نعمة الأمن والمواطنة

عبد الله بن علي الطريف
1446/03/15 - 2024/09/18 16:28PM

نعمة الأمن ووحدة الصف واجتماع الكلمة وأثره في اللحمة الوطنية 1446/3/17هـ  موافقة للتعميم

الحمد لله الذي بنِعْمَتِهِ كَثَّرَنا بعدَ القِلَّة، وأغنَانا بعدَ العَيْلَة، وجَمَعَنا بعدَ الفُرْقَة، وقوَّانَا بعدَ الضَّعْف، وآمَنَنا بعدَ الخَوْف، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرًا.. ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران:102]

أما بعد أيها الأحبة: قال الله تعالى (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ) [البقرة:126] المتأملُ للترتيب اللفظي لدعائه عليه السلام يجدُه بدأ بنعمةِ الأمنِ، ذلك أنَّ الأمنَ من أعظمِ نعمِ اللهِ التي يجب أن نَذكرَها ونُذكِّرَ بها، وهي أعظمُ من نعمةِ الرزقِ والصحةِ؛ ولذلك قُدمت عليهما في هذه الآية الكريمة.! ذلك أن المرضَ والجوع يجدُ الإنسانُ من يداويه ويطعمه ويواسيه فيَصِحُ بإذن الله.. أما مَنْ فقد الأمنَ؛ فلا طعمَ مع فقدِهِ لطعامٍ يأكلُه.. أو شَرْبَةٍ يشربُها وهو متوجسٌ قلِقٌ من قصفٍ.. أو خائفٌ من مداهمة.. أو مذعورٌ من مطاردة.. أو ملهوفٌ على ضياعِ مالِه وأهلِه.. وأي لذة لخائفٍ في غفوةِ نومٍ يغفُوها تتخللُها يقظةُ وسْنَانٍ هَلِعٍ.. وأي علمٍ وتعليم يُنْتَفَعُ به وسطَ أجواءٍ محفوفة بالمخاطر.؟! إذ لا حياةَ هنية لمن فقد الأمن واستولى عليه الخوف، فالضرر الحاصل من الخوف أشد من الضرر الحاصل من فقد الرزق وألم الجَسَد.. واعلموا أنَّ وقفات التأمل والمراجعة للواقع الذي نعيشه من النعم المتعددة مقرونا بالتأمل بما صح من السنة المطهرة يجعل المسلم يعرف أسرارها، ويستضيء بأنوارها، فتنشرح نفسه.. وتحلوا الحياة بعينيه.. ويتفتق بيانه بآيات الحمد والثناء على المنعم المنان بما أعطى من نعم لا حدود لها.. ومن عَظيمِ ما جاءَ عَنْ النَّبيِّ ﷺ قوله: «مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ مُعَافًى فِي جَسَدِهِ عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا». وفي رواية: «فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا بحذافيرها». رواه الترمذي وابن ماجه والبخاري في الأدب المفرد وحسنه الألباني عن عبيد الله بن محصن الأنصاري رضي الله عنه. 

الله أكبر أيها الإخوة: إنها كلماتٌ يسيرة، حوت مَعْنَى الحياةِ الحقة، والاستقرارِ الدائم، بل إنها كلمات ترسم للمرءِ صورةَ الحياة بكلِ تفاصيلها.. حُلوها ومُرها.. وسهلِها وصعبِها، على أنها لا تتجاوز هذه المعايير الثلاثة، والتي لا يمكن لأيِّ كائن بشري عاقل أن يتصوّر الحياة الدنيوية الهانئة بدون توافرها، وماذا في الدنيا يَنْشُدُهُ الإنسانُ أكثر من مأوى آمن.. وعافيةٍ في البدن.. وتوفر في القوت يسد الجوعة.. ولو بحث الإنسان وراء ذلك لم يجد بعد ذلك شيئاً، فمن اجتمعت له تلك الثلاث حاز الدنيا كلَها بين يديه بمتعها. 

إنها عبارات سهلة على كلِ لسانٍ، غيرَ أنَّ وصفَ النَّبيِّ ﷺ لها بكونها تُعادلُ حيازةَ الدنيا بحذافيرها يجعلُ كلَ واحدٍ منا يتأمّلُ ويدققُ النظرَ في أبعاد هذه المعاني، وتنْزيلها على واقعِ حياتنا جميعاً، ومدى تأثيرِها فينا وجوداً وعدما، إيجاباً وسلباً. 

أَمْنُ الْمَرءِ فِي سِرْبِهِ أيها الأحبة: مطلبُ الفردِ والمجتمعات على حدِّ سواء، وهو الهدفُ المرتقبُ لكل المجتمعات بلا استثناء على اختلافِ مشاربها..

