٍ وبكي ثم أعاد سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم في هذا اليوم من عام الأول ثم خنقته العبرةُ ثلاث مرات ثم مضي في خطبته لا يكاد يُفهم ما يقول
صورة للحب ما أصدقها ومن التصوير تزييف ومين لله أحباب مضوا ما مثلهم بين الوري في الصالحين نظيرُ ..
ولما حضرته الوفاة قال أيُّ يومٍ هذا؟ قالوا يوم الاثنين قال فإن متُ من ليلتي فلا تنتظروا بي إلي الغد فإن أحب الأيام والليالي إليَّ أقربها من رسول الله صلي الله عليه وسلم
فاجمع بمن أهواهُ شملي عاجلاً ** يا جامع الأرواح بعد شتاتها
هكذا كان الصادقون في محبته صلي الله عليه وسلم فمن ادعي المحبة فعليه البينة وليرمي عن قوس الحقيقة من ادعي حُبَّ الكرام البررة فاستشهدوا أخلاقه وسيره أفمن أحبَّ أشياء أخري كقنواتٍ وشبكاتٍ ومحرماتٍ وشهواتٍ وبذلَ فيها المالَ والوقت لمشاهدتها والإستماع إليها وتضييع حقوق الله بسببها والفرح برؤيتها والأسف علي فوات شيء منها يُعتبر محباً حقاً كلا بل هو دعي لقيط ما له نسبة الولاء إلي المصطفي فانظر لفعل الفتي تعرف مناسبه إنَّ الفعال لأصل المرئ إعلام وما كل من هزَّ الحسام بضاربٍ ولا كلُ من أجري اليراع بكاتب
الشاهدُ الثاني:
بذل النفس والمال دونه صلي الله عليه وسلم كل محبٍ صادقٍ يترقب فرصة يتمكن فيها من بذل روحه وما ملكت يمينه لمن أحبه وصحابة رسول الله صي الله عليه وسلم كلهم ذاك الرجل ومن بعدهم يجدون الحسرة في نفوسهم لفوات تلك الأمنية فيبذلونها لنصرة شريعته وسنته جعلنا الله منهم هاكَ قطوف من محبة السلف يهني جناها من علي الحق وقف..
أبو بكرٍ رضي الله عنه سحابةٌ من حبٍّ تظل رسول الله صلي الله عليه وسلم في طريقه إلي الغار جعل من جسده درعاً يحمي به رسول الله صلي الله عليه وسلم يتذكر الطلب والرصد فيمشي بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله يقلب عينه خوف عليه تقلب العين دليل علي ما اضمر الإنسان في لبه لمحهُ صلي الله عليه وسلم فقال يا أبا بكر لو كان شيئٌ لأحببت أن يكون بك دوني قال نعم والذي بعثك بالحق
فمن لم يَجُدْ بالنفس دون حبيبه ** فما هو إلا مارق الود كاذبه
ذاك جسد المحب أما ماله فمنثور بين يدي رسول الله حمله أبو بكرٍ كله وقدمه لله كله فلم يكن الصديق أبقي لأهله من المال شيئاً ما ولم يتبرم لذا فإن عمر لما سمع من يفضله عن أبي بكرٍ احمر وجهه وغضب ثم ذكر ليلته تلك وقال والذي نفسُ عمر بيده لتلك الليلة خيرٌ من آل عمر إِيهٍ إِيه
إنما يقدر الكرام كريمٌ ** ويقيم والوزن الرجال الرجال
يقومُ الصديق خطيباً في أهل مكة فثار عليه المشركون وضربوه ضرباً شديداً غيَّر ملامحَ وجهه ثم حمل إلي بيته في ثوب فاقد الوعي لا يُشك في موته فما تكلم إلا آخر النهار تُري ما أولُ ما قال؟ لقد قال ما فعل رسولُ الله صلي الهك عليه وسلم, يالله رجلٌ بين الحياة والموت ينسي نفسه ويُذهل عن آلامٍ تُمِضُّ جسده ليذكر شيئاً واحداً وهو السؤال عن رسول الله صلي الله عليه وسلم يُعرض عليه الطعام فيأبي ويقول إن لله عليَّ أن لا أذوق طعاماً أو أشرب شراباً حتي أري رسول الله صلي الله عليه وسلم ما فعلَ رسول الله صلي الله عليه وسلم فلم يهدأ حتي حُمل فرأي رسول الله صلي الله عليه وسلم سالماً لقد كان يشعر بأن حياتة وكل ما يملكه لا يساوي شيئاً أمام سلامة رسول الله صلي الله عليه وسلم حاله
لا بك السوءُ ولكن كان بي ** وبنفسي وبأمي وبأبي
والله لإن عجزت الأقلام وكلت القرائح عن تصوير الدرجات العلي من الحب لرسول الله فإن ابو بكرٍ جسَّم وجسد أعلي هذه الدرجات بما لا تحمله الألفاظ مهما أوتيت من بلاغةٍ وبيان
فلو نطق الخليلُ لقال ** هذي معانٍ ما رأتها قط عيني
ووالله إن المرئ ليجد نفسه عاجزاً عن تصوير كل ما يجول بخاطره ومشاعره وأحاسيسه أما جلالة وإيثارة هذه المشاهد فلا يملك المدامع
والدمعُ يُعرب ما لا يُعرب الكلمُ ** والدمعُ عدلٌ وبعضُ القول متهم
وفي أحد حين حصل الخلل والإضطراب في الصفوف قال رسول الله صلي الله عليه وسلم من للقوم فتقدَّم أقوامٌ وقتلوا, ثم نادي أخري من للقوم فتقدم طلحةُ رضي الله عنه وضيته التي تملئ جوانحه هي نجاة رسول الله ولو قُطِّعَ في سبيل الله حاله:
من ولوا الأدبار خوف ** الموتِ ماتوا ثم ماتوا
جعل يَكِرُّ علي المشركين حتي يدفعهم ثم يأخذ رسول الله صلي الله عليه وسلم فيرقي به في الجبل حتي يُسنده ثم يَكِرُّ علي المشركين أخري حتي صدهم عن رسول الله صلي الله عليه وسلم, دمائه تنزف يدهُ شُلَّت قطعت كفه سقط في حفرةٍ مغشياً عليه وحاله: لا أبالي بعدُ إذ سَلِمَ رسول الله صلي الله عليه وسلم..
ومن قبل ينحني أبو دُجانة علي رسول الله صلي الله عليه وسلم يتلقي النبل في ظهره حتي كَثُرَ فيه وهو لا يتحرك, ويشرف النبي صلي الله عليه وسلم لينظر إلي القوم فيقف دونه أبو طلحة رضي الله عنه ويقول: لا تُشرف بأبي أنت وأمي يا رسول الله لا يُصيبك سهمٌ من سهام القوم
نحري دون نحرك وجهي لوجهك ** الفدي ونفسي لنفسك الوقي
لو مادت الأجبال من تحتهم أو خرت الأفلاك ما زُعزعَ حدائهم
دعني من الدنيا ** فبالفردوس قد حدت الحداة ..
أما سعد بن الربيع فبه سبعون ضربه لم يبقي بينه وبين الآخرة إلا لحظات وقد نسي نفسه وشُغل فكره بمن هو أحبُ إليه من نفسه يقول لزيد رضي الله عنهم أجمعين أقرئ رسول الله مني السلام وقُل له إني لأجد ريح الجنة وقُل لقومي الأنصار لا عُذر لكم عند الله أن يُخلص إلي رسول الله صلي الله عليه وسلم وفيكم عينٌ تَطرِفْ ثم فاضت روحه رضي الله عنه
نصرة المختار في أعماقه ** وصدي التوحيد يُروي أضلعه
حاله:
وما المرئ إلا حيث يجعل نفسه ** وإني لها فوق السماكين جاعلُ
فهل علمت مثلهم يا ذا الحجي لزينة الدنيا ومحوٍ للدجي لا والله, فيما نفكر؟ ماذا يشغل بالنا بم نوصي عند توديعنا اللهم اعفُ عنا وارفع ما بنا
فإن سري البرق من أكنافِ أرضهمُ أقول من فرط شوقي ليتني المطر..
فلا تصدق وداداً قبل شاهده ** قالكحل أشبه في العينين بالكحلِ
الشاهد الثالث:
إمتثال أوامره واجتناب نواهيه صلي الله عليه وسلم ( وما آتاكم الرسولُ فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ) من أحب محمداً صلي الله عليه وسلم كان هواه تبعاً لما جاء به وكان صورةً حية متحركة للإسلام يتجلي الإسلامُ في جميع تصرفاته ومواقف صحبه رضي الله عنهم تنطق بذلك وتؤكده إن عُدَّ أهل التقي كانوا أئمتهم أو قيل من خير أهل الأرض قيل همُ علموا أن محبته طاعة الله (من يُطع الرسولَ فقد أطاع الله) وسمعوه يقول وجُعل الذُل والصَّغَارُ علي من خالف أمري فاتبعوه فالعالم اقتادوه..
كلُّ من بالحق أحيا نفسه ** لا تري الباطل يُحني رأسه ..
يرغب صلي الله عليه وسلم في تخصيص بابٍ للنساء لدخول المسجد فيقول لو تركنا هذا الباب للنساء يقول نافع مولي ابن عمر رضي الله عنهما فوالله ما دخل ابن عمر من ذلك الباب حتي مات, خلالٌ يفوحُ المسك عنها محدثاً ويُثني علي آثارها الملوان ..
