نعمة الأمن وحادثة الياسمين.
عبد الله بن علي الطريف
1438/04/15 - 2017/01/13 08:57AM
نعمة الأمن وحادثة الياسمين. 15/4/1438هـ
الحمد لله القائل (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) [البقرة:126] وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرًا.
أما بعد (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا* يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70- 71].
أيها الأحبة: المتأمل لدعاء أبينا إبراهيم عليه السلام الآية السابقة يجعله يقف مع الترتيب اللفظي لدعائه مبهوراً مسلماً؛ فقد قال الله تعالى على لسانه عليه السلام (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ..) [البقرة:126] ذلك أن نعمة الأمن من أعظم نعم الله التي يجب أن نذكرها ونُذكِّر بها، وهي أعظم من نعمة الرزق؛ ولذلك قُدمت عليها في هذه الآية الكريمة..
ونعمة الأمن كذلك أعظم من نعمة الصحة.! ذلك أن المرض ألم جسدي يجد الإنسان معه من يداويه ويطعمه ويواسيه فيَصِحُ بإذن الله..
أما من فقد الأمن فلا طعم مع فقده لطعام يأكله أو شربة يشربها وهو متوجسٌ قلِقٌ من قصف، أو خائفٌ من مداهمة، أو مذعورٌ من مطاردة، أو ملهوفٌ ضاع ماله وأهله، وأي لذة لخائف في غفوة نوم يغفوها تتخللها يقظة وسْنَانٍ هلع، وأي علم وتعليم يكون وسط أجواء محفوفة بالمخاطر ينتفع به..؟!
إذاً لا حياة هنية لمن فقد الأمن واستولى عليه الخوف فالضرر الحاصل من الخوف أشد من الضرر الحاصل من فقد الرزق وألم الجَسَد..
أيها الإخوة: إن وقفات التأمل والمراجعة للواقع الذي نعيشه من النعم المتعددة مقرونا بالتأمل بما صح من السنة المطهرة يجعل المسلم يعرف أسرارها، ويستضيء بأنوارها، فتنشرح نفسه.. وتحلوا الحياة بعينيه.. ويتفتق بيانه بآيات الحمد والثناء على المنعم المنان بما أعطى من نعم لا حدود لها.
ومن عظيم ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم هذا الحديث: "مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ مُعَافًى فِي جَسَدِهِ عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا". وفي رواية: "فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا بحذافيرها". رواه الترمذي وابن ماجه والبخاري في الأدب المفرد وحسنه الألباني عن عبيد الله بن محصن الأنصاري رضي الله عنه.
الله أكبر أيها الإخوة: إنها كلماتٌ يسيرات، حوت معنى الحياة الحقة، والاستقرار الدائم، بل إنها كلمات ترسم للمرء صورة الحياة بكل تفاصيلها.. حلوها ومرها.. وسهلها وصعبها، على أنها لا تتجاوز هذه المعايير الثلاثة، والتي لا يمكن لأيِّ كائن بشري عاقل أن يتصوّر الحياة الدنيوية الهانئة بدون توافرها، وماذا في الدنيا ينشده الإنسان أكثر من مأوى آمن.. وعافية في البدن.. وتوفر في القوت يسد الجوعة.. ولو بحث الإنسان وراء ذلك لم يجد بعد ذلك شيئاً، فمن اجتمعت له تلك الثلاث حاز الدنيا كلها بين يديه بمتعها.
إنها عبارات سهلة على كل لسان، غير أن وصف النبي -صلى الله عليه وسلم- لها بكونها تعادل حيازة الدنيا بحذافيرها يجعل كل واحد منا يتأمّل ويدقق النظر في أبعاد هذه المعاني، وتنْزيلها على واقع حياتنا جميعاً، ومدى تأثيرها فينا وجوداً وعدما، إيجاباً وسلباً.
أمن المرء في سربه أيها الأحبة مطلبُ الفرد والمجتمعات على حدِّ سواء، وهو الهدف المرتقب لكل المجتمعات بلا استثناء على اختلاف مشاربها، ثم إن إطراء الحياة الآمنة هو ديدن كافة المنابر؛ للصلة الوثيقة بينه وبين إمكانية استقرار المجتمعات..
