نعمة الظل والاعتبار بشدة الحر

أنشر تؤجر
1446/01/19 - 2024/07/25 16:41PM

الحمد لله الواحد الأحد ، الصمد الذي لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفوًا أحد ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ملكه وسلطانه ، ولا مثل له في أسمائه وصفاته ، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ، المؤيدُ ببرهانه، اللهم صلِّ وسلم على محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه وأعوانه، أما بعد:                      

عباد الله : أوصيكم ونفسي بتقوى الله :{ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ { 

أيها المسلمون: مع شدة وهج الشمس ولهيب حرها ، تعظم حاجة البشر لكل شيء يخفف عليهم سلطانها ويحتمون به من حرها ، ومن ذلكم ما أكرم الله عباده به من نعمة الظل الذي هو آية من آيات الله تعالى العظيمة ، وخلقٌ من خلقه الدال على توحيده، وقدرته، وتصريفه ، خلق الله  الظل وأتقنه إن شاء مده وإن شاء سكّنه :﴿ ألَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً * ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا ﴾

الظلُ نعمةُ مغفولُ عنها ، ذَكْرَ الله بها عباده ؛ فقال سبحانه :﴿ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ ﴾.

والظل - عباد الله - خاضع لله سبحانه ؛ قال تعالى : ﴿ وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ ﴾

قال القرطبي رحمه الله : وظلالهم بالغدو والآصال أي : ظلال الخلق ساجدة لله تعالى بالغدو والآصال ؛ لأنها تبين في هذين الوقتين، وتميل من ناحية إلى ناحية ؛ وذلك تصريف الله إياها على ما يشاء .

عباد الله : إنه لمن عظيم النعم في الدنيا أن يجد العبد ظلا باردا ممتدا يحتمي به من وهج الشمس ويتقيه ، ويهتني فيه بعيش رغيد ؛ لكن تمام النعمة وعظيم الإكرام يكون حين تدنُو الشَّمسُ يومَ القيامة من الخَلْق ، حتى تَكُونَ منهم كَمِقْدَار ميل على أرض قاع صفصفا فلا أكنان ولا ظلال فيخص الله أقواما بظله سبحانه ، فأكرم بذاك المقام وساكنيه ؛ روى البخاري في صحيحه حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :« سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله : الإمام العادل ، وشاب نشأ في عبادة ربه ، ورجل قلبه معلق في المساجد ، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه ، ورجل طلبته امرأة ذاتُ منصب وجمال ؛ فقال إني أخاف الله ، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه ، ورجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه ».

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: "إن الله تعالى يقول يوم القيامة: أين المتحابون بجلالي؟ اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي،" رواه مسلم.

فطوبى لعبد فاز برضوان الله فأكرمه بالظل والناس يعرقون ، وجعل له موضع قدم مع من يستظلون .

عباد الله : ولما وصف الله لعباده الجنة ليرغبهم فيها جعل الظل من أصناف نعيمها ؛ فقال سبحانه :" مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا .." وقال سبحانه :﴿ وَأَصحَـٰبُ ٱلیَمِینِ مَا أَصحَـٰبُ ٱلیَمِینِ (٢٧) فِی سِدرࣲ مخضودࣲ (٢٨) وطلحࣲ مَّنضُودࣲ (٢٩) وَظِلࣲّ ممدودࣲ ﴾ وقال جل في علاه "هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ" وأنعم فيها على أبصارهم فـــــــ" لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا * وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا" وعن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :« إن في الجنة لشجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها » .

وحين وصف الله النار ليحذرهم منها ، جعل الظل من أنواع جحيمها ؛ فقال :( وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ * فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ * وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ * لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ )وقال سبحانه"..انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ * لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ" 

 فسبحان من جعل الظل في الدنيا نعمة يستظل به العباد من حر الشمس ولهيبها ، وأكرم به من شاء يوم العرض عليه ، وجعله نعيما لأهل الجنة لا يزول ، وعذابا على أهل النار لايغني من اللهب.

أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم من كل ذنب ....

الخطبة الثانية.

 الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ. أما بعد:

 عباد الله : إن من صفات أصحاب القلوب الحية ، التفكر في خلق الله بما يزيد الإيمان به وبجزائه وثوابه ، ولينظر العبد الموفق نظرة اعتبار واتعاظ ، وقد امتدحهم الله بذلك فقال سبحانه :( إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولى الالباب * الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار)

ومما يدعوا للاعتبار والتفكر ما نعيشه في هذه الأيام من شدة حرارة الجو ، وهذا الحر إنما هو نفس من أنفاس جهنم أجارنا الله وإياكم منها ، فقد جاء في الحديث الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :(اشْتَكَتِ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا، فَقَالَتْ: رَبِّ! أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا، فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ: نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ، وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ، فَهُو أَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الْحَرِّ، وَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الزَّمْهَرِيرِ).

وإن المؤمن صاحب القلب الحي ليتذكر بهذا الحر حر الموقف يوم العرض على الله وحر نار جهنم فيسعى لإنقاذ نفسه ، من ذلك : بإستقامته على شرع ربه ، والحذر من سبل الغاوين ، فإنه لافوز بالنعيم إلا بطاعة الله ، ولا نجاة من الجحيم إلا برحمته ، والعاقل يبصر حال نفسه لينجيها ، والخاسر من أسَرَته الذنوب فصار هلاكه فيها .

الا فستكثروا  - يا عباد الله - من فعل الخير ، واتقوا النار وحرها ولو بالقليل ؛ قال عليه الصلاة والسلام ( اتقوا النار ولو بشق تمرة فمن لم يجد بكلمة طيبة) .

 هذا، وصلّوا وسلِّموا على الرّحمة المهداة والنّعمة المسداة نبيِّكم محمّد رسول الله، فقد أمركم بذلك ربُّكم جلّ في علاه، فقال قولاً كريمًا :( إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ).

اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمد بن عبد الله ، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين ، وعن الصحابة أجمعين ، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، وعنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين

اللهم أعز الإسلام ....

المرفقات

1721914889_نعمة الظل.docx

المشاهدات 497 | التعليقات 0