نعمة المال والكسب الحلال
ضمير مستتر
1433/06/05 - 2012/04/26 14:54PM
عباد الله :
المالُ عَصَبُ الحياة ، وقوام العَيْش ، وأساس الاستغناء والعفاف .
المال غُرِست النفوس على حبِّه، ورُكِّبت الطباع على طلبه؛ {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا}
المال زهرة الحياة، وبهجة الدنيا، {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}
المال نِعمة يمنُّ الله بها على عباده؛ {وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ}
بالمال تُصان الأعراض، وتُحفَظ الكرامة، ويتسابق به المؤمِن في درجات البِرِّ والطاعة، المال مع الدِّين والنَّفْس والعقل والعِرْض، ضرورات خمس، جاءتِ الشريعة الإسلامية بحفِظها وصيانتها، لقد اهتمَّ الإسلام بأمر المال، وحثَّ على كسْبه، وحضَّ على العمل والنشاط لتحصيله.
يقول سبحانه: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} ويقول - تعالى -: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ}
رأى عمر الفاروق قومًا قابعين في رُكْن المسجد بعدَ صلاة الجمعة، فسألهم: مَن أنتم؟ قالوا: نحن المتوكِّلون على الله، فعلاهم عمر بالدِّرَّة، ونهاهم عن مِثْل هذا الكلام، وقال: لا يقعدنَّ أحدُكم عن طلب الرِّزق، ويقول: اللهم ارزقني، وقد علم أنَّ السماء لا تُمطر ذهبًا ولا فِضَّة، وأنَّ الله يقول: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ}
فالإسلام لا يُريد من المسلِم أن يكون راهبًا في صومعته، أو ناسكًا في مُعتكَفه، بلا عملٍ ولا كسْب
الإسلام يربِّي المسلِم على أن يكون كادحًا عاملاً، مؤديًا دَورَه في الحياة، آخذًا منها، معطيًا لها، الإسلام يُريد من أهله أن يكونوا أغنياءَ أقوياءَ، لا ضعفاء مهازيل، والمؤمِن القوي خيرٌ وأحبُّ إلى الله من المؤمِن الضعيف.
وهل يُنشر الخير، وتُبلَّغ الدعوة، وتُرفع راية الدِّين، إلاَّ بأموال أهل الإيمان والإحسان، مع ألْسنة أهل الحق والبيان؟! يقول - سبحانه - في قِيمة المال لإحراز النصْر، ورفْع الشأن: {ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا}
وها هم أصحابُ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - لما هاجروا إلى المدينة مخلِّفين وراءَهم المال والدِّيار، لم يقعدوا ويتكاسلوا عالةً على غيرهم في المدينة، بل دخلوا الأسواق، وزاحموا الناسَ في البيع والشراء، وببركةِ مال هؤلاء، قَويتْ شوكةُ الإسلام، وظهر الدِّين، وانتشرتِ الدعوة، وحمل الناس في الجِهاد في سبيل الله، ويَكْفي أن نعرف أن سبعةً من المبشَّرين بالجنة كانوا من أهل الأموال الضخْمة، وأصحاب الضَّرْب في الأسواق.
قدِم عبدُالرحمن بنُ عوف المدينة، لا يَملك من متاع الدنيا إلا ثوبَه الذي يَستُر به سوءتَه، وآخَى النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - بين عبدالرحمن بن عوف، وبين سعْد بن الربيع، فقال سعد بن الربيع لعبدالرحمن بن عوف: أنا أكثرُ أهل المدينة مالاً، فانظرْ شطرَ مالي فخذه، وتحتي امرأتان، فانظر أيَّتهما أعجب لك، حتى أطلِّقَها، وتتزوجها، فقال له عبدالرحمن بن عوف: بارَكَ الله لك في أهلك ومالك، دُلُّوني على سوق المدينة، فخرج إلى السُّوق، وعمل وتكسَّب، واشترى وباع، ولم تمضِ الأيام والسِّنون إلا وابن عوف مِن أهل الثراء والتجارة الرابحة، وكان مِن مأثور قوله: يا حبَّذا المال، أصونُ به عِرْضي، وأتقرَّب به إلى ربي.
