نعمة السجود
أ.د عبدالله الطيار
الحمد لله الذي أنعم علينا بنعمة الإسلام، وأفاض على قلوبنا بنور الإيمان، وأكرمنا بالسجود له نعمة منه وفضلاً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له المستحق للركوع والسجود والقيام الذي خاطب نبيه بقوله :{وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ}(العلق:9)، وأشهد أن محمداّ عبد الله ورسوله أكثر العالمين سجوداً وأعظمهم خشوعاً وخضوعًا للملك العلام، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله: حق التقوى، واشكروه على نعمه التي لا تعد ولا تحصى. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}(آل عمران: 102).
عباد الله: إن من أعظم نعم الله تعالى على عباده أن خلقهم لعبادته، وسخر لهم ما في السماوات وما في الأرض عوناً لهم على طاعته، فمنهم من اقتصد، ومنهم من ظلم نفسه، ومنهم من سابق بالخيرات بإذن الله.
وإن من أجلِّ وأشرف النعم التي أنعمها الله على عباده نعمة السجود له سبحانه وتعالى، وهي نعمة ينبغي عليهم أن يقدروها حق قدرها، وأن يشكروها، وأن يعلموا أثرها في حياتهم، ومن تلذذ بالسجود بين يدي الله ومناجاته وقربه تمنى أن يظل عليها حتى يبعثه الله عليها، لأن المسلم يشعر من خلالها بالسكينة والخشوع، والراحة والرضا والاطمئنان واستسلام القلب للواحد الدَّيان، حيث يجتمع فيها سجود الجسد والروح معاً، وكم رأينا من مسلم سأل الله بصدق أن يتوفاه وهو ساجد فصدقه الله، وأعطاه سؤله وبلغه مناه.
عباد الله: إن لحظات السجود الخاشع بين يدي الله منحة إلهية يعطيها الله لمن شاء من خلقه، وهي من أحب الأعمال إليه لما فيها من الخشوع والخضوع والذل والانكسار، ومن واظب عليها وجد الخير كله في الدنيا والآخرة، قال صلى الله عليه وسلم: (عَلَيْك بِكَثْرَة السُّجُود، فَإنَّك لَا تسْجد لله سَجْدَة إِلَّا رفعك بهَا دَرَجَة وَحط عَنْك بهَا خَطِيئَة)(رواه مسلم) وهي لحظات يغسل فيها المسلم قلبه من أدران الدنيا ومتاعب المخالطة ومكابدة الحياة، وهي أوقات صفاء تحفظ عليه سلامه النفسي والروحي، وتمنحه قوة دافعة للتحمل والمثابرة، وهي الدرع الواقي من الاكتئاب والإحباط وأمراض العصر القاتلة، وهي فرصة للتوبة والاعتراف بالذنب، وفيها أفضل مقامات الدعاء المستجاب لأن العبد يكون فيها أقرب لربه وخالقه ومولاه، كما قال صلى الله عليه وسلم: (أقْرَبُ ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكْثِرُوا الدُّعاء)(رواه مسلم).
عباد الله: إن نعمة السجود لله عبادةٌ لا يُرَى المؤمنُ أذلَّ وأخضعَ للهِ إلا فيها، وبها يضعُ جبهتَه على الأرض وكفيهُ ورُكْبَتَيهُ وقَدَمَيه إيذانًا للنفسِ والشيطان بأنَّ الخضوعَ والتذللَ للهِ وحده، فتراهُ هادئَ الأركان، حاضرَ الجَنَان، يرطب لسانِه بذكرِ الله داعياً راجياً، فيقول:(سبحان ربي الأعلى) تعظيماً وتبجيلا.
سجد قلبه قبل جسده، وسكن فؤاده قبل أركانه، وهام حباً لخالقه وبارئه، وتقلبت نفسه بين الخوف والرجاء. يسأل الله تعالى أن يزيده إيماناً وتقوى، ويطلب منه الهداية والتوفيق، ويستزيد من نوره لسلوك الطريق المستقيم. ويرجوه أن يغفر ذنبه، ويستر عيبه، ويرفع درجته، وأن يرحمه، وأن يمن عليه بالجنة وأن يعيذه من النار.
