نعمة الأمن ووجوب شكرها
عبدالرحمن سليمان المصري
نعمة الأمن ووجوب شكرها
الخطبة الأولى
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَطْعَمَنَا وَسَقَانَا، وَكَفَانَا وَآوَانَا، فَكَمْ مِمَّنْ لَا كَافِيَ لَهُ وَلَا مُؤْوِيَ ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلهَ إِلَا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ،وأَشْهَدُ أنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ،صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَعَلى آلهِ وَصَحْبهِ وسَلَّمَ تَسلِيماً كَثِيراً ، أمَّا بَعد :
أُوصِيكُمْ ونَفسِي بِتقوَى اللهِ تَعالَى فَهِيَ وَصِيَّةُ اللهِ للأَوَّلينَ والآخِرينَ ، قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ ﴾ النساء : 131.
عباد الله :لقدْ منَّ اللهُ علينا بِنعَمٍ كثيرةٍ لا تُعدُّ ولا تُحصَى ، ولا يُمكنُ أنْ تُسْتَقْصَى، قال تعالى: ﴿ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ﴾ إبراهيم: 34 .
وإنَّ مِنْ شُكْرِ النِّعَمِ التَّذكيرُ بِها ، قال الحسنُ البَصريُ رحمه الله : أَكْثِرُوا مِنْ ذِكْرِ هَذِهِ النِّعَمِ ، فَإِنَّ ذِكْرَهَا شُكْرٌ ، وإِنَّ مِنَ العَوْنِ على شُكْرِ النِّعمِ التَّذكيرُ بِها ، قال تعالى لِموسَى عليه السلام ﴿وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ
شَكُورٍ ﴾إبراهيم:5 أ.هـ . أي: ذَكِّرْهُمْ بِنِعْمَتِ اللهِ عَلَيْهِمْ وإِحْسِانِهِ إِلَيْهِمْ .
عباد الله : لقدْ كانَ عامَّةُ أَرجَاءِ هَذهِ البِلادِ المُبارَكةِ في مَاضٍ ليسَ بِالبعيدِ ، تُعانِي منَ الفُرقةِ والاخْتِلافِ ، والحُروبِ والفِتنِ ، وكانتْ تَئِنُّ منَ الفَقرِ والفَاقَةِ ، والمَجاعَةِ بعدَ المَجاعَةِ ، وكانتْ تَحْتَكِمُ في كَثيرٍ منْ خُصُومَاتِها إلى أَحكَامِ
.الجَاهِليَّةِ ، منْ أعرافِ القبَائِلِ وعَادَاتِها ، وكانَ قتلُ القويِّ للضَّعيفِ وسَلبُهُ لمالِهِ وحَلالِهِ ، منْ أَبرزِ مَصادرِ الرِّزقِ ، بل كانتْ من المفَاخِرِ والمآثِرِ .