وكل مجتمع يفقد الجانب الأمني في ثناياه إنما هو في الحقيقة فاقد لمعنى الحياة لا محالة، فما قيمة حياة يتوجس فيها الفرد ويخاف من أن يكون عُرضة لنهب الناهبين.. وجشع الطامعين.. يتوجس في الصباح الدوائر... ويبيت الليل مشغول الخاطر.. إذا أصبح حمل همّ المساء.. وإذا أمسى حمل همّ الصباح.. خائف يترقب الدوائر.. ويخشى القوارع..
وحين يدبّ في الأمة داء التوجس الأمني فإن المتسببين في ذلك يهيلون التراب على أمتهم، ويقطعون شرايين الحياة الآمنة على الأجيال الحاضرة والآمال المرتقبة.
أيها الإخوة: إن إصباح المرء المسلم آمنًا في سربه لهو من أوائل بشائر يومه وغده، وما صحّة البدن وقُوت اليوم إلا مرحلة تالية لأمنه في نفسه ومجتمعه، إذ كيف يصحّ بدن الخائف..؟! وكيف يكتسب من لا يأمن على نفسه وبيته..؟!
ولأجل هذا كان لزاماً علينا أن نقدر حقيقة الأمن الذي نعيشه، وأن نستحضره نصب أعيننا بين الحين والآخر، حتى لا نكون مع كثرة الإمساس له فاقدي الإحساس به، ولاسيما حينما نطالع يمنةً ويسرة لنرى بعض الأقطار الملتهبة بالصراع.. والتي يطحن بعضها بعضاً من داخلها، أو بما هو أدهى وأمر من خلال سطوة البغاة عليها واجتياح العدوان المسلّح لها، استباحةً لأرضها، وقطعاً لحرماتها.
أيها الأحبة: في نظري أن للأمن مصدران أساسيان، الأول: السلطة التنفيذية والقوة القضائية، الثاني: الوعي الشعبي بأهمية الأمن بصورته الكاملة.. ولن تتمكن أيّ دولة مهما أُوتيت من الإمكانات البشرية والمادية والتقنية أن تحفظ الأمن على التمام بالسلطة والقوة القضائية وحدها، إذا لم يصاحبها الوعي الشعبي بأهمية الأمن بصورته الكاملة.. والانتماء إلى الأمة والوطن.. وطاعة أولي الأمر بالمعروف.. والصدور بالأفعال عن أهل العلم والفتوى.. واعتبار ذلك من الدين.. واستجابة لرب العالمين القائل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) [النساء: 59]، بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا....
الخطبة الثانية:
أيها الإخوة: لقد راعنا وأقض مضاجعنا ما حدث في حي الياسمين بالرياض في فجر يوم السبت الماضي التاسع من ربيع الثاني من وجود وكر من أوكار الإرهاب اتخذه المعتدون مأوى لهم بين منازل الأسر ليأمنوا على أنفسهم.. لكن لطف الله ثم يقظة رجال الأمن كشفت عوارهم.. فلما أحسوا بالخطر خرجوا ملغمين بأحزمة ناسفة ربطوها على أجسادهم وقد كانت مشركة وجاهزة للانفجار، وأشهروا أسلحتهم الفتَّاكة بأيديهم.. فروعوا الآمنين وأقضوا مضاجعهم بعدما علموا بوجود المسلحين بينهم وقرب خطرهم..
أحبتي: إن التخطيط للتفجير وإعداد المتفجرات لاستعمالها في زعزعة أمن هذا البلد الطاهر والمواجهة المسلحة لرجال الأمن جريمة شنيعة لما فيه من الاعتداء والإفسادِ في الأرض وزعزعةٍ لأمن البلاد، وإشاعةٍ للفتنة التي حذر الله منها: (..وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ..) [البقرة:191]، وعليه ما فعلوه من اعداد للاعتداء ومواجهة مسلحة لرجال الأمن جريمة في غايته وباعثه وأثره..