ما أسعدَ الحياةَ، وما أطيبَ العيش، حين يَأكل المرءُ ويُؤكِل، ويَلبس ويُلبِس، مِن عَرَق جبينه! طلبُ المال الحلال مِن خير العبادات، وأفضلِ الطاعات، إذا صحَّت معه النيات، ويكفي أهله شرفًا أنَّ الله قد قرَنَهم مع المجاهدين الذين يُقدِّمون أرواحَهم في سبيل الله؛ {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}
مرَّ رجلٌ بالنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - يشتعل حيويةً ونشاطًا، فأُعجِب الصحابة به، فقالوا: يا رسول الله، لو كان هذا في سبيل الله! فقال النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنْ كان خرج يَسْعى على ولده الصِّغار، فهو في سبيل الله، وإنْ كان خرج يَسْعى على أبوين شيخين، فهو في سبيل الله، وإن كان يَسْعى على نفسِه يعفُّها فهو في سبيل الله، وإنْ كان خرج رِياءً ومفاخرةً، فهو في سبيل الشيطان))؛ رواه الطبراني، وهو حديث صحيح.
وأطيبُ الكسْب وأبركُه ما كان بعمل اليد وعَرَق الجبين، يسأل النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: أيُّ الكسْب أفضل؟ قال: ((عَمَلُ الرجل بيده، وكلُّ بيع مبرور))؛ رواه البزار، وصحَّحه الحاكم.
وها هم أنبياء الله، صفوة الخَلْق - صلوات الله عليهم - كانوا يأكلون مِن عمل أيديهم، فإبراهيم - عليه السلام - كان بزَّازًا؛ أي: يبيع أنواع اللباس، وزكريا كان يعمل نجَّارًا، أما داود - عليه السلام - فكانتْ صنعتُه الحدادة، وخير البرية محمَّد - صلَّى الله عليه وسلَّم - في صدر شبابه كان يَرْعى الغنم سنين عِدَّة، ثم اشتغل بالتِّجارة في مال خديجة بعدَ ذلك.
فالعمل عباد الله، عِزُّ الرَّجل وشرفُه، ولا غَضاضةَ في أيِّ صنعة، ولا شنار مع أيِّ حِرْفة، بل الدناءة تأكُّل فُتاتِ أموال الآخرين، والنقيصة استشرافُ أعطيات المحسنين، يقول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "مكسبةٌ في دناءة خيرٌ من سؤال الناس"، وقال بعض السلف: "خيرُ الناس مَن كفَّ فكَّه عن الحرام، وفكَّ كفَّه عن السؤال".
طلبُ المال من حلاله، والسعيُ في جمعه من أبوابه، لا يُنافي خُلُقَ الزهد، فالزهد الحقيقي: ألاَّ يكون المال في قلْبك، إنما يكون في يدِك، يقول الإمام أحمد بن حنبل: الزُّهد أن يكون عندَك المال، فلا يستبد بك الحُزن إن نقص، ولا يستبد بك الفَرَح إن زاد.
عباد الله:
المال غادٍ ورائح، ومقبِلٌ ومدبر، وسيلةٌ لا غاية، وهو سلاحٌ ذو حدَّين؛ {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى}
فصِنْف من أهل الأموال عرَف فضل الله ومِنَّته يوم أن أسبغَه عليه، فأدَّى حقَّ هذا المال، وأنفقه في أبواب البِرِّ والإحسان؛ ليلقاها أمامَه يوم لا ينفع إلاَّ الحسنات، وصِنف آخَرُ نسُوا إنعام المنعِم، وتفضُّلَ المكرِم، فجعلوا هذا المالَ نَهْمةً لإشباع الشهوات والنزوات، والمنافسة في المظهريات والدِّعايات، حتى إذا ما دُعوا إلى إطعام مسكين، أو نَشْر دِين، أو سدِّ مسغبة، رأيت الشحَّ والإعدام، والضنّ والإحجام، لَيْتهم ثم لَيْتهم علموا أنَّ بأيديهم مِفتاحًا من مفاتيح أبواب الجنة، ولكنَّهم لم يحسنوا استخدامَ هذا المفتاح.
وأمامَ طُغيان المادة، وطنين المال ورنينه، تضعُف نفوس، وتذوب أخلاقيات، فيُؤكَل الحرام، ويُكتسَب الخبيث.
الكَسْب الخبيث عباد الله شؤمٌ وبلاء، ونكدٌ ووباء، يُضعِف الدِّيانة، ويمحق السكينة، ويُذهِب البركة، فعلى صاحبه غُرْمُه، ولغيره غُنْمه، الكسْب الخبيث يُقسِّي القلْب، ويُطفئ نور الإيمان، ويُبعد العبدَ من ربِّه، فلا تُقبل له صَدَقة، ولا يُرْفع له دعاء.
يقول بعضُ الحكماء: شرُّ المال ما لَزِمك إثمُ مكسبه، وحُرمتَ أجْرَ إنفاقه، وفي الحديث: أنَّ سعد بن أبي وقاص قال: يا رسول الله، ادع الله لي أن يجعلني مستجابَ الدعوة، فقال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((يا سعدُ، أطِبْ مطعمَك، تكن مستجابَ الدعوة)).