وكل مجتمعٍ يفقدُ الجانب الأمني في ثناياه إنما هو في الحقيقة فاقدٌ لمعنى الحياة لا محالة، فما قيمة حياةٍ يتوجس فيها الفرد ويخاف من أن يكون عُرضة لنهبِ الناهبين.. وجشعِ الطامعين.. يتوجس في الصباح الدوائرَ.. ويبيت الليل مشغول الخاطر.. إذا أصبح حمل همّ المساء.. وإذا أمسى حمل همّ الصباح.. خائف يترقب يخشى القوارع.. 

وحين يدبّ في الأمة داء التوجس الأمني فإن المتسببين في ذلك يهيلون التراب على أمتهم، ويقطعون شرايين الحياة الآمنة على الأجيال الحاضرة والآمال المرتقبة للأجيال الصاعدة. 

أيها الإخوة: إن إصباح المرء المسلم آمنًا في سربه لهو من أوائل بشائر يومه وغده، ولأجل هذا كان لزاماً علينا أن نقدر حقيقة الأمن الذي نعيشه، وأن نستحضره نصب أعيننا دائمًا، حتى لا نكون مع كثرة الإمساس له فاقدي الإحساس به، ولاسيما حينما نطالع يمنةً ويسرة لنرى بعض الأقطار الملتهبة بالصراع.. والتي يطحن بعضها بعضاً من داخلها، أو بما هو أدهى وأمر من خلال سطوة البغاة عليها واجتياح العدوان المسلّح لها، استباحةً لأرضها، وانتهاكًا لحرماتها، ونهبًا لخيراتها.. والأمن مطلب لكل إنسان في كل موضع يحل فيه، حتى من نوى السفر ولو للسياحة يسأل عن البلد الذي سيسافر له هل هو آمن أم لا.؟ ومن تمام الغبطة للفرد والجماعة أن يعيشُوا في وطن آمن، وهذا ما تفضل الله به علينا..  

أيها الأحبة: الوطن هو الأرض التي يتخذها الإنسان سكناً له فينشأ في نفسه تعلقٌ وإلف لها.. وحب الأرض التي يستوطنها الإنسان، والحنين إليها والانعطاف نحوها، أمر مركوز في فطر النفوس.. فعَنْ عَائِشَةَ أُمِّ المُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مِنَ الوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ فِي النَّوْمِ، فَكَانَ لاَ يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ، وسَاقَتْ نبأ مَبْعَثِهِ إِلى أَنْ قَالتْ: فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي نَزَّلَ اللَّهُ عَلَى مُوسَى، يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا، لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "أَوَ مُخْرِجِيَّ هُمْ"، قَالَ: نَعَمْ، لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ (وفي روايةٍ: أُوذيَ) وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا. رواه البخاري.. قال ابن حجر: "يُؤْخَذُ مِنْهُ شِدَّةُ مُفَارَقَةِ الْوَطَنِ عَلَى النَّفْسِ؛ فَإِنَّهُ ﷺ سَمِعَ قَوْلَ وَرَقَةَ أَنَّهُمْ يُؤْذُونَهُ وَيُكَذِّبُونَهُ فَلَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ انْزِعَاجٌ لِذَلِكَ، فَلَمَّا ذَكَرَ لَهُ الْإِخْرَاجَ تَحَرَّكَتْ نَفْسُهُ لِذَلِكَ لِحُبِّ الوَطَنِ وَإِلْفِهِ فَقَالَ: "أَوَ مُخْرِجِيَّ هُمْ؟".

فالوطن مهد الصبا ومدرج الخطى ومرتع الطفولة، وملجأ الكهولة، ومنبع الذكريات، وموطن الآباء والأجداد، ومأوى الأبناء والأحفاد، ومستقر الحياة، ومكان العبادة، ومحل المال والعرض، ومكان الشرف.. على أرضه يحيا الإنسان ويعبد ربه، ومن خيراته يعيش، ومن مائه يرتوي، وكرامتُه من كرامته، وعزتُه من عزته، به يُعْرَف، وعنه يُدافع.. وَفِي الرُّجُوعِ إلَى الْأَوْطَانِ تُقْتَحَمُ الْأَغْرَارُ، وَتُرْكَبُ الْأَخْطَارُ، وَتُعَلَّلُ الْخَوَاطِرُ.. والوطن نعمة من الله، وحبه طبيعة طَبَعَ اللهُ النفوسَ عليها.. ولا يخرج الإنسان من وطنه إلا إذا اضطرته أمور للخروج منه، كما حصل لنبينا محمد ﷺ عندما ألجأته قريشٌ للخروج من مكة.. فهاجر ﷺ ولما أراد مغادرة مكة وَقَفَ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِالْحَزْوَرَةِ، يَقُولُ مُخَاطِباً مَكَةَ: "وَاللهِ إِنَّكِ لَخَيْرُ أَرْضِ اللهِ وَأَحَبُّ أَرْضِ اللهِ إِلَى اللهِ، وَلَوْلَا أَنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ مَا خَرَجْتُ" رواه النسائي وابن حبان والترمذي وابن ماجة عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ حَمْرَاءَ الزُّهْرِيِّ وصححه الألباني والأرناؤوط.. فصلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وصحبه..

