نعمة المياه وكيفية المحافظة عليها 20 شعبان 1442هـ
محمد بن مبارك الشرافي
نعمة المياه وكيفية المحافظة عليها 20 شعبان 1442هـ
الْحَمْدُ للهِ ربِّ العالَمين، أنزلَ منَ السماءِ ماءً بقَدَرٍ، نَقِيًّا مِنَ الشَّوائبِ والكَدَر، فَعمَّ بهِ البواديَ والحَضَر، سُبْحانَهُ جَعلَ لنا اللَّيلَ لِباسًا، والنَّومَ سُباتًا، وجَعلَ النَّهارَ نُشُورًا، وأنزلَ لَنا بقُدْرتِه منَ السَّماءِ ماءً طَهورًا، نحمدُه –سُبْحانَه- بما هوَ لهُ أهلٌ منَ الحمدِ ونُثني عليه، ونُومنُ به ونتوكَّلُ عليه، مَنْ يهدهِ اللهُ فلا مُضلَّ له، ومَنْ يُضللْ فلا هاديَ له، وَنَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَنَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، خيرُ مُؤمنٍ بِاللهِ، مُفَوِّضٍ أمورَهُ إِلَيه، مُتَحَدِّثٍ بِنِعَمِ اللهِ عليه، اللهم صلِّ وسلِّمْ وباركْ عليهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أجمعين، والتابعينَ لَهُم بإحسانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فإنَّ مِنْ أجلِّ نِعَمِ اللهِ على الإنسانِ وأعظمِها وكُلُّها جليلةٌ وعظيمة نِعْمَةُ الماءِ، وكيفَ لا والماءُ مَصدَرُ الحياة؟ يقولُ اللهُ -تعالى-: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ}، عن أبي هريرة رضي اله عنه أن رسولَ صلى الله عليه وسلم قال (كلُّ شيءٍ خُلِقَ مِنْ ماء) رواه أحمد وقال الأرناؤوط : إسناده صحيح؟
ولأهميَّةِ المياهِ وعظيمِ قَدْرِها وجليلِ أمرِها حفلَ القرآنُ الكريمُ بذكرِها والتنويهِ بشأنِها في مَعرِضِ الحديثِ عَنْ نِعَمِ اللهِ -تبارك وتعالى- على الإنسان، وتحدَّثَ عنها نازلةً منَ السماء، أو خارجةً مِنَ الأرضِ أو مُختَزنةً فيها لِوَقْتِ الحاجةِ، يقولُ اللهُ تعالى{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ}.
إِنَّهُ لولا الماءُ ما كان إنسانٌ وما عاش حيوانٌ وما نبت زَرْعٌ أو شَجَر، فمِنَ الماءِ يَشربُ الإنسانُ ومنهُ يَخرجُ المَرعَى، وبهِ تُكْسى الأرضُ بِساطًا أَخضرَ؛ فتبدو للناظرين أَجْملَ وأَنضرَ، يقولُ اللهُ تعالى{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ * يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}
أيها المسلمون: إنَّ مِنَ الناسِ مَنْ تَعوَّدُوا وُجُودَ النِّعْمَةِ وأَلِفُوها؛ فَهُمْ تَحْتَ تأثيرِ هذا الإِلْفِ وهذهِ العادةِ قَدْ يَنْسَونَ قَدْرَ هذهِ النِّعْمَةِ عليهم؛ لأَنَّها دائمًا حاضرةٌ بينَ أَيدِيهِم، ومِنْ هذهِ النِعَمِ التي قَدْ يَنْسى البعضُ أهمِّيَّتَها نِعْمَةُ الماء؛ فلْيتَخَيَّلْ أحدُكُم فَقْدَهُ لِهذهِ النِّعمةِ ولو لِزَمَنٍ يَسيرٍ، حينَها يعلمُ أنَّ فضلَ اللهِ عليهِ بها عظيم، وأنَّ فَقْدَها خَطَرٌ جسيمٌ، يقولُ اللهُ تعالى{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ}، ثُمَّ لِنَتصوَّرِ الماءَ مِلحًا أُجاجًا؛ حينَها نَعلمُ أنَّ عُذُوبةَ الماءِ نِعْمَةٌ إِلَهيَّةٌ، ومِنْحَةٌ ربَّانِيَّةٌ، تَستَوجِبُ حَمْدَ اللهِ وشُكْرَه، وتَسبِيحَهُ وذِكْرَهُ، يقولُ اللهُ تعالى{أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ * لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ} ، إنَّ الماءَ في مَكَانِ الصَّدَارةِ مِنَ النِّعَمِ التي يُسألُ عنها العبدُ يومَ القيامةِ، وهوَ مِنَ النَّعِيمِ المَقْصُودِ في قولِ اللهِ تعالى{ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ}.