وفي الحديث: ((لا يدخل الجَنَّةَ جسدٌ غُذِي بحرام))؛ رواه الطبراني، وقال الذهبي: سنده صحيح.
وإن تعجب، فعجبٌ ممَّن يحتمي عن الحلال مخافةَ المرض، ولا يحتمي عن الحرام خشيةَ النار، والقاعدة في هذا الباب - عباد الله -: أنَّ المحرَّم لا يجوز بيعُه، ولا التكسُّب منه، فإنَّ الله - تعالى - إذا حرَّم شيئًا حرَّم ثمنَه، فالتكسُّب من الرِّبا والرِّشوة والدُّخَان، والمجلات الخليعة والغِناء، كل ذلك مِن أكْل الحرام، وكذا تصريفُ السِّلع بالأَيْمان الكاذبة، واختلاس الأموال العامَّة والخاصَّة، بأساليبَ مختلفة، وسُبلٍ ملتوية، كل هذا مِن الكسْب الخبيث، وصَدَق الصادق المصدوق: ((يأتي على الناس زمانٌ لا يُبالي المرءُ ما أخذ منه، أمِن الحلال أم مِن الحرام))؛ رواه البخاري.
ومِن المسائل التي لن تزولَ قدمَا عبدٍ حتى يُسألَ عنها بين يدي ربِّه عريانًا: مالك، مِن أين اكتسبتَه؟ وفيمَ أنفقتَه؟
اللهم أغْنِنا بحلالك عن حرامك، وبطاعتِك عن معصيتك، وبفضْلك عمَّن سواك، وهبْ لنا غنًى لا يُطغينا، وصحةً لا تُلهينا، وأغْنِنا اللهمَّ بفضلك عمَّن أغنيتَه عنَّا، وأستغفر الله العظيم.
الحمدُ لله وليِّ المتقين، ولا عدوانَ إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على نبيِّه الأمين، وعلى آله وصحْبه أجمعين، أما بعد:
فإنَّ المقرَّر في عقيدتنا: أنَّ الأرزاق بيد ربِّ العالمين، يقسمها بيْن عباده كيف يشاء؛ {وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ} [النحل: 71]، فقِسمته - سبحانه - هي الأصلح، وقضاؤه هو الأنفع، فكَمْ مِن غنيٍّ لا يُصلحه إلا الغِنَى، ولو افتقر لجزع وكَفَر، وكم مِن فقير لا يصلحه إلا الفقر، ولا اغْتنى لطَغَى وبطَر! {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ} [الشورى: 27].
إلا أنَّ للرِّزق - عباد الله - مع الكدِّ والعمل أسبابًا معلومةً، ذَكَرها الله - تعالى - في كتابه، وذَكَرها رسولُه - صلَّى الله عليه وسلَّم - في سُنته، وقد جعل الله لكلِّ شيءٍ سببًا.
فمِن أعظم أسباب الرِّزق عباد الله:
* التوبة إلى الله والرُّجوع إليه واستغفارُه، يقول سبحانه مخبرًا عن قول نوح - عليه السلام – لقومه : {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا *يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ} ويقول النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مَن أكْثرَ مِن الاستغفار، جعل الله له مِن كل همٍّ فرَجًا، ومن كل ضيق مخْرجًا، ورَزَقه من حيث لا يحتسب))؛ رواه أحمد وصحَّحه الحاكم.
وكلام الله ورسوله حقٌّ وصِدْق، فإذا ما استغفر العبد ربَّه ولم يرَ أثر الرزق في ماله، فليعلم أنَّ الخَلَل فيه، وأنَّ هذا الاستغفار لم يتجاوزِ اللِّسان، ولم يصلْ إلى سويداء القلْب.
ومِن أسباب الرِّزق عباد الله: تحقيق تقوى الله - عزَّ وجلَّ - بفِعْل ما أمر، واجتناب ما نهى عنه وزَجَر؛ يقول سبحانه: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ}
* ومِن الأسباب التي تُستجلب بها الأرزاق: صِلة الأرحام؛ يقول النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مَن أحبَّ أن يُبسطَ له في رِزقه، ويُنسأ له في أثرِه، فليصلْ رَحِمه))؛ متفق عليه.
فكم مِن عبدٍ فتَح الله عليه أبوابَ الرِّزق مع قلَّة تعلُّمه، وضعْف نشاطه، وما ذاك إلا بسبب برِّه بوالديه، أو صِلته لرَحِمه القاطع، وإعطائه لقريبه الكاشِح.
