نعمة الغيث (سيول بريدة) 15/2/1437هـ

عبدالرحمن العليان
1437/02/15 - 2015/11/27 08:37AM
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله العزيزِ العليّ، وليِّ المؤمنين، ومن لم يتوله اللهُ فماله من وليّ، سبحانه وبحمده، خلق بقدرته، وأحكم بعلمه وحكمته، وهو الخلاقُ القويّ، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، هي العدة في النزال، وبتحقيقها يضاعَفُ النوال، وتزكو الأعمال، وقد خاب سعيًا المعرضُ عنها، وهو العميُّ الشقيّ، وأشهد أن محمدًا عبدالله ورسوله، الذي جاء بالبشرى، ودعا إلى ربه سرًّا وجهرا، خيرُ داعٍ وأكرمُ نبيّ، صلى الله وسلم عليه، وعلى آله وصحبه، ذوي القدرِ العليّ، والشرفِ الجليّ، وعلى التابعين وتابعيهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، أما بعد:
فاتقوا الله أيها المؤمنون، فإن التقوى أعظمُ ما وَعَظَ بها واعظ، وَوَصَّى بها موصٍ، وهي من أعظمِ مفقود مخسور.. {فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا } [الطلاق: 10].
سبحان الذي خلق الأزواج كلها من الماء، وهو القائل سبحانه: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء: 30]، أي وخلقنا من الماء كلَّ شيء حي، فكلُّ شيء حي فإنما خلقه الله من الماء.
إنه الماء، الذي هو مادة الحياة في الماضي والحاضر والقابل، عنصرٌ لطيف، خلقه الله بلا لونٍ ولا رائحة، يحيي الله به الموات، ويشفي به من علل، ويطهر به من أدناس، وجودُه ضرورة، وفقده هلاك، ونقصه عنت، كما أن زيادته ضرر، جعل سبحانه من خلقه من لا يحيى إلا في جوفه، ومنهم من يكون حتفه ببقائه فيه.
جعل ربنا سبحانه لهذا الماء المنزل من السماء أضربا عدة، فمنها أنه ينزله ماء مباركا، صيِّبًا نافعا، كما قال سبحانه: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} [ق: 9 - 11]، فيجعله حياة للأرض، ينبت بإنزاله فيها من كل زوج بهيج، وسُقْيَا للناس ولأنعامهم ومتاعا إلى حين، قال جل وعلا: {وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا} [الفرقان: 48، 49].
وربما كان نصيبٌ بلادٍ من الماء الذي ينزله الله من السماء إنما هو في القيعان، التي لا تمسك ماءً ولا تنبت كلأً، وتلك هي السَّنَةُ التي أخبر عنها رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بقوله: (لَيْسَتِ السَّنَةُ بِأَنْ لَا تُمْطَرُوا، وَلَكِنِ السَّنَةُ أَنْ تُمْطَرُوا وَتُمْطَرُوا، وَلَا تُنْبِتُ الْأَرْضُ شَيْئًا) رواه مسلم، وأخرج أحمد في مسنده عن أنس رضي الله عنه أنه قال: (كُنَّا نَتَحَدَّثُ أَنَّهُ لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تُمْطِرَ السَّمَاءُ وَلَا تُنْبِتَ الْأَرْضُ).
أيها المؤمنون: ويجعل الرحمن الرحيم من الماء الذي ينزله على عباده ما يكون طهارة للمؤمنين، يتطهرون به من الأدناس، وجندا من جنوده، يؤيد به عباده المتقين على عدوهم، ويُذهِبُ عنهم به رجزَ الشيطان ووساوسَه، ويَربِطُ على قلوبهم، ويُثَبِّتُ به أقدامهم، وذلك يقدره حيث شاء بلطفه، مما لا يعلمه خلقه قبل وقوعه، كما كان يومَ بدر، إذ أصبح الناس على غير ماء يتطهرون به ويشربون ويسقون دوابهم، وفي أرضٍ لينة سهلة، تَسُوخُ فيها الأقدام، فأنزل اللهُ ماءً طهورا، زالت به الأضرار، وتمت به النعمُ بمنة اللهِ وفضلِه.