وقد جاء في الأَثَر : إنَّ أوَّلَ ما يُسألُ عنهُ العَبدُ يومَ القيامةِ مِنَ النَّعِيمِ أنْ يُقالَ له: أَلَمْ نُصَحِّ لَكَ بَدنَكَ ونُرْوِكَ مِنَ الماءِ البارد؟"، ولقدْ كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَفِيًّا بنِعْمَةِ اللهِ يُعَظِّمُها ويَشكرُها، وما أَكْثَرَ الدَّعَواتِ التي كانَ يَدعُو بِها رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ يَفرُغُ مِنْ طَعامِهِ إِذَا طَعِمَ وشَرابِهِ إِذَا شَرِبَ، فعَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ قَالَ (الحمدُ للَّهِ الَّذِي أطعمنَا وَسَقَانَا وكفانا وَآوَانَا فَكَمْ مِمَّنْ لَا كَافِيَ لَهُ وَلَا مؤوي) رَوَاهُ مُسلم
عبادَ الله: إنَّ شُكْرَ اللهِ -تباركَ وتعالَى- على نِعْمَةِ الماءِ لا يقتصرُ على الشُّكْرِ باللسانِ، بلْ يَتعدَّاهُ إلى الشُّكْرِ بِحُسْنِ التَّصرُّفِ فيهِ وحُسْنِ استِغْلَالِه، والاقتصادِ والتَّرشِيدِ في استِعمالِه، فأَيُّ إِسْرافٍ في استِعْمَالِ الماءِ هوَ تصرُّفٌ سيّءٌ وسلوكٌ غيرُ حَميدٍ، جاءَ النهيُ عنهُ صَرِيحًا في القُرآنِ المجيدِ، يقولُ اللهُ تعالى{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ]، وإذا كانَ الإسرافُ في استعمالِ الماءِ لِلشُّربِ مَنْهيًّا عنهُ وممنوعًا مِنْهُ فإِنَّ استعمالَه بإِسْرافٍ في مجالاتٍ أُخْرَى أَكْثَرُ مَنْعًا وأشدُّ خَطَرًا، وقد وردَ عَنْ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- أنهُ كانَ إذا اغتسلَ اغتسلَ بالقلِيلِ، وإذا تَوضَّأَ تَوضأ بالنَّزْرِ اليَسيرِ، فعَنْ أنسٍ -رضيَ اللهُ عنه- قالَ: "كانَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- يغتسلُ بالصَّاعِ إلى خمسةِ أمدادٍ، ويتوضَّأُ بالمُدِّ"، والمُدُّ مِلءُ اليدَينِ المُتوسِّطَتَين، وإذا كانَ الاقتصادُ في استعمالِ الماءِ في العبادةِ مَطْلُوبًا وعَمَلًا مَرغُوبًا فَالاقتصادُ في غيرِ العبادةِ أَولَى وأَحرى.
فاتَّقُوا اللهَ عبادَ اللهِ، واعلموا أنَّ منَ الإساءةِ والانحرافِ هَدْرَ الماءِ عَنْ طريقِ التبذيرِ والإِسْرافِ.
أقُولُ قَوْلي هَذَا وَأسْتغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ لي وَلَكُمْ، فَاسْتغْفِرُوهُ يَغْفِرْ لَكُمْ إِنهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَادْعُوهُ يَسْتجِبْ لَكُمْ إِنهُ هُوَ البَرُّ الكَرِيمُ.
