نعمة الأمن والاطمئنان
عمر الزبيدي
عباد الله: في أحداث سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وأخباره مواطن للعظة والاعتبار، فلقد كان عليه الصلاة والسلام نعم المعلم والمربي، صادقاً في تعليمه، رفيقاً في نصحه، حكيماً في توجيهه، وهاكم موقفاً من صحيح السيرة، فيه العلم والحكمة وفيه الأدب وعظيم الخلق، ففي منصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة حنين وقد نصره الله على ثقيف وهوازن وغنم غنائم عظيمة، فقسمها ووزعها، فأعْطَى المُؤَلَّفَةَ قُلُوبُهُمْ، وفيهم من أشراف قريش ممن يرجى أن يكون في إسلامه نفع للمسلمين، فأعطاهم وترك غيرهم من الصحابة ذوي الفضل والمكانه، فبلغه أنَّ الأنصار وجدوا في أنفسهم وأنهم يُحبون أَن يُصِيبوا ما أصابَ النَّاسُ، فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم تطييب خواطرهم، وإظهار فضلهم، وجليل مكانتهم، فقام رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ فَخطبهم فحمِدَ اللَّهَ وَأَثنى عليه، ثُمَّ قالَ: يا مَعْشَرَ الأنْصَارِ، أَلَمْ أَجِدْكُمْ ضُلَّالًا، فَهَدَاكُمُ اللَّهُ بي؟ وَعَالَةً، فأغْنَاكُمُ اللَّهُ بي؟ وَمُتَفَرِّقِينَ، فَجَمعكُمُ اللَّهُ بي؟ ويقولونَ: اللَّهُ وَرَسولُهُ أَمَنُّ، فَقالَ: أَلَا تُجِيبُونِي؟ فَقالوا: اللَّهُ وَرَسولُهُ أَمَنُّ، فَقالَ: أَما إنَّكُمْ لو شِئْتُمْ أَنْ تَقُولوا كَذَا وَكَذَا، وَكانَ مِنَ الأمْرِ كَذَا وَكَذَا لأَشْيَاءَ عَدَّدَهَا، ثم قالَ: أَلَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بالشَّاءِ وَالإِبِلِ، وَتَذْهَبُونَ برَسولِ اللهِ إلى رِحَالِكُمْ؟ الأنْصَارُ شِعَارٌ وَالنَّاسُ دِثَارٌ، وَلَوْلَا الهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَءًا مِنَ الأنْصَارِ، ولو سَلَكَ النَّاسُ وَادِيًا وَشِعْبًا، لَسَلَكْتُ وَادِيَ الأنْصَارِ وَشِعْبَهُمْ.
فلما سمعوا ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم بكوا حتى أخضلوا لحاهم، وقالوا رضينا برسول الله قسماً وحظاً.
لقد حرص النبي صلى الله عليه وسلم على تطييب نفوس الأنصار بتذكيرهم بأعظم منن الله عليهم وجزيل عطائه لهم، فذكَّرهم بالهداية من الغي والضلال، وذكَّرهم بالغنى بعد الفاقة والفقر، وذكَّرهم بالاجتماع بعد التنافر والافتراق، نعمٌ وآلاء ماكان لها أن تكون لولا فضل الله ورحمته، فهو الذي هداهم إلى مافيه فلاحهم، وأغناهم بما فيه كفايتهم، وألَّف بين قلوبهم فكانوا إخوة في الدين مجتمعين، فذكَّرهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بما منَّ الله عليهم من الفضل والإحسان، واعترف الأنصار بفضل الله عليهم فكان جوابهم: الله ورسوله أمنّ.
إنه درس جدير بالتأمل وموقف حري بطول النظر، فكم نحن بحاجة إلى أن نذكَّر ونتذاكر بعضَ ما أنعم الله به علينا من الخير وأعطانا، وما منّ به من الإحسان وأولانا، وأجلُّ تلك النعم وأعلاها ماذكَّر به النبي صلى الله عليه وسلم صحابته من الأنصار؛ نعمةُ الإيمان والهداية ونعمة الألفة والجماعة، ونعمة الغنى والكفاية، فهي والله أمّات النعم، فمن مُنع الهداية عاش شقياً ولو جمع الدنيا بحذافيرها، وصدق الله ﴿فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى، وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾ لأجل ذلك أرشدنا ربُنا عز وجل إلى الإكثار من سؤال الهداية فنحن نقول في كلّ ِركعة من صلوتنا اهدنا الصراط المستقيم، فالهداية إلى صراط الله والثبات عليه حتى الممات هو أولى مايجب أن يجتهد العبد في الظفر به سؤالاً لله واستعانة به واجتهاداً فيما يؤدي إليه.