نعم إن هذا الاعتداء جريمة في غايته.. وهي بث للرعب والخوف في البلاد وقتل رجال الأمن ونشر للفوضى بالبلاد، وباعثه ضلالٌ في الفكر وفسادٌ في المنهج، وفهمٌ خاطئٌ للدين..
أما تنفيذه فهو جريمة قتل عمد لأنفس معصومة حرم الله إزهاقها، وقد توعد الله القاتل بأعظم وعيد فقال: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا) [النساء:93]، وتوعد عليه رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: فَقَالَ: «لَنْ يَزَالَ المُؤْمِنُ فِي فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ، مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا»، وَقَالَ بْنُ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-: «إِنَّ مِنْ وَرَطَاتِ الأُمُورِ، الَّتِي لاَ مَخْرَجَ لِمَنْ أَوْقَعَ نَفْسَهُ فِيهَا، سَفْكَ الدَّمِ الحَرَامِ بِغَيْرِ حِلِّهِ» رواه البخاري.
وقوله: "في فسحة" أي: سعة من دينه يرتجي رحمة الله ولطفه، ولو باشر الكبائر سوى القتل، فإذا قتل ضاقت عليه ودخل في زمرة الآيسين من رحمة الله تعالى.
ثم إن هذا الفعل الآثم افتئاتٌ على ولي الأمر وانتهاك لسلطانه الذي لا يجوز لكائن من كان أن ينتهكه..
أيها الإخوة: الواجب علينا ليس استنكار هذا الحادث الآثم وتجريم فاعليه فقط.. بل علينا أن نتعرف على من يسكن حولنا بقدر المستطاع فهؤلاء الخارجون اندسوا بين الأسر المأمونة الآمنة، وغفل عنهم جيرانهم ولم يتنبهوا لما فيهم من الريبة، وبقوا قرابة ستة أشهر لم يُفطن لهم.. لا أقول نتجسس على جيراننا لكن نتنبه لمن يسكن بجوارنا حتى نطمئن لحاله.. وإن شككنا بأمر نبلغ الجهات الأمنية بشكنا وبهذا نكون متعاونين على البر والتقوى..
أما رجال أمننا البواسل الذين يُقْدِمُون ببسالة وشجاعة لحفظ أمن بلادنا واستقرارها، يحدوهم أجر الشهادة ويتفيأون وقت دوامهم ظلال أجر المرابطة في سبيل الله، فحفظ أمن الوطن مطلب شرعي، قال رسولَ الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قُتلَ دُونَ مالهِ فهو شهيد، ومَنْ قُتِلَ دُونَ دَمِهِ فهو شهيد، ومن قتلَ دون دِينه فهو شهيد، ومن قُتلَ دُونَ أهْلهِ فِهو شهيد». رواه الترمذي وأبو داود عن سعيد بن زيد رضي الله عنه.
وبعد أيها الأحبة: في كل صباح إجازة ننام آمنين مطمأنين.. لكن رجال أمننا البواسل ساهرين لحمايتنا.. وكان صباح السبت الماضي ليس كأي صباح ففي الرياض في حي الياسمين وقعت مواجهات مسلحة مع أناس تحولوا إلى ألغام فتاكة فأهلكهم الله على أيدي رجال أمننا.. وقضى الناس هناك ساعات حرجة حتى وفق الله رجال الأمن للقضاء عليهم.
أما في بقية أرجاء الوطن فقد استيقظ الناس فيه بعد أن أخذوا من النوم كفايتهم وزيادة ولم يوقظهم أي صوت لتفجير أو لإطلاق نار.. وبينما هم كذلك إذ بوسائل الإعلام تزف للأمة بشرى القضاء على هؤلاء القتلة المارقين..
نعم لقد حمى الله العاصمة من شرور البغاة وتم دحرهم بفضل الله.. فله الحمد والشكر لا نحصي ثناء عليه..
وجزى الله رجال الأمن عنا كل خير وأعانهم وحماهم من كل سوء... وهنيئاً لهم هذا الاصطفاء من الله لهذه المهمة النوعية المحفوفة بالجنة..
اللهم احم هذه البلاد وأهلها، وارزقنا التقوى ظاهرا وباطنا وادفع عنا الشرور والفرقة بحولك وقوتك، اللهم أعنا ولا تعن علينا، وانصرنا ولا تنصر علينا وصلوا وسلموا...