أبو هريرة رضي الله عنه كما في البخاري يقول: لقد حرَّم رسول الله صلي الله عليه وسلم ما بين لابتي المدينة فوالله لو وجدت الظباء بها ساكنة ما ذعرتها وما أفزعتها حاله:
سأتبعه ما دام في القلب خافقٌ ** وما طافَ فوق الأرض حافٍ وناعلُ
نعم إن محبته تعني أن يُخضع المرء رغباته لما جاء به رسول الله موقناً أن الخير في ذلك وإن خالف مبتغاه فلا يَحِقُ أن نضع رأي جميع أهل الارض في كِفة ونضع في الأخري هدي محمدٍ صلي الله عليه وسلم (فلا وربك لايؤمنون) هذا هو الشاهدُ العدل والميزان الفصل من مال عنه هوي ومن أطاع الهوي هوي من سعي في غير حلبته كان موقوفاً علي التهم
لا تقل كيف ولا أين الوصولُ ** واتبع خيرَ الملي ذاك الرسولُ
الشاهدُ الرابع
نصر سنته والذب عن شريعته لقد بذل المصطفي صلي الله عليه وسلم حياتهُ لله وجاهد وقاتل حتى لاتكون فتنة ويكون كله الدين لله فلم يألو جُهداً في إشاعة دينه ولم يخشي في التبليغ لومة لُوَّمِ واقتدي به المحبون فبذلوا كل ما يملكون
أرادوا بذاك اقتفاء أحمدٍ ** ورضوان ذي العرشِ والعزة
شاع بين الناس في أحدٍ أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قد قُتل فعَقِرَ بعض الصحابة وجلسوا فأقبل أنس بن النضر وقال ما يجلسكم قالوا قُتل رسول الله صلي الله عليه وسلم قال فماذا تصنعون بالحياة بعده قوموا فموتوا علي ما مات عليه رسول الله صلي الله عليه وسلم الجنة وربِّ النضر إني لأجد ريحها من دون أحد..
له هيبةٌ في وجهه وفعاله ** فلو شاهدته الأسد كانت تهابهُ
فما استطاع أحدٌ ما صنع ووجد مقتولاً قد مَثَّل به المشركون
روضة الحق ارتوة من دمه ** عزَّ أهلُ الحق في الدنيا به
حرامُ بن مِلحان رضي الله عنه إمامٌ سوي أن الشجاعة تاجُهُ هزبرٌ سوي أن البلاغة غابه طُعن من خلفه وهو يُبلغُ رسالة رسول الله صلي الله عليه وسلم حتي أنفذه الرمح وبقية لديه فرصة للتعبير عما يدور في نفسه من غبطة بتبليغ رسالة الرسول الكريم فقام ينضح الدمَّ علي وجهه وجسده ويقول: "اللهُ أكبر فزتُ وربِّ الكعبة فزتُ وربِّ الكعبة"
بزمزمة تنسي الرعود هزيمها ** وتثقبُ آذان النجوم الثواقب
فهزَّ الموقف قاتله فأسلم وحاله: وربِّ الكعبة أنه للفوز
فإلي ما العيش في التُرب ارحلَ ** إصعداً فوق السمواتِ العُلي
ولما ارتدت العرب بموتِ رسول الله صلي الله عليه وسلم وقصدوا مهاجمة المسلمين في المدينة وصار الصحابة كما وصفهم عمَّارُ رضي الله عنه كنعمٍ بلا راع والمدينةُ أضيق علي أهلها من الخاتَم في هذا الظرف الحرج العسير يأتي أمر أبي بكرٍ بتنفيذ بعث أسامه من بعد الغدِ من متوفي رسول الله صلي الله عليه وسلم, قائلاً ألا لا يبقين بالمدينة أحدٌ من جند أسامة إلا خرج ..
جرِّد السيفَ أبا بكرٍ فما ** طُبِعَ السيفُ ليبقي مغمداً
ولما استأذن في تأخير بعث الجيش نظراً لتقلب الأحوال أرعد وأبي إبائاً إباء البكر غير مُذللِ وعزماً كعزم السيف غير مُفلَّلِ وقال والله ما كنت لأستفتح بشئ أولي من إنفاذ أمر رسول الله ولأن تخطفني الطير أحب إلي من ذلك أأحبس جيشاً بعثه رسول الله لقد اجترأت علي شيءٍ عظيم والذي نفسُ أبي بكرٍ بيده لو لم يبقي في القري غيري لأنفذته امضي يا أسامه للوجه الذي أمرك به نبي الله ولا تقصر في شيءٍ من أمر رسول الله دمه كالبرق فيه لاهب وفي الحق حثيثٌ دائب تفزع الأعداء من هيبته في ارتعادٍ من سنا طلعته, فخرج أسامةُ بالجيش فما مرَّ علي حيٍ من العرب إلا دخلهم الرعب وقالوا ما خرجوا إلا بمنعةٍ وقوة فخارت منهم كلُ قوة فمن يُصاولُ ليثاً وهو غضبان؟؟
لم تُغن عنهم سيوف الهند مسلطتاً ** لما أتتهم سيوف الواحد الصمد
وهكذا استن أبي بكرٍ بسنة رسول الله ونصرها فنصره الله وذلكم شاهدُ المحبة والله ..
وهل يُرتجي للأمرِ إلا رجالهُ ** ويأتي بوابل المزن إلا السحائب
الشاهد الخامس
محبة من أحبه صلي الله عليه وسلم من صحابته الأبرار وأهل بيته الأطهار برهانُ حبه
أيا ساكني أكنافَ طيبةَ كُلُكُمْ ** إلي القلبِ من أجلِ الرسول حبيبُ
لما وجدت فاطمة علي أبي بكرٍ رضي الله عنه حين سألته ميراثها فقال بقول النبي صلي الله عليه وسلم: " لا نُورث ما تركناه صدقة " هجرته فهي بنتٌ من بنات آدم تأسفُ كما يأسفن, لكنَّ ذلك عَظم عليه كثيراً وجاء علياً رضي الله عنه فذكر عليٌ مكانة أبي بكرٍ وقدره قدره وقال له لكنا كنا نري لقرابتنا من رسول الله صلي الله عليه وسلم نصيباً ففاضت عينا أبي بكرٍ رضي الله عنه ثم قال: والذي نفسي بيده لقرابة رسول الله أحبُ إليَّ من أن أصل قرابتي وأما هذه الأموال فإني ما رأيت رسول الله صلي الله عليه وسلم صنع فيها شيئاً إلا صنعته والحال: فلو قال لي مُتْ مِتُّ سمعاً وطاعتاً ** وقلت لداعي الموت أهلاً ومرحباً
لقد ثبتت في القلب منكم محبةٌ ** كما ثبتت في الراحتين الأصابعُ
فكانت عند علي
أشهي علي الاسماعِ من نيل المُني ** وألذَّ في الأجفان من سنة الكرا
بل إن عمر رضي الله عنه قد فرض لأسامه أكثرَ مما فرض لإبنه عبد الله فقال عبدالله يا أبتي لم قدمت أسامه ؟ والله ما شَهِدَ مشهداً غبتُ عنه وما شهد أبوه مشهداً غِبتَ عنه, فقال عمر صدقت يا بني
يا ربِّ صلي علي النبي المصطفي ** ما غردت في الأيك ساجعةُ الرُّبا
يا ربِّ صلي علي النبي وآله ** ما أمت الزوارُ مسجدَ يثربَ
صلوا علي من تدخلون بهديه ** دار السلامة تبلغون المطلبَ
صلوا علي من ظللته غمامة ** والجذعُ حنَّ له وناصر في الصبا
يا أيها الراجون خير شفاعةٍ ** من أحمدٍ صلوا عليه وسلموا
صلي وسلم عليه ذو الجلالِ ما لبي ملبٍ أو تحلل محرمُ وعلي قرابته المقرر فضلهم وعلي صحابته الذين هموا هموا..
جادوا علوا ضائوا حموا زانوا هدوا ** فهموا علي الست الجهات الأنجمُ
والتابعين لهم بإحسان فهم ** نقلوا لما حفظوه منهم عنهمُ..
