نظرات في سياسة الإعلام في الإسلام
مازن النجاشي-عضو الفريق العلمي
1432/03/19 - 2011/02/22 06:58AM
نظرات في سياسة الإعلام في الإسلام
شاهر محمد، أبو عبد الرحمن
لم يعد خافياً على أحد مدى تعاظم تأثير الإعلام على الناس، لدرجة أنهم قد يفقدون المسكن والمأكل والملبس ولا يفقدون الوسائل الإعلامية.
إن الإعلام ومنذ القدم كانت له أهمية عند الشعوب، فالقبائل العربية في الجاهلية كانت تستعين بالشعراء كناطقين إعلاميين وكإذاعات متنقلة تهيج الخواطر، وكان يستعان بهم أيضاً في إشعال الحروب أو في إطفائها، فقصيدة يلقيها شاعر في البوادي كانت كفيلة بتجميع المحاربين وشحنهم إلى ساحات الحرب لقتال خصومهم، وقصيدة حكيمة أخرى يلقيها شاعر آخر كانت كفيلة بتهدئة روع الجموع المتقاتلة وفك اشتباكها.
ولكن تلك الوسائل الإعلامية البسيطة -الشاعر والقصيدة- والتي كان لها ذلك التأثير لم يكن بمقدورها تغيير الأفكار والمشاعر، ولم يكن بإمكانها إحلال أنظمة ووجهات نظر جديدة بدلاً من التي كانت قائمة.
ثم جاء الإسلام الذي عني بالإعلام ورسم سياسته من أول أيامه، والذي كان له كبير الأثر في نشر الإسلام، وكمثال على ذلك فقد أخرج أحمد عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) [الشعراء] قَالَ: أَتَى النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) الصَّفَا فَصَعِدَ عَلَيْهِ، ثُمَّ نَادَى: يَا صَبَاحَاهْ، فَاجْتَمَعَ النَّاسُ إِلَيْهِ بَيْنَ رَجُلٍ يَجِيءُ إِلَيْهِ وَبَيْنَ رَجُلٍ يَبْعَثُ رَسُولَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم): يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، يَا بَنِي فِهْرٍ، يَا بَنِي لُؤَيٍّ، أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلًا بِسَفْحِ هَذَا الْجَبَلِ تُرِيدُ أَنْ تُغِيرَ عَلَيْكُمْ صَدَّقْتُمُونِي؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ...».
أما وسائل الإعلام اليوم فإننا نجد قد تعددت صورها وتنوعت أشكالها وتشعبت طرقها واستخدمت أحدث تقنيات العصر لخدمتها؛ ما جعلها تملك إمكانية تغيير المفاهيم وخلط الأفكار حتى فاقت في قدرتها على التأثير الأيديولوجي على الشعوب قدرة الاستعمار العسكري المباشر بما كان يملك من جنود وسلاح وعتاد.
ولو ألقينا نظرة سريعة على القوى المتحكمة بوسائل الإعلام في العالم اليوم لوجدناها لا تزيد عن خمس دول وهي: أميركا وبريطانيا وفرنسا، وإلى حد أقل روسيا وألمانيا. وعلى مستوى وكالات الأنباء العالمية الرئيسية فهي ست وهي: اليونايتدبرس والأسيوشيتدبرس وهما أميركيتان ورويترز وهي بريطانية ووكالة الصحافة الفرنسية ووكالة تاس الروسية ووكالة الأنباء الألمانية. وهذه الوكالات التابعة لتلك الدول الخمس هي مصدر المعلومات والأنباء لغالبية إذاعات وصحف الدول المائة وخمس وثمانين المسجلة في الأمم المتحدة. فخمس دول تتحكم في معلومات وأخبار بقية دول المعمورة. ومن يريد التأكد من ذلك فما عليه إلا أن يقرأ إحدى الصحف ويلاحظ مصادر الأخبار –غير المحلية طبعاً– فإنه سيجد أن معظمها منقول عن وكالات الأنباء العالمية المذكورة. ومن خلال هذه الوكالات تعمل أميركا ودول الغرب على تغيير رؤية أجيال بلدان العالم الثالث وتحويلها بما تحقق مصالح دول الغرب، ونلاحظ ذلك واضحاً في التقرير المرقم 1352 في 24/4/1964م الذي نوقش في دورة الكونجرس الأميركي رقم 88 حيث جاء فيه «يمكننا أن نحقق بعض أهداف سياستنا الخارجية من خلال التعامل المباشر مع شعوب الدول الأجنبية بدلاً من التعامل مع حكوماتها من خلال استخدام أدوات وتقنيات الاتصالات الحديثة، يمكننا اليوم أن نقوم بإعلامهم والتأثير في اتجاهاتهم، بل وممكن في بعض الأحيان أن نجرفهم على سلوك طريق معين، وهذه المجموعات يمكنها بدورها أن تمارس ضغوطاً ملحوظة وحتى حاسمة على حكوماتها».
فهذا الإعلام والذي تقوم دول الكفر الكبرى بفرضه على دول العالم أجمع هو إعلام خطير تتحكم به بضعة دول عدوة للإسلام والمسلمين، يعمل على تغيير جانب من عقليات أبناء المسلمين وبناء نفسياتهم وفق مزاجه، فيسمح بتمرير المعلومات أو يمنعها كما يحلو له، ويغير ويبدل في الحقائق والأسماء والمسميات كما يشاء.
ومثلاً يصف لنا الإعلام العالمي الحركات الإسلامية الساعية إلى التغيير الجذري بالطرق الشرعية -سواء أكان ذلك وفق طريقة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أم بالجهاد- يصفها بالتطرف والتشدد والأصولية، في حين يصف بعضها الآخر بالاعتدال والوسطية. وهكذا يرى المتتبع للأخبار والمعلومات كيفية صوغ عقلية جماهير المسلمين على أساس الإعلام الغربي الذي يبث سمومه الفكرية عبر وسائل الإعلام.
فإذا كان للإعلام الحاضر كل هذا الدور الخطير، وإذا كان سلطانه على الناس يصل إلى هذا الحد من الفتك والتدمير، حتى إنه فاق في تأثيره تأثير الجيوش والأساطيل في غزو الشعوب لأنه لا يستعمل الإكراه ولا التنفير. فإذا كان للإعلام الحاضر كل هذه السياسة المدمرة، فما هو دور الإعلام في الإسلام؟ وبعبارة أخرى ما هي سياسة الإعلام في الإسلام؟.وكيف يمكن لها ان تواكب التطورات في مجال الإعلام؟
وهذا ما سنبحثه انطلاقاً من قوله تعالى: (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا).
وسيكون ذلك من خلال تقسيم البحث الى خمسة مباحث:
المبحث الأول: مفهوم سياسة الإعلام في الإسلام
قبل الحديث عن مفهوم سياسة الإعلام في الإسلام وماذا نعني به، لابد لنا أن نتعرف على معنى كلمة سياسة وكلمة الإعلام وربطهما بالإسلام.
أولاً: السياسة في اللغة هي رعاية الشؤون كما قال في القاموس المحيط «سست الرعية سياسةً أي أمرتها ونهيتها» أي رعيت شؤونها بالأوامر والنواهي. وفي حديث «كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ تَسُوسُهُمُ الأنْبِيَاءُ» أَي تتولى أُمورَهم كما يفعل الأُمَراء والوُلاة بالرَّعِيَّة، والسِّياسةُ القيامُ على الشيء بما يُصْلِحه والسياسةُ فعل السائس يقال هو يَسُوسُ الدوابَّ إِذا قام عليها وراضَها، والوالي يَسُوسُ رَعِيَّتَه.