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ، وَلَا عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ، وَأشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَلِيُّ الصَّالِحِينَ، وَأشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ: إنَّ مَصادِرَ المياهِ مِنْ أَنْهارٍ أَو بِحارٍ أَو آبارٍ أو أَفْلَاجٍ يَجِبُ أَنْ يَتعاونَ الجَمِيعُ في سبيلِ إِبقَائِها نظيفةً نَقِيَّةً، يَجِبُ أنْ يعملَ الإنسانُ على إِبقاءِ الماءِ على الصورةِ التي صوَّرَها القرآنُ الكريمُ، والصفةِ الَّتي وَصَفَهُ بِها، فَقَدْ جاءَ وَصْفُ المَاءِ في القُرآنِ الكريمِ بِالبَركَةِ والطَّهُورِ والعذُوبَة، يقولُ اللهُ تعالى {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا} ولِكَي يَبقَى الماءُ علَى هذهِ الصُّورَةِ النَّضِّرَةِ الزَّاكِية، والصِّفَاتِ الجَميلةِ الرَّاقيةِ نَهَى الإسلامُ عَنْ كُلِّ تَصَرُّفٍ يُؤَدِّي إلى خِلَافِ ذلك، فَعَنْ جابرٍ رضيَ اللهُ عنه عنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنهُ نَهَى أنْ يُبالَ في الماءِ الرَّاكِد. رواه مسلم، وعَنْ معاذٍ رضيَ اللهُ عنه قال: قالَ رَسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "اتقوا الملاعِنَ الثلاثَ: البُرازُ في المَواردِ وقارعةِ الطَّريقِ والظِلِّ"، والمرادُ بالمواردِ مواردُ المياه.رواه أبو داوود وأصله في مسلم بغيرهذا اللفظ.
إنَّ أيَّ سلوكٍ أو تصرُّفٍ ينتجُ عنهُ تلوّثُ المياهِ هو إيذاءٌ نَهَى اللهُ -عزَّ وجلَّ- عنهُ فقال {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا}، وهو أيضًا ضرارٌ نهى عنهُ الرسولُ -صلى الله عليه وسلم- فقالَ: "لا ضَرَرَ ولا ضِرار".
فاتقوا اللهَ عبادَ الله، واعلموا أنَّ أصحابَ النُّفُوسِ الزَّكِيَّةِ والقلوبِ التَّقِيَّةِ همُ الَّذينَ يعملُونَ على إِبقَاءِ المياهِ صافيةً نَقِيَّةً.
اللَّهُمَّ اجْعَلْ جَمْعَنَا هَذَا جَمْعًا مَرْحُومًا، وَاجْعَلْ تَفَرُّقَنَا مِنْ بَعْدِهِ تَفَرُّقًا مَعْصُومًا، وَلا تَدَعْ فِينَا وَلا مَعَنَا شَقِيًّا وَلا مَحْرُومًا.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالعَفَافَ وَالغِنَى.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ أَنْ تَرْزُقَ كُلاًّ مِنَّا لِسَانًا صَادِقًا ذَاكِرًا، وَقَلْبًا خَاشِعًا مُنِيبًا، وَعَمَلًا صَالِحًا زَاكِيًا، وَعِلْمًا نَافِعًا رَافِعًا، وَإِيمَانًا رَاسِخًا ثَابِتًا، وَيَقِينًا صَادِقًا خَالِصًا، وَرِزْقًا حَلَالًا طَيِّبًا وَاسِعًا، يَا ذَا الْجَلَالِ وَالإِكْرَامِ, اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَوَحِّدِ اللَّهُمَّ صُفُوفَهُمْ، وَأَجمع كلمتهم عَلَى الحق، وَاكْسِرْ شَوْكَةَ الظالمين، وَاكْتُبِ السَّلَامَ وَالأَمْنَ لِعَبادك أجمعين, اللَّهُمَّ رَبَّنَا احْفَظْ أَوْطَانَنَا وَأَعِزَّ سُلْطَانَنَا وَأَيِّدْهُ بِالْحَقِّ وَأَيِّدْ بِهِ الْحَقَّ يَا رَبَّ العَالَمِينَ ,اللَّهُمَّ رَبَّنَا اسْقِنَا مِنْ فَيْضِكَ الْمِدْرَارِ، وَاجْعَلْنَا مِنَ الذَّاكِرِينَ لَكَ في اللَيْلِ وَالنَّهَارِ، الْمُسْتَغْفِرِينَ لَكَ بِالْعَشِيِّ وَالأَسْحَارِ, اللَّهُمَّ أَنْزِلْ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِ السَّمَاء وَأَخْرِجْ لَنَا مِنْ خَيْرَاتِ الأَرْضِ، وَبَارِكْ لَنَا في ثِمَارِنَا وَزُرُوعِنَا يَا ذَا الْجَلَالِ وَالإِكْرَامِ, رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ, رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا، وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً، إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ, رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ.
المشاهدات 3016 | التعليقات 2
شبيب القحطاني
عضو نشط
جزاك الله خيرا
محمد بن مبارك الشرافي
تنبيه : أصحاب الفضيلة قد استفدت هذه الخطبة من خطبة أحد المشايخ جزاه الله خيرا وكتب أجره
ولنسبة الفضل لأهله جرى الإخبار
تعديل التعليق