نعمة التوحيد وتعزيز قيم الانتماء الوطني موافقة للتعميم
عبد الله بن علي الطريف
نعمة التوحيد وتعزيز قيم الانتماء الوطني 1445/3/7هـ
الحمد لله الذي أنعم علينا بالهداية للدين القويم، ونشكره أن وفقنا لمتابعة النبي الأمين، ونثني عليه أن اصطفانا بعقيدة التوحيد الخالص من الشرك في زمن انتكس فيه فئام من المسلمين، فجثوا بين أيدي شيوخ الطرق متوسلين، وطافوا بأجداثِ مَنْ عَدُوهم أَوْلِيَاءَ للمَدَدِ سائلين، وأشهد ألا إله إلا اللهُ ولي الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله سيد الأولين والآخرين، وإمام الموحدين صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين وسلم تسليمًا كثيرًا أما بعد..
أيها الإخوة: من نعم الله علينا أننا وجدنا في بلادٍ جعلت التوحيد الخالص لها عقيدة ومنهجًا، فلا يُدعى ولا يُعبدُ فيها إلا الله، ولم يُبْنَ فيها مسجدٌ على قبرِ ولي ولا ملك ولا زعيم، ولا يوجد فيها بفضل الله تعالى مشاهد ولا مزارات ولا غيرها مما يوجد في بعض بلاد المسلمين مع الأسف، ولا تشد الرحالُ في هذه البلاد إلا للمسجد الحرام بمكة أو لمسجد النبوي بالمدينة، ونسأل الله تعالى أن يحرر بيت المقدس لنشد الرحال إليه..
وهذا ليس توجهًا شعبيًا لا علاقة لولي الأمر به، وإنما هو دينٌ تدين به هذه البلاد ملكًا وحكومةً وشعبًا، ولا تأذن بوجود أي مظهر من المظاهر الشركية، وهذه العقيدة يعتقدها ويعمل بها أهل هذه البلاد سواء كانوا فيها أو خارجها، ولا يقبلون التنازل عنها لأي سبب.. وما موقف ولي عهد هذه البلاد حفظه الله ووفقه في زيارته للهند وعدم حضور زيارة ضريح غاندي والانحناء له ووضع باقات الورود عليه، إلا أكبر برهانٍ على تجذر العقيدة الصحيحة في نفوس ولاة أمر هذا الوطن وشعبه.. فلله الحمد رب العالمين...
أيها الإخوة: وتمام العبادة متوقف على معرفة العبد بالله، بل كلما ازداد العبد معرفة بربه، كلما كانت عبادتُه أكمل، فلأجلها خَلَقَ اللهُ المكلفين، لا لحاجته إليهم قال عز من قائل: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ* مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ* إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ). [الذاريات:56-58]
قال الشيخ السعدي رحمه الله: ولتوحيد الله فوائد عظيمة، وفضائل كثيرة لا تحصى لكثرتها، نذكر ما تيسر منها:
أن التوحيد هو السبب الأعظم لتفريج كربات الدنيا والآخرة ودفع عقوبتهما، وأنه يُكفرُ الذنوب، ومن أجل فوائده أنه يمنع الخلود في النار، إن كان في القلب منه أدنى مثقالَ حبةٍ خردل، وإذا كَمُلَ في القلب منع دخول النار بالكلية، ويحصل لصاحبه به الهدى الكامل، والأمن التام في الدنيا والآخرة، وهو السبب الوحيد لنيل رضا الله وثوابه، وأسعد الناس بشفاعة محمد ﷺ من قال: لا إله إلا الله خالصا من قلبه.
ومن أعظم فضائله: أن جميع الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة متوقفة في قبولها وفي كمالها، وفي ترتيب الثواب عليها على التوحيد، فكلما قوي التوحيد والإخلاص لله كملت هذه الأمور وتمت، ومن فضائله أنه يسهل على العبد فعل الخيرات وترك المنكرات، ويسليه عن المصيبات، فالمخلص لله في إيمانه وتوحيده تَخِفُ عليه الطاعات؛ لما يرجو من ثواب ربه ورضوانه، ويهون عليه ترك ما تهواه النفس من المعاصي؛ لما يخشى من سخط الله وعقابه، والتوحيد إذا كمل في القلب حَببَ اللهُ لصاحبه الإيمانَ وزينه في قلبه، وكره إليه الكفر والفسوق والعصيان وجعله من الراشدين.
ومن فوائده: أنه يخففُ عن العبد المكاره ويهون عليه الآلام، فبحسب تكميل العبد للتوحيد والإيمان يتلقى المكاره والآلام بقلب منشرح، ونفس مطمئنة، وتسليم ورضا بأقدار الله المؤلمة، ومن أعظم فضائله أنه يحرر العبد من رق المخلوقين والتعلق بهم وخوفهم ورجائهم والعمل لأجلهم، وهذا هو العزُ الحقيقي والشرفُ العالي، ويكون مع ذلك متألهاً متعبداً لله لا يرجو سواه، ولا يخشى إلا إياه، ولا ينيب إلا إليه، وبذلك يَتِمُ فلاحُه ويتحققُ نجاحه.