ويمكن لنا أن نقول إن السياسة هي: رعاية شؤون الأمر والقيام بما يصلحه والاهتمام به.
ثانياً: الإعلام في اللغة الإخبارُ، وأعلَمَ بالشيءِ أي أبلَغ عنه وأخبرَ به. ويقال اسْتَعْلِمْ لي خَبَر فلان وأَعْلِمْنِيه حتى أَعْلَمَه واسْتَعْلَمَني الخبرَ فأعْلَمْتُه إياه. فلا يخرج معنى الإعلام لغة عن الإخبار بالشيء أو الأمر أو الإبلاغ عنه أو الإعلام به أي الإيصال والنقل.
التعريف العام للإعلام
لا يبتعد المعنى اللغوي للإعلام عن المعنى العام لمفهوم الإعلام كما يعرفه الدكتور عمارة نجيب والذي هو: «كل نقل للمعلومات والمعارف والثقافات الفكرية والسلوكية، بطريقة معينة، من خلال أدوات ووسائل الإعلام والنشر الظاهرة والمعنوية، ذات الشخصية الحقيقية أو الاعتبارية، بقصد التأثير، سواء أعبّر موضوعياً أم لم يعبر، وسواء أكان التعبير لعقلية الجماهير أم لغرائزها».
فإذا كان هذا هو تعريف الإعلام، وكان تعريف السياسة هو رعاية الشؤون. فيكون معنى سياسة الإعلام في الإسلام هو: رعاية شؤون الإعلام على أساس الإسلام، أي ربط شؤون الإعلام بالأحكام الشرعية. فالإسلام أو الأحكام الشرعية هي التي تحدد ما يجوز نقله من المعلومات والمعارف والثقافات الفكرية والسلوكية وما لا يجوز، ومتى ينقل ومتى لا ينقل، والإسلام أيضاً هو الذي يحدد كيفية استخدام أدوات ووسائل الإعلام والنشر، الظاهرة والمعنوية، ذات الشخصية الحقيقية أو الاعتبارية، بقصد التأثير. وسنتحدث في المبحث الثاني عن الآية محور البحث في سبب نزولها وتفسيرها والمعنى العام لها.
المبحث الثاني: الآية الكريمة قال تعالى: (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا) ومناسبة نزولها وتفسيرها والمعنى العام لها.
أما مناسبة نزول الآية:
جاء في مناسبة نزول هذه الآية كما ورد في كتاب فتح القدير للشوكاني.
«وأخرج عبد بن حميد ومسلم وابن أبي حاتم من طريق ابن عباس عن عمر بن الخطاب قال: لما اعتزل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نساءه دخلت المسجد، فوجدت الناس ينكتون بالحصا ويقولون: طلق رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نساءه، فقمت على باب المسجد فناديت بأعلى صوتي: لم يطلق نساءه، ونزلت هذه الآية (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ).
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في الآية، قال: هذا في الإخبار، إذا غزت سرية من المسلمين أخبر الناس عنها، فقالوا: أصاب المسلمون من عدوهم كذا وكذا، وأصاب العدو من المسلمين كذا وكذا، فأفشوه بينهم من غير أن يكون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هو يخبرهم به».
وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك (وَإِذَا جَاءَهُمْ) قال: هم أهل النفاق. وأخرج ابن جرير عن أبي معاذ مثله. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ) قال: فانقطع الكلام. وقوله (إِلَّا قَلِيلًا) فهو في أول الآية يخبر عن المنافقين، قال: (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ) يعني: بالقليل المؤمنين".
إذن نزلت هذه الآية الكريمة في إشاعة خبر تطليق الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لزوجاته، أو في المنافقين وضعاف المسلمين الذين كانوا يشيعون أخباراً سيئة عن سرايا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم). وايًا يكن سبب نزول هذه الآية، سواء موضوع تطليق الرسول لزوجاته أم السرايا والغزوات، فالأمر أو الحكم الشرعي لا يقتصر على هاتين الحادثتين لأن "العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب".
فالآية تشمل كل الأحكام التي يمكن أن تندرج تحتها أو تفهم وتستنبط منها ولا يُقتصر على سبب النزول.
أما التفسير والمعنى العام لهذه الآية فقد جاء في تفسير هذه الآية كما ورد عند الشوكاني (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ) يقال: أذاع الشيء وأذاع به: إذا أفشاه وأظهره، وهؤلاء هم جماعة من ضعفة المسلمين كانوا إذا سمعوا شيئاً من أمر المسلمين فيه أمن نحو ظفر المسلمين وقتل عدوهم، أو فيه خوف نحو هزيمة المسلمين وقتلهم أفشوه وهم يظنون أنه لا شيء عليهم في ذلك. وقوله (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ) وهم أهل العلم والعقول الراجحة الذين يرجعون إليهم في أمورهم أو هم الولاة عليهم (لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) أي: يستخرجونه بتدبيرهم وصحة عقولهم. والمعنى: أنهم لو تركوا الإذاعة للأخبار حتى يكون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هو الذي يذيعها أو يكون أولي الأمر منهم هم الذين يتولون ذلك، لأنهم يعلمون ما ينبغي أن يفشى وما ينبغي أن يكتم. والاستنباط مأخوذ من استنبطت الماء: إذا استخرجته. والنبط: الماء المستنبط أول ما يخرج من ماء البئر عند حفرها، وقيل: إن هؤلاء الضعفة كانوا يسمعون إرجاف المنافقين على المسلمين فيذيعونها فتحصل بذلك المفسدة. قوله: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا) أي: لولا ما تفضل الله به عليكم من إرسال رسوله وإنزال كتابه لاتبعتم الشيطان فبقيتم على كفركم إلا قليلاً منكم، أو إلا أتباعاً قليلاً منكم، وقيل المعنى: أذاعوا به إلا قليلاً منهم فإنه لم يُذَعْ ولم يُفْشَ. قاله الكسائي والفراء وأبو عبيدة وأبو حاتم وابن جرير، وقيل المعنى لعلمه الذين يستنبطونه إلا قليلاً منهم، قاله الزجاج. وقد أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة: (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا) [النساء] يقول: إن قول الله لا يختلف وهو حق ليس فيه باطل، وإن قول الناس يختلف.
وجاء في تفسير النسفي: «(وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ) هم ناس من ضعفة المسلمين الذين لم يكن فيهم خبرة بالأحوال، أو المنافقون كانوا إذا بلغهم خبر من سرايا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من أمن وسلامة أو خوف وخلل (أَذَاعُوا بِهِ) أفشوه، وكانت إذاعتهم مفسدة. يقال: أذاع السرع وأذاع به، والضمير يعود إلى الأمر أو إلى الأمن أو الخوف لأن (أَوِ) تقتضي أحدهما (وَلَوْ رَدُّوهُ) أي ذلك الخبر (إِلَى الرَّسُولِ) أي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) (وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ) يعني كبراء الصحابة البصراء بالأمور أو الذين كانوا يؤمّرون منهم (لَعَلِمَهُ) لعلم تدبير ما أخبروا به (الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) يستخرجون تدبيره بفطنهم وتجاربهم ومعرفتهم بأمور الحرب ومكائدها، وقيل: كانوا يقفون من رسول الله وأولي الأمر على أمن ووثوق بالظهور على بعض الأعداء، أو على خوف واستشعار فيذيعونه فينتشر فيبلغ الأعداء فتعود إذاعتهم مفسدة، ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر وفوضوه إليهم وكانوا كأن لم يسمعوا، لعلم الذين يستنبطون تدبيره كيف يدبرونه وما يأتون ويذرون فيه».