أما بعد:
فنضر الله هذه الوجوه التي أحسبها فيما يرضي الله مسفرة مستبشرة ومما يسخطه باسرة متمعرة, تواردت إلي الخير توارد القطي علي منهل لا مقصرة ولا وانية ولا مغبونة سيوفٌ مأثورة تروع مغمدة ومسلولة, تُحدثك عنها سيماها وتُنبؤك عنها عيناها, ففي وجهها عنوان ما بين أضلعي ورب لحاظ نائب عن تكلم, وبتحية الإسلام أحيي هذه الوجوه تحيات دونها عبير السحر وإن كان قريباً وعنبرُ البحر وإن كان غريباً فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته تحياتٍ طيباتٍ زاكياتٍ تغشاكم وتنفحُ الطيبَ في مقدمكم وممشاكم, تحياتٍ إذا زُفت أثارت أريج المسك أو ريح الخزامَ مع ضراعة إلي الله أن يزيد توفيقكم وأن يجعل السداد رفيقكم من أخٍ فخورٍ بكم شفيقٍ عليكم يرجوا أن يكون نصحهُ لكم هدي وشانئكم لكم فدي
فما ضائت بغيركم الليالي ** ولا تمت بغيركم الأمورُ
تميدُ بحسن لقياكم صدور ** وتفتر المباسم والثغورُ
ويشتاقُ الفؤاد إلي لقاكم ** فتغشاه المسرة والحبور
وليس يقاس حبكم بشيءٍ ** وهل وشلٌ تقاس به البحور
خطبتم حسان العُلي فتية ** وسقتم لها الغالي المدخر
فهل من يبلغ عنا الأصول ** بأن الفروع اقتدت بالسير
محي ظلمة اليأس صبح الرجا ** بكم أيها الفلق المنتظر
أيا رب أيا رب عاملنا بلطفك ** إننا نري بجميل الظن ما أنت فاعل
أعذنا من الأهواءِ والفتن التي** أواخرها توهي القوي والأوائل
وحبب إلينا الحق واعصم قلوبنا ** من الزيغ والأهواء يا خير عاصم
معشر الإخوة لا يخفاكم أنه ثبت بالنقل أنَّ الشيطانَ قد يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب, لكنه يسعي في التحريش بينهم بالخصومات والشحناء والحروب والفتن كما صح في مسلم من حديث جابر رضي الله عنه وأرضاه, وجزيرة العرب هي جزيرة الإسلام بكعبتها المشرفة ومدينتها النبوية مهبطُ الوحي ومحضن الإسلام وقبلة المسلمين ومهوي أفئدتهم تتعرض لأخطرِ مرحلة مرة بها منذ أن جمع الله شملها بالإسلام من تربص يهودي صهيوني رابض في فلسطين الجريحة شمالها, وتربص نصراني صهيوني قد تدخل في العراقِ شرقها مشرئباً لها, إلي تسربٍ لأهل الأهواء المنافقين في بعض مساربها, إلي أحداثٍ داخلية مرفوضة تخلخل تماسكها وتهدد وحدتها وتسهل علي المتربصين بها في الخارج مَهَمة اجتياحها, زادت طينها بِلَّة ومرضها علة والله يكلؤها وإيانا بمنه, وعلي هذا معشر الإخوة فإن استقرارها مسؤولية كل مسلم يحمل بين جنبيه قلباً ناصحاً للمسلمين ووحدتها علي الحقِ وحدةٌ للمسلمين وقوتها في مواجهة الباطل قوةٌ لجميع الموحدين وهذا يتطلب من كل ذي عقلٍ ودين أن يبرأ من استباحة حِماها وهدر حرماتها, وأن نوفر كل قطرة دم وقطعة نقد وخلجة نفس وخفقة قلب وحركة ساعد لمواجهة العدو الحقيقي الصهيوني الصليبي الذي يتأهب للانقضاض عليها وهي آخر حصنٍ يمكن أن يستعيدوا المسلمين فيه عافيتهم ويستأنفوا مسيرة دعوتهم
كفَّ الله بأسهم ولم يجعل بأسنا بيننا بل بينهم
ويتحتم أن نعلم أنا كنا أذل قوم فأعزنا الله بالإسلام فهما نطلب العزة بغير ما أعزنا الله به أذلنا الله ونعملَ في ضوء ذلك علي هُدي الله أقول هذا والأمة اليوم بعمومها تمر بمرحلة عصيبة حرجة وخطوبٍ شديدة فها هي المجازر والفظائع والفجائع والفضائح صيحاتٌ ولوعات آهاتٌ وأناتٌ وصرخات, مساجد تُهدم علي المصلين وبيوتٌ تدك علي الآمنين في فلسطين والرافدين بل في غالب بلاد المسلمين
تلك الفجائعُ لو يمر حديثها ** بوليدِ قومي شاب قبل المحملِ
في عالمٍ يقف مع الظالم يُشير ويبارك ويُعين ويُشارك
قد يممته المخازي فهي نازلةٌ منه ** بحيث تلاقي اللؤم والذامُ
كأنما أنفه من طول سجدته ** في حانة الغدر حرفٌ فيه إدغام
تداعوا عليها فصارت كأنها قصعاتٌ طاب مأكلها وقد تداعت علي أصنافها الأممُ ثم ابتليت أخري بمسوخٍ في كل محنة يبرزون يُكثرون النعيق ويتابعون النهيق في ضجيج وعجيج يغسلون النجيع بالرجيع رِيحهم رِيحُ كلابٍ هارشة في يوم طل, يدفعونها للانغماس في مستنقع عدوها بمُره وشره لأنهم عبيدهُ والعبد وما ملك لسيده..
حاروا عليها أغوي من غوغاء الجراد بل كانوا كذئب السُوء لما رأي دماً بصاحبه يوماً أحال علي الدمِ, رموها بسهام من قوسٍ واحدة فأصابوها في مقاتل عدة في حدة
ولو أنه رمحٌ إذاً لاتقيته ** ولكنه رمحٌ وثانٍ وثالثُ
ولم تزل الأحداث تتابع والصراعُ ينتقل من طورٍ إلي طور وهي كأدوات التصدير يسبقها حرف الجر فلا يعمل فيها
فإنك لو رأيتَ عبيد تيم ** وتيماً قلت أيهما العبيد
ويقضي الأمر حين تغيب تيم ** ولا يستأمرون وهم شهود
أقامت دليلاً لا يكذب علي أنها لم ترث من قبيلة امرئ القيس إلا الخلقَ الذي مدحها بها الشاعر فقال:
وأمثل أخلاق امرئ القيس أنها ** صِلابٌ علي طول الهوان جلودها
فهي نائمة ملئ جفونها لم تتمثل من سنن الله إلا أنه جعلَ الليل لباساً بُحَّ الحادي
يا حادي الركبِ هل في القوم يقظانُ ** لبي الجمادُ وما لبَّاك إنسانُ
لو كان صوتك في الصحراءِ أعشبها ** وصار للصخرات الصم آذان
فلا الأذان أذانٌ في منائرها ** إذا تعالي ولا الآذان آذان
تضارب بلا ربح وفي بهيم الليل لا تبحث عن صبح شعر عدوها بخلو غابها من أشباله وميدانها من أبطاله فتجرئوا, حفظوها شعراً بلا روي وفكرة بلا روية فأخذوها ارتجالاً حسبوها عمدة في التركيب الأممي فألفوها مفاعيل وأحوالاً فأعربوها إعرابَ الفضلات وعاملوها معاملة المُهملات راضوها علي المهانة حتى لان جانبها فصاروا لا يبالون برضاها ولا يأبهون لسخطها علموا أن غضبتها غضبة عاجزٍ لا تبكي ولا تنكي
أخني الوهن علي الفنن أبدله صاباً بمن, يشهد بذلك الواقع والتاريخ والخبر
صارت كلفظةِ شاعرٍ يُؤتي بها ** لضرورة الأوزانِ في كلماته
وما ظلمهم الله فقد قضي الله (إنَّ الله لا يُغِّيرُ ما بقومٍ حتى يُغيِّروا ما بأنفسهم ) ويميناً برة لا حنث فيها ولا تأويل لو أن الأمة فَهِمَتْ القرآن علي حقيقته وقامت بحقوقه كما جاء بها رسوله صلي الله عليه وسلم واستثمرت العقول المهتدية المنيرة بهداة لكانت شمساً لا تحجبها الغرابيل ترفع الإشكال وتزهق الأباطيل, لكنها حادت فعوقبت بما كسبت فعلي نفسها جنت
دائُنا فينا ولو أنَّا اعتصمنا ** بكتاب الله ما استفحل دائنا
ومع ذا فما زالت الرصافة منبت حصافة وما فتئنا نلمح وراء كل داجيةٍ نجم يُشرق ونسمع بعد كل خفتة صوتاً يخرِق يهدي الحائر إلي مخرج..
فإن رمي الليل بظلمائه ** فوق الروابي واعتزي بالرياح
وصار كهفاً مرعباً مظلماً ** فبشر الدنيا بنور الصباح
وعليه فإن علة العلل في الضعف والوهن هي ضياع الحقوق وعلي رأس الحقوق المضيعة توحيدُ الله ووالله لطلوع الشمسِ من مغربها وانصباب ماء النهر في منبعه أقرب من رجوع المسلمين إلي سالف عزهم ما دام فئام منه يقفون بين يدي أهل القبور بلا نكير كما يقفون بين يدي العزيز الغفور والتمسوا الحاجات من موتاهم واتخذوا إلههم هواهم لأن الله قضي ولا راد لما قضي (وليبدلنَّهم منْ بعدِ خوفهم أمناً يعبدونني لا يُشْركُون بي شيئاً)..
(الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن )..
فيا شديد الطول والإنعام ** إليك نشكوا محنة الإسلام
ومما ضُيِّعَ من الحقوق محبة رسول الله صلي الله عليه وسلم فقد شوهت بين غلو الغالي وجفاء الجافي وهي نص حديثنا الآتي:
بتنا علي ظمئٍ وفينا المنهل ** وحي النبوة والكتاب المنزل
والداء منا والطبيبُ أمامنا ** يَصِفُ الدواء لنا ونحن نعطل
لهذا كانت هذه الكلمات بعنوان:
نفحُ الطيب في محبة الحبيب
حداني إليها حُبُّ رسول الله صلي الله عليه وسلم ومن أحبَّ شيئاً أكثر ذكره وأفاض وأطنب كيف وقد حكم أن المرء مع من أحب
إني أري حبَّ النبي عبادةً ** ينجوا بها يوم الحساب المسلم
لكن إذا سلك المحبُ سبيلهُ ** متأسياً ولهدية يترسم
إنها لُمعٌ نقدمها لمن أحبَّ رسول الله فأحب هديه وسنته تقولُ له عضَّ علي هديه واقف أثره كالنعت يتبعُ دائماً منعوته ** في وضع صيغته وفي حركاته،
إنها ندبة تفجع تقول وا ضيعتاه أتصبحُ محبةُ رسول الله صلي الله عليه وسلم عند فئة حيدة عن دينه..
