نفحات رمضان

ناصر محمد الأحمد
1438/09/11 - 2017/06/06 01:09AM
نفحات رمضان
14/9/1438ه
د. ناصر بن محمد الأحمد

الخطبة الأولى :
الحمد لله، ملأ بنور الإيمان قلوب المخبتين بالسعادة. أحمده سبحانه على ما يسر لنا من شرائعه، فلنا منها أحسن المعتقد وأحسن العبادة. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة أرجو بها اللحاق بالمحسنين الذين وعدوا بالحسنى وزيادة. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أبلى في الدعوة إلى الله بلاء حسناً حتى غدت طاعة الله وذكره له عادة، فكان حجة على العالمين، وقدوة للعاملين، ليعملوا مثل ما عمل وليجاهدوا جهاده. صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، في الليل رهبان وفي النهار قاده، ومن تبعهم بإحسان، فبنى لحبهم في قلبه منارا، وكان ذكرهم له دثارا، وشوقه إليهم وسادة، وسلم تسليما.
معاشر المسلمين: لرمضان معنا ذكريات، ولنا فيه موسم للخيرات، وفي لياليه أنس وتغن بالآيات البينات، وفي تاريخ الأمة مع رمضان معارك وغزوات وانتصارات. في رمضان رقاب تعتق، وأكف تدعو وتتصدق، وأزهار الإيمان تنمو وتتفتق، فتبيت نفوس زاكيات، تتقرب من ربها وتتملق. وفي رمضان يفوح شذى الجنان، ويكثر عطاء المنان، ويعظم الفضل من الرحمن، فيتنافس المسلمون أيهم إلى الخير أسبق. والحديث عن رمضان ذو شجون، تتلهف له القلوب وتذرف منه العيون، وتشتاق له النفوس وبذكره تتعلق.
ففي ليلة من ليالي رمضان أشرق النور، وتفتحت الزهور، ولفت حياء وجهها من ذلك الحدث بقية الشهور، إذ نزل جبريل بآي الذكر الحكيم، يهدي البشرية ويسعدها، ويسمو بها ويزكيها، واستمتعت أذن الحبيب صلى الله عليه وسلم بأول آيات التنـزيل، يقرأها عليه روح القدس جبريل، بعد أن حُبب إلى حبيبنا صلى الله عليه وسلم الخلاء، وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه وهو التعبد الليالي ذوات العدد، قبل أن ينـزع إلى أهله ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك فقال: اقرأ. قال: ما أنا بقاريء. قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ. قلت: ما أنا بقاريء. فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ. فقلت: ما أنا بقاريء. فأخذني فغطني الثالثة، ثم أرسلني فقال: اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم. أخرجه البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها.
بهذه الآيات بدأت حياة المسلمين، وبها بدأ النصر المبين، وبها فُتحت صفحة الجهاد والعبادة، وعَبقت أرجاء الأرض كلمات الشهادة، وطويت صفحة الذل والخنوع والبلادة، ورُفعت راية العز والتمكين والسيادة، فخاب المعرضون، وخسر الكافرون، وفاز المحسنون بالحسنى وزيادة.
معاشر المسلمين: إنما شرف رمضان بالقرآن: (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان). ولما كان القرآن شريعة كاملة لا نقص فيها، شملت أفضل أنواع العبادات، وأفضل أنواع القربات، فقد غدا شهر رمضان شهراً للتنافس في الخيرات، واغتنام الأوقات بالباقيات الصالحات، فهو شهر للذكر، والصيام، والقيام، والصدقة، والبر والصلة، وتلاوة آي القرآن، وهو شهر الدعاء، والدعاء هو العبادة.
وقِف وقفة قصيرة مع أول ما أنزل من الكتاب، من أوائل سورة العلق، التي افتتحها المولى جل وعلا آمراً نبيه صلى الله عليه وسلم، ومن تبعه بالقراءة، واختتمها آمراً نبيه صلى الله عليه وسلم ومن تبعه بالسجود. فقال في أولها: اقرأ باسم ربك الذي خلق، وقال في خاتمتها: كلا لا تطعه واسجد واقترب.
وهذا ما تحققه جموع المسلمين في ليالي رمضان، تحقيقا لأمر ربها، في أول بيانه، ومفتتح نعمته، وباكورة اختياره، فهم يتلون آيات الله، ويقرأون كتابه قانتين راكعين ساجدين. يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم، يصلون التراويح، ويحيون ليالي شهرهم بالصلاة، محققين وصفهم في كتاب ربهم: (قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون).