فحصرت الآية الخبر وهو الأمر المراد إذاعته بحالتين هما: الأمن أو الخوف، أي النصر أو الهزيمة، وأسندت الآية إذاعة الأخبار التي من هذا النوع إلى الرسول وإلى أولي الأمر من المسلمين أي إلى الحكام. وبينت الآية الكريمة أن على الحاكم أن يستعمل من المذيعين الذين يستطيعون استنباط الأخبار وتقرير ما ينبغي أن يذاع منها وما لا ينبغي، وبينت الآية أيضاً أن الإذاعة تعني إفشاء الأخبار وإظهارها.
وبناءً على تفسير ودلالات هذه الآية الكريمة يمكننا وضع القواعد الإعلامية ضمن سياسة الإعلام في الإسلام وهذا ما سنتناوله في المبحث الثالث.
المبحث الثالث: القواعد التي يمكن وضعها بناءً على تفسير الآية ودلالاتها.
القاعدة الأولى: الأخبار المذاعة جميعها يجب معالجتها بناءً على أساس الأمن أو الخوف.
يقول عبد الكريم زيدان في كتابه أصول الدعوة: «ومن واجبات الخليفة المهمة إشاعة الأمن والاستقرار في دار الإسلام حتى يأمن الناس على أرواحهم وأعراضهم وأموالهم، ويتنقلوا في دار الإسلام آمنين مطمئنين» هذا فضلاً عن أن كثيراً من أمور الإعلام مرتبط بالدولة ارتباطاً وثيقاً، ولا يجوز نشرها دون أمر الخليفة. أو من ينيبه، ويتضح ذلك في كل ما يتعلق بالأمور العسكرية وما يلحق بها كتحركات الجيوش وأخبار النصر أو الهزيمة والصناعات العسكرية. وهذا الضرب من الأخبار يجب ربطه بالإمام مباشرة ليقرر ما يجب كتمانه، وما يجب بثه وإعلانه، والدليل على ذلك من كتاب الله عز وجل وفعل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بصفته حاكماً ورئيس دولة.
أما الكتاب فقوله تعالى: (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) وموضوع الآية الأخبار والتعامل معها.
وأما السنة فحديث ابن عباس في فتح مكة عند الحاكم في المستدرك وقال صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي وفيه: «وقد عميت الأخبار على قريش، فلا يأتيهم خبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولا يدرون ما هو صانع» رواه الحاكم. ومرسل أبي سلمه عند ابن أبي شيبة وفيه: «ثم قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): جهزيني ولا تعلمي بذلك أحداً،... ثم أمر بالطرق فحبست، فعمى على أهل مكة لا يأتيهم خبر» وموضوع الحديثين كتمان الخبر والتعمية.
وحديث كعب المتفق عليه في غزوة العسرة وفيه: «وَلَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) يُرِيدُ غَزْوَةً إِلَّا وَرَّى بِغَيْرِهَا حَتَّى كَانَتْ تِلْكَ الْغَزْوَةُ غَزَاهَا رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) فِي حَرٍّ شَدِيدٍ وَاسْتَقْبَلَ سَفَرًا بَعِيدًا وَمَفَازًا وَعَدُوًّا كَثِيرًا فَجَلَّى لِلْمُسْلِمِينَ أَمْرَهُمْ لِيَتَأَهَّبُوا أُهْبَةَ غَزْوِهِمْ، فَأَخْبَرَهُمْ بِوَجْهِهِ الَّذِي يُرِيدُ» (متفق عليه) أما هذا الحديث فهو في الإخبار والإعلام والإفصاح لما قد يصيبهم من المشقة في حالة الكتمان.
وحديث أنس عند البخاري «أَنَّ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وآله وسلم) نَعَى زَيْدًا وَجَعْفَرًا وَابْنَ رَوَاحَةَ لِلنَّاسِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَهُمْ خَبَرُهُمْ، فَقَالَ: أَخَذَ الرَّايَةَ زَيْدٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَ جَعْفَرٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَ ابْنُ رَوَاحَةَ فَأُصِيبَ، وَعَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ، حَتَّى أَخَذَ سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللَّهِ حَتَّى فَتَحَ اللهُ عَلَيْهِمْ» وهنا نقل حي ومباشر للمعركة نظراً لبعد المسافة وللاطمئنان على الجيش.
نلاحظ أنه من خلال هذه النصوص أن نقل الأخبار «الحيوية» أي ما له علاقة بأمن المجتمع واستقراره لا بد من معالجتها معالجة تضمن أمن المجتمع واستقراره.
القاعدة الثانية: المذيعون هم الحكام أو من ينيبونهم.
ونقصد بالمذيعين هنا من له الحق في إقرار ومراقبة ما يذاع على الناس، ومن له الحق بوضع سياسات الإعلام في الدولة وخاصة المتعلقة بالأمن والخوف (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ) يقول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): «أَلَا كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ فَالْأَمِيرُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ...» (رواه مسلم) والذي يقوم برسم سياسة الإعلام الإسلامي هم أولو الأمر الذين يتمثلون بالإمام أو الخليفة أو أمير المؤمنين بمشاورة أهل الحل والعقد والمتخصصين من العلماء. وتستمد سياسة الإعلام في الإسلام من كتاب الله تعالى وسنة رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم)، تطبيقاً لقوله تعالى: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ) [المائدة 49] وقوله عز وجل: (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ) [الأحقاف 9].
ولما كان الأمر كذلك، فقد حدد الشرع أن أصحاب الحق في إذاعة مثل هذه الأخبار لا بد أن يكونوا هم أولي الأمر. وبالتالي، يجب أن توكل مثل هذه المعالجات لمن لديهم رجاحة العقل والبصيرة، والذين يعرفون مصالح الناس ويسهرون على أمن المجتمع وسلامته. ففي هذه المعالجة، قطع الطريق على المرجفين الذين قد يشيعون أخباراً كاذبة أو يستغلون الإعلام ووسائله استغلالاً يخدم مصالح الكفار وأعداء الدولة، كإشاعة وإفشاء أخبار الجيوش مثلاً.