كيف لا أدري لماذا ربما ** أني يوماً عرفت السبب
عالم يدعوا بدعوي جاهل ** وليوث الحرب ترجوا الأرنب
إنها وخزة لعلها تثير الإحساس عند أدعياء المحبة من رأسُ مالهم التدجيل والأباطيل من أحكموا الحيلة علي العامة فخدروهم وزعزعوا عقيدتهم وأفسدوا فطرتهم وأضلوهم ثم أذلوهم أرادوهم أن يعبدوهم من دون الرحمن وهو ما يئس منه الشيطان لصوصٌ ويزيدون علي اللص وما يزيدون إلا في النقص أنهم يتلصصون باسم الدين فنسبتهم إلي المحبة والسنة كنسبةِ عمرو الذي قال فيه الشاعر:
إرفق بعمرو إذا حركت نسبته ** فإنه عربي من قوارير
لا جرم أنهم أدعياء من قوارير لا يحسن أن يرفق بمثلهم علي النحو الذي دعي له الشاعر الهازئ فعمرو ما ضرَّ أحداً بادعائه النسبة العربية أما هؤلاء فضروا بل أضلوا ثم أذلوا فمن الرفق بالأمة وبهم أن تكسر القوارير لينكسر معها الضلال والإضلال
يا غافلاً حتى متى تتوهم ** والفعل يفضح ما تقول وتزعمُ
إنها صيحة تقول
يا مسلمون لسنة الهادي ارجعوا ** واسترشدوا بدروسها وتعلموا
هل ضيع الإسلامَ إلا قائل ** أفعاله تنفي المقال وتهدم
وهي كذلك شجاً في حلق كل مغرضٍ أفَّاك يرمي من أرسله الله للناس رحمه بالجفاءِ والقسوة والإرهاب والغلظة هولٌ هائل وقولٌ لا تسعه لهاة القائل
فويل لهم من وصفهم أشرف الورى ** بما اختلقوا من عندهم والتزعم
وهل أنكروا إلا فضائل جمة ** وهل يبصر الخَفَّاشُ والنور ساطعُ
كلمات لذلك الموتور الشعرور حامل لواء حملة مليون ضد محمد صلي الله وسلم علي نبينا محمد تقول له قع أنت ومن معك أو طيروا فإنا نعرفُ قدر نبينا ونحنُ له فدي ومعه علي الهدي ولو في سمِّ الخياط أو علي مثل حدِّ الصراط كلمات عبَّر عنها أولنا ويقولها أخرنا وماتَ عليها سلفنا ويلقي عليها الله خلفنا بإذن ربنا وحسان إمامنا
فإن أبي ووالدهُ وعرضي ** لعرضِ محمدٍ منكم وقاء
نقولها إنذاراً ونقسم لو أنَّ دعواك شخصاً تمثلت لصبت عليك اللعن ثم اضمحلت وهل ينفعُ الإنذار من ضاع عقله وما معه إلا صورة اللحم والدم إنَّ رسول الله صلي الله عليه وسلم سماء ووالله وتالله وبالله لو تحولت أنت ومعك رعاعُ الأرض إلي زبالين لتغبروا علي السماء لبقيت السماءُ هي السماء صافيةً متلألئة ثم لم يرجع الغبارُ إلا علي رؤوس من أثاروه فمت بغيظك ومن معك إنَّ زكاه وكفاه زكي هديه ونطقه وعلمه وفؤاده وبصرهُ وخلقه وشرح صدره ورفع ذِكره ووضع وزره
أبي الله إلا رفعهُ وعلوهُ ** وليس لما يعليه ذو العرشِ واضع
فما أنت وما معك جُعلتم فداءاً أجمعين لنعله فكلكموا من جيفة الكلب أقذرُ وكلكموا منها أذل وأحقر لأن الذي جئتم ضلالٌ مزور تمارون في المحسوس ولا يماري في المحسوس إلا ممسوس..
فالحسُّ يشهدُ أنَّه ** فاقَ الورى خُلُقاً وحلماً
عينٌ إلي العليا سمت ** أذنٌ عن الفحشاء صما
إن رحت تكتم حبه ** لم تستطع للمسك كتماً
فهو الذي لولاهُ ** ما ملئت بيوتُ الله علماً
شَهِدَ الأنامُ بأنه ** ما مثلهُ عُرباً وعُجماً
من ذا يساوي علمَهُ ** بالبحر إن أمسي خضماً
لا يستوي البحران ذا عذبٌ ** وذاك الملح طعماً
من لم يغترف من دُرِّ بحره ولم يعترف برفيع قدره سقط قدره وهانت نفسه إذا ما أهان امرؤٌ نفسه فلا أكرم الله من يكرمه ووالله يا معشر الإخوة ما هذه الكلمات إلا لبنة في بناء وقطرةٌ في إناء فمن لي بخوض البحر والبحر زاخر ومن لي بإحصاء الحصى والكواكبِ فلو أنَّ أعضائي غدت ألسناً إذاً لما بلغت في القول بعض مآربي ولو أن كل العالمين تسابقوا إلي مدحه لم يبلغوا بعض واجب من أنزل القرآن في أخلاقه ماذا عسيَ أقول فيه من المِدح ألا حسبي من القلادة ما أحاط بالعنق ومن السوار ما أحاط بالمعصم فلعلها أن تكون غيثاً علي جدب وفراتاً علي ظمأ يزداد بها المهتدي هداً ويُبدَّلُ الجافي إلفاً والبعيدُ قرباً والغالي قصداً وأسألُ الله العظيم ذا السلطان الأمنَ من مكائد الشيطان وأن تكون خُلَّصاً بلا ريا لوجه من له الثنا والكبريا وأن يُثيبنا بها لطفاً إذا حللنا الأجداث ويكفينا الأذى..
أقولُ والله تعالي المستعان ** ومن بغيره استعانَ لا يُعان
محبة رسول الله صلي الله عليه وسلم ما محبته محبته أصلٌ إيماني وواجب شرعي وبغضه ناقض إيماني وفسادٌ اعتقادي كمال حبه من كمال الإيمان ونقصه من نقص الإيمان قال صلي الله عليه وسلم فيما رواهُ مسلم لا يُؤمنُ أحدكم حتى أكون أحب إليه من أهله وماله والناس أجمعين..
والله ما محبته كلماتٍ تقال ولا قصص تثار إنها عملٌ قلبي من اجل أعمال القلوب وعاطفة يجدها المحب في قلبه تدفع لإتباعه وإن تفاوتت لقوة الإيمان وضعفه, إنها رابطةٌ من أوثق الروابط التي تربط المسلم برسول الله صلي الله عليه وسلم وتجعل إرادته متوجهة لتحصيل ما يُحبُّ الله ورسوله وهي مع ذا محبة تابعة لمحبة الله كما قال شيخُ الإسلام رحمه الله، فليس في الوجود من يستحق أن يُحبَّ لذاته من كل وجه إلا الله وكل محبوب سواه فمحبته تبعٌ له, فإن رسول الله صلي الله عليه وسلم إنما يُحبُ لأجل الله ويُطاعُ لأجل الله (قل إن كنتم تُحبون الله فاتبعوني يُحببكم الله )..
روي البخاري من حديث ابن هشام قال: كنا مع النبي صلي الله عليه وسلم وهو آخذٌ بيد عمر رضي الله عنه فقال له عمر بحسب الطبع يا رسول الله لأنت أحب إليَّ من كل شيء إلا من نفسي فأقسم النبي صلي الله عليه وسلم تأكيداً وهو الصادقُ المصدوقُ وإن لم يقسم لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك يا عمر فتأمل عمر وتفكَّر والتفت وأدرك بالاستدلال أنَّ رسول الله صلي الله عليه وسلم أحبُ إليه من نفسه فهو السببُ في نجاته فبادر فقال قول صدقٍ فيه بدائعُ ما دري أهل البلاغة ما اسمُهُنَّ
قال: فإنه الآن والله يا رسول الله لأنت أحبُ إليَّ من نفسي فقال النبي صلي الله عليه وسلم الآن يـا عُمر أي عَرفت الآن فنطقت بما يجبُ يا عُمر كما يقولُ ابن حجر..
