( نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ... )

مبارك العشوان 1
1445/12/14 - 2024/06/20 03:03AM

الْحَمْدُ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ  وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَنَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.

أَمَّا بَعْدُ: فَقَدْ رَوَى البُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ( نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالفَرَاغُ )

الصِّحَّةُ وَالفَرَاغُ؛ مِنْ أَعْظَمِ النِّعَمِ؛ وَالكَثِيرُ مِنَ النَّاسِ يُغْبَنُ فِيهِمَا؛ وَلَا يَعْرِفُ قَدْرَهُمَا إِلَّا عِنْدَ فَقْدِهِمَا.

يُفَرِّطُ فِي العَمَلِ الصَّالِحِ حَالَ صِحَّتِهِ وَنَشَاطِهِ وَقُوَّتِهِ.

يُفَرِّطُ فِي العَمَلِ الصَّالِحِ وَهُوَ مُمَتَّعٌ بِكَمَالِ عَقْلِهِ وَقُوَّةِ سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَجَمِيعِ جَوَارِحِهِ؛ فَإِذَا فَقَدَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ وَأَلَمَّتْ بِهِ الأَمْرَاضُ؛ عَرَفَ قَيمَةَ الصِّحَةٍ حِينَئِذٍ؛ وَنَدِمَ عَلَى تَفْرِيطِهِ فِيهَا غَايَةَ النَّدَمِ؛ يَتَمَنَّى أَعْمَالاً صَالِحَةً فَرَّطَ فِيهَا وَكَانَ يَسْتَطِيعُهَا، وَكَانَتْ يَسِيرَةً عَلَيهِ، يَتَمَنَّى أَنْ لَمْ يُفَرِّطْ فِي الفَرَائِضِ، يَتَمَنَّى أَنْ لَوْ أَكْثَرَ مِنَ النَّوَافِلِ؛ يَتَمَنَّى أَنْ لَوْ حَافَظَ عَلَى صَلَاةِ اللَّيلِ، وَصَلَاةِ الضُّحَى، وَالسُّنَنِ الرَّوَاتِبِ، يَتَمَنَّى أَنْ لَوْ أَكْثَرَ مِنْ صِيَامِ النَّوَافِلِ، وَأَنْ لَو حَجَّ وَاعْتَمَرَ، وأَنْ لَوْ كَانَ يَزُورُ أَقَارِبَهُ، وَيَصِلُ رَحِمَهُ، وَيَعُودُ المَرْضَى وَيُسَاعِدُ المُحْتَاجِينَ... إِلَى غَيرِ ذَلِكَ مِنَ الأَمَانِيِّ الَّتِي فَرَّطَ فِيهَا حَالَ صِحَّتِهِ؛ ثُمَّ حَالَ بَينَهُ وَبَيْنَهَا المَرَضُ.  

وَفَرْقٌ كَبِيرٌ بَينَ هَذَا المُفَرِّطِ؛ وَبَينَ العَامِلِ المُجْتَهِدِ حَالَ صِحَّتِهِ ثُمَّ مَرِضَ؛ يَقُولُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ( إِذَا مَرِضَ العَبْدُ، أَوْ سَافَرَ، كُتِبَ لَهُ مِثْـلُ مَا كَانَ يَعْمَلُ مُقِيمًا صَحِيحًا ) [ رَوَاهُ البُخَارِيُّ ]

وَعِنْدَمَا رَجَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوك  وَدَنَا مِنَ المَدِينَةِ، قَالَ: ( إِنَّ بِالْمَدِينَةِ أَقْوَامًا مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا وَلَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا إِلَّا كَانُوا مَعَكُمْ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ؟ قَالَ: وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ، حَبَسَهُمُ العُذْرُ ) [ رَوَاهُ البُخَارِيُّ ]

وَفِي هَذَا بِشَارَةٌ بِعَظِيمِ فَضْلِ اللهِ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ، وَسَعَةِ جُودِهِ وَكَرَمِهِ وَإِحْسَانِهِ.

وَفِيهِ تَسْلِيَةٌ لِكُلِّ عَامِلٍ مَنَعَهُ مِنْ عَمَلِهِ عَذُرٌ.

وَفِيهِ حَثُّ عَلَى العَمَلِ حَالَ القُدْرَةِ عَلَيهِ؛ لِيَسْتَمِرُّ الأَجْرُ عِنْدَ العَجْزِ عَنْهُ.