القاعدة الثالثة: الإعلام يحتاج إلى استنباط أي يحتاج إلى رجال إعلام وفكر ودولة يكونون واسعي الثقافة ولديهم القدرة على التحليل السياسي. إنه لابد لنا من مستنبطين وعلماء ومختصين على أعلى درجة من العلم و الوعي على التفكير السياسي وكيفية التعامل مع النصوص السياسية من حيث الإعلام والتحليل السياسي.و كيفية فهم النصوص الإخبارية والبرامج الإعلامية وغيرها، وكيفية صياغتها، وكيفية فهم هذه الصياغة. لأن هذا هو الذي يعتبر تفكيراً سياسياً، وبالتالي يجعل صاحبه ممن يستطيع استنباط ما وراء الخبر المذاع وما يذاع من أخبار ومالا يذاع، وما يلزم من البرامج الإعلامية ووسائلها الحديثة. وهكذا يوجد في الأمة من ذكرتهم الآية الكريمة (لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ). الذين يبدعون في القيام بعملية تفكيك الأخبار والتصريحات والصورة الإعلامية، ومعرفة أسرارها وخفاياها من حيث معرفة كيفية صياغة الخبر والتوقيت لبعض الأخبار التي تكون حصرياً في بعض الأحيان لبعض القنوات، ولماذا صيغ الخبر بهذه الصيغة، وهل هو متأثر بالوضع السياسي. ويتمكنون من معالجة الإعلام غير الإسلامي خاصة إذا كان معادياً أو مسيئاً للإسلام والمسلمين. ويقول الدكتور كحيل في كتابه: «الأسس العلمية والتطبيقية للإعلام الإسلامي»: «في هذا الإطار والمعنى فلا بد إذن أن يكون رجل الإعلام الإسلامي ملماً بأصول الدين الإسلامي متحمساً لها عاملاً بها حتى ينعكس ذلك على كل ما يصدر من أجهزة الإعلام، ويشترط في رجل الإعلام الإسلامي أيضاً العلم التام بوسائل وأساليب الإعلام الحديث. وليس معنى العلم بأصول الدين عدم معرفة وسائل وأساليب الإعلام الحديثة، فلا بد ان يلم رجل الإعلام بهذين العلمين. وربما يفهم البعض من هذه القواعد أن فيها منعاً لتملك الأفراد لوسائل الإعلام لذا اقتضى المقام أن نلقي الضوء على هذه المسألة.
حق تملك الأفراد لوسائل الإعلام.
يتبع ..
شاهر محمد، أبو عبد الرحمن
لم يعد خافياً على أحد مدى تعاظم تأثير الإعلام على الناس، لدرجة أنهم قد يفقدون المسكن والمأكل والملبس ولا يفقدون الوسائل الإعلامية.
إن الإعلام ومنذ القدم كانت له أهمية عند الشعوب، فالقبائل العربية في الجاهلية كانت تستعين بالشعراء كناطقين إعلاميين وكإذاعات متنقلة تهيج الخواطر، وكان يستعان بهم أيضاً في إشعال الحروب أو في إطفائها، فقصيدة يلقيها شاعر في البوادي كانت كفيلة بتجميع المحاربين وشحنهم إلى ساحات الحرب لقتال خصومهم، وقصيدة حكيمة أخرى يلقيها شاعر آخر كانت كفيلة بتهدئة روع الجموع المتقاتلة وفك اشتباكها.
ولكن تلك الوسائل الإعلامية البسيطة -الشاعر والقصيدة- والتي كان لها ذلك التأثير لم يكن بمقدورها تغيير الأفكار والمشاعر، ولم يكن بإمكانها إحلال أنظمة ووجهات نظر جديدة بدلاً من التي كانت قائمة.
ثم جاء الإسلام الذي عني بالإعلام ورسم سياسته من أول أيامه، والذي كان له كبير الأثر في نشر الإسلام، وكمثال على ذلك فقد أخرج أحمد عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) [الشعراء] قَالَ: أَتَى النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) الصَّفَا فَصَعِدَ عَلَيْهِ، ثُمَّ نَادَى: يَا صَبَاحَاهْ، فَاجْتَمَعَ النَّاسُ إِلَيْهِ بَيْنَ رَجُلٍ يَجِيءُ إِلَيْهِ وَبَيْنَ رَجُلٍ يَبْعَثُ رَسُولَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم): يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، يَا بَنِي فِهْرٍ، يَا بَنِي لُؤَيٍّ، أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلًا بِسَفْحِ هَذَا الْجَبَلِ تُرِيدُ أَنْ تُغِيرَ عَلَيْكُمْ صَدَّقْتُمُونِي؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ...».
أما وسائل الإعلام اليوم فإننا نجد قد تعددت صورها وتنوعت أشكالها وتشعبت طرقها واستخدمت أحدث تقنيات العصر لخدمتها؛ ما جعلها تملك إمكانية تغيير المفاهيم وخلط الأفكار حتى فاقت في قدرتها على التأثير الأيديولوجي على الشعوب قدرة الاستعمار العسكري المباشر بما كان يملك من جنود وسلاح وعتاد.
ولو ألقينا نظرة سريعة على القوى المتحكمة بوسائل الإعلام في العالم اليوم لوجدناها لا تزيد عن خمس دول وهي: أميركا وبريطانيا وفرنسا، وإلى حد أقل روسيا وألمانيا. وعلى مستوى وكالات الأنباء العالمية الرئيسية فهي ست وهي: اليونايتدبرس والأسيوشيتدبرس وهما أميركيتان ورويترز وهي بريطانية ووكالة الصحافة الفرنسية ووكالة تاس الروسية ووكالة الأنباء الألمانية. وهذه الوكالات التابعة لتلك الدول الخمس هي مصدر المعلومات والأنباء لغالبية إذاعات وصحف الدول المائة وخمس وثمانين المسجلة في الأمم المتحدة. فخمس دول تتحكم في معلومات وأخبار بقية دول المعمورة. ومن يريد التأكد من ذلك فما عليه إلا أن يقرأ إحدى الصحف ويلاحظ مصادر الأخبار –غير المحلية طبعاً– فإنه سيجد أن معظمها منقول عن وكالات الأنباء العالمية المذكورة. ومن خلال هذه الوكالات تعمل أميركا ودول الغرب على تغيير رؤية أجيال بلدان العالم الثالث وتحويلها بما تحقق مصالح دول الغرب، ونلاحظ ذلك واضحاً في التقرير المرقم 1352 في 24/4/1964م الذي نوقش في دورة الكونجرس الأميركي رقم 88 حيث جاء فيه «يمكننا أن نحقق بعض أهداف سياستنا الخارجية من خلال التعامل المباشر مع شعوب الدول الأجنبية بدلاً من التعامل مع حكوماتها من خلال استخدام أدوات وتقنيات الاتصالات الحديثة، يمكننا اليوم أن نقوم بإعلامهم والتأثير في اتجاهاتهم، بل وممكن في بعض الأحيان أن نجرفهم على سلوك طريق معين، وهذه المجموعات يمكنها بدورها أن تمارس ضغوطاً ملحوظة وحتى حاسمة على حكوماتها».
فهذا الإعلام والذي تقوم دول الكفر الكبرى بفرضه على دول العالم أجمع هو إعلام خطير تتحكم به بضعة دول عدوة للإسلام والمسلمين، يعمل على تغيير جانب من عقليات أبناء المسلمين وبناء نفسياتهم وفق مزاجه، فيسمح بتمرير المعلومات أو يمنعها كما يحلو له، ويغير ويبدل في الحقائق والأسماء والمسميات كما يشاء.
ومثلاً يصف لنا الإعلام العالمي الحركات الإسلامية الساعية إلى التغيير الجذري بالطرق الشرعية -سواء أكان ذلك وفق طريقة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أم بالجهاد- يصفها بالتطرف والتشدد والأصولية، في حين يصف بعضها الآخر بالاعتدال والوسطية. وهكذا يرى المتتبع للأخبار والمعلومات كيفية صوغ عقلية جماهير المسلمين على أساس الإعلام الغربي الذي يبث سمومه الفكرية عبر وسائل الإعلام.
فإذا كان للإعلام الحاضر كل هذا الدور الخطير، وإذا كان سلطانه على الناس يصل إلى هذا الحد من الفتك والتدمير، حتى إنه فاق في تأثيره تأثير الجيوش والأساطيل في غزو الشعوب لأنه لا يستعمل الإكراه ولا التنفير. فإذا كان للإعلام الحاضر كل هذه السياسة المدمرة، فما هو دور الإعلام في الإسلام؟ وبعبارة أخرى ما هي سياسة الإعلام في الإسلام؟.وكيف يمكن لها ان تواكب التطورات في مجال الإعلام؟
وهذا ما سنبحثه انطلاقاً من قوله تعالى: (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا).