نعم معشر الإخوة حتى يكون أحبَّ إليك من نفسك وذلك مرتقيٍ عالٍ لا يصلُ إليه القلبُ إلا بمجاهدةٍ طويلة وترويض دائم ويقظة مستمرة ورغبة تستنزلُ عون الله فما تعثَّر مطلبٌ أنت طالبه بالله ولقد ضرب الصادقون أروع الأمثلة في تقديم رسول الله صلي الله عليه وسلم علي النفس, ففي الحديبية يُرسلُ رسول الله صلي الله عليه وسلم عثمان إلي قريش يخبرهم أنه لم يأتي ومن معه لقتال إنما جاءوا عُمًّاراً إنطلق عثمان وبلَّغ رسالة رسول الله صلي الله عليه وسلم ولما رجع عثمان قال المسلمون هنيئاً أبا عبد الله لقد اشتفيت من الطواف بالبيت فقال بئس ما ظننتم بي والذي نفسي بيده لو مكثت بها سنةً ورسول الله بالحديبية ما طفت بها حتى يطوفَ رسول الله صلي الله عليه وسلم ولقد دعتني قريش إلي الطواف بالبيت فأبيت
فعن حبه حدث عن البحر إنه ** لبحرٍ ولكن بالمعاني انسيابه
لقد كان عثمان يستشعر قول النبي صلي الله عليه وسلم حتى أكونَ أحبَّ إليك من نفسك ويستشعر تهديد الله لمن قدَّم علي تلك المحبة أحداً في أشد آية نعت علي الناس ما لا يتخلص منه إلا من تداركه الله بلطفه فقال (كن إن كان آبائكم وأبنائكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموالٌ اقترفتموها وتجارةٌ تخشون كسادها ومساكنُ ترضونها أحبَّ إليكم من الله ورسوله وجهادٍ في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين ) فانظر كيف قرَّع الله من قدم تلك المحبوبات علي محبته وتوعدهم بقوله فتربصوا ثم فسقهم بتمام الآية وحكم انهم ممن ضل ولم يهده الله, إن تقديم حب الله ورسوله علي كل شيءٍ عقيدة لا تحتمل شريكاً لا حرج فيها من الاستمتاع بطيبات الحياة علي أن يكون العبد مستعد لبذلها ونبذها كلِّها إذا تعارضت مع حبِّ الله ورسوله وجهادٍ في سبيله, ولذا جاء في إسلام طلحة بن البراء رضي الله عنه أنه لما لقي النبي صلي الله عليه وسلم جعل يدنوا منه ويقول: يا رسول الله مُرني بما أحببت والله لا أعصي لك أمراً
نطقَ اللسانُ عن الضمير ** والبِشْرُ عنوان البشير
فعجب النبي صلي الله عليه وسلم من ذلك وهو غلامٌ صغير ثم قال له "اذهب فاقتل أباك" فما تردد وانطلق ليفعل وحاله
دعاني إلي الجُلي فقمت مبادراً ** وإني لأمثال تلك لسابق
فإن كان عصياناً قيامي فإنني ** أردت بعصياني إطاعة خالقي
فدعاه صلي الله عليه وسلم وقال "أقبل إنِّي لم أبعث لقطيعية رحم", نعم إن رسول الله صلي الله عليه وسلم أهلٌ لتلك المحبة
أولاً: لحب الله واصطفائه له فهو خليله (الله أعلم حيث يجعل رسالته)..
وثانياً: لأنه رحمة للعالمين فعموم العالمين حصل لهم النفعُ برسالته أما أتباعه فنالوا بها كرامة الدنيا والآخرة, وأما من قتلهم من المحاربين له فذلك لهم رحمة لأن طولَ أعمارهم في الكفر تغليظٌ للعذاب عليهم في الآخرة, وأما المعاهدون له فعاشوا تحت ظله وعهده وذمته خيرَ معيشة, وأما المنافقون فحصل لهم بإظهار الإيمان حقن دمائهم وأموالهم وجريانُ أحكام المسلمين عليهم, فهو لكل أحدٍ رحمة وإنما بُعِث رحمة
هو رحمة للناس مهداة فيا ** ويل المعاند إنَّه لا يرحم
وثالثاً: لكمال رحمته ورأفته بأمته خاصة (عزيزٌ عليه ما عنتم حريصٌ عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم)..
ثبت في مسلم أنه صلي الله عليه وسلم تلي قول الله عن عيسي (إن تعذبهم فإنهم عبادُك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم).. فرفع يديه صلي الله عليه وسلم اللهم أمتي أمتي ثم بكي فقال الله يا جبريل اذهب إلي محمد فقل إنا سنرضيك في أمتك ولا نسؤك جدير والله بمن كان علي مثل تلك الرأفة والرحمة أن تتوجه قلوبُ المسلمين إليه وقد كان..
ملكت سجاياهُ القلوبَ محبةً ** إنَّ الرسول إلي القلوب حبيبُ
وكيف لا يكون كذلك وقد قضي أنَّ من كتب له محبته أحبه أهل السماء بأمر الله ثم وضع له القبول في أرض الله كما ثبت في صحيح البخاري رحمه الله..
فيا عبد الله إذا كان هذا الشأنَ في عامة عباد الله فأولي الناس بهذه المحبة أفضل خلق الله رسول الله
صلي عليه ما هبَّ الصبا ** وغرد الورقُ علي ذُري الرُبي
ووالذي نفسي بيده لقد تحقق هذا وأضعاف أضعافه فلم تعرف الدنيا رجلاً فاضت القلوب بحبه وفدته بالغالي والنفيس مثلَ ما عُرف عن رسول الله صلي الله عليه وسلم.
يخرج أهل مكة من الحرم ليقتلوا أسيراً مسلماً محباً صادقاً ويُرفع علي الخشبة ثم يُقال له ننشدك الله أتحبُّ أن محمداً مكانك تُضربُ عنقه وأنَّك آمنٌ في أهلك فقال: والله الذي لا إله إلا هو ما أُحِبُّ أن محمداً الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وأني جالس في أهلي من هول موقفه وشامخ حُبه ** لم يدري قسٌ ما البيان وأكثم
لا عجب فأن الذين ناصبوه العداوة لم يملكوا أنفسهم من سيطرة الإعجاب به صلي الله عليه وسلم..
نطق العداة بفضله لظهوره كُرهاً ** وقد حرصوا علي إخفائه
(فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون) يقولُ اليهودي حين رأي رسول الله صلي الله عليه وسلم لأول مرة والله ما وجههُ بوجه كذَّاب حاله:
فهبني قُلتُ هذا الصبحُ ليلٌ ** أيعمي العالمون عن الضياءِ؟
وقالت الظعينة المسافرة حين رأته لأول مرة لقد رأيت وجه رجل لا يغدُر ما رأيت شيئاً أشبه بالقمر ليلة البدر من وجهه
إن القلوب إذا طوت أسرارها ** أبدت لك الأسرارَ فيها الأوجه
معشر الإخوة إن رسول الله صلي الله عليه وسلم لغني عن حُبنا له فلا يزيده حُبنا رفعة ولا يبخس بعدمه منزلة
فكم حباه ربنا وفضله ** وخصه سبحانه وقوَّله
من أحبه كانت له هذه الثمرات
أولاً: الشعورُ بحلاوة الإيمان تلذذاً بالطاعات وتحملاً للمشقات وإيثاراُ لذلك علي جميع أعراض وأغراض الحياة ثبت أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: ثلاثٌ من كُنَّ فيه وجد بهنَّ حلاوة الإيمان منها أن يكونَ الله ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما
وللإيمان حلاوة في القلب لا يعبر عنها إلا من ذاقها فاللهم لا تحرمناها..
ثانياً:أن محبه سيكون معه في الآخرة وكفي بها من ثمرة عالية في الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: جاء رجل إلي رسول الله صلي الله عليه وسلم فقال يا رسول الله كيف تقولُ في رجلٍ أحبَّ قوماً ولم يلحق بهم فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم: "المرءُ مع من أحب" وقال لآخر "أنت مع من أحببت"..
ورد البشيرُ بما أقرَّ الأعينَ ** وشفي النفوس فنلنَ غاية المني
فما فرح الصحابة بشيءٍ فرحهم بذلك يقولُ أنسٌ رضي الله عنه "فأنا أحب النبي وأبو بكر وعمر وأرجوا أن أكون معهم وإن لم أعمل بأعمالهم", عبد الله إن أردت اللحاق بهم فأحبهم واسلك طريقهم وابذل غاية جهدك واستفرغ وسعك إن فعلت كنت معهم ولو لم تبلغ عملهم
يـا رب فاجمعنا معاً بنبينا ** في جنة تَثني عيون الحسد
في جنة الفردوس فاكتبها لنا ** يا ذا الجلالة والعلي والسؤدد
معشر الإخوة ولما كَثر المدعون للمحبة طولبوا بإقامة البينة علي صحة ما ادعوا
فإن كنت في دعوى المحبة صادقاً ** ففي شرعنا برهانُ دعوى المحبة
وفي شرعنا أن المحبة طاعةٌ ** وسيرٌ علي منهاج خير البرية
فيا عبد الله قلب ناظريك في هذه الشواهد والبراهين فإن توفرت فيك فاحمد الله وسل الثبات علي ذلك, وإن فقدت بعضها أو كلها فحاسب نفسك قبل أن تُحاسب في يومٍ لا ينفع فيه مالٌ ولا بنون, في موقفٍ ما فيه إلا شاخصٌ أو مهطعٌ أو مُقنعٌ للراسِ
فلا خير في قولٍ أتي دون حجةٍ ولن تثبت الأقوال للعبد هكذا ولابد في إثباتها من أدلة..