عباد الله: نعمة الاجتماع والألفة، والتواد والرحمة، هي نعمة كثر في نصوص الشرع الدعوة إليها، امتناناً بها، ومدحاً لأهلها، وذماً لما ينافيها من التفرق والاختلاف، يقول عز وجل: ﴿وَٱعۡتَصِمُوا۟ بِحَبۡلِ ٱللَّهِ جَمِیعࣰا وَلَا تَفَرَّقُوا۟ۚ وَٱذۡكُرُوا۟ نِعۡمَتَ ٱللَّهِ عَلَیۡكُمۡ إِذۡ كُنتُمۡ أَعۡدَاۤءࣰ فَأَلَّفَ بَیۡنَ قُلُوبِكُمۡ فَأَصۡبَحۡتُم بِنِعۡمَتِهِۦۤ إِخۡوَ ٰنࣰا﴾ فإن الاجتماع خير ورحمة، والافتراق شرٌ ونقمة، الاجتماع هو هدي الإسلام ونهجه، ولذلك فإنه يُنتج التعاون والتواد والتآخي وذلك يثمر الأمنَ على الأنفس والأموال والأعراض. وضد ذلك من الشح والأنانية والنزاع والبغي والاستطالة على الأنفس والأموال والأعراض هو نتاج الفرقة والاختلاف، يُرى ذلك واضحاً على مستوى الأمة، وعلى مستوى البلدان، بل وعلى مستوى الأسرة والعائلة، فالاختلاف يقوض البناء ويهدمه، ولذلك كان هو سلاح الشيطان وكيده؛ التحريش بين المسلمين لبث الفرقة والتنافر، وإذكاء نار العداوة والبغضاء بين المؤمنين، وقد جاء في الحديث: عليكم بالجماعة، وإياكم والفرقة، فإن الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد.
وقى الله المسلمين شر الاختلاف والفرقة، وألف بين قلوبهم، وجعلهم يداً على من سواهم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله..
أما بعد: فإن التحدث بنعم الله تذكير بفضل الله واعتراف بإحسانه وشكرٌ له على جزيل عطائه، وهو دعوة لحفظ تلك النعم ورعايتها بآداء حق الله فيها فذاك هو شكرها وقد قال عز وجل: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ﴾
وإننا في هذه البلاد المباركة في نعم سابغة، وآلاء وافرة، فلاخوف ولا ذعر، ولا اضطراب ولا قلق بل طمأنينة وأمن، مع سعة في الرزق، ورغد في العيش، وقد كانت تلك هي مسألة أبينا إبراهيم وطلبته كما قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَٰذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ﴾ وهي المنة التي امتن الله بها على أهل الحرم بقوله عز وجل: ﴿أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ﴾ فالحمدُ للهِ الَّذي أطعَمنا وسقانا وكفانا وآوانا، له الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، له الحمد على الطمأنينة والأمن، وله الحمد على السعة في الرزق، وله الحمد على اجتماع الكلمة، وتوحد الصف، بالقيادة الحكيمة، والولاية الرشيدة، سددهم الله ووفقهم، وأعانهم وحفظهم، وكفانا الله شر المفسدين، الذين يجهدون في تفريق المسلمين، ويرجفون باختلاق الأكاذيب للوقيعة بين الحكام والمحكومين، ونشر الفوضى في بلاد المسلمين، ألا وإن التعامل الصائب والعلاج الناجع يكون بالتزام أمر الله الوارد في قوله عز وجل: ﴿وَٱعۡتَصِمُوا۟ بِحَبۡلِ ٱللَّهِ جَمِیعࣰا وَلَا تَفَرَّقُوا۟ۚ﴾ وقوله سبحانه: ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ۖ وَاصْبِرُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ۟﴾ فالزموا أمر الله، واعتصموا بحبل الله، وسلوا الله أن يحفظ علينا ديننا وأمننا وولاة أمرنا.