يسجدَ المؤمنُ لله يومَ أنْ أمره الله بذلك، فبادر بطاعته، واستجاب لأمره، كما استجابت المخلوقات من حوله، قال تعالى:{وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ * يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}(النحل: 49، 50).
فحقيقٌ بنا أنْ نقفَ معَ السجودِ وقفةَ محاسبةٍ لأنْفسِنَا حتى تصبحَ عبادةَ روحٍ وقلب، لا عبادةَ عادة، وحتى لا يكونَ السجودُ جسدًا بلا روح، وفجرًا بلا نور.
عباد الله: لكي نعرفَ قدرَ السجودِ من بينِ سائرِ العبادات ونستزيدَ همَّتَنَا للإكثارِ مِنْه فلا بُدَّ أنْ نرجع إلى كتاب الله وسنة رسولهِ صلى الله عليه وسلم؛ ففيهما الكثير من الآيات والأحاديث التي دلت على فضل السجود لكي تنبعثَ إلى نفوسِنَا روح اللذة والسعادة والأنس بالله.
يقول الله جل وعلا: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوُابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} (الحج:18). ويقول جل وعلا: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}(النحل:48 ـ50).
وعن ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما قال: جاءَ رجلٌ فقال: يا رسولَ الله، إنِّي رأيتُني الليلةَ وأنا نائم كأنِّي أُصَلِّي خلفَ شجرة فسجدتُ فسجدتِ الشجرةُ لسجودي، فسمعْتُها وهيَ تقول: اللهمَّ اكتبْ لي بِها عندكَ أجرًا، وضعْ عنِّي بها وزرًا، واجعلْها لي عندَك ذُخْرًا، وتقبَّلْهَا منِّي كما تقبَّلتَهَا منْ عبدِك داود، قال ابنُ عباس: فقرأَ رسولُ اللهِ سَجْدَة ـ أي: آية فيها سجود تلاوة ـ، ثمَّ سجدَ فسمعتُه وهو يقولُ مثلَ ما أخبَرهُ الرجلُ عنْ قولِ الشجرة)(رواهُ الترمذيُّ وابنُ ماجةَ وابنُ حبانَ). قال أبو العالية: "ما في السماءِ نجمٌ ولا شمسٌ ولا قمرٌ إلا يقعُ للهِ ساجدًا حيَن يغيب، ثمَّ لا ينصرفُ حتى يؤذنَ له، وأما الجبالُ والشجر فسجودُهما بفيءِ ظلالِهما عن اليمينِ والشمائل". وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:(إذا قرأَ ابنُ آدمَ السجدةَ اعتزلَ الشيطانُ يبكي يقول: يا ويلَه؛ أُمِرَ ابنُ آدمَ بالسُّجودِ فسجدَ فلهُ الجنة، وأمرتُ بالسجودِ فأبيتُ فليَ النَّار)(رواه مسلم).
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:{ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمْ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} (الفتح:29). بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على فضله وإحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين، أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله: واعلموا أن سعادة المرء واطمئنان قلبه لا يكونان إلا بتقوى الله ولذة القرب من الرحيم الرحمن.
عباد الله: إن السُّجودُ لله تعالى من أفضلِ الحسنات وأجلِّ القُرُبَات. يقول أمير المؤمنينَ عثمان رضي الله عنه: "ما أسرَّ أحدٌ سريرةً ــ أي: أخفى شيئًا في صدره ــ إلا أبداها اللهُ على صفحاتِ وجهِه وفلتاتِ لسانِه"، ورُوِيَ عنْ عمرَ بنِ الخطَّابِ رضي الله عنه أنَّهُ قال: "مَنْ أَصْلَحَ سريرتَه أصلحَ اللهُ تعالى علانيتَه".