شاهدُ المحبة الأول:
الحرص علي رؤيته صلي الله عليه وسلم وصحبته حياً وميتاً من أحبهُ حقاً رَغِبَ في صحبته وحرص في الدنيا والآخرة علي رُفقته لو خُيِّر بين نعيم الدنيا بحذافيرها وبين رأيته ما آثر شيئاً علي رُؤيته وصحبته وحاله:
خيالك في ذهني وذكرك في فمي ** ومثواك في قلبي فأين تغيب؟
ها هو أبو بكرٍ رضي الله عنه وأرضاه يُجسِّدُ ذلك في حديث الهجرة كما ثبت في البخاري أنَّ رسول الله صلي الله عليه وسلم خرج في نحر الظهيرة مستخفياً في وقتٍ يلوذ الناس فيه ببيوتهم من شدة الحر فلا يتجولُ في تلك الساعة في الطرق سوي السموم والسراب
ويُقبل علي الصديق وذلك في نحر الظهير وساعةٍ زيارته في مثلها لم تقدَّمي
فصاحت له أسماءُ إذ بَصُرَتْ به تقول أبي ذا جاءك المصطفي السمي
فقال أبو بكرٍ فداءٌ له أبي وأمي لماذا جاء في غير مقدمي
وبالغ في إكرامه ثم قال يا رسول الإله الحقِ خذ في التكلمي
فقال أزل عنك الصواحب قال لا يضرن فهنَّ الأهلُ لا بأس كلِّمي
فقال إني أمرت بهجرتي وأخرجَ من بيتي لطيبة فاكتمي
وقال نعم إذ رام صحبته له فعين أبي بكرٍ سروراً همت هُميّ
الصِّحابة بأبي أنت وأمي يا رسول الله قال رسول الله صلي الله عليه وسلم نعم فاندفع يبكي فرحاً وقمة الفرحِ أن يشفع ببكي إنه حُبٌ صادق أفرزه أيمانٌ وُزن بإيمان الأمة فرجح بها فصار يري المخاطرة مع الرسول قربة وشرفاً يُعبر عنها بالبكي
فعلمتُ أن من الدموع محدثاً ** وعلمتُ أنَّ من الحديث دموعاً
تقول عائشةُ رضي الله عنها: "والله ما شعرتُ قط قبل هذا اليوم أن رجلاً يبكي من الفرح حتى رأيتُ أبا بكر يبكي يوم إذ " وحُقَّ له ذلك إذ صار ثاني اثنين فائزاً برفقة خاتم النبيين فكيف يملك العينين؟ حاله:
كيف السبيل لكتم أسرار الهوى ** ولسانُ دمعي بالغرام يترجم
وها هي الأنصار تجسد المحبة في أبهي صورها في استقباله عند هجرته
حُبٌ مدي الأيامِ ينشر ذكره ** ويُذاع في كل البقاع وينقل
لما سمعوا بمخرج رسول الله صلي الله عليه وسلم من مكة ساروا علي طريق مكة يترددون يغدون كل غداة إلي الحرة ينتظرون حتي تغلبهم الشمس علي الظلال وبِحرِّ الظهيرة يؤذون فيرجعون وما زال الموكب الميمون يسير
يصبوا إلي بان العقيق ورنده ** وعراره وأراكه وبشامه
وحال الانصار في انتظاره
أقبل فتلك ديار طيبة تقبل ** تهديك من أشواقها ما تحمل
القوم مذ فارقة مكة أعينٌ ** تأبي الكرا وجوانح تتململُ
يتطلعون إلي الفجاجِ وقولهم ** أفما يُطالعنا النبي المرسل
وفي ذات يوم وقد عادوا إلي بيوتهم غير آيسين وإذا بيهودي يصرخ يا معشر بني قيلة هذا جدكم الذي تنتظرون.
خفَّ الرجالُ إليه يهتف جمعهم ** وقلوبهم فرحاً أخفُ وأعجل
لو يقدرون مشوا علي وجناتهم ** وعيونِهم فضلاً عن الأقدام
تلقوه وقد تحولوا إلي مشاعر تُقله تظله تتوهج من حوله فمال بهم ذات اليمين إلي قُبي لينزل فيها في بني عمرٍ الكمي, نزلَ في بني عمرو بن عوف فما نزلَ بها مثلهُ من ضيف نعمت قُباء به تحتضنه كأمه وتبشر به من أمه مكث بها بضع عشرة ليلة وحال من في المدينة:
مرحباً يا مرحباً يا مرحباً ** بنسيمٍ هبَّ من تلك الرُبي
عبقُ الأرجاء طيب دلني ** أنهُ من طيب سُكان قبي
ثم اندفع إلي المدينة في يوم فرحٍ وابتهاجٍ لم تري المدينة يوماً مثله أبداً, المدينة في تلك اللحظات تتيهُ بالمشاعر تتزين للقاءِ من طالَ الشوق له
فيكاد من فرط التشوق عندها ** ترب الصحاري يستخف فيُورق
إنها لحظات يتمني كل مسلم أن يعيشها وأن يسكُبَ شيئاً من الدموع فرحاً بها الموكب يتحرك ببطئ, الطريق قد ازدحم بسيل الدموع وابتسامات الأطفال ولفتات الجموع
يقف الخطيب بها ويهتف ** شاعرٌ قلبي المقامُ لكم وفيه المنزل
وسار علي القصواء يُرخي زمامها يقول له كلٌ بننزل وهل مُمي كلما مر بدارٍ من دور الأنصار امسكوا بزمام الناقة لينزل عليهم وهو يقول: دعوها فإنها مأمورة وعلي الطرق وفي البيوت لا تكاد تسمع إلا الله أكبر جاء رسولُ الله فكأنما في كل قلبٍ روضة وكأنما في كل دارٍ بلبلُ المدينة كلها سلاحها رجالها نسائها أطفالها شعابها جبالها أشجارها أحجارها فجاجها كلٌ كني عن حبه بلغاته ولربما أبكي الفصيحَ الأعجمُ, الموكب يتهادي بين القلوب والبيوت الأطفال يركضون يقفزون يهتفون وببرائة العيون في خلل الزحام عن صاحب الناقة يبحثون وبلغتهم يُعبِّرون, فيهم أنسٌ رضي الله عنه يصفُ ذلك بحروف تنبض بالمشاعر فيقول: إني لأسعي في الغلمان وهم يقولون جاء محمدٌ رسول الله فلا أري شيئاً وأسعي ولا أري شيئاً فكم أنا له في بعض جدر المدينة حتي جاء فخرج أهل المدينة حتي إن العواتق فوق البيوت يترائينه فما رأين منظراً شبيهاً به يومئذ والله لقد أضاء من المدينة كلُّ شيء, ولم يُري في تاريخها من حفاوة تعادلها مهما يفد من معظم فذاك يومٌ طيبه من كل طيب أطيب من طيبه أرجائهم ما برحت تختضب
أنسٌ رضي الله عنه لم يزل الطفل الذي لا يهدأ طافَ المدينة ينظر وينقل فيذكر بعد أن النبي صلي الله عليه وسلم مرَّ بحيٍ من بني النجار وجويرياتٌ يُنشدن:
نحنُ جوارٍ من بني النَّجارِ ** يـا حبذا محمدٌ من جارِ
فيقول صلي الله عليه وسلم "اللهُ يعلمُ أن قلبي يُحبكن", يا له من نبي ما أعظمه ما أرقَّ مشاعره يعلن حبه للصغير والكبير في البيوت وعلي الطرقات بل ويُعلن حبه حتي للجبال يمرُ بعد من عند أحد فيقول: "هذا أحد جبلٌ يحبنا ونحبه "..
فحال أحد:_
من أبي أنت وأمي أقربُ ** مذ رأي وجهك طرفي المعجبُ
وما زال الموكب يسير القلوب له بيوت والبيوت له قلوب الأيدي إلي الزمام تمتد العيون تشخص القلوب تحتضن الركب يتواصل النداء يشتد المنزلُ عليَّ أيها النبي تتنافس الأنصارُ فيه وما دروا لمن المفازُ وأيهم هو أوَّلُ؟
متجعون كأنهم سربُ القطا ** متدفقون كأنهم أنهار
بهم القلوب حدائقٌ بسَّامةٌ ** أني التفت جلالةٌ ووقار
وأمام بيت ابي أيوب ذهبت مطيته فقيل لها قفي هذا المناخ فلستِ ممن يجهلُ لم يُنزلوه علي الخئولة وحدها كل المواطن للنبوة منزل, نزل صلي الله عليه وسلم عن ناقته ازدحم عليه أنصاره كلٌ يعرض عليه النزول ويتسللُ أبو أيوب رضي الله عنه فيأخذ رحل النبي صلي الله عليه وسلم إلي بيته وهم في خضم ذلك قال صلي الله عليه وسلم أين رحلي؟ قال أبو أيوب هو عندي قال: المرئ مع رحله هيئ لنا مقيلاً وقد هيأه حلَّ في دارِ أبي أيوب وقلب أبي أيوب المدينة كلها تغبطه تعرف الشَّرف الذي حلَّ بين جدران منزله لا تسأل المغبوط عن حالهِ جارٌ كريم ومحل خصيب..