أيها الصائمون: لما اختلطت القراءة بالسجود، مثّلت القراءة استماع الأمر وفهمه وتدبره، وجاء السجود ترجمة للذل له والعمل به والانقياد لحكمه. ولأجل هذا قيدت القراءة باسم الله، إذ إن العلم الحق يدعو لعمل الحق، والدعوة إلى الحق، والخضوع للحق، قولاً وفعلا.
وها أنتم تتلى عليكم آيات الله، في صلاتكم وتتلونها في بقية أوقاتكم، وإن كان للتلاوة أجرُها، وللتلاوة فضلُها، إلا أن الأهم من التلاوة ثمرتها والغاية منها، وهي تحقيق الاتباع، والعمل بها على قدر المستطاع، ومن هنا جاءت مدارسة جبريل عليه السلام للقرآن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، كل ليلة من ليالي رمضان.
ولا عجب فالقرآن مقوم لاعوجاج القلوب وبانيها، وزارع شجرة الإيمان فيها وساقيها، وهو المزيل عنها أدرانُها، وإن كان بها مرض فهو يشفيها، وتأمل لهذا المعنى قول الحبيب صلى الله عليه وسلم: "إن الذي ليس في جوفه شيء من القرآن كالبيت الخرب". رواه الترمذي. والبيت الخرب تلقى فيه القاذورات، وتستوطنه الهوام والمنبوذ من الحيوانات، وتسكنه الشياطين وتعشش فيه الحشرات، وهكذا قلب ليس فيه قرآن، تملؤه الأهواء والشهوات، وتعصف به الفتن والشبهات، فلا جرم أن من تعلّم القرآن وعلّمه كان من خير هذه الأمة كما صح الخبر عن المصطفى صلى الله عليه وسلم إذ قال: "خيركم من تعلم القرآن وعلمه".
أيها الصائمون: في الصوم يتجلى صدق المراقبة لله، وصدق اليقين بموعود الله، وهذه التربية في هذه الدورة الشرعية العملية، أياماً معدودات، تكسب المسلم بعد أن يكمل العدة قدرة على المراقبة والمحاسبة لذاته، وكيف يصدق مع الله، وكيف يخلص العمل لوجهه جل وعلا. وبهذا يستلهم المسلم من هذه المراقبة ما يعينه على نهج الخير والفضيلة، وما يعينه على اجتناب الباطل والرذيلة، وتمنحه قوة خاصة، وإرادة صلبة ضد شهوات نفسه وغرائزها وأهوائها، وتَبني في داخله سداً منيعاً يحميه من وساوس الشيطان وهمزه ونزغاته. وكل من ضعفت إرادته فلم يصم، وتكاسل فلم يقم، فهو مكبل بالشهوة، عبد للهوى، سرعان ما تجره الشياطين إلى منحدر لا يستطيعون منه القيام، ولا هم ينصرون.
أيها الصائمون: إن كثيراً من الناس لا يفهمون حقيقة الصيام، ولا يبدو لهم منه إلا أنه إمساك عن المفطرات المادية، فهم حريصون على أن لا ينقضوا صيامهم بأكل أو شرب، حتى إن البعض منهم ليتحرج من بلع ريقه، وكم من سائل عن قليل من الماء ابتلعه وهو يتوضأ، بينما هو يبتلع أجساد المؤمنين، وهو يلوك أعراضهم، ويأكل أموالهم بالباطل، وربما زاده الصيام طيشاً وظلما، فهو سريع الغضب، ضائق الصدر، لا يفتر من التأفف. وهذا هو الصائم عادةً، وليس الصائمَ عبادةً، فلم يحقق صومه إيماناً واحتسابا، فيعجز صيام كهذا أن يهذب نفوسهم، أو يزكي قلوبهم، أو يطهر أخلاقهم، أو يصلح معاملاتهم، أو أن يصحح مسار سلوكهم. فغابت عمن صام هذا الصيام غايةُ الصيام، المبينة في قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون).
فاتق الله عبد الله، وكن من الصائمين حقيقة، فصم حسياً ومعنوياً، واعلم أن نزول اقرأ باسم ربك الذي خلق، منبه لك لأحقية من خلقك ورباك بنعمه أن تستمع أمره، وتفهم مراده، وأن تَذِل له وتخضع، فإياك أن تكون ممن يطغى، أن رآه استغنى، وإياك أن تكون من أتباع من ينهى عبداً إذا صلى، فتنهاه ولو بشغله عنها، أو بما يلهيه عنها، وتأمل في السياق: (ألم يعلم بأن الله يرى) واجعل هذا السؤال بين ناظريك، تفُز بالمعية والنصرة والسداد، فمن راقب الله، عالما أن الله يراه حقق التقوى، وبلغ درجة الإحسان، فإن فعلت فسوف توفق لأن تكون في حضرة مولاك قريباً منه، وقد أبعد عنه كثير من خلقه أعرضوا عنه فهانوا عليه، فأبعدهم منه، ولم يستطع أحدهم أن يذل له، أو أن يكون أهلاً للدخول في عباده، فاتركهم، وأعرض عنهم، ولا تطعهم، واسجد واقترب.