* ومِن الأسباب التي تُستنزل بها الأرزاق: كثرة الصَّدقة في وجوه البرِّ والإحسان؛ يقول - سبحانه - في الحديث القدسي: ((يا ابن آدم، أَنْفِقْ أُنفِقْ عليك))؛ رواه مسلم في صحيحه.
وعند أبي داود بسند صحيح: أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((إنما تُرْزَقون وتُنصرون بضعفائكم))؛ أي: بسبب دعائهم.
* ومن أسباب الرزق أيضًا: المتابعةُ بيْن الحج والعمرة، وزيارة البيْت الحرام متى ما سَنحتِ الفُرْصة؛ يقول النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((تابِعوا بيْن الحج والعُمرة، فإنَّهما ينفيان الفقر والذنوب، كما ينفي الكيرُ خبَثَ الحديدِ والذهبِ والفِضَّة))؛ رواه أحمد وغيره، وهو حديث صحيح.
* ومن أسباب الرزق أيضًا: صِدق التوكُّل على الله - تعالى - في العمل، فالعمل والتوكُّل صِنوان لا ينفكَّان.
يقول النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لو أنَّكم تَوكَّلون على الله حقَّ توكُّله، لرَزَقكم كما يرزق الطَّير، تغدو خِماصًا، وتَرُوح بِطانًا))؛ رواه الإمام أحمد والترمذي، وصحَّحه ابن حبان والحاكم.
وإذا رُزِق العبدُ القناعةَ فاكْتفى بالكفاف، واكتسى بالعَفاف، أتتْه سحائبُ الأرزاق، من الملِك الرزَّاق - جل جلاله.
ثَبَت في الصحيحين من حديث حَكيم بن حِزام: أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((مَن يَستعفِفْ يُعفَّه الله، ومَن يستغنِ يُغنِه الله)).
* ومن أسباب الرِّزق وأهمها: دعاء الله - عزَّ وجلَّ - بالرِّزق الحلال؛ دخَل رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - مسجدَه يومًا، فرأى أبَا أُمامة وحيدًا، قد علا وجهَه الحزنُ والبؤس، فقال: ((يا أبا أمامة، ما الذي أجلسك في المسجد في هذه الساعة؟)) قال: يا رسولَ الله، همومٌ أصابتني، وديون غلبتني، فقال له النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ألا أُعلِّمك كلماتٍ إذا قلتَهنَّ أذهب الله همَّك، وقضى دَينَك؟))، قلت: بلى يا رسول الله، قال: ((قل إذا أصبحتَ وإذا أمسيت: اللهم إنِّي أعوذ من الهمِّ والحَزَن، وأعوذ بك مِن العَجْز والكَسَل، وأعوذ بك من الجُبن والبُخل، وأعوذ بك من غَلَبة الدَّين وقَهْر الرجال))، قال أبو أمامة: فقلتُهنَّ، فأذهب الله همِّي، وقضى دَيْني.
عباد الله:
هذا، وإنَّ لحرمان الرِّزق أسبابًا أيضًا، فمن أبرزها:
* مبارزة الله الرزَّاق سبحانه بالمعاصي، وكما أنَّ تقوى الله مجلبةٌ للرِّزق، فكذلك ترْك التَّقوى مجلبةٌ للفقر، روى الإمام أحمد في مسنده بسند حسن : أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((إنَّ العبد ليُحْرمُ الرِّزقَ بالذنب يُصيبه)).
وقد يُرى بعضُ العاصين من أهل الثراء، وليستْ هذه دلالةً على التقوى، بل ربَّما كانت من استدراج الله لهم بالنِّعم؛ {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ}
ومن أسباب حِرمان الرزق أيضًا:
بذْل الوجه، وسؤال الناس أموالَهم؛ يقول النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ثلاث أُقسِم عليهنَّ - وذكر منها -: ولا فتَح عبدٌ باب مسألة إلا فَتَح الله عليه بابَ فقر))؛ رواه الترمذي، وصحَّحه ابن حبَّان.
وتلك بعضُ أسباب حِرْمانه، فاتَّقوا الله، وتحرَّوْا طيبَ المكاسب، واطلبوا الحلال مِن الرِّزق، وابتغوا بهذه الأموال مرضاةَ ربِّكم، فإنها عاريةٌ منه عندَكم، فأحسِنوا استعمالَ العارية، ولا تشغلنَّكم الفانية عن الباقية.
صلوا بعد ذلك على رسولكم الكريم
المالُ عَصَبُ الحياة ، وقوام العَيْش ، وأساس الاستغناء والعفاف .