الخطبة الثانية:

أيُّها الأحبَّةُ: كيف يكون حب الوطن والانتماء إليه؟ حب الوطن ليس كلامًا ولا أشعارًا تلقى ولا مقالات تدبجُ بالمديح والثناء، أو لا صورًا أو رايات ترفع.. بل هو مرتبطٌ بسلوك الفرد المحب لوطنه ارتباطًا لا انفكاك منه، يلازمه في كل مكان، في حِلِّهِ وترحاله، في المنزل والشارع، في مقر عمله وفي سهول الوطن وحزونه ووديانه.. حب الوطن: يكون بصدق الانتماء له قولاً وفعلاً وترسيخ هذا الانتماء بما يعزز اللُّحمة الوطنية.. حب الوطن: بالاستقامة على الدين الصحيح، والحفاظ على القيم التي رضيها الله ورسوله وأخذ بها ولاة أمرنا وجعلوها دستوراً لهذا الوطن ومنهج حياة.. حب الوطن: بسلوك الصراط المستقيم والتحلي بالوسطية وعدم الغلو في الدين أو التفريط فيه أو المجاهرة بالمعصية..

حب الوطن: يكون بالطاعة لولاة أمره واحترامهم وإنزالهم منازلهم والالتفاف حولهم، ونبذ أسباب الفرقة والخلاف، والعصبية، والتصنيف، والمناطقية..  والمحافظة على مكتسبات الوطن..

حب الوطن: يظهر في إخلاص أصحاب المناصب والمسؤولين فيما تحت أيديهم من مسؤوليات وأمانات، وتحقيق العدل بين الناس، ونشر الخير، والقيام بمصالح العباد كلٌ حسب مسئوليته وموقعه.. وبذل الوسع بالعمل والاجتهاد في التَعلِيم والتَعَلم..

حب الوطن: يكون باحترام أنظمته والالتزام بها وعدم مخالفتها سراً وعلنا، ويظهر في المحافظة على أمواله وثرواته، وعدم هدرها وشكر الله عليها..

حب الوطن: بحماية بيئته والحفاظ على مرافقه والاستفادة منها بالطرق السليمة، وبالمحافظة على منشآته ومنجزاته، وفي الاهتمام بنظافته وجماله..

حب الوطن: بإشاعة المحبة وبذل السلام والابتسامة والتفاؤل والإيجابية، وباحترام الغريب وإكرامه وعدم بخسه حقه، وبنشر القيم والأخلاق الفاضلة.. وبالالتزام بأنظمة السير وحسن القيادة وترك الفوضى، وفي المحافظة على أمنه واستقراره والدفاع عنه وعدم نشر الإشاعات المغرضة..

حب الوطن: ببناء الأسرة الصالحة، وصلة الرحم، وعدم التقاطع والتباغض والتدابر، وببذل المعروف والرحمة بالضعفاء من الأيتام والأرامل وذوي الاحتياجات الخاصة وغيرهم.. وعدم المجاهرة بالمعصيةِ والمفَاخَرة بها أمامَ العِبادِ.. وبصلاح الباطن والظاهر وصدق المراقبة لله.

وبعد: إننا نعيشُ في وطنٍ حوى بينَ جوانبِه الخيرَ العميمَ والنعمَ الوفيرة، يحبُّه كلُّ مُسلمٍ على وجهِ الأرضِ لِما فيه من معالمِ الدِّينِ العظيمِ، فهذا بيتُ اللهِ عامرٌ تهوي إليه أفئدةُ المسلمينَ في كلِ مكانٍ، وهذا مسجدُ رسولِ اللهِ ﷺ تُشدُ إليه الرِّحالُ في كلِ زمانٍ.. أمنٌ وأمانٌ، واجتماع كلمة، وتحكيمٌ للشريعةِ، شعائرُ التوحيدِ ظاهرةٌ، ومظاهرٌ الشركِ داحرةٌ، فلنحافظْ على هذه النِّعمِ بشكر الله عليها.. فاللهم لك الحمد والشكر وصلوا على نبيكم...

 

المرفقات
المشاهدات 3712 | التعليقات 0