نعمة الابتلاء (خطبة قصيرة)

د. محمود بن أحمد الدوسري
1441/10/10 - 2020/06/02 06:57AM
                                                                            نعمة الابتلاء
                                                                د. محمود بن أحمد الدوسري
       الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على رسوله الكريم, وعلى آله وصحبه أجمعين, وبعد: النِّعمةُ الحقيقية هي بالسعادة الأُخروية أو ما يُوصِل إليها, فإنْ كانت اللَّذة والسعادة مقصورةً على الأمور الدُّنيوية فليست بنعمة, إذْ كلُّ نعمةٍ لا تُقرِّب من الله تعالى فهي بَلِية وليست بنعمة, فقد يكون الابتلاء نعمةً عظيمة, وقد تكون السعادة الدنيوية بلاءً عظيماً.
      والمؤمن ينظر إلى الابتلاء على أنه نعمة عظيمة, وهذه النعمة يَمُنُّ الله بها على عباده المؤمنين خاصة؛ فإنه كلما كان الإنسانُ إلى الله أقرب أنزلَ عليه من البلاء ما يُكفِّر به ذنوبه, ويرفعه درجات عالية حتى يكون عند الله من المُقرَّبين.
     عباد الله .. إنَّ الابتلاء يكون نِعمةً عظيمة إذا تلقَّاه المؤمنُ بالصبر والاحتساب عند الله تعالى, ونَظَرَ إليه على أنه من مُحِبٍّ لِمَحْبوبه, فالله سبحانه يُحبُّ عبدَه المؤمن حُبًّا عظيماً, ومع هذا؛ فإنه يُنزل عليه من البلاء ما لا تُطيقه عادة البشر.
      والابتلاء فيه فائدةٌ عظمية تَعُود على المؤمن في دِينه ودُنياه؛ فتتربَّى نفسُه على الصبر, ويقوى بذلك إيمانُه. والرِّضا بالبلاء يجعل المؤمنَ دائم الاتصال بالله, فهو مُتَّصِلٌ بربه في السراء والضراء, وفي جميع أحواله, فتتحوَّل حياتُه إلى عطاءٍ دائم, فلا يعرف الجَزَعَ ولا القنوط؛ ولذا قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «عَجَبًا لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ: إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ, وَلَيْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلاَّ لِلْمُؤْمِنِ, إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ, وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ» رواه مسلم.
     والناس اليوم يخشون المَرَضَ - وهو ابتلاءٌ من الله تعالى - لكن المريض إذا صبرَ واحتسبَ كان مرضُه نعمةً عظيمة, فيعلم - عِلْمَ اليقين - أنَّ المرض تكفير للذنوب؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَا يَزَالُ الْبَلاَءُ بِالْمُؤْمِنِ وَالْمُؤْمِنَةِ فِي نَفْسِهِ وَوَلَدِهِ وَمَالِهِ حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ وَمَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ» صحيح - رواه الترمذي. وقال صلى الله عليه وسلم: «مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ, وَلاَ وَصَبٍ, وَلاَ هَمٍّ, وَلاَ حُزْنٍ, وَلاَ أَذًى, وَلاَ غَمٍّ حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا؛ إِلاَّ كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ» رواه البخاري. 
      أيها المسلمون .. في هذه الظروف الاستثنائية يخشى الناسُ من تَرَدِّي الأحوال الاقتصادية, ويقلقون على حياتهم المَعِيشية؛ خشية العَوَزِ والفقرِ وقِلَّةِ المال - ولا ريب أنَّ ذلك ابتلاء من الله تعالى - فإنَّ الفقير إذا صَبَرَ واحتسبَ فهو في نِعمةٍ عظيمة, ومن أعظم فوائد الفقر: أنَّ الفقير أقل حساباً يوم القيامة؛ ولهذا فإنَّ الفقراء يدخلون الجنةَ قبل الأغنياء, يقول النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «يَدْخُلُ الْفُقَرَاءُ الْجَنَّةَ قَبْلَ الأَغْنِيَاءِ بِخَمْسِمِائَةِ عَامٍ» صحيح - رواه الترمذي. وقال عليه الصلاة والسلام: «اطَّلَعْتُ فِي الْجَنَّةِ فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا الْفُقَرَاءَ» متفق عليه.
     وعليه؛ فكلُّ مُصيبةٍ تُصيب المؤمنَ تكون نِعمةً عليه إذا صبر واحتسب, فيحمد الله تعالى أنَّ المصيبة لم تكن في دينه؛ قال رجلٌ لسهلٍ - رضي الله تعالى عنه: (دَخَلَ اللِّصُّ بيتي, وأخَذَ متاعي!), فقال: (اشْكُرِ اللهَ تعالى, لو دخلَ الشيطانُ قلبَك فأفسدَ التوحيدَ؛ ماذا كُنتَ تصنع؟).
      والمؤمن يحمد ربَّه تبارك وتعالى بأنَّ المصيبة لم تكن أعظم مما كانت؛ قال عمرُ بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه: (ما ابْتُلِيتُ ببلاءٍ إلاَّ كان لله تعالى عَلَيَّ فيه أربعُ نِعَمٍ: إذْ لم يكن في ديني, وإذْ لم يكن أعظم منه, وإذ لم أُحْرَم الرضا به, وإذْ أرجو الثوابَ عليه).
                                                                              الخطبة الثانية
      الحمد لله ... أيها المسلمون.. لا يُفهَم من هذا أنَّ الابتلاءَ أفضلُ من العافية! بل العافية أفضل من البلاء؛ فإنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يسأل اللهَ تعالى العفوَ والعافيةَ في دِينه ودُنياه؛ فعن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدَعُ هَؤُلاَءِ الدَّعَوَاتِ - حِينَ يُمْسِي وَحِينَ يُصْبِحُ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ, اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي دِينِي وَدُنْيَايَ وَأَهْلِي وَمَالِي» صحيح - رواه ابن ماجه. وعن ابنِ عباسٍ - رضي الله عنهما؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ - لِعَمِّهِ الْعَبَّاسِ: «يَا عَمِّ، أَكْثِرِ الدُّعَاءَ بِالْعَافِيَةِ» حسن - رواه الحاكم. فالبلاءُ أجرُه عظيم؛ إلاَّ أنَّ العافيةَ أحبُّ إلى نَفْسِ المؤمن, فلعلَّه لا يستطيعُ الصبرَ على البلاء.
 
المرفقات

نعمة-الابتلاء

نعمة-الابتلاء

المشاهدات 1647 | التعليقات 0