الحمد لله القائل (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) [البقرة:126] وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرًا.
أما بعد (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا* يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70- 71].
أيها الأحبة: المتأمل لدعاء أبينا إبراهيم عليه السلام الآية السابقة يجعله يقف مع الترتيب اللفظي لدعائه مبهوراً مسلماً؛ فقد قال الله تعالى على لسانه عليه السلام (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ..) [البقرة:126] ذلك أن نعمة الأمن من أعظم نعم الله التي يجب أن نذكرها ونُذكِّر بها، وهي أعظم من نعمة الرزق؛ ولذلك قُدمت عليها في هذه الآية الكريمة..
ونعمة الأمن كذلك أعظم من نعمة الصحة.! ذلك أن المرض ألم جسدي يجد الإنسان معه من يداويه ويطعمه ويواسيه فيَصِحُ بإذن الله..
أما من فقد الأمن فلا طعم مع فقده لطعام يأكله أو شربة يشربها وهو متوجسٌ قلِقٌ من قصف، أو خائفٌ من مداهمة، أو مذعورٌ من مطاردة، أو ملهوفٌ ضاع ماله وأهله، وأي لذة لخائف في غفوة نوم يغفوها تتخللها يقظة وسْنَانٍ هلع، وأي علم وتعليم يكون وسط أجواء محفوفة بالمخاطر ينتفع به..؟!
إذاً لا حياة هنية لمن فقد الأمن واستولى عليه الخوف فالضرر الحاصل من الخوف أشد من الضرر الحاصل من فقد الرزق وألم الجَسَد..
أيها الإخوة: إن وقفات التأمل والمراجعة للواقع الذي نعيشه من النعم المتعددة مقرونا بالتأمل بما صح من السنة المطهرة يجعل المسلم يعرف أسرارها، ويستضيء بأنوارها، فتنشرح نفسه.. وتحلوا الحياة بعينيه.. ويتفتق بيانه بآيات الحمد والثناء على المنعم المنان بما أعطى من نعم لا حدود لها.
ومن عظيم ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم هذا الحديث: "مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ مُعَافًى فِي جَسَدِهِ عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا". وفي رواية: "فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا بحذافيرها". رواه الترمذي وابن ماجه والبخاري في الأدب المفرد وحسنه الألباني عن عبيد الله بن محصن الأنصاري رضي الله عنه.
الله أكبر أيها الإخوة: إنها كلماتٌ يسيرات، حوت معنى الحياة الحقة، والاستقرار الدائم، بل إنها كلمات ترسم للمرء صورة الحياة بكل تفاصيلها.. حلوها ومرها.. وسهلها وصعبها، على أنها لا تتجاوز هذه المعايير الثلاثة، والتي لا يمكن لأيِّ كائن بشري عاقل أن يتصوّر الحياة الدنيوية الهانئة بدون توافرها، وماذا في الدنيا ينشده الإنسان أكثر من مأوى آمن.. وعافية في البدن.. وتوفر في القوت يسد الجوعة.. ولو بحث الإنسان وراء ذلك لم يجد بعد ذلك شيئاً، فمن اجتمعت له تلك الثلاث حاز الدنيا كلها بين يديه بمتعها.
إنها عبارات سهلة على كل لسان، غير أن وصف النبي -صلى الله عليه وسلم- لها بكونها تعادل حيازة الدنيا بحذافيرها يجعل كل واحد منا يتأمّل ويدقق النظر في أبعاد هذه المعاني، وتنْزيلها على واقع حياتنا جميعاً، ومدى تأثيرها فينا وجوداً وعدما، إيجاباً وسلباً.
أمن المرء في سربه أيها الأحبة مطلبُ الفرد والمجتمعات على حدِّ سواء، وهو الهدف المرتقب لكل المجتمعات بلا استثناء على اختلاف مشاربها، ثم إن إطراء الحياة الآمنة هو ديدن كافة المنابر؛ للصلة الوثيقة بينه وبين إمكانية استقرار المجتمعات..