كما يجعل اللهُ هذا الماءَ النازلَ من السماء آيةً على قدرته وعظمته، وأنه الحقيقُ بالمنةِ والفضل، وأنه هو أهلُ الثناءِ والحمدِ والشكر، {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ} [الواقعة: 68 - 70]، فيكون امتحانا لعباده أيشكرون أم يكفرون، أيجعلون رزقهم أنهم يكذبون؟! أم يعترفون بفضلِ المنانِ تعالى، وبحمده يسبِّحون، وله يخلصون؟ أيقولون: مُطِرْنَا بنوء كذا وكذا، وبالطبيعة ونحو ذلك، فيؤمنون بهذه ويكفرون بالخالق؟ أم يقولون: مُطِرْنا بفضل الله ورحمته، فيكفرون بهذه، ويؤمنون بالخالق؟!
أجل.. فلو شاء ربنا ما أنزل ماء، ولا أحيى أرضا، بل لو شاء لجعل الماءَ الذي في أيدي الناس غَوْرا {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ} [الملك: 30].
ويُقِيمُ ربُّنا - جلَّ وعزّ - بما ينزله من السماء من الماء برهانا مبينا على إحياء الموتى من قبورهم للفصل والجزاء، {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [فصلت: 39]
وكما يجعل اللهُ تعالى الماءَ رحمة، فقد يجعلُه مَطَرَ سَوْءٍ وعذابٍ على المحادِّين لله ولرسله، كما أغرقَ قوم نوح بذلك: { فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ (14) وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} [القمر: 11 - 16].
أيها المسلمون:
إن من رحمة الله تعالى أن يرسلَ الرياحَ فتثيرَ سحابا، يسوقُه الله إلى حيث شاء من بلاده وعباده، فيستبشرُ به الناس{اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الروم: 48 - 50].
إن إنزال الغيثِ من السماء منةٌ ربانية، ورحمةٌ إلهية، ينَزِّلُه تعالى بقَدَرٍ معلوم، وكان ربنا على كل شيء حفيظا شهيدا، وإذا أراد الله تعالى كان عذابا وهلاكا، وربما كان في المكان الواحد رحمةً لقوم وهلاكًا لآخرين، وربما كان تذكيرًا بما كسبت أيدي الناس ليرجعوا إلى ربهم بالتوبة والإنابة، والمؤمن على كل حال يَقِظُ القلب، دائمُ التفَكُّر، أوابٌ إلى ربه، وإليه منيب.
ولقد أحسنَ اللهُ إلينا بما أفاء علينا من هذا الغيثِ المدرار، الذي عمّ أرجاءً من بلادنا، وكان لمدينتنا هذه نصيبٌ وافرٌ بفضل الله وكرمه، فاللهم لك الحمد، لا نحصي ثناءً عليك، ولا يبلُغُ مدحَك قولُ قائل، ومحل هذه النعمة عند المؤمنين الشكرُ بالقلب واللسان والجوارح.. اللهم اجعلها سقيا رحمة، لا سقيا بلاء ولا استدراج.
غيث ثجّاج لم يعرف الناس في هذه المنطقةِ له مثيلًا مذْ سنين طويلة، ما أحدث بقدر الله أضرارا في بيوت بعضِ الأحياء، وبعضِ المركبات، والحمد لله على كل حال، وعاش بعض الناس ليلةَ فزعٍ وقلق.
ولئن حدث ذلك وحَزِنَّا له طبعًا وجبلة؛ فلا ينبغي أن ينسيَنا رحمةَ الله تعالى وفضلَه في هذا الغيث، وما أجمل استحضارَ الصورِ الناصعة البهيجة في هذا الحدث؛ فلقد رأينا الجهات المسؤولة والمعنية من الدفاع المدني والأمانة ورجال الأمن وغيرها تقوم بواجبها من الإخلاءِ والإنقاذِ والإيواءِ والعلاج، وتخفيفِ منسوب المياه، فكتب الله لهم الأجرَ والثواب.
كما رأى الناسُ أميرَ المنطقة بنفسه - جزاه الله خير الجزاء - يجوب مواضعَ الضرر ويتفقدُ ويوجِّه.
أما صور التكافل والتآزر من عموم الناس فتلكم خيرية بحمد الله تعلو على الوصف في هذا الحدث؛ لقد بادر أناس بفتح بيوتهم للمتضررين، وآخرون آووا في استراحاتهم، وآخرون آزروا بأموالهم، فاللهم لك الحمد، لك النعمةُ ولك الفضلُ ولك الثناءُ الحسن.
أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم من كل ذَنْبٍ؛ إنه هو الغفور الرحيم