وسيكون ذلك من خلال تقسيم البحث الى خمسة مباحث:
المبحث الأول: مفهوم سياسة الإعلام في الإسلام
قبل الحديث عن مفهوم سياسة الإعلام في الإسلام وماذا نعني به، لابد لنا أن نتعرف على معنى كلمة سياسة وكلمة الإعلام وربطهما بالإسلام.
أولاً: السياسة في اللغة هي رعاية الشؤون كما قال في القاموس المحيط «سست الرعية سياسةً أي أمرتها ونهيتها» أي رعيت شؤونها بالأوامر والنواهي. وفي حديث «كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ تَسُوسُهُمُ الأنْبِيَاءُ» أَي تتولى أُمورَهم كما يفعل الأُمَراء والوُلاة بالرَّعِيَّة، والسِّياسةُ القيامُ على الشيء بما يُصْلِحه والسياسةُ فعل السائس يقال هو يَسُوسُ الدوابَّ إِذا قام عليها وراضَها، والوالي يَسُوسُ رَعِيَّتَه.
ويمكن لنا أن نقول إن السياسة هي: رعاية شؤون الأمر والقيام بما يصلحه والاهتمام به.
ثانياً: الإعلام في اللغة الإخبارُ، وأعلَمَ بالشيءِ أي أبلَغ عنه وأخبرَ به. ويقال اسْتَعْلِمْ لي خَبَر فلان وأَعْلِمْنِيه حتى أَعْلَمَه واسْتَعْلَمَني الخبرَ فأعْلَمْتُه إياه. فلا يخرج معنى الإعلام لغة عن الإخبار بالشيء أو الأمر أو الإبلاغ عنه أو الإعلام به أي الإيصال والنقل.
التعريف العام للإعلام
لا يبتعد المعنى اللغوي للإعلام عن المعنى العام لمفهوم الإعلام كما يعرفه الدكتور عمارة نجيب والذي هو: «كل نقل للمعلومات والمعارف والثقافات الفكرية والسلوكية، بطريقة معينة، من خلال أدوات ووسائل الإعلام والنشر الظاهرة والمعنوية، ذات الشخصية الحقيقية أو الاعتبارية، بقصد التأثير، سواء أعبّر موضوعياً أم لم يعبر، وسواء أكان التعبير لعقلية الجماهير أم لغرائزها».
فإذا كان هذا هو تعريف الإعلام، وكان تعريف السياسة هو رعاية الشؤون. فيكون معنى سياسة الإعلام في الإسلام هو: رعاية شؤون الإعلام على أساس الإسلام، أي ربط شؤون الإعلام بالأحكام الشرعية. فالإسلام أو الأحكام الشرعية هي التي تحدد ما يجوز نقله من المعلومات والمعارف والثقافات الفكرية والسلوكية وما لا يجوز، ومتى ينقل ومتى لا ينقل، والإسلام أيضاً هو الذي يحدد كيفية استخدام أدوات ووسائل الإعلام والنشر، الظاهرة والمعنوية، ذات الشخصية الحقيقية أو الاعتبارية، بقصد التأثير. وسنتحدث في المبحث الثاني عن الآية محور البحث في سبب نزولها وتفسيرها والمعنى العام لها.
المبحث الثاني: الآية الكريمة قال تعالى: (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا) ومناسبة نزولها وتفسيرها والمعنى العام لها.
أما مناسبة نزول الآية:
جاء في مناسبة نزول هذه الآية كما ورد في كتاب فتح القدير للشوكاني.
«وأخرج عبد بن حميد ومسلم وابن أبي حاتم من طريق ابن عباس عن عمر بن الخطاب قال: لما اعتزل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نساءه دخلت المسجد، فوجدت الناس ينكتون بالحصا ويقولون: طلق رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نساءه، فقمت على باب المسجد فناديت بأعلى صوتي: لم يطلق نساءه، ونزلت هذه الآية (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ).
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في الآية، قال: هذا في الإخبار، إذا غزت سرية من المسلمين أخبر الناس عنها، فقالوا: أصاب المسلمون من عدوهم كذا وكذا، وأصاب العدو من المسلمين كذا وكذا، فأفشوه بينهم من غير أن يكون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هو يخبرهم به».
وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك (وَإِذَا جَاءَهُمْ) قال: هم أهل النفاق. وأخرج ابن جرير عن أبي معاذ مثله. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ) قال: فانقطع الكلام. وقوله (إِلَّا قَلِيلًا) فهو في أول الآية يخبر عن المنافقين، قال: (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ) يعني: بالقليل المؤمنين".
إذن نزلت هذه الآية الكريمة في إشاعة خبر تطليق الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لزوجاته، أو في المنافقين وضعاف المسلمين الذين كانوا يشيعون أخباراً سيئة عن سرايا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم). وايًا يكن سبب نزول هذه الآية، سواء موضوع تطليق الرسول لزوجاته أم السرايا والغزوات، فالأمر أو الحكم الشرعي لا يقتصر على هاتين الحادثتين لأن "العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب".
فالآية تشمل كل الأحكام التي يمكن أن تندرج تحتها أو تفهم وتستنبط منها ولا يُقتصر على سبب النزول.
أما التفسير والمعنى العام لهذه الآية فقد جاء في تفسير هذه الآية كما ورد عند الشوكاني (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ) يقال: أذاع الشيء وأذاع به: إذا أفشاه وأظهره، وهؤلاء هم جماعة من ضعفة المسلمين كانوا إذا سمعوا شيئاً من أمر المسلمين فيه أمن نحو ظفر المسلمين وقتل عدوهم، أو فيه خوف نحو هزيمة المسلمين وقتلهم أفشوه وهم يظنون أنه لا شيء عليهم في ذلك. وقوله (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ) وهم أهل العلم والعقول الراجحة الذين يرجعون إليهم في أمورهم أو هم الولاة عليهم (لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) أي: يستخرجونه بتدبيرهم وصحة عقولهم. والمعنى: أنهم لو تركوا الإذاعة للأخبار حتى يكون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هو الذي يذيعها أو يكون أولي الأمر منهم هم الذين يتولون ذلك، لأنهم يعلمون ما ينبغي أن يفشى وما ينبغي أن يكتم. والاستنباط مأخوذ من استنبطت الماء: إذا استخرجته. والنبط: الماء المستنبط أول ما يخرج من ماء البئر عند حفرها، وقيل: إن هؤلاء الضعفة كانوا يسمعون إرجاف المنافقين على المسلمين فيذيعونها فتحصل بذلك المفسدة. قوله: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا) أي: لولا ما تفضل الله به عليكم من إرسال رسوله وإنزال كتابه لاتبعتم الشيطان فبقيتم على كفركم إلا قليلاً منكم، أو إلا أتباعاً قليلاً منكم، وقيل المعنى: أذاعوا به إلا قليلاً منهم فإنه لم يُذَعْ ولم يُفْشَ. قاله الكسائي والفراء وأبو عبيدة وأبو حاتم وابن جرير، وقيل المعنى لعلمه الذين يستنبطونه إلا قليلاً منهم، قاله الزجاج. وقد أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة: (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا) [النساء] يقول: إن قول الله لا يختلف وهو حق ليس فيه باطل، وإن قول الناس يختلف.