وكل مجتمع يفقد الجانب الأمني في ثناياه إنما هو في الحقيقة فاقد لمعنى الحياة لا محالة، فما قيمة حياة يتوجس فيها الفرد ويخاف من أن يكون عُرضة لنهب الناهبين.. وجشع الطامعين.. يتوجس في الصباح الدوائر... ويبيت الليل مشغول الخاطر.. إذا أصبح حمل همّ المساء.. وإذا أمسى حمل همّ الصباح.. خائف يترقب الدوائر.. ويخشى القوارع..
وحين يدبّ في الأمة داء التوجس الأمني فإن المتسببين في ذلك يهيلون التراب على أمتهم، ويقطعون شرايين الحياة الآمنة على الأجيال الحاضرة والآمال المرتقبة.
أيها الإخوة: إن إصباح المرء المسلم آمنًا في سربه لهو من أوائل بشائر يومه وغده، وما صحّة البدن وقُوت اليوم إلا مرحلة تالية لأمنه في نفسه ومجتمعه، إذ كيف يصحّ بدن الخائف..؟! وكيف يكتسب من لا يأمن على نفسه وبيته..؟!
ولأجل هذا كان لزاماً علينا أن نقدر حقيقة الأمن الذي نعيشه، وأن نستحضره نصب أعيننا بين الحين والآخر، حتى لا نكون مع كثرة الإمساس له فاقدي الإحساس به، ولاسيما حينما نطالع يمنةً ويسرة لنرى بعض الأقطار الملتهبة بالصراع.. والتي يطحن بعضها بعضاً من داخلها، أو بما هو أدهى وأمر من خلال سطوة البغاة عليها واجتياح العدوان المسلّح لها، استباحةً لأرضها، وقطعاً لحرماتها.
أيها الأحبة: في نظري أن للأمن مصدران أساسيان، الأول: السلطة التنفيذية والقوة القضائية، الثاني: الوعي الشعبي بأهمية الأمن بصورته الكاملة.. ولن تتمكن أيّ دولة مهما أُوتيت من الإمكانات البشرية والمادية والتقنية أن تحفظ الأمن على التمام بالسلطة والقوة القضائية وحدها، إذا لم يصاحبها الوعي الشعبي بأهمية الأمن بصورته الكاملة.. والانتماء إلى الأمة والوطن.. وطاعة أولي الأمر بالمعروف.. والصدور بالأفعال عن أهل العلم والفتوى.. واعتبار ذلك من الدين.. واستجابة لرب العالمين القائل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) [النساء: 59]، بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا....
الخطبة الثانية:
أيها الإخوة: لقد راعنا وأقض مضاجعنا ما حدث في حي الياسمين بالرياض في فجر يوم السبت الماضي التاسع من ربيع الثاني من وجود وكر من أوكار الإرهاب اتخذه المعتدون مأوى لهم بين منازل الأسر ليأمنوا على أنفسهم.. لكن لطف الله ثم يقظة رجال الأمن كشفت عوارهم.. فلما أحسوا بالخطر خرجوا ملغمين بأحزمة ناسفة ربطوها على أجسادهم وقد كانت مشركة وجاهزة للانفجار، وأشهروا أسلحتهم الفتَّاكة بأيديهم.. فروعوا الآمنين وأقضوا مضاجعهم بعدما علموا بوجود المسلحين بينهم وقرب خطرهم..
أحبتي: إن التخطيط للتفجير وإعداد المتفجرات لاستعمالها في زعزعة أمن هذا البلد الطاهر والمواجهة المسلحة لرجال الأمن جريمة شنيعة لما فيه من الاعتداء والإفسادِ في الأرض وزعزعةٍ لأمن البلاد، وإشاعةٍ للفتنة التي حذر الله منها: (..وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ..) [البقرة:191]، وعليه ما فعلوه من اعداد للاعتداء ومواجهة مسلحة لرجال الأمن جريمة في غايته وباعثه وأثره..
نعم إن هذا الاعتداء جريمة في غايته.. وهي بث للرعب والخوف في البلاد وقتل رجال الأمن ونشر للفوضى بالبلاد، وباعثه ضلالٌ في الفكر وفسادٌ في المنهج، وفهمٌ خاطئٌ للدين..
