نعمة الصحة في الأبدان
أ.د عبدالله الطيار
الخطبة الأولى:
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَسَلِّمَ تَسْلِيمًا كثيرًا. أما بعد:
فاتّقُوا اللهَ أَيُّهَا المؤمنونَ، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون}[آل عمران:102].
عبادَ اللهِ: إنَّ من أعظمِ نعمِ اللهِ على عبادِه بعدَ نعمةِ الإسلامِ نعمةَ الصحةِ والعافيةِ في الأبدانِ، والسلامةَ من كلِّ ما يُكدِّرُ العيشَ؛ من الأسقامِ والآلامِ والأحزانِ، فهي نعمةٌ لا يعدلُها شيءٌ، وتاجٌ على رؤوسِ الأصحاءِ، لا يَشعرُ بقيمتِها وفضلِها إلا من فَقَدَهَا، وهيَ من أجزلِ عطايَا ربِّنا وأوفرِ مِنَحِه، يقولُ ﷺ:(مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا) رواه الترمذي (2346)، وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي (2346).
وإذا أرادَ الإنسانُ أَنْ يعرفَ قَدْرَ نعمةِ اللهِ عليه في الصحةِ والعافيةِ فعليه أن يزورَ المستشفياتِ والمصحاتِ، وينظرَ إلى المرضَى وأصحابَ العاهَاتِ، وسيرى صورًا من الآلامِ والأوجاعِ، والمعاناةِ والابتلاءاتِ، فمنهم مريضٌ يَئِنُ من شِدةِ المرضِ، ومنهم من يبكي من قوةِ الألمِ، ومنهم مُغمىً عليه لا يستطيعُ الحراكَ، ومنهم من لا يستطيعُ التنفسَ، ومنهم من ينزفُ دمًا، ومنهم من فَقَدَ عُضواً من أعضائِه، ومنهم من هو في غرفةِ العملياتِ، وآخرُ في غرفةِ العنايةِ المركَّزةِ لا يدري أيخرجُ منها حيًّا أو ميِّتًا.
أيُّها المؤمنونَ: رؤيةُ هؤلاءِ المرضى والمبتلينَ من العِبَرِ والمواعظِ التي تُذَكِّرُ العبدَ بعظيمِ نعمِ اللهِ عليه، ويعلمُ يقينًا أنَّ لباسَ العافيةِ لا يعدلُه شيءُ، وقد أوصى نبيُّنا ﷺ مَنْ رأى مبتلىً أَنْ يقولَ: (الحمدُ للهِ الذي عافاني مما ابتلاكَ به، وفضَّلني على كثيرٍ ممن خلق تفضيلا..) رواه الترمذي (3432) وابن ماجه (3892)، وصححه الألباني في الصحيحة (2737) شكرا لنعمة الله عليه لعدم إصابته بهذا الداء أو هذا البلاء.
وعن رِفَاعةَ بنِ عِرابةَ الجُهنيِّ قال: قامَ أبو بَكرٍ الصِّدِّيقُ على المنبرِ ثمَّ بَكى فقالَ: قامَ رسولُ اللَّهِ ﷺ عامَ الأوَّلِ على المنبرِ ثمَّ بَكى فقالَ (سلوا اللَّهَ العفوَ والعافيةَ فإنَّ أحدًا لم يُعطَ بعدَ اليقينِ خيرًا منَ العافيةِ) رواه الترمذي (3558)، وقال الألباني في صحيح سنن الترمذي (3558): حسن صحيح.
وقد امتدحَ النبيُّ ﷺ الصِّحةَ بقولِه: (لاَ بَأْسَ بِالْغِنَى لِمَنِ اتَّقَى، وَالصِّحَّةُ لِمَنِ اتَّقَى خَيْرٌ مِنَ الْغِنَى، وَطِيبُ النَّفْسِ مِنَ النِّعَمِ) رواه ابن ماجه (2141)، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجة (1754).