المال غُرِست النفوس على حبِّه، ورُكِّبت الطباع على طلبه؛ {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا}
المال زهرة الحياة، وبهجة الدنيا، {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}
المال نِعمة يمنُّ الله بها على عباده؛ {وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ}
بالمال تُصان الأعراض، وتُحفَظ الكرامة، ويتسابق به المؤمِن في درجات البِرِّ والطاعة، المال مع الدِّين والنَّفْس والعقل والعِرْض، ضرورات خمس، جاءتِ الشريعة الإسلامية بحفِظها وصيانتها، لقد اهتمَّ الإسلام بأمر المال، وحثَّ على كسْبه، وحضَّ على العمل والنشاط لتحصيله.
يقول سبحانه: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} ويقول - تعالى -: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ}
رأى عمر الفاروق قومًا قابعين في رُكْن المسجد بعدَ صلاة الجمعة، فسألهم: مَن أنتم؟ قالوا: نحن المتوكِّلون على الله، فعلاهم عمر بالدِّرَّة، ونهاهم عن مِثْل هذا الكلام، وقال: لا يقعدنَّ أحدُكم عن طلب الرِّزق، ويقول: اللهم ارزقني، وقد علم أنَّ السماء لا تُمطر ذهبًا ولا فِضَّة، وأنَّ الله يقول: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ}
فالإسلام لا يُريد من المسلِم أن يكون راهبًا في صومعته، أو ناسكًا في مُعتكَفه، بلا عملٍ ولا كسْب
الإسلام يربِّي المسلِم على أن يكون كادحًا عاملاً، مؤديًا دَورَه في الحياة، آخذًا منها، معطيًا لها، الإسلام يُريد من أهله أن يكونوا أغنياءَ أقوياءَ، لا ضعفاء مهازيل، والمؤمِن القوي خيرٌ وأحبُّ إلى الله من المؤمِن الضعيف.
وهل يُنشر الخير، وتُبلَّغ الدعوة، وتُرفع راية الدِّين، إلاَّ بأموال أهل الإيمان والإحسان، مع ألْسنة أهل الحق والبيان؟! يقول - سبحانه - في قِيمة المال لإحراز النصْر، ورفْع الشأن: {ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا}
وها هم أصحابُ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - لما هاجروا إلى المدينة مخلِّفين وراءَهم المال والدِّيار، لم يقعدوا ويتكاسلوا عالةً على غيرهم في المدينة، بل دخلوا الأسواق، وزاحموا الناسَ في البيع والشراء، وببركةِ مال هؤلاء، قَويتْ شوكةُ الإسلام، وظهر الدِّين، وانتشرتِ الدعوة، وحمل الناس في الجِهاد في سبيل الله، ويَكْفي أن نعرف أن سبعةً من المبشَّرين بالجنة كانوا من أهل الأموال الضخْمة، وأصحاب الضَّرْب في الأسواق.
قدِم عبدُالرحمن بنُ عوف المدينة، لا يَملك من متاع الدنيا إلا ثوبَه الذي يَستُر به سوءتَه، وآخَى النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - بين عبدالرحمن بن عوف، وبين سعْد بن الربيع، فقال سعد بن الربيع لعبدالرحمن بن عوف: أنا أكثرُ أهل المدينة مالاً، فانظرْ شطرَ مالي فخذه، وتحتي امرأتان، فانظر أيَّتهما أعجب لك، حتى أطلِّقَها، وتتزوجها، فقال له عبدالرحمن بن عوف: بارَكَ الله لك في أهلك ومالك، دُلُّوني على سوق المدينة، فخرج إلى السُّوق، وعمل وتكسَّب، واشترى وباع، ولم تمضِ الأيام والسِّنون إلا وابن عوف مِن أهل الثراء والتجارة الرابحة، وكان مِن مأثور قوله: يا حبَّذا المال، أصونُ به عِرْضي، وأتقرَّب به إلى ربي.
ما أسعدَ الحياةَ، وما أطيبَ العيش، حين يَأكل المرءُ ويُؤكِل، ويَلبس ويُلبِس، مِن عَرَق جبينه! طلبُ المال الحلال مِن خير العبادات، وأفضلِ الطاعات، إذا صحَّت معه النيات، ويكفي أهله شرفًا أنَّ الله قد قرَنَهم مع المجاهدين الذين يُقدِّمون أرواحَهم في سبيل الله؛ {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}
مرَّ رجلٌ بالنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - يشتعل حيويةً ونشاطًا، فأُعجِب الصحابة به، فقالوا: يا رسول الله، لو كان هذا في سبيل الله! فقال النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنْ كان خرج يَسْعى على ولده الصِّغار، فهو في سبيل الله، وإنْ كان خرج يَسْعى على أبوين شيخين، فهو في سبيل الله، وإن كان يَسْعى على نفسِه يعفُّها فهو في سبيل الله، وإنْ كان خرج رِياءً ومفاخرةً، فهو في سبيل الشيطان))؛ رواه الطبراني، وهو حديث صحيح.