أما تنفيذه فهو جريمة قتل عمد لأنفس معصومة حرم الله إزهاقها، وقد توعد الله القاتل بأعظم وعيد فقال: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا) [النساء:93]، وتوعد عليه رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: فَقَالَ: «لَنْ يَزَالَ المُؤْمِنُ فِي فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ، مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا»، وَقَالَ بْنُ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-: «إِنَّ مِنْ وَرَطَاتِ الأُمُورِ، الَّتِي لاَ مَخْرَجَ لِمَنْ أَوْقَعَ نَفْسَهُ فِيهَا، سَفْكَ الدَّمِ الحَرَامِ بِغَيْرِ حِلِّهِ» رواه البخاري.
وقوله: "في فسحة" أي: سعة من دينه يرتجي رحمة الله ولطفه، ولو باشر الكبائر سوى القتل، فإذا قتل ضاقت عليه ودخل في زمرة الآيسين من رحمة الله تعالى.
ثم إن هذا الفعل الآثم افتئاتٌ على ولي الأمر وانتهاك لسلطانه الذي لا يجوز لكائن من كان أن ينتهكه..
أيها الإخوة: الواجب علينا ليس استنكار هذا الحادث الآثم وتجريم فاعليه فقط.. بل علينا أن نتعرف على من يسكن حولنا بقدر المستطاع فهؤلاء الخارجون اندسوا بين الأسر المأمونة الآمنة، وغفل عنهم جيرانهم ولم يتنبهوا لما فيهم من الريبة، وبقوا قرابة ستة أشهر لم يُفطن لهم.. لا أقول نتجسس على جيراننا لكن نتنبه لمن يسكن بجوارنا حتى نطمئن لحاله.. وإن شككنا بأمر نبلغ الجهات الأمنية بشكنا وبهذا نكون متعاونين على البر والتقوى..
أما رجال أمننا البواسل الذين يُقْدِمُون ببسالة وشجاعة لحفظ أمن بلادنا واستقرارها، يحدوهم أجر الشهادة ويتفيأون وقت دوامهم ظلال أجر المرابطة في سبيل الله، فحفظ أمن الوطن مطلب شرعي، قال رسولَ الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قُتلَ دُونَ مالهِ فهو شهيد، ومَنْ قُتِلَ دُونَ دَمِهِ فهو شهيد، ومن قتلَ دون دِينه فهو شهيد، ومن قُتلَ دُونَ أهْلهِ فِهو شهيد». رواه الترمذي وأبو داود عن سعيد بن زيد رضي الله عنه.
وبعد أيها الأحبة: في كل صباح إجازة ننام آمنين مطمأنين.. لكن رجال أمننا البواسل ساهرين لحمايتنا.. وكان صباح السبت الماضي ليس كأي صباح ففي الرياض في حي الياسمين وقعت مواجهات مسلحة مع أناس تحولوا إلى ألغام فتاكة فأهلكهم الله على أيدي رجال أمننا.. وقضى الناس هناك ساعات حرجة حتى وفق الله رجال الأمن للقضاء عليهم.
أما في بقية أرجاء الوطن فقد استيقظ الناس فيه بعد أن أخذوا من النوم كفايتهم وزيادة ولم يوقظهم أي صوت لتفجير أو لإطلاق نار.. وبينما هم كذلك إذ بوسائل الإعلام تزف للأمة بشرى القضاء على هؤلاء القتلة المارقين..
نعم لقد حمى الله العاصمة من شرور البغاة وتم دحرهم بفضل الله.. فله الحمد والشكر لا نحصي ثناء عليه..
وجزى الله رجال الأمن عنا كل خير وأعانهم وحماهم من كل سوء... وهنيئاً لهم هذا الاصطفاء من الله لهذه المهمة النوعية المحفوفة بالجنة..
اللهم احم هذه البلاد وأهلها، وارزقنا التقوى ظاهرا وباطنا وادفع عنا الشرور والفرقة بحولك وقوتك، اللهم أعنا ولا تعن علينا، وانصرنا ولا تنصر علينا وصلوا وسلموا...
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا
تعديل التعليق