.وكانتْ البِدعِ بِأَنْواعِهِا كَثيرةِ الانْتشَارِ ؛ وكانَ طَريقُ الحجِّ طَريقَ خَوفٍ ومَوتٍ وهَلكةٍ ، وكانت الأُمِّيةُ هي الصِّفةُ الغَالبةُ على أَهْلِها
فلمَّا أَرادَ اللهُ بِأهلِ هَذهِ البِلادِ الخَيرَ ، هَيَّأَ لهَا الأَسْبَابَ لِقِيامِ هَذهِ الدَّولةِ المبَارَكةِ ، فَجَمعتِ الناسَ على كتابِ اللهِ تعالى ، وسُنَّةِ نَبيِّهِ صلى الله عليه وسلم ، وإِقامَةِ التَّوحيدِ ، وإِزَالةِ مَظَاهرِ الشِّركِ ، وأمَّنَتِ الطُّرُقَ ، وأقَامتْ الحُدودَ ، ونَشرتْ
.العِلمَ الشَّرعيَّ ، واعْتَنتْ بالحرَمينِ الشَّريفينِ ، وخَدمتْ ضُيوفَ الرَّحمنِ ، وجَدّدتْ ما انْدرسَ منْ مَعالمِ الدِّينِ
عباد الله : إنَّ منْ أَجلِّ النِّعمِ عَلينا في هَذهِ البِلادِ المباركَةِ ، وأَعْلاهَا وأزْكاهَا نِعمَةَ الإسْلامِ والتَّوحيدِ ، ونِعمةَ لُزومِ السُّنةِ ومنهَجِ السَّلَفِ الصَّالِحِ ، ونِعمةَ الاجْتماعِ ووحْدةِ الصَّفِّ ، قال تعالى: ﴿ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ
.جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾الأنفال : 63 ، أي: أَنَّهمْ اجْتَمعُوا وائْتَلفُوا، وازْدَادتْ قُوَّتُهمْ بسببِ اجْتماعِهمْ ، ولمْ يَكنْ هَذا إلَّا بِتوفِيقِ اللهِ عزَّ وجَلَّ ؛ الذي بِيدهِ قُلوبُ العبادِ يُقلِّبُها كيفَ يَشاء
عباد الله : ومنَ النِّعمِ العَظِيمةِ ؛ نِعمةِ الأَمْنِ وَالإِيمَانِ، والسَّكِينَةِ والِاطْمِئْنَانِ ، قال تعالى ﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ﴾البقرة:126 ، فقدَّمَ الأَمْنَ على الرِّزْقِ لِأَهميَتهِ ،
.لأنَّ فَاقدَ الأَمنِ لَا يَهنئُ بِالعيشِ ، قال ﷺ : " مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا " رواه الترمذي وحسنه الألباني
عباد الله : الأمنُ نِعْمةٌ ومِنْحةٌ ربَّانِّيةٌ ، امْتنَّ بِها على عِبادِهِ كي يَعبُدُوهُ ولا يُشرِكُوا بهِ شَيئاً ، وهو مَطلبٌ وغَايةٌ منْ أَهمِّ الغَاياتِ التي يَسعَى إِليْهَا جَميعُ الناسِ ، وهوَ شَرطٌ لِاستقرَارِ البِلادِ والعِبادِ ، وعِمارةِ الأَرْضِ واسْتِمرَارِ الحَياةِ ، وفي
.ظِلالِ الأَمْنِ تَستقيمُ حَياةُ النَّاسِ ، وتَطْمَئنُّ قُلوبُهمْ ، وتُعْمَرُ مَسَاجدُهمْ ، فَيَقُومُونَ بِحقِّ خَالقِهمْ ، وتُطَبَّقُ شَريعةُ اللهِ بينَهمْ ، فَينْتشَرُ الخيرُ ، ويَعُمُّ الرَّخاءُ.
عباد الله : وَمِنْ أَعْظَمِ أَسبَابِ دَوَامِ هَذهِ النِّعَمِ: امْتِثَالُ أَمْرِ اللهِ فِي قَوْلِهِ: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ﴾ النساء :59. فلا تَنْتظِمُ مَصَالحُ الأُمَّةِ إِلَّا بِسُلطانٍ مُطاعٍ ، فَالغَايةُ مِنْ نَصْبِ الإِمامِ هوَ اجْتِماعُ الكَلِمةِ