وأطيبُ الكسْب وأبركُه ما كان بعمل اليد وعَرَق الجبين، يسأل النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: أيُّ الكسْب أفضل؟ قال: ((عَمَلُ الرجل بيده، وكلُّ بيع مبرور))؛ رواه البزار، وصحَّحه الحاكم.
وها هم أنبياء الله، صفوة الخَلْق - صلوات الله عليهم - كانوا يأكلون مِن عمل أيديهم، فإبراهيم - عليه السلام - كان بزَّازًا؛ أي: يبيع أنواع اللباس، وزكريا كان يعمل نجَّارًا، أما داود - عليه السلام - فكانتْ صنعتُه الحدادة، وخير البرية محمَّد - صلَّى الله عليه وسلَّم - في صدر شبابه كان يَرْعى الغنم سنين عِدَّة، ثم اشتغل بالتِّجارة في مال خديجة بعدَ ذلك.
فالعمل عباد الله، عِزُّ الرَّجل وشرفُه، ولا غَضاضةَ في أيِّ صنعة، ولا شنار مع أيِّ حِرْفة، بل الدناءة تأكُّل فُتاتِ أموال الآخرين، والنقيصة استشرافُ أعطيات المحسنين، يقول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "مكسبةٌ في دناءة خيرٌ من سؤال الناس"، وقال بعض السلف: "خيرُ الناس مَن كفَّ فكَّه عن الحرام، وفكَّ كفَّه عن السؤال".
طلبُ المال من حلاله، والسعيُ في جمعه من أبوابه، لا يُنافي خُلُقَ الزهد، فالزهد الحقيقي: ألاَّ يكون المال في قلْبك، إنما يكون في يدِك، يقول الإمام أحمد بن حنبل: الزُّهد أن يكون عندَك المال، فلا يستبد بك الحُزن إن نقص، ولا يستبد بك الفَرَح إن زاد.
عباد الله:
المال غادٍ ورائح، ومقبِلٌ ومدبر، وسيلةٌ لا غاية، وهو سلاحٌ ذو حدَّين؛ {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى}
فصِنْف من أهل الأموال عرَف فضل الله ومِنَّته يوم أن أسبغَه عليه، فأدَّى حقَّ هذا المال، وأنفقه في أبواب البِرِّ والإحسان؛ ليلقاها أمامَه يوم لا ينفع إلاَّ الحسنات، وصِنف آخَرُ نسُوا إنعام المنعِم، وتفضُّلَ المكرِم، فجعلوا هذا المالَ نَهْمةً لإشباع الشهوات والنزوات، والمنافسة في المظهريات والدِّعايات، حتى إذا ما دُعوا إلى إطعام مسكين، أو نَشْر دِين، أو سدِّ مسغبة، رأيت الشحَّ والإعدام، والضنّ والإحجام، لَيْتهم ثم لَيْتهم علموا أنَّ بأيديهم مِفتاحًا من مفاتيح أبواب الجنة، ولكنَّهم لم يحسنوا استخدامَ هذا المفتاح.
وأمامَ طُغيان المادة، وطنين المال ورنينه، تضعُف نفوس، وتذوب أخلاقيات، فيُؤكَل الحرام، ويُكتسَب الخبيث.
الكَسْب الخبيث عباد الله شؤمٌ وبلاء، ونكدٌ ووباء، يُضعِف الدِّيانة، ويمحق السكينة، ويُذهِب البركة، فعلى صاحبه غُرْمُه، ولغيره غُنْمه، الكسْب الخبيث يُقسِّي القلْب، ويُطفئ نور الإيمان، ويُبعد العبدَ من ربِّه، فلا تُقبل له صَدَقة، ولا يُرْفع له دعاء.
يقول بعضُ الحكماء: شرُّ المال ما لَزِمك إثمُ مكسبه، وحُرمتَ أجْرَ إنفاقه، وفي الحديث: أنَّ سعد بن أبي وقاص قال: يا رسول الله، ادع الله لي أن يجعلني مستجابَ الدعوة، فقال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((يا سعدُ، أطِبْ مطعمَك، تكن مستجابَ الدعوة)).
وفي الحديث: ((لا يدخل الجَنَّةَ جسدٌ غُذِي بحرام))؛ رواه الطبراني، وقال الذهبي: سنده صحيح.