الخطبة الثانية
الحمد لله الذي ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، والصلاة والسلام على البشير النذير، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم المصير. أما بعد:
فقد خفَّفَ الله عن عباده في مثل هذه الأحوال، فشُرِعَ للمؤذن أن يناديَ بالصلاة في البيوت إذا نزل مطرٌ شديد، فعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، أَنَّهُ قَالَ لِمُؤَذِّنِهِ فِي يَوْمٍ مَطِيرٍ: "إِذَا قُلْتَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، فَلَا تَقُلْ: حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، قُلْ: صَلُّوا فِي بُيُوتِكُمْ"، قَالَ: فَكَأَنَّ النَّاسَ اسْتَنْكَرُوا ذَاكَ، فَقَالَ: «أَتَعْجَبُونَ مِنْ ذَا، قَدْ فَعَلَ ذَا مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي، إِنَّ الْجُمُعَةَ عَزْمَةٌ، وَإِنِّي كَرِهْتُ أَنْ أُحْرِجَكُمْ فَتَمْشُوا فِي الطِّينِ وَالدَّحْضِ» متفق عليه.
وليتقِ اللهَ امرؤٌ ائتمنه اللهُ على نفسه، فلا يلقينَّ بها إلى التهلكة، وليسلُكْ سبيلَ الحذرِ الذي أمر الله تعالى به، فليس من الإيمان ولا من العقل في شيء قطعُ الأودية حال المطر وجريانِ الماء فيها والتهاونُ في ذلك، ولا يزال الناس في مثل هذه الظروف يفقدون بين الحين والآخر مغامرين فيما لا تصح فيه المغامرة، وثمةَ إشغالٌ للجهات المسؤولة وبذلٌ لجهود مضنية في سبيل إهمال من ألقوا تحذيرَ الجهات المعنية وراءهم ظهريا.
أيها المؤمنون: الاستبشارُ برحمة الله لا يعارضُ الخوفَ الذي كان يُعرَفُ في وجه الحبيبِ صلى لله عليه وسلم حينما يرى مَخِيلَةً من السماء، فإذا أمطرت السماء سُرِّي عنه، وهو رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، بل إن الخوفَ من الله تعالى ومن أخذِه وعقابِه مأمورٌ به في كل حال، فلو يؤاخذ الله الناس بذنوبهم ما ترك على ظهرها من دابة؛ ولكنه حليم رحيم بعباده، وحين تحدث بعض الكوارث والمصائب على الناس فلا مناصَ لهم من التوبة والاستغفار، وأن ينظرَ الأفراد والمجتمعات ما قدموا لغدهم، وما فرطوا في جنب خالقهم، فيصلحوا ما فسد، ويقيموا ما اعوجّ، ويتواصَوا بالبر والتقوى والحق، ويتناهَوا عن المنكر والفحشاء والبغي، ويخشوُا الله في خلقه، ولا يخشوُا الخلقَ في البارئِ تعالى.
غيرَ مغفلين الأسبابَ المادية، والاستفادةَ من هذه الأحداث في الوقوفِ على أماكنِ الخلل، ومعرفةِ أوجهِ التقصير وتلافيها.
هذا وصلوا وسلموا على النور المبين، والسراج المنير، رسولِ الله وخليله: محمد بن عبدالله، اللهم صل وسلم عليه صلاة وسلاما دائمين مباركين إلى يوم الدين.
وارض اللهم عن صحابته أجمعين، وخص منهم: الأئمة الخلفاء، الأربعة الحنفاء: أبا بكر وعمر وعثمان وعليا، الذين قضَوْا بالحق وبه كانوا يعدلون.

المرفقات

889.doc

المشاهدات 1119 | التعليقات 0