نعمة الأمن وطاعة ولي الأمر

عبدالرحمن سليمان المصري
1445/08/13 - 2024/02/23 17:42PM

نعمة الأمن وطاعة ولي الأمر

الخطبة الأولى

الحمد لله الذي بنعمته اهتدى المهتدون، وبعدله ضلّ الضالون، لا يُسأل عما يفعل وهم يسألون، أحمده تعالى وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبدالله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا  ،       أما بعد :

أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى ، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ﴾ ([1]) .

عباد الله: قد اقتضت سنة الله في خلقه أنه لا يصلح حالهم ولا تستقيم حياتهم إلا في ظل وجود حاكم يسوسهم ويجتمع الناس عليه ، ومصالح الناس لا تستقيم إلا بالاجتماع، وذلك لحاجة بعضهم إلى بعض ، فالاجتماع ضرورة بشرية ومطلب شرعي، ولهذا نهانا الله تعالى عن التفرق والاختلاف وأمرنا بالاجتماع والائتلاف، قال تعالى: ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا ﴾([2]) .

ومما يدلنا على أهمية منصب الإمامة في الإسلام : انشغال الصحابة رضي الله عنهم إلى تنصيب إمامٍ لهم في سقيفة بني ساعدة ، ورسول الله ﷺ مسجى في بيت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، لم يقوموا بعدُ بغسله وتكفينه ودفنه ، لعلمهم أنه لا يصلح وقت ولو يسير إلا وقد تنصّب إمامٌ للمسلمين ، ولهذا قال النبي ﷺ : " إذا خرج ثلاثة في سفر فليأمروا أحدهم " رواه أبو داوود وصححه الألباني ، فأوجب النبي ﷺ التأمير في السفر مع انه اجتماع عارض غير مستقر ، فكيف بالاجتماع الدائم المستمر المستقر إذاً  لابد للأمة من ولي أمر يبين لها الحق .

ومن أعظم الأدلة على ضرورة وجود الحاكم وبذل البيعة له ، قوله ﷺ : " ‌من ‌مات ‌وليس ‌في ‌عنقه ‌بيعة، مات ميتة جاهلية " رواه مسلم .

ولا يخفى أن إمامة المسلمين مسؤولية كبرى ، فلا قيام للدين إلا بها، ولا تَنْتظِمُ مَصالحُ الأمة إلا بسلطان مُطاع، فالغاية مِنْ نَصْبِ الإمام هو اجتماعُ الكلمةِ ولَمُّ الشمل، وإقامةُ أحكام الدِّين ، ونصْب القضاة، وحماية البَيضة، وسد الثغور، وتجهيز الجيوش، ورفْع الظلمِ ونَشْر العدل، وصيانة الأعراض واستتباب الأمن، وفضُّ المُنازعات، والأخذ على يَد الظَّالم وإنصاف المظلوم، فالله تعالى يَزَعُ بالسلطان ما لا يَزَعُ بالقرآن .

وقد عُلم بالضرورة من دين الإسلام أنه لا دين إلا بجماعة، ولا جماعة إلا بإمامة ولا إمامةَ إلا بسمع وطاعة، وقد تضافرت النصُوص من الكتاب والسنة النبوية على وجوب طاعة ولاة الأمور ولزوم جماعة المسلمين وتحريم الخروج عليهم ، قال تعالى : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ﴾([3]) ، وقال  ﷺ : " من أطاعني فقد أطاع الله، ومن يعصني فقد عصى الله ، ومن يطع الأمير فقد أطاعني، ومن يعص الأمير فقد عصاني " رواه مسلم.

فالله تعالى أمر بطاعة رسوله  ﷺ  وأمر هو  ﷺ  بطاعة الأمير فتلازمت الطاعة .

وقال  ﷺ : " عليك السمع والطاعة في عسرك ويسرك، ومنشطك ومكرهك، وأثرة عليك " رواه مسلم. قال النووي ، والمعنى أي : تجب طاعة ولاة الأمور فيما يشق وتكرهه النفوس وغيره مما ليس بمعصية لله تعالى ، ويجب طاعتهم وإن اختصوا بالدنيا ولم يوصلوكم حقكم مما عندهم .

وقال  ﷺ : " ستكون أثرةٌ وأمورٌ تنكرونها قالوا يا رسول الله فما تأمرنا قال ‌تؤدون ‌الحق الذي عليكم ، وتسألون الله الذي لكم " رواه البخاري ومسلم .