شكراً ابا ايوب فُزت بنعمة ** فيها لنفسك ما تريد وتسأل
لله دارك من محلة مؤمنٍ ** نزل الحمي فيها وحلَّ المعقل
نزل النبي بها فحل بنائها ** مجدٌ يقيم وسؤددٌ ما يرحلُ
أي والله .. لكن رسول الله صلي الله عليه وسلم نزل في سفل الدار عن رغبة منه أما أبو ايوب فبرغم شدة فرحه برسول الله صلي الله عليه وسلم فقد كان في حرجٍ عظيم لو رأيته وهو يسير في منزله لأشفقت عليه لا يتحرك إلا في مساحة ضيقة من عُلية بيته لا يتعداها في حسٍ مرهف وإيمانٍ عميق يخاطب نفسه ويقول: ويحك أبا أيوب أتعلو رسول الله صلي الله عليه وسلم, وأصبح فأتي النبي صلي الله عليه وسلم فقال : لا تكون تحتنا بأبي أنت وأمي ونفسي يا رسول الله, فقال صلي الله عليه وسلم يا أبا أيوب السفلُ بنا وبمن يغشانا فقال أبو أيوب والله لا أعلو سقيفةً أنت تحتها يا رسول الله, فتحول رسول الله صلي الله عليه وسلم وقرَّت أعينُ أبي أيوب رضي الله عنه وأرضاه
خلقٌ كما خطر النسيم ** فهزَّ أعطاف النبات
وشمائلٌ علويةٌ أصفي ** من الماء الفرات
أما إنه لا غرابة فيما قام به أبو أيوب إنه ابن سحابة تحوم في سماء الإيثار إسمها الأنصار (يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون علي أنفسهم ولو كان بهم خصاصة) هذه شهادة الله يتغني بها الأنصار يتغني بها بنوا النجار أخوال المختار وأبو ايوب من بني النجار خير دور الأنصار وشهادة رسول الله أن آية الإيمان حبُّ الأنصار وآية النفاق بغض الأنصار
إذا الله أثني بالذي هو أهلهُ ** عليهم فما مقدارُ ما يمدح الورى
لقد أحبوه حباً ملك عليهم مشاعرهم وخالط دمائهم وحلَّ في سويدائهم
وهل يُطيق المرئ ستر الهوي ** من بعد ما استولي علي لبه
ها هو أحدهم يأتي رسولَ الله صلي الله عليه وسلم ذات يومٍ وقد تغيَّر لونه يُعْرَفُ الحزن في وجهه فقال له رسول الله ما بك؟ فقال يا رسول الله ما بي من شيء إلا أني إذا لم أرك استوحشت وحشة شديدة حتي ألقاك ثم أني إذا ذكرتُ الآخرة أخافُ ألا أراك, إن دخلت الجنة كنتُ في منزلة دون منزلتك, وإن لم أدخلها لم أرك أبداً فصمت رسول الله صلي الله عليه وسلم يوحي إليه ثم قال: قال الله (ومن يُطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبين والصديقين والشهداء والصالحين وحَسن أولئك رفيقاً ) فلا تسأل عن حاله نطقت مدامعه بسرِّ ضميره وبكت جوانحه بنار غرامه والكونُ أشرق والفضاء تعطر والأفق كلله السرور فلا أسي..
وبعد عامٍ من وفاة رسول الله صلي الله عليه وسلم قام الصديقُ رضي الله عنه يخطب فلم يملك عينه حين ذكر رسولَ الله صلي الله عليه وسلم يقول: سمعتُ رسولَ الله في هذا اليوم من عام الأول ثم استعبر أبو بكرٍ وبكي ثم أعاد سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم في هذا اليوم من عام الأول ثم خنقته العبرةُ ثلاث مرات ثم مضي في خطبته لا يكاد يُفهم ما يقول
صورة للحب ما أصدقها ومن التصوير تزييف ومين لله أحباب مضوا ما مثلهم بين الوري في الصالحين نظيرُ ..
ولما حضرته الوفاة قال أيُّ يومٍ هذا؟ قالوا يوم الاثنين قال فإن متُ من ليلتي فلا تنتظروا بي إلي الغد فإن أحب الأيام والليالي إليَّ أقربها من رسول الله صلي الله عليه وسلم
فاجمع بمن أهواهُ شملي عاجلاً ** يا جامع الأرواح بعد شتاتها
هكذا كان الصادقون في محبته صلي الله عليه وسلم فمن ادعي المحبة فعليه البينة وليرمي عن قوس الحقيقة من ادعي حُبَّ الكرام البررة فاستشهدوا أخلاقه وسيره أفمن أحبَّ أشياء أخري كقنواتٍ وشبكاتٍ ومحرماتٍ وشهواتٍ وبذلَ فيها المالَ والوقت لمشاهدتها والإستماع إليها وتضييع حقوق الله بسببها والفرح برؤيتها والأسف علي فوات شيء منها يُعتبر محباً حقاً كلا بل هو دعي لقيط ما له نسبة الولاء إلي المصطفي فانظر لفعل الفتي تعرف مناسبه إنَّ الفعال لأصل المرئ إعلام وما كل من هزَّ الحسام بضاربٍ ولا كلُ من أجري اليراع بكاتب
الشاهدُ الثاني:
بذل النفس والمال دونه صلي الله عليه وسلم كل محبٍ صادقٍ يترقب فرصة يتمكن فيها من بذل روحه وما ملكت يمينه لمن أحبه وصحابة رسول الله صي الله عليه وسلم كلهم ذاك الرجل ومن بعدهم يجدون الحسرة في نفوسهم لفوات تلك الأمنية فيبذلونها لنصرة شريعته وسنته جعلنا الله منهم هاكَ قطوف من محبة السلف يهني جناها من علي الحق وقف..
أبو بكرٍ رضي الله عنه سحابةٌ من حبٍّ تظل رسول الله صلي الله عليه وسلم في طريقه إلي الغار جعل من جسده درعاً يحمي به رسول الله صلي الله عليه وسلم يتذكر الطلب والرصد فيمشي بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله يقلب عينه خوف عليه تقلب العين دليل علي ما اضمر الإنسان في لبه لمحهُ صلي الله عليه وسلم فقال يا أبا بكر لو كان شيئٌ لأحببت أن يكون بك دوني قال نعم والذي بعثك بالحق
فمن لم يَجُدْ بالنفس دون حبيبه ** فما هو إلا مارق الود كاذبه
ذاك جسد المحب أما ماله فمنثور بين يدي رسول الله حمله أبو بكرٍ كله وقدمه لله كله فلم يكن الصديق أبقي لأهله من المال شيئاً ما ولم يتبرم لذا فإن عمر لما سمع من يفضله عن أبي بكرٍ احمر وجهه وغضب ثم ذكر ليلته تلك وقال والذي نفسُ عمر بيده لتلك الليلة خيرٌ من آل عمر إِيهٍ إِيه
إنما يقدر الكرام كريمٌ ** ويقيم والوزن الرجال الرجال
يقومُ الصديق خطيباً في أهل مكة فثار عليه المشركون وضربوه ضرباً شديداً غيَّر ملامحَ وجهه ثم حمل إلي بيته في ثوب فاقد الوعي لا يُشك في موته فما تكلم إلا آخر النهار تُري ما أولُ ما قال؟ لقد قال ما فعل رسولُ الله صلي الهك عليه وسلم, يالله رجلٌ بين الحياة والموت ينسي نفسه ويُذهل عن آلامٍ تُمِضُّ جسده ليذكر شيئاً واحداً وهو السؤال عن رسول الله صلي الله عليه وسلم يُعرض عليه الطعام فيأبي ويقول إن لله عليَّ أن لا أذوق طعاماً أو أشرب شراباً حتي أري رسول الله صلي الله عليه وسلم ما فعلَ رسول الله صلي الله عليه وسلم فلم يهدأ حتي حُمل فرأي رسول الله صلي الله عليه وسلم سالماً لقد كان يشعر بأن حياتة وكل ما يملكه لا يساوي شيئاً أمام سلامة رسول الله صلي الله عليه وسلم حاله
لا بك السوءُ ولكن كان بي ** وبنفسي وبأمي وبأبي
والله لإن عجزت الأقلام وكلت القرائح عن تصوير الدرجات العلي من الحب لرسول الله فإن ابو بكرٍ جسَّم وجسد أعلي هذه الدرجات بما لا تحمله الألفاظ مهما أوتيت من بلاغةٍ وبيان
فلو نطق الخليلُ لقال ** هذي معانٍ ما رأتها قط عيني
ووالله إن المرئ ليجد نفسه عاجزاً عن تصوير كل ما يجول بخاطره ومشاعره وأحاسيسه أما جلالة وإيثارة هذه المشاهد فلا يملك المدامع
والدمعُ يُعرب ما لا يُعرب الكلمُ ** والدمعُ عدلٌ وبعضُ القول متهم
وفي أحد حين حصل الخلل والإضطراب في الصفوف قال رسول الله صلي الله عليه وسلم من للقوم فتقدَّم أقوامٌ وقتلوا, ثم نادي أخري من للقوم فتقدم طلحةُ رضي الله عنه وضيته التي تملئ جوانحه هي نجاة رسول الله ولو قُطِّعَ في سبيل الله حاله:
من ولوا الأدبار خوف ** الموتِ ماتوا ثم ماتوا
جعل يَكِرُّ علي المشركين حتي يدفعهم ثم يأخذ رسول الله صلي الله عليه وسلم فيرقي به في الجبل حتي يُسنده ثم يَكِرُّ علي المشركين أخري حتي صدهم عن رسول الله صلي الله عليه وسلم, دمائه تنزف يدهُ شُلَّت قطعت كفه سقط في حفرةٍ مغشياً عليه وحاله: لا أبالي بعدُ إذ سَلِمَ رسول الله صلي الله عليه وسلم..
ومن قبل ينحني أبو دُجانة علي رسول الله صلي الله عليه وسلم يتلقي النبل في ظهره حتي كَثُرَ فيه وهو لا يتحرك, ويشرف النبي صلي الله عليه وسلم لينظر إلي القوم فيقف دونه أبو طلحة رضي الله عنه ويقول: لا تُشرف بأبي أنت وأمي يا رسول الله لا يُصيبك سهمٌ من سهام القوم
نحري دون نحرك وجهي لوجهك ** الفدي ونفسي لنفسك الوقي
لو مادت الأجبال من تحتهم أو خرت الأفلاك ما زُعزعَ حدائهم
دعني من الدنيا ** فبالفردوس قد حدت الحداة ..