وجاء في تفسير النسفي: «(وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ) هم ناس من ضعفة المسلمين الذين لم يكن فيهم خبرة بالأحوال، أو المنافقون كانوا إذا بلغهم خبر من سرايا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من أمن وسلامة أو خوف وخلل (أَذَاعُوا بِهِ) أفشوه، وكانت إذاعتهم مفسدة. يقال: أذاع السرع وأذاع به، والضمير يعود إلى الأمر أو إلى الأمن أو الخوف لأن (أَوِ) تقتضي أحدهما (وَلَوْ رَدُّوهُ) أي ذلك الخبر (إِلَى الرَّسُولِ) أي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) (وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ) يعني كبراء الصحابة البصراء بالأمور أو الذين كانوا يؤمّرون منهم (لَعَلِمَهُ) لعلم تدبير ما أخبروا به (الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) يستخرجون تدبيره بفطنهم وتجاربهم ومعرفتهم بأمور الحرب ومكائدها، وقيل: كانوا يقفون من رسول الله وأولي الأمر على أمن ووثوق بالظهور على بعض الأعداء، أو على خوف واستشعار فيذيعونه فينتشر فيبلغ الأعداء فتعود إذاعتهم مفسدة، ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر وفوضوه إليهم وكانوا كأن لم يسمعوا، لعلم الذين يستنبطون تدبيره كيف يدبرونه وما يأتون ويذرون فيه».
فحصرت الآية الخبر وهو الأمر المراد إذاعته بحالتين هما: الأمن أو الخوف، أي النصر أو الهزيمة، وأسندت الآية إذاعة الأخبار التي من هذا النوع إلى الرسول وإلى أولي الأمر من المسلمين أي إلى الحكام. وبينت الآية الكريمة أن على الحاكم أن يستعمل من المذيعين الذين يستطيعون استنباط الأخبار وتقرير ما ينبغي أن يذاع منها وما لا ينبغي، وبينت الآية أيضاً أن الإذاعة تعني إفشاء الأخبار وإظهارها.
وبناءً على تفسير ودلالات هذه الآية الكريمة يمكننا وضع القواعد الإعلامية ضمن سياسة الإعلام في الإسلام وهذا ما سنتناوله في المبحث الثالث.
المبحث الثالث: القواعد التي يمكن وضعها بناءً على تفسير الآية ودلالاتها.
القاعدة الأولى: الأخبار المذاعة جميعها يجب معالجتها بناءً على أساس الأمن أو الخوف.
يقول عبد الكريم زيدان في كتابه أصول الدعوة: «ومن واجبات الخليفة المهمة إشاعة الأمن والاستقرار في دار الإسلام حتى يأمن الناس على أرواحهم وأعراضهم وأموالهم، ويتنقلوا في دار الإسلام آمنين مطمئنين» هذا فضلاً عن أن كثيراً من أمور الإعلام مرتبط بالدولة ارتباطاً وثيقاً، ولا يجوز نشرها دون أمر الخليفة. أو من ينيبه، ويتضح ذلك في كل ما يتعلق بالأمور العسكرية وما يلحق بها كتحركات الجيوش وأخبار النصر أو الهزيمة والصناعات العسكرية. وهذا الضرب من الأخبار يجب ربطه بالإمام مباشرة ليقرر ما يجب كتمانه، وما يجب بثه وإعلانه، والدليل على ذلك من كتاب الله عز وجل وفعل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بصفته حاكماً ورئيس دولة.
أما الكتاب فقوله تعالى: (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) وموضوع الآية الأخبار والتعامل معها.
وأما السنة فحديث ابن عباس في فتح مكة عند الحاكم في المستدرك وقال صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي وفيه: «وقد عميت الأخبار على قريش، فلا يأتيهم خبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولا يدرون ما هو صانع» رواه الحاكم. ومرسل أبي سلمه عند ابن أبي شيبة وفيه: «ثم قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): جهزيني ولا تعلمي بذلك أحداً،... ثم أمر بالطرق فحبست، فعمى على أهل مكة لا يأتيهم خبر» وموضوع الحديثين كتمان الخبر والتعمية.
وحديث كعب المتفق عليه في غزوة العسرة وفيه: «وَلَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) يُرِيدُ غَزْوَةً إِلَّا وَرَّى بِغَيْرِهَا حَتَّى كَانَتْ تِلْكَ الْغَزْوَةُ غَزَاهَا رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) فِي حَرٍّ شَدِيدٍ وَاسْتَقْبَلَ سَفَرًا بَعِيدًا وَمَفَازًا وَعَدُوًّا كَثِيرًا فَجَلَّى لِلْمُسْلِمِينَ أَمْرَهُمْ لِيَتَأَهَّبُوا أُهْبَةَ غَزْوِهِمْ، فَأَخْبَرَهُمْ بِوَجْهِهِ الَّذِي يُرِيدُ» (متفق عليه) أما هذا الحديث فهو في الإخبار والإعلام والإفصاح لما قد يصيبهم من المشقة في حالة الكتمان.
وحديث أنس عند البخاري «أَنَّ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وآله وسلم) نَعَى زَيْدًا وَجَعْفَرًا وَابْنَ رَوَاحَةَ لِلنَّاسِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَهُمْ خَبَرُهُمْ، فَقَالَ: أَخَذَ الرَّايَةَ زَيْدٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَ جَعْفَرٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَ ابْنُ رَوَاحَةَ فَأُصِيبَ، وَعَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ، حَتَّى أَخَذَ سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللَّهِ حَتَّى فَتَحَ اللهُ عَلَيْهِمْ» وهنا نقل حي ومباشر للمعركة نظراً لبعد المسافة وللاطمئنان على الجيش.
نلاحظ أنه من خلال هذه النصوص أن نقل الأخبار «الحيوية» أي ما له علاقة بأمن المجتمع واستقراره لا بد من معالجتها معالجة تضمن أمن المجتمع واستقراره.
القاعدة الثانية: المذيعون هم الحكام أو من ينيبونهم.
ونقصد بالمذيعين هنا من له الحق في إقرار ومراقبة ما يذاع على الناس، ومن له الحق بوضع سياسات الإعلام في الدولة وخاصة المتعلقة بالأمن والخوف (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ) يقول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): «أَلَا كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ فَالْأَمِيرُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ...» (رواه مسلم) والذي يقوم برسم سياسة الإعلام الإسلامي هم أولو الأمر الذين يتمثلون بالإمام أو الخليفة أو أمير المؤمنين بمشاورة أهل الحل والعقد والمتخصصين من العلماء. وتستمد سياسة الإعلام في الإسلام من كتاب الله تعالى وسنة رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم)، تطبيقاً لقوله تعالى: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ) [المائدة 49] وقوله عز وجل: (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ) [الأحقاف 9].
ولما كان الأمر كذلك، فقد حدد الشرع أن أصحاب الحق في إذاعة مثل هذه الأخبار لا بد أن يكونوا هم أولي الأمر. وبالتالي، يجب أن توكل مثل هذه المعالجات لمن لديهم رجاحة العقل والبصيرة، والذين يعرفون مصالح الناس ويسهرون على أمن المجتمع وسلامته. ففي هذه المعالجة، قطع الطريق على المرجفين الذين قد يشيعون أخباراً كاذبة أو يستغلون الإعلام ووسائله استغلالاً يخدم مصالح الكفار وأعداء الدولة، كإشاعة وإفشاء أخبار الجيوش مثلاً.