وقال  ﷺ : " خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، ويصلون عليكم وتصلون عليهم – أي تدعون لهم-، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم»، قيل: يا رسول الله، أفلا ننابذهم بالسيف؟ فقال: «لا، ما أقاموا فيكم الصلاة، وإذا رأيتم ‌من ‌ولاتكم شيئا تكرهونه، فاكرهوا عمله، ولا تنزعوا يدا من طاعة " رواه مسلم.

وقد ذكر الإمام الخطابي رحمه الله توفي 388هـ : سبب اهتمام النبي ﷺ  بشأن الأمراء حتى قرن طاعتهم إلى طاعته فقال كانت قريش ومن يليهم من العرب –أي بقية القبائل - لا يعرفون الإمارة ولا يدينون لغير رؤساء قبائلهم ، فلما كان الإسلام وولى عليهم الأمراء أنكرت ذلك نفوسهم وامتنع بعضهم عن الطاعة ، فأعلمهم ﷺ أن طاعتهم مربوطة بطاعته ، ومعصيتهم بمعصيته ، حثا لهم على طاعة أمرائهم لئلا تتفرق الكلمة  أ.هـ بتصرف

عباد الله : إن السمع والطاعة للأئمة من أصول أهل السنة والجماعة ، التي أوجبها الله على عباده وألزمهم بها ، ولأهمية هذا الموضوع فقد ذكر العلماء هذا الأمر في كتب العقيدة ، كما في كتاب العقيدة الطحاوية للإمام الطحاوي رحمه الله  توفي سنة 321هـ ، قال ( ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا وإن جاروا، ولا ندعو عليهم، ولا ننزع يداً من طاعتهم، ونرى طاعتهم من طاعة الله عز وجل فريضة ما لم يأمروا بمعصية، وندعوا لهم بالصلاح والمعافاة ( أ.هـ . وقد جعل العلماءُ علامةَ من كانَ على السنةِ أو البدعةِ بالدعاءِ لولاةِ الأمر ، قال الإمام البربهاري رحمه الله توفي سنة 329هـ ، : ( وإذا رأيت الرجل يدعو على السلطان، فاعلم أنه صاحب هوى، وإذا رأيت الرجل يدعو للسلطان بالصلاح ، فاعلم أنه صاحب سنة إن شاء الله) أ.هـ .

وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ، في منهاج السنة : أن أهل السنة أقروا في الخطبة الثانية من يوم الجمعة أشياء صارت شعارا لأهل السنة ضد أهل البدع والمخالفين ، من ذلك الترضي عن الصحابة رضوان الله عليهم مخالفة لمن يلعنونهم من الرافضة ، والدعاء لولاة الأمور مخالفة للخوارج والمعتزلة ، فأصبح يُعرف الخطيب أنه من أهل السنة وليس من أهل البدع بهذه الأمور ..أ.هـ بتصرف .

عباد الله : يجد بعض الناس حرجا وانقباضا في النفس عند الحديث عن حقوق ولاة الأمر ، فإذا قُرأت عليه الأحاديث الواردة في الصلاة أقبل قلبُهُ عليها ،  وإذا قُرأت عليه الأحاديث المتعلقة بالصيام أقبل قلبه عليها ، وإذا قرأت عليه الأحاديث الصحيحة الثابتة المتعلقة بالتعامل مع ولي الأمر نَفَرَ منها ، فكيف يليق بمسلم أن ينفر من أحاديث الرسول ﷺ ، فالذي أمر بالصلاة وأمر بالصيام والزكاة ، هو الذي أمر بطاعة ولي الأمر ، لذا بعض الناس ينفر من هذا وإذا سمع شخص يقرأ الأحاديث المتعلقة بولي الأمر ؛ غضب وكره ذلك ولم يطق سماع هذا ،  والسبب في ذلك غلبة الأهواء، على ما يحبه الله ويرضاه .