أما سعد بن الربيع فبه سبعون ضربه لم يبقي بينه وبين الآخرة إلا لحظات وقد نسي نفسه وشُغل فكره بمن هو أحبُ إليه من نفسه يقول لزيد رضي الله عنهم أجمعين أقرئ رسول الله مني السلام وقُل له إني لأجد ريح الجنة وقُل لقومي الأنصار لا عُذر لكم عند الله أن يُخلص إلي رسول الله صلي الله عليه وسلم وفيكم عينٌ تَطرِفْ ثم فاضت روحه رضي الله عنه
نصرة المختار في أعماقه ** وصدي التوحيد يُروي أضلعه
حاله:
وما المرئ إلا حيث يجعل نفسه ** وإني لها فوق السماكين جاعلُ
فهل علمت مثلهم يا ذا الحجي لزينة الدنيا ومحوٍ للدجي لا والله, فيما نفكر؟ ماذا يشغل بالنا بم نوصي عند توديعنا اللهم اعفُ عنا وارفع ما بنا
فإن سري البرق من أكنافِ أرضهمُ أقول من فرط شوقي ليتني المطر..
فلا تصدق وداداً قبل شاهده ** قالكحل أشبه في العينين بالكحلِ
الشاهد الثالث:
إمتثال أوامره واجتناب نواهيه صلي الله عليه وسلم ( وما آتاكم الرسولُ فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ) من أحب محمداً صلي الله عليه وسلم كان هواه تبعاً لما جاء به وكان صورةً حية متحركة للإسلام يتجلي الإسلامُ في جميع تصرفاته ومواقف صحبه رضي الله عنهم تنطق بذلك وتؤكده إن عُدَّ أهل التقي كانوا أئمتهم أو قيل من خير أهل الأرض قيل همُ علموا أن محبته طاعة الله (من يُطع الرسولَ فقد أطاع الله) وسمعوه يقول وجُعل الذُل والصَّغَارُ علي من خالف أمري فاتبعوه فالعالم اقتادوه..
كلُّ من بالحق أحيا نفسه ** لا تري الباطل يُحني رأسه ..
يرغب صلي الله عليه وسلم في تخصيص بابٍ للنساء لدخول المسجد فيقول لو تركنا هذا الباب للنساء يقول نافع مولي ابن عمر رضي الله عنهما فوالله ما دخل ابن عمر من ذلك الباب حتي مات, خلالٌ يفوحُ المسك عنها محدثاً ويُثني علي آثارها الملوان ..
أبو هريرة رضي الله عنه كما في البخاري يقول: لقد حرَّم رسول الله صلي الله عليه وسلم ما بين لابتي المدينة فوالله لو وجدت الظباء بها ساكنة ما ذعرتها وما أفزعتها حاله:
سأتبعه ما دام في القلب خافقٌ ** وما طافَ فوق الأرض حافٍ وناعلُ
نعم إن محبته تعني أن يُخضع المرء رغباته لما جاء به رسول الله موقناً أن الخير في ذلك وإن خالف مبتغاه فلا يَحِقُ أن نضع رأي جميع أهل الارض في كِفة ونضع في الأخري هدي محمدٍ صلي الله عليه وسلم (فلا وربك لايؤمنون) هذا هو الشاهدُ العدل والميزان الفصل من مال عنه هوي ومن أطاع الهوي هوي من سعي في غير حلبته كان موقوفاً علي التهم
لا تقل كيف ولا أين الوصولُ ** واتبع خيرَ الملي ذاك الرسولُ
الشاهدُ الرابع
نصر سنته والذب عن شريعته لقد بذل المصطفي صلي الله عليه وسلم حياتهُ لله وجاهد وقاتل حتى لاتكون فتنة ويكون كله الدين لله فلم يألو جُهداً في إشاعة دينه ولم يخشي في التبليغ لومة لُوَّمِ واقتدي به المحبون فبذلوا كل ما يملكون
أرادوا بذاك اقتفاء أحمدٍ ** ورضوان ذي العرشِ والعزة
شاع بين الناس في أحدٍ أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قد قُتل فعَقِرَ بعض الصحابة وجلسوا فأقبل أنس بن النضر وقال ما يجلسكم قالوا قُتل رسول الله صلي الله عليه وسلم قال فماذا تصنعون بالحياة بعده قوموا فموتوا علي ما مات عليه رسول الله صلي الله عليه وسلم الجنة وربِّ النضر إني لأجد ريحها من دون أحد..
له هيبةٌ في وجهه وفعاله ** فلو شاهدته الأسد كانت تهابهُ
فما استطاع أحدٌ ما صنع ووجد مقتولاً قد مَثَّل به المشركون
روضة الحق ارتوة من دمه ** عزَّ أهلُ الحق في الدنيا به
حرامُ بن مِلحان رضي الله عنه إمامٌ سوي أن الشجاعة تاجُهُ هزبرٌ سوي أن البلاغة غابه طُعن من خلفه وهو يُبلغُ رسالة رسول الله صلي الله عليه وسلم حتي أنفذه الرمح وبقية لديه فرصة للتعبير عما يدور في نفسه من غبطة بتبليغ رسالة الرسول الكريم فقام ينضح الدمَّ علي وجهه وجسده ويقول: "اللهُ أكبر فزتُ وربِّ الكعبة فزتُ وربِّ الكعبة"
بزمزمة تنسي الرعود هزيمها ** وتثقبُ آذان النجوم الثواقب
فهزَّ الموقف قاتله فأسلم وحاله: وربِّ الكعبة أنه للفوز
فإلي ما العيش في التُرب ارحلَ ** إصعداً فوق السمواتِ العُلي
ولما ارتدت العرب بموتِ رسول الله صلي الله عليه وسلم وقصدوا مهاجمة المسلمين في المدينة وصار الصحابة كما وصفهم عمَّارُ رضي الله عنه كنعمٍ بلا راع والمدينةُ أضيق علي أهلها من الخاتَم في هذا الظرف الحرج العسير يأتي أمر أبي بكرٍ بتنفيذ بعث أسامه من بعد الغدِ من متوفي رسول الله صلي الله عليه وسلم, قائلاً ألا لا يبقين بالمدينة أحدٌ من جند أسامة إلا خرج ..
جرِّد السيفَ أبا بكرٍ فما ** طُبِعَ السيفُ ليبقي مغمداً
ولما استأذن في تأخير بعث الجيش نظراً لتقلب الأحوال أرعد وأبي إبائاً إباء البكر غير مُذللِ وعزماً كعزم السيف غير مُفلَّلِ وقال والله ما كنت لأستفتح بشئ أولي من إنفاذ أمر رسول الله ولأن تخطفني الطير أحب إلي من ذلك أأحبس جيشاً بعثه رسول الله لقد اجترأت علي شيءٍ عظيم والذي نفسُ أبي بكرٍ بيده لو لم يبقي في القري غيري لأنفذته امضي يا أسامه للوجه الذي أمرك به نبي الله ولا تقصر في شيءٍ من أمر رسول الله دمه كالبرق فيه لاهب وفي الحق حثيثٌ دائب تفزع الأعداء من هيبته في ارتعادٍ من سنا طلعته, فخرج أسامةُ بالجيش فما مرَّ علي حيٍ من العرب إلا دخلهم الرعب وقالوا ما خرجوا إلا بمنعةٍ وقوة فخارت منهم كلُ قوة فمن يُصاولُ ليثاً وهو غضبان؟؟
لم تُغن عنهم سيوف الهند مسلطتاً ** لما أتتهم سيوف الواحد الصمد
وهكذا استن أبي بكرٍ بسنة رسول الله ونصرها فنصره الله وذلكم شاهدُ المحبة والله ..
وهل يُرتجي للأمرِ إلا رجالهُ ** ويأتي بوابل المزن إلا السحائب
الشاهد الخامس
محبة من أحبه صلي الله عليه وسلم من صحابته الأبرار وأهل بيته الأطهار برهانُ حبه
أيا ساكني أكنافَ طيبةَ كُلُكُمْ ** إلي القلبِ من أجلِ الرسول حبيبُ
لما وجدت فاطمة علي أبي بكرٍ رضي الله عنه حين سألته ميراثها فقال بقول النبي صلي الله عليه وسلم: " لا نُورث ما تركناه صدقة " هجرته فهي بنتٌ من بنات آدم تأسفُ كما يأسفن, لكنَّ ذلك عَظم عليه كثيراً وجاء علياً رضي الله عنه فذكر عليٌ مكانة أبي بكرٍ وقدره قدره وقال له لكنا كنا نري لقرابتنا من رسول الله صلي الله عليه وسلم نصيباً ففاضت عينا أبي بكرٍ رضي الله عنه ثم قال: والذي نفسي بيده لقرابة رسول الله أحبُ إليَّ من أن أصل قرابتي وأما هذه الأموال فإني ما رأيت رسول الله صلي الله عليه وسلم صنع فيها شيئاً إلا صنعته والحال: فلو قال لي مُتْ مِتُّ سمعاً وطاعتاً ** وقلت لداعي الموت أهلاً ومرحباً
لقد ثبتت في القلب منكم محبةٌ ** كما ثبتت في الراحتين الأصابعُ
فكانت عند علي
أشهي علي الاسماعِ من نيل المُني ** وألذَّ في الأجفان من سنة الكرا
بل إن عمر رضي الله عنه قد فرض لأسامه أكثرَ مما فرض لإبنه عبد الله فقال عبدالله يا أبتي لم قدمت أسامه ؟ والله ما شَهِدَ مشهداً غبتُ عنه وما شهد أبوه مشهداً غِبتَ عنه, فقال عمر صدقت يا بني