ومن فضائل التوحيد: أنه إذا تم وكمل في قلب العبد، وتحقق تحققاً كاملاً بالإخلاص التام، صَيَّرَ القليل من عمله كثيراً، وتضاعفت أعماله وأقواله بغير حصر ولا حساب، ورجحت كلمة الإخلاص في ميزان العبد بحيث لا تُقَابِلها السماوات والأرض، وعُمْارُها من جميع خلق الله.
هذا قليل من كثير من فوائد التوحيد وفضائله، فلله الحمد أن هدنا إليه، وجعل بلادنا راعية له وقائمة عليه.، وإن بلداً جعل التوحيدَ له منهجاً والعقيدةَ الصحيحةَ دستوراً؛ لجديرٌ بالحب والانتماء، وحقٌ لقادته الطاعةُ والوفاء، ووحدة الصف خلفهم، كما أمر ربنا بذلك بقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا)[النساء:59] قال الشيخ السعدي: "وأمر الله بطاعة أولي الأمر، وهم الولاة على الناس، من الأمراء والحكام والمفتين، فإنه لا يستقيم للناس أمر دينهم ودنياهم إلا بطاعتهم والانقياد لهم؛ طاعة لله ورغبة فيما عنده، ولكن بشرط أن لا يأمروا بمعصية الله، فإن أمروا بذلك فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق".
أيها الأحبة والوطن: هو الأرض التي يتخذها الإنسان سكناً له فينشأ في نفسه تعلقٌ وإلف لها.. وحب الأرض التي يستوطنها الإنسان، والحنين إليها والانعطاف نحوها، أمر مركوز في فطر النفوس.. فعَنْ عَائِشَةَ أُمِّ المُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مِنَ الوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ فِي النَّوْمِ، فَكَانَ لاَ يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ، وسَاقَتْ نبأ مَبْعَثِهِ إِلى أَنْ قَالتْ: فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي نَزَّلَ اللَّهُ عَلَى مُوسَى، يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا، لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أَوَ مُخْرِجِيَّ هُمْ»، قَالَ: نَعَمْ، لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ (وفي روايةٍ: أُوذيَ) وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا. رواه البخاري. قال ابن حجر: يُؤْخَذُ مِنْهُ شِدَّةُ مُفَارَقَةِ الْوَطَنِ عَلَى النَّفْسِ فَإِنَّهُ ﷺ سَمِعَ قَوْلَ وَرَقَةَ أَنَّهُمْ يُؤْذُونَهُ وَيُكَذِّبُونَهُ فَلَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ انْزِعَاجٌ لِذَلِكَ، فَلَمَّا ذَكَرَ لَهُ الْإِخْرَاجَ تَحَرَّكَتْ نَفْسُهُ لِذَلِكَ لِحُبِّ الوَطَنِ وَإِلْفِهِ فَقَالَ «أَوَ مُخْرِجِيَّ هُمْ.؟»..
فالوطن مهد الصبا ومدرج الخطى ومرتع الطفولة، وملجأ الكهولة، ومنبع الذكريات، وموطن الآباء والأجداد، ومأوى الأبناء والأحفاد، ومستقر الحياة، ومكان العبادة، ومحل المال والعرض، ومكان الشرف.. على أرضه يحيا الإنسان ويعبد ربه، ومن خيراته يعيش، ومن مائه يرتوي، وكرامتُه من كرامته، وعزتُه من عزته، به يُعْرَف، وعنه يُدافع.. وَفِي الرُّجُوعِ إلَى الْأَوْطَانِ تُقْتَحَمُ الْأَغْرَارُ، وَتُرْكَبُ الْأَخْطَارُ، وَتُعَلَّلُ الْخَوَاطِرُ.. والوطن نعمة من الله، وحبه طبيعة طَبَعَ اللهُ النفوسَ عليها.
ولا يخرج الإنسان من وطنه إلا إذا اضطرته أمور للخروج منه، كما حصل لنبينا محمد ﷺ عندما ألجأته قريشٌ للخروج من مكة.. فهاجر ﷺ ولما أراد مغادرة مكة وَاقِفٌ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِالْحَزْوَرَةِ، يَقُولُ مُخَاطِباً مَكَةَ: «وَاللهِ إِنَّكِ لَخَيْرُ أَرْضِ اللهِ وَأَحَبُّ أَرْضِ اللهِ إِلَى اللهِ، وَلَوْلَا أَنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ مَا خَرَجْتُ» رواه النسائي وابن حبان والترمذي وابن ماجة عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ حَمْرَاءَ الزُّهْرِيِّ وصححه الألباني والأرناؤوط.
فصلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وصحبه..
الخطبة الثانية:
أيُّها الأحبَّةُ: كيف يكون حب الوطن والانتماء إليه.؟ حب الوطن ليس كلاماً يلقى ولا شعاراً أو صوراً ترفع ولا مقالاً يدبجُ بالمديح والثناء عليه.. بل هو مرتبطٌ بسلوك الفرد المحب لوطنه ارتباطًا لا انفكاك منه، يلازمه في كل مكان، في حِلِّهِ وترحاله، في المنزل والشارع، في مقر عمله وفي سهول الوطن وحزونه ووديانه.
حب الوطن: يكون بصدقِ الانتماءِ له قولاً وفعلاً، وترسيخُ هذا الانتماء بما يعزز اللحمة الوطنية.. حب الوطن: بالاستقامة على الدين الصحيح والحفاظ على القيم التي رضيها الله ورسوله وأخذ بها ولاة أمرنا وجعلوها دستوراً لهذا الوطن ومنهج حياة..
حب الوطن: بسلوكِ الصراط المستقيم والتحلي بالوسطية وعدمِ الغلو في الدين أو التفريطِ فيه أو المجاهرةِ بالمعصية..
حب الوطن: يكون بالحرصِ على جمع الكلمة ونبذ أسباب الفرقة والخلاف، والعصبية، والتصنيف، والمناطقية..
حب الوطن: يكون بالطاعةِ لولاة أمره واحترامِهم وإنزالِهم منازَلهم والالتفافِ حولهم والمحافظةِ على مكتسبات الوطن..
حب الوطن: يكون باحترامِ أنظمته والالتزام بها وعدم مخالفتها سراً وعلنا، وتقديمِ الاقتراحات التي من شأنها صلاحُ البلاد والعباد..
حب الوطن: يظهر في إخلاصِ أصحاب المناصب والمسئولين فيما تحت أيديهم من مسؤوليات وأمانات، وتحقيقِ العدل بين الناس ونشرِ الخير، والقيامِ بمصالح العباد كلٌ حسب مسئوليته وموقعه..
حب الوطن: يظهرُ في المحافظةِ على أمواله وثرواته، وعدم هدرها وشكر الله عليها..
حب الوطن: بحماية بيئته والحفاظ على مرافقه والاستفادة منها بالطرق السليمة، وبالمحافظة على منشآته ومنجزاته، وفي الاهتمام بنظافته وجماله..
حب الوطن: بالاجتهاد بالعمل وبذل الوسع في الأداء والاجتهاد في التَعلِيم والتَعَلم..
حب الوطن: بإشاعة المحبة وبذل السلام والابتسامة والتفاؤل والإيجابية، وباحترامِ الغريب وإكرامه وعدم بخسه حقه، وبنشر القيم والأخلاق الفاضلة..
حب الوطن بالالتزام بأنظمة السير وحسن القيادة وترك الفوضى، وفي المحافظة على أمنه واستقراره والدفاع عنه وعدم نشر الإشاعات المغرضة..
حب الوطن: ببناء الأسرة الصالحة، وصلة الرحم، وعدم التقاطع والتباغض والتدابر وببذل المعروف والرحمة بالضعفاء من الأيتام والأرامل وذوي الاحتياجات الخاصة وغيرهم..
حب الوطن: ببذل الزكاة والصدقات وإقامة الصلاة وعدم المجاهرة بالمعصيةِ والمفَاخَرةِ بها أمامَ العِبادِ..
حب الوطن لو ذهبت أعدد مظاهره لطال بي المقام ولما استوعبت المرام.. لكنها إشارات عابرة؛ لأن حب الوطن يظهر في إخلاص العامل في مصنعه، والموظف في إدارته، والمعلم في مدرسته.. ويكون بصلاح الباطن والظاهر وصدق المراقبة لله.
وبعد: إننا نعيشُ في وطنٍ قد حوى بينَ جوانبِه الخيرَ العميمَ والنعمَ الوفيرة، يحبُّه كلُّ مُسلمٍ على وجهِ الأرضِ لِما فيه من معالمِ الدِّينِ العظيمِ، فهذا بيتُ اللهِ الحرام عامرٌ تهوي إليه أفئدةُ المسلمينَ في كلِ مكانٍ، وهذا مسجدُ رسولِ اللهِ ﷺ تُشدُ إليه الرِّحالُ في كلِ زمانٍ.. أمنٌ وأمانٌ، واجتماع كلمة، وتحكيمٌ للشريعةِ، شعائرُ التوحيدِ ظاهرةٌ، ومظاهرٌ الشركِ داحرةٌ، فلنحافظْ على هذه النِّعمِ بشكر الله عليها.. فاللهم لك الحمد والشكر وصلوا على نبيكم...