عِبَادَ اللهِ: وَكَمَا يُفَرِّطُ الكَثِيرُ فِي العَمَلِ الصَّالِحِ حَالَ صِحَّتِهِ؛ فَكَذَلِكَ يُفَرِّطُ الكَثِيرُ فِيهِ وَقْتَ فَرَاغِهِ وَقِلَّةِ شُغْلِهِ.  فَإِذَا اشْتَغَلَ بِالأَهْلِ وَالزَّوْجَةِ وَالأَوْلَادِ؛ إِذَا اشْتَغَلَ بِالوَظِيفَةِ وَتَحْصِيلِ الرِّزْقِ؛ إِذَا اشْتَغَلَ بِهَذَا وَغَيرِهِ؛ عَرَفَ قِيمَةَ الفَرَاغِ، وَنَدِمَ عَلَى تَفْرِيطِهِ فِيهِ غَايَةَ النَّدَمِ.

يَقُولُ ابنُ الْجَوْزِيِّ رَحِمَهُ اللهُ: قَدْ يَكُونُ الْإِنْسَانُ صَحِيحًا وَلَا يَكُونُ مُتَفَرِّغًا لِشُغْلِهِ بِالْمَعَاشِ، وَقَدْ يَكُونُ مُسْتَغْنِيًا وَلَا يَكُونُ صَحِيحًا؛ فَإِذَا اجْتَمَعَا فَغَلَبَ عَلَيْهِ الْكَسَلُ عَنِ الطَّاعَةِ فَهُوَ الْمَغْبُونُ؛ وَتَمَامُ ذَلِكَ أَنَّ الدُّنْيَا مَزْرَعَةُ الْآخِرَةِ، وَفِيهَا التِّجَارَةُ الَّتِي يَظْهَرُ رِبْحُهَا فِي الْآخِرَةِ؛ فَمَنِ اسْتَعْمَلَ فَرَاغَهُ وَصِحَّتَهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ فَهُوَ الْمَغْبُوطُ، وَمَنِ اسْتَعْمَلَهُمَا فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ فَهُوَ الْمَغْبُونُ؛ لِأَنَّ الْفَرَاغَ يَعْقُبُهُ الشُّغْلُ وَالصِّحَّةُ يَعْقُبُهَا السَّقَمُ... الخ

فَأُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِاغْتِنَامِ الحَيَاةِ قَبْلَ فِرَاقِهَا، وَالنِّعَمِ قَبْلَ زَوَالِهَا، وَفُرَصِ الخَيرَاتِ وَمَوَاسِمِ الطَّاعَاتِ قَبْلَ انْقِضَائِهَا.  لِنَجْتَهِدْ - وَفَّقَكُمُ اللهُ - فِي العَمَلِ الصَّالِحِ مَا دُمْنَا نَسْتَطِيعُهُ  وَقَبْلَ أَنْ يَحُولَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ مَرَضٌ أَوْ هَرَمٌ أَوْ مَوْتٌ أَوْ فَقْرٌ أَوْ شُغْلٌ.

بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ وَنَفَعَنَا بِمَا فِيهِ مِنَ الْآيِ وَالذَّكَرِ الْحَكِيمِ وَأَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ الْعَظِيمَ الْجَلِيلَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلُّ ذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.

 

الخطبة الثانية: 

الحَمْدُ لِلَّهِ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللهِ.

أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّهُ مَعَ إِجَازَةِ الطُّلَّابِ وَمُعَلِّمِيهِمْ، وَفَرَاغِهِمْ  يَحْسُنُ التَّذْكِيرُ بِأَهَمِّيَّةِ الوَقْتِ، وَضَرُورَةِ اسْتِغْلَالِهِ فِيمَا يَنْفَعُ دِينًا وَدُنْيًا.

الوَقْتُ - وَفَّقَكُمُ اللهُ - هُوَ العُمُرُ، الأَيَّامُ وَالأَشْهُرُ وَالسَّنَوَاتُ هِيَ عُمُرُ الإِنْسَانِ؛ وَلِهَذَا يَقُولُ الْحَسَنُ رَحِمَهُ اللهُ: ابْنَ آدَمَ إِنَّمَا أَنْتَ أَيَّامٌ؛ وَكُلَّمَا ذَهَبَ يَوْمٌ ذَهَبَ بَعْضُكَ.

وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: كَيْفَ يَفْرَحُ بِالدُّنْيَا؛ مَنْ يَوْمُهُ يَهْدِمُ شَهْرَهُ، وَشَهْرُهُ يَهْدِمُ سَنَتَهُ، وَسَنَتُهُ تَهْدِمُ عُمْرَهُ، كَيْفَ يَفْرَحُ مَنْ يَقُودُهُ عُمْرُهُ إِلَى أَجْلِهِ، وَتَقُودُهُ حَيَاتُهُ إِلَى مَوْتِهِ.