بارك الله ..


الخطبة الثانية :
الحمد لله ..
أما بعد: أيها المسلمون: فأوصيكم أيها المسلمون ونفسي بتقوى الله عز وجل، فهي وصية الله للأولين والآخرين: (ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله ). وهي وصية الحبيب صلى الله عليه وسلم لعموم أمته كما جاء في حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه، حين وعظهم النبي صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون، فقالوا له: كأنها موعظة مودع فأوصنا، قال: "أوصيكم بتقوى الله".
أيها المسلمون: لقد كنتم تدعون الله تعالى أن يبلغكم رمضان، فها قد بلغكموه، فما عساكم فاعلون.
ها قد فتحت أبواب الجنة، فهل نحن داخلون؟.
ها قد غلقت أبواب النار، فهل نحن منتهون؟.
ها قد فتح سوق العتق من النار فهل نحن معتقون؟. يا لله لو أن أحدنا قد علم بأنه من العتقاء كيف تكون حاله؟. ويا لله لو أن أحدنا قد علم أنه فاتته الفرصة ولم يعتق كيف تكون حاله؟. إذا كان بعض الناس يموت كمدا، وربما أصيب بنوبة قلبية حين يصاب في ماله بخسارة، مع إمكانية تعويضها، فكيف يهنأ أناس بحياتهم وهم عن ربهم غافلون، وعن عطاياه معرضون، يفتح لهم أبواباً للسباق فيتثاقلون، ويفتح لهم زاداً إلى الجنة فيستغنون، ثم إلى حطام الدنيا يسارعون، ومن أجلها يتقاتلون، مع اليقين من كل واحد منهم أنهم ميتون، وعنها راحلون، ويوم القيامة لا ينفع مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم، فأين القلوب تتفكر في هذا العرض المغري: "كل عمل ابن آدم له، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمئة ضعف، قال الله تعالى: إلا الصوم، فإنه لي وأنا أجزي به".
وأين هي القلوب الحية من تلك البشارة النبوية: إن لله تبارك وتعالى عتقاء في كل يوم وليلة، يعني في رمضان، وإن لكل مسلم في كل يوم وليلة دعوة مستجابة. رواه البزار من حديث أبي سعيد رضي الله عنه.
ألا إن المحروم من حرم في هذا الشهر فلم تزكُ نفسه، ولم تعتق رقبته، ولم يقبل على مولاه، فلم يقرأ، ولم يسجد، ولم يقترب.

اللهم ..
المشاهدات 805 | التعليقات 0