وإن تعجب، فعجبٌ ممَّن يحتمي عن الحلال مخافةَ المرض، ولا يحتمي عن الحرام خشيةَ النار، والقاعدة في هذا الباب - عباد الله -: أنَّ المحرَّم لا يجوز بيعُه، ولا التكسُّب منه، فإنَّ الله - تعالى - إذا حرَّم شيئًا حرَّم ثمنَه، فالتكسُّب من الرِّبا والرِّشوة والدُّخَان، والمجلات الخليعة والغِناء، كل ذلك مِن أكْل الحرام، وكذا تصريفُ السِّلع بالأَيْمان الكاذبة، واختلاس الأموال العامَّة والخاصَّة، بأساليبَ مختلفة، وسُبلٍ ملتوية، كل هذا مِن الكسْب الخبيث، وصَدَق الصادق المصدوق: ((يأتي على الناس زمانٌ لا يُبالي المرءُ ما أخذ منه، أمِن الحلال أم مِن الحرام))؛ رواه البخاري.
ومِن المسائل التي لن تزولَ قدمَا عبدٍ حتى يُسألَ عنها بين يدي ربِّه عريانًا: مالك، مِن أين اكتسبتَه؟ وفيمَ أنفقتَه؟
الْمَالُ يَذْهَبُ حِلُّهُ وَحَرَامُهُ = يَوْمًا وَتَبْقَى فِي غَدٍ آثَامُهُ
لَيْسَ التَّقِيُّ بِمُتَّقٍ لِإِلَهِهِ = حَتَّى يَطِيبَ طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ
وَيَطِيبَ مَا يَحْوِي وَتَكْسِبُ كَفُّهُ = وَيَكُونَ فِي حُسْنِ الْحَدِيثِ كَلاَمُهُ
نَطَقَ النَّبِيُّ لَنَا بِهِ عَنْ رَبِّهِ = فَعَلَى النَّبِيِّ صَلاَتُهُ وَسَلاَمُهُ
اللهم أغْنِنا بحلالك عن حرامك، وبطاعتِك عن معصيتك، وبفضْلك عمَّن سواك، وهبْ لنا غنًى لا يُطغينا، وصحةً لا تُلهينا، وأغْنِنا اللهمَّ بفضلك عمَّن أغنيتَه عنَّا، وأستغفر الله العظيم.
الخطبة الثانية
الحمدُ لله وليِّ المتقين، ولا عدوانَ إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على نبيِّه الأمين، وعلى آله وصحْبه أجمعين، أما بعد:
فإنَّ المقرَّر في عقيدتنا: أنَّ الأرزاق بيد ربِّ العالمين، يقسمها بيْن عباده كيف يشاء؛ {وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ} [النحل: 71]، فقِسمته - سبحانه - هي الأصلح، وقضاؤه هو الأنفع، فكَمْ مِن غنيٍّ لا يُصلحه إلا الغِنَى، ولو افتقر لجزع وكَفَر، وكم مِن فقير لا يصلحه إلا الفقر، ولا اغْتنى لطَغَى وبطَر! {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ} [الشورى: 27].
إلا أنَّ للرِّزق - عباد الله - مع الكدِّ والعمل أسبابًا معلومةً، ذَكَرها الله - تعالى - في كتابه، وذَكَرها رسولُه - صلَّى الله عليه وسلَّم - في سُنته، وقد جعل الله لكلِّ شيءٍ سببًا.
فمِن أعظم أسباب الرِّزق عباد الله:
* التوبة إلى الله والرُّجوع إليه واستغفارُه، يقول سبحانه مخبرًا عن قول نوح - عليه السلام – لقومه : {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا *يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ} ويقول النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مَن أكْثرَ مِن الاستغفار، جعل الله له مِن كل همٍّ فرَجًا، ومن كل ضيق مخْرجًا، ورَزَقه من حيث لا يحتسب))؛ رواه أحمد وصحَّحه الحاكم.
وكلام الله ورسوله حقٌّ وصِدْق، فإذا ما استغفر العبد ربَّه ولم يرَ أثر الرزق في ماله، فليعلم أنَّ الخَلَل فيه، وأنَّ هذا الاستغفار لم يتجاوزِ اللِّسان، ولم يصلْ إلى سويداء القلْب.
ومِن أسباب الرِّزق عباد الله: تحقيق تقوى الله - عزَّ وجلَّ - بفِعْل ما أمر، واجتناب ما نهى عنه وزَجَر؛ يقول سبحانه: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ}
* ومِن الأسباب التي تُستجلب بها الأرزاق: صِلة الأرحام؛ يقول النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مَن أحبَّ أن يُبسطَ له في رِزقه، ويُنسأ له في أثرِه، فليصلْ رَحِمه))؛ متفق عليه.