عِبَادَ اللهِ: وَلِأَهَمِّيَّةِ الوَقْتِ حَرِصَ السَّلَفُ رَحِمَهُمُ اللهُ عَلَى عَلَيهِ أَشَدَّ الحِرْصِ، حَتَّى كَانَ أَحَدُهُمْ أَشَحَّ عَلَى عُمُرُهِ مِنْهُ عَلَى دِرْهَمِهِ. 

وَمَعَ هَذِهِ الأَهَمِّيَّةِ؛ إِلَّا أَنَّ التَّفْرِيطَ فِي الوَقْتِ كَبِيرٌ  وَتَضْيِيعَهُ فِي تَوَافِهِ الأُمُورِ كَثِيرٌ؛ فَقَدْ تَضِيعُ السَّاعَةُ وَالسَّاعَتَانِ وَالأَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ؛ فِي لُعْبَةٍ فِي الجَوَّالِ؛ أَوْ فِي مُتَابَعَةِ مَنْ يُسَمَّونَ بِالمَشَاهِيرِ، وَالتَّنَقُّلِ بَينَ بَرَامِجِ التَّوَاصُلِ... إِلَى غَيرِ ذَلِكَ.

الوَقْتُ أَنْفَسُ مَا عُنِيتَ بِحِفْظِهِ * وَأَرَاهُ أَسْهَلُ مَا عَلَيكَ يَضِيعُ.

تَضْيِيعُ الوَقْتِ وَإِهْدَارُهُ؛ يَسِيرٌ عَلَى مَنْ لَمْ يَعْرِفْ قِيمَتَهُ  عَسِيرٌ عَلَى مَنْ عَرَفَهَا.

إِنَّ حَيَاةَ المُسْلِمِ العَاقِلِ حَيَاةَ جِدٍّ، لَا غَفْلَةَ فِيهَا وَلَا ضَيَاعٍ  كُلَّمَا فَرَغَ مِنْ عَمَلٍ شَرَعَ فِي آخَرٍ؛ يَقُولُ اللهُ تَعَالى: { فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ } الشرح 7  

يَقُولُ ابنُ عَاشُورٍ رَحِمَهُ اللهُ: فَالْمَعْنَى؛ إِذَا أَتْمَمْتَ عَمَلًا مِنْ مَهَامِّ الْأَعْمَالِ؛ فَأَقْبِلْ عَلَى عَمَلٍ آخَرَ؛ بِحَيْثُ يَعْمُرُ أَوْقَاتَهُ كُلَّهَا بِالْأَعْمَالِ الْعَظِيمَةِ.

وَيَقُولُ الشَّنْقِيطِيُّ رَحِمَهُ اللهُ عَنْ هَذِهِ الآيَةِ: لَمْ تَتْرُكْ لِلْمُسْلِمِ فَرَاغًا فِي وَقْتِهِ; لِأَنَّهُ إِمَّا فِي عَمَلٍ لِلدُّنْيَا، وَإِمَّا فِي عَمَلٍ لِلْآخِرَةِ.

أَعَانَنِي اللهُ وَإِيَّاكُمْ عَلَى حِفْظِ أَوْقَاتِنَا فِيمَا يُقَرِّبُنَا إِلَيهِ.

ثُمَّ صَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى مَنْ أَمَرَكُمُ اللهُ بِالصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَيهِ؛ فَقَالَ سُبْحَانَهُ: { إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا }[الأحزاب 56 ] اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، اللهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ.

اللَّهُمَّ أصْلِحْ أئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، اللَّهُمَّ وَفِّقْ وُلَاةَ أمْرِنَا لِمَا تُحِبُّ وَتَرْضَى، اللَّهُمَّ خُذْ بِنَوَاصِيهِمْ لِلْبِرِّ وَالتَّقْوَى، اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا وَإِيَّاهُمْ لِهُدَاكَ، واجْعَلْ عَمَلَنَا فِي رِضَاكَ، اللَّهُمَّ مَنْ أَرَادَنَا وَدِينَنَا وَبِلَادَنَا بِسُوءٍ فَرُدَّ كَيْدَهُ إِلَيهِ، وَاجْعَلْ تَدْبِيرَهُ تَدْمِيرًا عَلَيهِ، يَا قَوِيُّ يَا عَزِيزُ.

عِبَادَ اللهِ: اُذْكُرُوا اللهَ العَلِيَّ الْعَظِيْمَ يَذْكُرْكُمْ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ وَلَذِكْرُ اللهِ أكْبَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.

 

 

المرفقات

1718841735_نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ....pdf

1718841759_نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ....docx

المشاهدات 1023 | التعليقات 1

جزاك الله خيرا