أيُّها المؤمنونَ: وينبغي للمُعافَى أن يشْكُرَ اللهَ تعالى على نعمةِ العافيةِ في نفسَِه وأهلِه وولدِه ومالِه وجميعِ شأنِه، فهو سبحانَه صاحبُ الفضلِ في كلِّ ذلك، وهو القائلُ سبحانه: {وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ}[النحل: 114]، والقائل: {لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ}[إبراهيم:7].
وعلى المعافى أيضًا أنْ يحمدَ اللهَ تعالى على نِعمةِ العافيةِ، ولا ينظرَ لأصحابِ الغنى مِمَّن كَثُرَ مالُه، أو عَظُمَ جاهُه، فربَّما سُلبتْ من هذا الغَنيِّ تلكَ النعمةُ وذَاقَ ألمَ الحرمانِ من النِّعمِ التي أُوتيَها، وآلامَ الأمراضِ والأدواءِ، فمَنْ أُوتِيَ العافيةَ فظنَّ أنَّ أحداً أُعْطِيَ أكثرَ منه؛ فقد قلَّل كثيراً، وكثَّر قليلاً.
عبادَ اللهِ: وعلى المسلمِ أَنْ يلحَّ على اللهِ في الدعاءِ بطَلبِ العافيةِ؛ أيْ دوامِها واستمرارِها، فهي من أفضلِ الأدعيةِ التي ينبغي الحرصُ عليها في كلِّ وقتٍ، يقولُ ﷺ:(مَا مِنْ دَعْوَةٍ يَدْعُو بِهَا الْعَبْدُ أَفْضَلَ مِنْ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْمُعَافَاةَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ) رواه ابن ماجة (3851)، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجة (3120).
ولَمَّا عَلِمتْ عائشةُ رضي اللهُ عنها فَضْلَ سؤالِ اللهِ العافيةِ، قالتْ: لو علمتُ أيَّ ليلةٍ ليلةُ القدرِ، لكانَ أكثرُ دعائي فيها أَنْ أسألَ اللهَ العفوَ والعافيةَ. رواه النسائي (878)، وقال الألباني في الصحيحة (1011): حديث ثابت.
وعلى المسلمِ أَنْ يسألَ اللهَ العافيةَ في الدنيا والآخرةِ، فقد روى أَنَسُ بنُ مَالِكٍ رضي الله عنه قالَ: قالَ رَسولُ اللهِ ﷺ: (سَلِ اللهَ العَفْوَ والعافِيَةَ في الدنيا والآخِرَةَ، سَلِ اللهَ العَفْوَ والعافِيَةَ في الدنيا والآخِرَةَ فإِذا أعطيتَ العافيةَ في الدنيا والآخرةِ فقد أفلحْتَ) رواه الترمذي (3512)، وابن ماجه (3848)، وأحمد (12291)، والبخاري في «الأدب المفرد» (637) واللفظ له، وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد (495).
أعوذُ باللهِ من الشيطانِ الرجيمِ: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُون}[البقرة:186].
باركَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيمِ، ونفعني وإيَّاكم بما فيهِ من الآياتِ والعظاتِ والذكْرِ الحكيمِ، فاستغفروا اللهَ إنَّه هو الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ على فضْلهِ وإحسانِه، والشكرُ له على توفيقِه وامتنانِه، وأشهدُ أن لا إلَه إلا اللهُ وحْدهُ لا شريكَ لهُ، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُ اللهِ ورسولُه صلَّى اللهُ عليه وعلى آلِه وصحْبِه ومَنْ سارَ على نَهْجِه إلى يومِ الدِّينِ وسلَّم تسليمًا كثيرًا، أما بعدُ:
فاتَّقوا اللهَ عبادَ اللهِ واعلموا أنَّ نعمةَ الصحةِ والعافيةِ تاجٌ على رؤوسِ الأصحاءِ لا يَراهَا إلا المرضى، لكنَّها تحتاجُ أَنْ يأخذَ الأصحاءُ بأسبابِ المحافظةِ عليها، ومن ذلك:
أولاً: أنْ يعرفَ العبدُ عِظَمَ قَدْرِ نعمةِ العافيةِ التي أسبَغَها اللهُ عليه وأنَّها غنيمةٌ له، فيسعى سعيا حثيثًا في اغتنامِ عُمُرهِ بالازديادِ من الأعمالِ الصالحةِ في حالِ صحتِه وعافيتِه، والإكثارِ من الحسناتِ قبلَ حصولِ المرضِ ونزولِ الضعْفِ، يقولُ نبيُّنَا ﷺ: (اغْتَنِمْ خَمْساً قبْلَ خَمْسٍ: وذكر منها:.. وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ) رواه الحاكم (7846)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (3355). وقال ﷺ: (نِعْمَتانِ مَغْبُونٌ فِيهِما كَثِيرٌ مِنَ النّاسِ: الصِّحَّةُ والفَراغُ) رواه البخاري (6412).