والمقصود من ذلك أن السجودَ يُصلِحُ سريرةَ المؤمن؛ فيُصبحُ قلبُهُ حافلاً بالتَّواضعِ وخفضِ الجناحِ للمؤمنين؛ ويتنزَّهُ عنِ الكبِر والحسدِ واحتقارِ الرِّجَال. فالصحابةُ رضيَ اللهُ عنهم خَلَصَتْ نياتُهم وحَسُنَتْ أعمالُهم؛ فكلُّ مَنْ نَظَرَ إليهِم أعْجَبَهُ سمتُهُمْ وهَدْيُهُمْ.
قال أبو الدرداء رضي الله عنه:(لولا ثلاثٌ ما أحببْتُ البقاءَ في الدنيا: ساعةُ ظمأٍ في الهواجر ــ يعني: صيامٌ في شدة الحر ــ، والسجودُ في الليل، ومجالسة أقوامٍ ــ أي: أصدقاءٍ صالحين ــ ينتقون أَطَايبَ الكلام كما ينتقي أحدُهُمْ أطايبَ التَّمْر).
وكان الربيعُ بن خيثم رحمه الله إذا سجد كأنه ثوبٌ مطروح، فتجيءُ العصافيرُ فتقعُ عليه.
وعن مَسْرُوقٌ قال: "مَا مِنَ الدُّنْيَا شَيْءٌ آسَى عَلَيْهِ إِلَّا السُّجُودَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ". فهؤلاء القوم سجدت وجوههم لربهم فَمَا مَلَّتْ، وتراصت أَقْدَامُهُمْ فِي الدُّجَى قَائِمَةً فما كلَّت, وَباتت عُيُونُهُمْ سَاهِرَةً فما غفلت, وأقبلت قلوبهم على الطاعات عَازِمَةً فما نفرت.
عباد الله: إن من أضاعَ حلاوةَ السجودِ لله، وأصبحَ بالُهُ لُقمةً سهلةً تمضغُه أضراسُ الهواجسِ والوساوس، ففارقَ نورُ السُّجُوْدِ وبهاؤُه وجهَهُ وعينَيه؛ فليرتشِفْ منْ سنَّةِ المصطَفَى صلى الله عليه وسلم ما يُعِيْدُ تعظيمَ السُّجُودِ في قلبِه، فيدخلَ واحةَ الإيمانِ منْ أوْسعِ الأَبْواب.
فيامن أثقلته كثرةُ الذُّنُوب، وقَلَّتْ حفيظتُه منْ رفيعِ الحسنات وفضائلِ الأعمال عليك بكثرةِ السُّجود. ويا من اشتاقَ للقاءِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وتاقتْ نفسُه إلى مرافقتِه في الجنة عليك بكثرةِ السُّجودِ لله، عن ربيعةَ بنِ كعبٍ الأسلميِّ قال: كنتُ أبيتُ معَ رسولِ اللهِ فآتيهِ بوضوئِه وحاجتِه؛ فقالَ لي:(سلْ)؛ فقلتُ: أسألُك مرافقتَك في الجنَّة، قال:(أوَ غيرَ ذلك؟) قلت: هو ذاك، قال:(فأعنِّي على نفسِكَ بكثرةِ السُّجُود)(رواه مسلم). فقد آن لنا يا عباد الله أن نستيقظَ من سُباتِنا، ونستفيقَ من رقادنا، ونتحررَ من قيودِ الغفلة التي ضربت على قلوبنا، وأن نستقلَّ قاربَ النجاة الذي يوصلنا إلى بر الأمان، ورضا الرحمن. فهيا بنا نستعين بربنا على طاعته، ونسأله أن يمن علينا بجزيل فضله، وأن نكثر من السجود بين يديه راغبين راهبين حتى نسعد في الدار الأولى والآخرة. أسأل الله جل وعلا أن يجعلنا ممن كَثُرَ سجودُهُ فرفعت درجاتِه وكفَّرْتَ سيئاتِه وأن يجعلنَا ممَّن يرافقُ الرسولَ صلى الله عليه وسلم في جنات النعيم.
هذا وصلوا وسلموا على الحبيب المصطفى فقد أمركم الله بذلك فقال جل من قائل عليماً:{إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً}(الأحزاب: ٥٦). اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.