فكم مِن عبدٍ فتَح الله عليه أبوابَ الرِّزق مع قلَّة تعلُّمه، وضعْف نشاطه، وما ذاك إلا بسبب برِّه بوالديه، أو صِلته لرَحِمه القاطع، وإعطائه لقريبه الكاشِح.
* ومِن الأسباب التي تُستنزل بها الأرزاق: كثرة الصَّدقة في وجوه البرِّ والإحسان؛ يقول - سبحانه - في الحديث القدسي: ((يا ابن آدم، أَنْفِقْ أُنفِقْ عليك))؛ رواه مسلم في صحيحه.
وعند أبي داود بسند صحيح: أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((إنما تُرْزَقون وتُنصرون بضعفائكم))؛ أي: بسبب دعائهم.
* ومن أسباب الرزق أيضًا: المتابعةُ بيْن الحج والعمرة، وزيارة البيْت الحرام متى ما سَنحتِ الفُرْصة؛ يقول النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((تابِعوا بيْن الحج والعُمرة، فإنَّهما ينفيان الفقر والذنوب، كما ينفي الكيرُ خبَثَ الحديدِ والذهبِ والفِضَّة))؛ رواه أحمد وغيره، وهو حديث صحيح.
* ومن أسباب الرزق أيضًا: صِدق التوكُّل على الله - تعالى - في العمل، فالعمل والتوكُّل صِنوان لا ينفكَّان.
يقول النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لو أنَّكم تَوكَّلون على الله حقَّ توكُّله، لرَزَقكم كما يرزق الطَّير، تغدو خِماصًا، وتَرُوح بِطانًا))؛ رواه الإمام أحمد والترمذي، وصحَّحه ابن حبان والحاكم.
وإذا رُزِق العبدُ القناعةَ فاكْتفى بالكفاف، واكتسى بالعَفاف، أتتْه سحائبُ الأرزاق، من الملِك الرزَّاق - جل جلاله.
ثَبَت في الصحيحين من حديث حَكيم بن حِزام: أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((مَن يَستعفِفْ يُعفَّه الله، ومَن يستغنِ يُغنِه الله)).
* ومن أسباب الرِّزق وأهمها: دعاء الله - عزَّ وجلَّ - بالرِّزق الحلال؛ دخَل رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - مسجدَه يومًا، فرأى أبَا أُمامة وحيدًا، قد علا وجهَه الحزنُ والبؤس، فقال: ((يا أبا أمامة، ما الذي أجلسك في المسجد في هذه الساعة؟)) قال: يا رسولَ الله، همومٌ أصابتني، وديون غلبتني، فقال له النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ألا أُعلِّمك كلماتٍ إذا قلتَهنَّ أذهب الله همَّك، وقضى دَينَك؟))، قلت: بلى يا رسول الله، قال: ((قل إذا أصبحتَ وإذا أمسيت: اللهم إنِّي أعوذ من الهمِّ والحَزَن، وأعوذ بك مِن العَجْز والكَسَل، وأعوذ بك من الجُبن والبُخل، وأعوذ بك من غَلَبة الدَّين وقَهْر الرجال))، قال أبو أمامة: فقلتُهنَّ، فأذهب الله همِّي، وقضى دَيْني.
عباد الله:
هذا، وإنَّ لحرمان الرِّزق أسبابًا أيضًا، فمن أبرزها:
* مبارزة الله الرزَّاق سبحانه بالمعاصي، وكما أنَّ تقوى الله مجلبةٌ للرِّزق، فكذلك ترْك التَّقوى مجلبةٌ للفقر، روى الإمام أحمد في مسنده بسند حسن : أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((إنَّ العبد ليُحْرمُ الرِّزقَ بالذنب يُصيبه)).
وقد يُرى بعضُ العاصين من أهل الثراء، وليستْ هذه دلالةً على التقوى، بل ربَّما كانت من استدراج الله لهم بالنِّعم؛ {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ}
ومن أسباب حِرمان الرزق أيضًا:
بذْل الوجه، وسؤال الناس أموالَهم؛ يقول النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ثلاث أُقسِم عليهنَّ - وذكر منها -: ولا فتَح عبدٌ باب مسألة إلا فَتَح الله عليه بابَ فقر))؛ رواه الترمذي، وصحَّحه ابن حبَّان.
وتلك بعضُ أسباب حِرْمانه، فاتَّقوا الله، وتحرَّوْا طيبَ المكاسب، واطلبوا الحلال مِن الرِّزق، وابتغوا بهذه الأموال مرضاةَ ربِّكم، فإنها عاريةٌ منه عندَكم، فأحسِنوا استعمالَ العارية، ولا تشغلنَّكم الفانية عن الباقية.
صلوا بعد ذلك على رسولكم الكريم