قال تعالى : ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾([4])

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم ، أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية

الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه غير مكفي ولا مودع ولا مستغنى عنه ربنا  ، والصلاة والسلام على  نبي الهدى محمدٍ المبعوثِ إلى كافةِ الورى ، وعلى آله وأصحابه ، وسلم تسليماً كثيرا ،   أما بعد:

 

عباد الله : الأمنُ نعمةٌ ومنحةٌ ربانية ، امتنَّ بها على عبادِه كي يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، وهو مطلبٌ وغايةٌ من أهمِّ الغاياتِ التي يَسعى إليها جميعُ الناسِ، وهو شرطٌ لاستقرارِ البلادِ والعبادِ، وعمارةِ الأرضِ، واستمرارِ الحياةِ ، وفي ظلال الأمنِ تستقيم حياةُ الناسِ، وتطمئنُّ قلوبُهم، وتُحفَظُ أعراضُهم وأموالُهم، وتُؤمَّن سُبلُهم، وتُعمَرُ مساجدُهم، فيقومُون بحقِّ خالقِهم، وتُطَبَّقُ شريعةُ اللهِ بينَهم، فينتشَرُ الخيرُ، ويعمُّ الرخاءُ .

عباد الله : نعمةُ الأمن امتنَّ الله بها على قريش حين أعرضوا عن دِين نبينا ﷺ  ، قال الله تعالى: ﴿ أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ ﴾([5]) ، وذكّرهم الله سبحانه  بأحوال الذين فقَدُوا هذه النعمةَ من حولهم ، قال تعالى :﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ ﴾([6]) ، ونبينا ﷺ أوَّل ما دخل مكة عامَ الفتحِ ، مَنَحَ أهلهَا أعظمَ ما تتُوقُ إليه نفوسُهم، وهو نعمةُ الأمنِ ، فقال ﷺ: "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن ألقى السلاح فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن" رواه مسلم .

 ولقد أنعم الله علينا في هذه البلاد بنعمٍ عظيمةٍ وألاءٍ جسيمةٍ ، لا نحصي لها قدرا ولا نحيط بها شكرا ، قال تعالى : ﴿وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّار﴾([7]) .

وإن من أعظم نعمِ الله علينا في هذه البلادِ المباركةِ ؛ نعمةَ الإسلامِ والسنةِ ، وإقامةِ شرعِ اللهِ في              الأرض ، فهذه البلادُ منذ نشأتها الأولى سعت لحماية التوحيد ونبذ الشرك والبدعة والتحذير منهما ولا تزال سائرة على ذلك بتوفيق من الله تعالى ،  كما أن من النعم التي أمتن الله بها علينا : الأمن في الأوطان ، والصحة في الأبدان ، وتوفير كثيرٍ من أسبابِ العيشِ الكريمِ ، ولا يدرك ما نحن فيه من النعم إلا من فقدها ، وجرب ما يعانيه بعض البلدان ممن ابتلاهم الله بالجوع والخوف والاضطراب والفرقة والتشرذم وأنواع البلاء وبالضد تتميز الأشياء ، قال شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ رحمهُ اللهُ: ولا يُعرفُ طائفةٌ قامتْ على ولِّي أمرِهَا إلا كانَ حالُها بعدَ زوالِه أسوأَ من حالِها معَ وجودِه..أ.هـ ، والواقعُ اليومَ خيرُ شاهدٍ على ذلك ، فاللهم احفظ بلادنا من كل شر وفتنة .

فلا يليقُ بنَا وقدْ أَكْرمَنَا اللهُ تعالى بنعمةِ الأمنِ ونعمةُ اجتماعِ الكلمةِ ووحدةِ الصفِّ أَنْ نُفرِّطَ فيها أو أن  نُضيِّعهَا؛ ويجبُ علينَا أَنْ نَتمسَّكَ بطاعةِ اللهِ تعالى وأَنْ نَستقيمَ على شرعِه وأَنْ نَبتعدَ عن معصيتِه، وأَنْ نتلاحَم مع ولاةِ أمرنَا وعلمائِنا، وأَنْ نتجنَّبَ الفتنَ ما ظهرَ منها وما بطنَ .

 قال ﷺ : " : ‌" «‌إن ‌السعيد ‌لمن ‌جنب ‌الفتن، ‌إن ‌السعيد ‌لمن ‌جنب ‌الفتن، ‌إن ‌السعيد ‌لمن ‌جنب ‌الفتن" رواه أبو داوود وصححه الألباني  .

هذا وصلوا وسلموا رحمكم الله على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه ، قال تعالى : ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ ([8]) .

اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

 


([1])آل عمران: 102
([2]) آل عمران : 103
([3]) النساء :59
([4]) الأنفال : 46
([5]) القصص :57
([6]) العنكبوت : 67
([7]) إبراهيم : 34
([8]) الأحزاب : 56

المشاهدات 534 | التعليقات 0