ثانيًا: الاستقامةُ على طاعةِ اللهِ تعالى والإكثارُ من الصلاةِ: يقولُ ابنُ القيِّمِ رحمه الله: ولا رَيْبَ أنَّ الصلاةَ نفسَها فيها من حِفْظِ صحةِ البدنِ، وإذابةِ أخلاطِه وفضلاتِه، ما هو من أنفعِ شيءٍٍ له، سوى ما فيها مِن حِفْظِ صِحَّةِ الإيمانِ، وسعادةِ الدنيَا والآخرةِ، وكذلكَ قيامُ الليلِ مِن أنفعِ أسبابِ حفظِ الصحة، ومن أَمنْعِ الأُمورِ لكثيرٍ من الأمراضِ المُزْمنةِ، ومن أنْشَطِِ شيءٍ للبدنِ والرُّوحِ والقلبِ. (الطب النبوي، ص193).
ثالثًا: مزاولةُ الأنشطةِ الرياضيةِ المفيدةِ، وأَكْلُ الأطعمةِ النَّظيفةِ الصِّحِّيةِ، والبعدُ عمَّا يضرُّ الجَسَدَ من ضُغوطاتِ الحياةِ، يقولُ ابنُ القيِّمِ رحمهُ اللهُ: ولَمَّا كانتْ الصَّحةُ والعافيةُ من أَجَلِّ نِعَمِ اللهِ على عبْدِه، وأجْزَلِ عطاياهُ، وأوفرِ مِنحِه ـ بلْ العافيةُ المُطلقةُ أَجَلُّ النِّعَمِ على الإطلاقِ ـ فحقيقٌ لِمَنْ رُزِقَ حظاً مِن التوفيق مراعاتُها، وحِفظُها، وحِمايتُها عمَّا يُضادُّها. زاد المعاد (4/195).
رابعًا: سؤالُ اللهِ العافيةَ في كلِّ شيءٍ: فعَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ: عَلِّمْنِي شَيْئًا أَسْأَلُهُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ. قَالَ (سَلِ اللَّهَ الْعَافِيَةَ). فَمَكَثْتُ أَيَّامًا ثُمَّ جِئْتُ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلِّمْنِي شَيْئًا أَسْأَلُهُ اللَّهَ. فَقَالَ لِي (يَا عَبَّاسُ يَا عَمَّ رَسُولِ اللَّهِ سَلِ اللَّهَ الْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ. رواه الترمذي (3514)، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي (3514). فليس شيءٌ من الدنيا يهنأُ به صاحبُه إلا مع العافيةِ.
أسألُ اللهَ تعالى أن يُديمَ علينَا نعْمةَ الصحةِ والعافيةِ في الأبدانِ والأهلِ والولدانِ، وأن يصرفَ عنَّا وعنَّكم كلَّ ما يكونُ عائقًا بيننا وبينَ طاعةِ اللهِ تعالى وطلبِ جنَّتِه.
هذا وصلُّوا وسلِّموا على الحبيبِ المصطفى فقد أَمَرَكم اللهُ بذلكَ فقالَ جلَّ من قائلٍ عليماً: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً}[الأحزاب:56].
الجمعة: 23/12/1443هـ