ولَمِّ الشَّملِ ، وإِقَامةِ أَحْكامِ الدِّينِ ، ونَصْبِ القُضاةِ ، وحِمايةِ البَيْضةِ ، وسَدِّ الثُّغورِ ، وتَجهيزِ الجُيوشِ ، ورَفْعِ الظُّلمِ ونَشْرِ العَدلِ ، وصِيانةِ الأَعرَاضِ واسْتِتْبابِ الأَمنِ ، وفَضِّ المُنازعَاتِ ، والأَخذِ على يَدِ الظَّالمِ وإِنصافِ المظْلُومِ ، فاللهُ
.تَعالى يَزَعُ بالسُّلْطَانِ مَا لا يَزَعُ بِالقُرآنِ
. بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم ، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم ، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب ، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ على إِحسانِهِ ، والشُّكرُ لهُ على تَوفِيقهِ وامتِنانهِ ، وأَشْهدُ أنْ لَا إِلهَ إِلا اللهُ وحْدهُ لا شَريكَ لهُ ، وأَشْهدُ أنَّ مُحمداً عبدهُ ورَسولُهُ ، صَلّى اللهُ عَليهِ وعَلى آلهِ وصَحبهِ ، وسَلَّمَ تسليماً كثيراً ، أما بعد :
عباد الله : إِنَّ بِلادَنا هي مَأْرِزُ الإيمانِ وَحِصْنُهُ ، فِيهِ قِبْلَةُ المسْلِمينَ ، وَمَسْجِدُ سَيِّدْ المُرْسَلِينْ ، وهِيَ مُقِيمَةٌ لِدِينِ الإِسْلامِ ، ومُعَظِّمَةٌ لِشَرائِعِهِ ، وَمُحَكِّمَةٌ لأَحْكامِهِ ، ودَاعِمةٌ لِقضَايَا المُسلمينَ في العالمِ ، معْ مَا تَنْعَمُ بِهِ مِنْ أَمْنٍ وَارِفٍ ، يَسِيرُ
فِيها الرَّاكبُ لا يَخشَى إِلا اللهَ تَعَالى ، و يَخْرجُ النَّاسُ إلى وظَائِفِهمْ يَأْمَنُونَ على أَنَفُسِهِمْ وَأَهْلِهِمْ وَأمْوَالهِم ، قَدْ أُمِّنَت السُّبُلُ، وانْدَحَرَ الشَّرُّ وأَهْلُهُ .
وقَدْ امْتَنَّ اللهُ على قُريشٍ بِأنْ مَكَّنَ لهمْ بَلَداً آمِناً ، ومنْ حَوْلهُمْ يَنْهَبُ بَعْضُهمْ بَعْضاً ، ويَقْتُلُ بَعْضُهمْ بَعْضاً ، قال تعالى :﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ ﴾ العنكبوت :67
عباد الله :فلا يَليقُ بِنَا وقَدْ أَكْرمَنَا اللهُ تَعالى بِنِعْمَةِ الأَمْنِ ، ونِعْمَةِ اجْتِماعِ الكَلِمَةِ وَوِحْدَةِ الصَّفِّ ، أَنْ نُفرِّطَ فِيها أو أَنْ نُضيِّعهَا ؛ فَحَافِظُوا على هَذهِ النِّعمِ ، واحْذَرُوا منَ الشَّائِعاتِ التي يَبُثُّها دُعَاة الفِتْنةِ، الذينَ تَسَبَّبُوا على كَثِيرٍ منْ بُلدانِ
المُسلمينَ بِالحُروبِ والدَّمارِ ، والشَّتاتِ والاِنْفِلاتِ ، واكْتَوَى أَهْلُهَا بِنَارِ الخَوفِ والرُّعبِ ، وفَقدُوا الأَمْنَ على أَنْفُسِهِمْ وأعْرَاضِهِمْ وأَمْوَالِهِمْ.
" اللهُمَّ إِنِّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ زَوَالِ نِعْمَتِكَ، وَتَحَوُّلِ عَافِيَتِكَ، وَفُجَاءَةِ نِقْمَتِكَ، وَجَمِيعِ سَخَطِكَ "
هَذا وصَلُّوا وسَلِّمُوا على منْ أَمركُمْ اللهُ بالصَّلاةِ والسَّلامِ عَليهِ ، فقال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ الأحزاب :156.
اللهم صَلِّ وسَلِّمْ على عَبدِكَ ورَسُولِكَ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ، وعلى آلهِ وصَحبِهِ أَجمَعِينَ .
المرفقات
1714069084_نعمة الأمن ووجوب شكرها خطبة جمعة.pdf