القاعدة الثالثة: الإعلام يحتاج إلى استنباط أي يحتاج إلى رجال إعلام وفكر ودولة يكونون واسعي الثقافة ولديهم القدرة على التحليل السياسي. إنه لابد لنا من مستنبطين وعلماء ومختصين على أعلى درجة من العلم و الوعي على التفكير السياسي وكيفية التعامل مع النصوص السياسية من حيث الإعلام والتحليل السياسي.و كيفية فهم النصوص الإخبارية والبرامج الإعلامية وغيرها، وكيفية صياغتها، وكيفية فهم هذه الصياغة. لأن هذا هو الذي يعتبر تفكيراً سياسياً، وبالتالي يجعل صاحبه ممن يستطيع استنباط ما وراء الخبر المذاع وما يذاع من أخبار ومالا يذاع، وما يلزم من البرامج الإعلامية ووسائلها الحديثة. وهكذا يوجد في الأمة من ذكرتهم الآية الكريمة (لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ). الذين يبدعون في القيام بعملية تفكيك الأخبار والتصريحات والصورة الإعلامية، ومعرفة أسرارها وخفاياها من حيث معرفة كيفية صياغة الخبر والتوقيت لبعض الأخبار التي تكون حصرياً في بعض الأحيان لبعض القنوات، ولماذا صيغ الخبر بهذه الصيغة، وهل هو متأثر بالوضع السياسي. ويتمكنون من معالجة الإعلام غير الإسلامي خاصة إذا كان معادياً أو مسيئاً للإسلام والمسلمين. ويقول الدكتور كحيل في كتابه: «الأسس العلمية والتطبيقية للإعلام الإسلامي»: «في هذا الإطار والمعنى فلا بد إذن أن يكون رجل الإعلام الإسلامي ملماً بأصول الدين الإسلامي متحمساً لها عاملاً بها حتى ينعكس ذلك على كل ما يصدر من أجهزة الإعلام، ويشترط في رجل الإعلام الإسلامي أيضاً العلم التام بوسائل وأساليب الإعلام الحديث. وليس معنى العلم بأصول الدين عدم معرفة وسائل وأساليب الإعلام الحديثة، فلا بد ان يلم رجل الإعلام بهذين العلمين. وربما يفهم البعض من هذه القواعد أن فيها منعاً لتملك الأفراد لوسائل الإعلام لذا اقتضى المقام أن نلقي الضوء على هذه المسألة.
حق تملك الأفراد لوسائل الإعلام.
يتبع ..
مازن النجاشي-عضو الفريق العلمي
نعم هذه القواعد لا تعني حرمان الأفراد من تملك وسائل الإعلام، فوسائل الإعلام هي أدوات للجهر والعلانية، وقد طلب الإسلام قول الحق والمجاهرة به، فعن عبادة بن الصامت (رضي الله عنه) قال: «بَايَعْنَا رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي الْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ وَأَنْ لَا نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ وَأَنْ نَقُومَ أَوْ نَقُولَ بِالْحَقِّ حَيْثُمَا كُنَّا لَا نَخَافُ فِي اللهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ» رواه البخاري
وقد اعتبر الإسلام عدم الجهر بالرأي وعلانيته فيما يرى أنه حق أمراً محتقراً، فقد فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) «لَا يَحْقِرْ أَحَدُكُمْ نَفْسَهُ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، كَيْفَ يَحْقِرُ أَحَدُنَا نَفْسَهُ؟ قَالَ: يَرَى أَمْرًا لِلهِ عَلَيْهِ فِيهِ مَقَالٌ ثُمَّ لَا يَقُولُ فِيهِ، فَيَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَقُولَ فِي كَذَا وَكَذَا؟ فَيَقُولُ: خَشْيَةُ النَّاسِ، فَيَقُولُ: فَإِيَّايَ كُنْتَ أَحَقَّ أَنْ تَخْشَى» (أحمد وابن ماجه، وفي لفظ أحمد خَشِيْتُ النَّاسَ).
كما أوجب الإسلام الجهر والعلانية للنهي عن المنكر إذا كان تغييره يستلزم ذلك، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ» (رواه مسلم).
واعتبر الشرع الدين النصيحة، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «الدِّينُ النَّصِيحَةُ، قُلْنَا: لِمَنْ؟ قَالَ: لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّة الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ» (رواه مسلم) والوسيلة التي تصل لأكبر عدد من عامة المسلمين أو يصلون إليها تنصحهم وترشدهم هي من حكم النصيحة، وقد مارس الصحابة في ظل الخلافة الراشدة الجهر والعلانية بأقوالهم وآرائهم بالوسائل التي كانت متاحة لهم، فقد روى البيهقي في سننه «أن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) افتتح الشام فقام إليه بلال وقال لتقسمنها أو لنتضاربن عليها بالسيف فقال عمر (رضي الله عنه) لولا أني أترك الناس بياناً لاشيء لهم ما فتحت قرية إلا قسمتها سهماناً كما قسم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خيبر ولكن أتركها لمن بعدهم جرية يقسمونها» فبلال (رضي الله عنه) طالب بحقه وحق الفاتحين حسب ظنه بشكل علني ولم ينكر عليه أحد هذه العلانية.
ويقال مثل هذا في جهر ابن عباس (رضي الله عنهما) برأيه علانيةً في انتقاد فعل الخليفة علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) فعن عكرمة «أَنَّ عَلِيًّا (رضي الله عنه) حَرَّقَ قَوْمًا فَبَلَغَ ابْنَ عَبَّاسٍ، فَقَالَ: لَوْ كُنْتُ أَنَا لَمْ أُحَرِّقْهُمْ لِأَنَّ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وآله وسلم) قَالَ: لَا تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللَّهِ، وَلَقَتَلْتُهُمْ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم): مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» (رواه البخاري).
وبناءً على ما سبق يتبين أن الشرع أوجب الجهر والعلانية تارةً وندبها تارةً أخرى مما يدل أن الشرع أقر للرعية الحق في إنشاء وإصدار وسائل الجهر والعلانية، وأن يعرض الإنسان ويقول ما يشاء فيها، ولكن ضمن قاعدة (الأمن والخوف) المذكورة سابقاً.
وهذا يقودنا إلى الحديث عن مواصفات العمل الإعلامي من منظور إسلامي، والتحديات التي يمكن ان تواجهه والذي سيكون موضوع المبحث القادم.
المبحث الرابع: مواصفات العمل الإعلامي من منظور إسلامي والتحديات
ومن هذه المواصفات:
أولاً: الصدق في الطرح والالتزام بإسناد الخبر إلى قائله أو راويه.
فالصدق خلق من أخلاق الإسلام، وحكم من الأحكام الشرعية التي يجب الالتزام بها سواء في الإعلام أم غيره إلا ما استثناه الشرع، وقد مدح الله الصادقين فقال: (وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ(33)لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ) [الزمر] وقال: (لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ) [الأحزاب]. وقد ذم الله الكذب والكاذبين في كتابه فقال سبحانه وتعالى: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) [الأنعام] وقد حث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على الصدق وحذر من الكذب أيضاً، ومن أمثلة ذلك قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): «عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا، وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا» (رواه مسلم).
وقد علّم الرسول أمته وجوب الصدق في نقل الرسالة الإخبارية، وهذا واضح في استيثاق الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) من زيد بن أرقم حين أخبره بقول عبد الله بن أُبَيّ كبير المنافقين «والله لئن رجعنا الى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل» فقال الرسول للغلام: «يا غلام، لعلك غضبت عليه؟ لعله أخطأ سمعك؟ لعله شبه عليك؟» وزيد يؤكد الخبر» (رواه مسلم). لذلك يجب أن يكون الخبر في الإعلام قائماً على الحقيقة قولاً وعملاً، ومن أجل ذلك أيضاً يجب أن يسند كل خبر إلى مصدره سواء أكان شخصاً أم وكالة أنباء أم صحيفة أم محطة تلفزيون أم إذاعة أم أي وسيلة أخرى. ومن كل هذا يتبين لنا مدى اهتمام الإسلام بالصدق ومدى تأثيره.
ثانياً: الإبداع في ابتكار الأساليب والوسائل التي من شأنها أن توجد الاستمرارية في العمل الإعلامي وتحقيق الأهداف المرجوة منه.
ويكون ذلك بالإعداد الجيد لمن لهم علاقة بالإعلام من كتاب ومنتجين ومهندسين وإداريين ومخرجين وممثلين ومصورين، ويكون ذلك بزيادة كفاءاتهم بحيث يصبحون ليسوا فقط فنانين مجيدين بل أيضاً مسلمين أتقياء، وعقد دورات للقائمين بالعمل الإعلامي لتزويدهم بمبادئ وأساليب الإعلام الإسلامي. ومواكبة التطورات في المجال الإعلامي بل والتفوق فيه، ويكون أيضاً بتوفير الإمكانات المادية والتقنية الحديثة من معدات أو أجهزة أو أية وسائل لازمة لتطوير العمل الإعلامي، وحتى لو لزم الأمر ابتعاث عدد من أبناء المسلمين للدراسة والتخصص في الخارج بصفة مؤقتة، أو استقدام خبراء للمعاونة في تدريب العاملين في المجال الإعلامي، وذلك بالشروط التي يسمح بها الإسلام بهذا الخصوص.
ثالثاً: التعامل مع الإعلام بحسب سلم القيم في الإسلام، وذلك بجعل حب الله ورسوله والجهاد في سبيله على رأس السلم، وهذه تحتاج الى خبراء ومتخصصين يدرسون واقع الأمة وما تحتاجه من برامج إعلامية، سواء برامج سياسية أم اجتماعية متعلقة بعلاقة المرأة بالرجل، أم برامج اقتصادية لتوعية الأمة على الأحكام المتعلقة بهذا الأمر من بيع وشراء وغيره من متعلقات النظام الاقتصادي في الإسلام، أم برامج عسكرية مثل التمهيد لحرب أو القيام بحرب نفسية للرد على دعاية العدو أو رفع الروح المعنوية للأمة وبث روح الجهاد فيها. وغير ذلك من البرامج التي قد تحتاجها الأمة. كل ذلك مع مراعاة الغاية من خلق الإنسان وهي عبادة الله وتعبيد الناس لربهم قال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات].
رابعاً: استخدام الدعاية باعتبارها جزءاً من الإعلام. ونقصد بالدعاية تلك التي تقوم على مخاطبة المشاعر والخواطر للتأثير على أفكار الناس وسلوكهم، وقد استخدم الإسلام هذا الأسلوب في كثير من الأحيان والأحوال، ومن إشكال الدعاية التي استخدمها الإسلام: (الترغيب والترهيب).
ويكون الترغيب في نيل رضوان الله ورحمته وجزيل ثوابه في الآخرة، أي الجنة، ومثال ذلك قوله تعالى: (فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ(8)يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [التغابن] والترغيب في الجزاء في الدنيا بما يصيبهم من خير في حالة استجابتهم ومثال ذلك: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) [النور] أما السنة النبوية فقد كان (صلى الله عليه وآله وسلم) يعد كل من يؤمن به وينصره بالجنة، ومثل ذلك ما ورد في سيرة ابن هشام «وَكَانَتْ بَنُو مَخْزُومٍ يَخْرُجُونَ بِعَمّارِ بْنِ يَاسِرٍ وَبِأَبِيهِ، وَكَانُوا أَهْلَ بَيْتِ إسْلَامٍ إذَا حَمِيَتْ الظّهِيرَةُ يُعَذّبُونَهُمْ بِرَمْضَاءِ مَكّةَ، فَيَمُرّ بِهِمْ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) فَيَقُول، فِيمَا بَلَغَنِي: صَبْرًا آلَ يَاسِرٍ مَوْعِدُكُمْ الْجَنّة».
أما الترهيب فيكون بالتخويف من غضب الله وعذابه في الآخرة، أي النار، ومثل ذلك في كتاب الله قوله تعالى: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ) [محمد] وقوله تعالى: (إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [نوح] والترهيب من زوال النعم وصعوبة العيش في الدنيا مثل قوله تعالى: (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا ءَالَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) [الأعراف] وقوله: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) [طه].
وبمثل هذا الاستخدام يستطيع الإعلام جذب كافة قطاعات الأمة لتركيز القيم والمفاهيم وأنماط العيش الإسلامية لتحل محل القيم والمفاهيم وأنماط العيش غير الإسلامية.
ولكن الأمور لا تسير دائماً حسب ما يشتهي الإنسان، فتواجه الإنسان تحديات ومعوقات، وهذا يقودنا للحديث عن التحديات التي يمكن أن تواجه الإعلام الإسلامي والذي سيكون موضوع المبحث القادم.
المبحث الخامس: التحديات التي تواجه سياسة الإعلام في الإسلام
تحديات داخلية:
ومن أهم التحديات الداخلية التي يمكن أن تواجه الإعلام الإسلامي هي مواجهة نتائج سياسة الإعلام القائمة في العالم الإسلامي والتي لا يخفى على أحد أن معظمها سياسة انهزامية تربي الناس على الذل وعلى التبعية وعلى عبادة الرغيف بدل رب العالمين، وعلى تقديس النظام الرأسمالي، وعلى التملق للشخصيات، وعلى كم الأفواه والتخويف والترهيب من هالة المسؤولين.
ومن التحديات أيضاً ما رسخه هذا الإعلام من مفاهيم عن هذه الحدود المصطنعة بين البلاد الإسلامية من خلال تقديس القوميات والوطنيات التي فرقت الأمة فوق فرقتها. وما قام به هذا الإعلام من تحريف وتشويه لأحكام الإسلام، وخاصة تلك التي قد تؤثر على مصالح الأنظمة القائمة على رعاية هذا الإعلام، مثل الوحدة بين البلدان الإسلامية، وإزالة هذه الحدود، وفرضية الجهاد على الأمة الإسلامية لوجود بلدان واقعة تحت احتلال الكفار مثل فلسطين والعراق وأفغانستان والشيشان وكشمير وغيرها من بلاد الإسلام والمسلمين.
ويمكن مواجهة هذه التحديات من خلال عمل القائمين على رعاية شؤون الإعلام على وضع طاقم إعلامي يضع برامج إعلامية وفق سياسة الإعلام في الإسلام، والتي يمكن أن تشمل ترسيخ العقيدة الإسلامية وأحكام الإسلام في عقول وقلوب الناس مع بيان الأفكار الفاسدة ووجه الفساد فيها، وتقوية الرابطة بين الحاكم المسلم والرعية، والعمل على بث ما يقوي الرابطة الإسلامية بين كافة الأعراق الإسلامية وما يقوي جسم الدولة ويرفع مستواها في كافة الأمور والمجالات.
تحديات خارجية:
وأهم هذه التحديات هي مواجهة هذا التربص من قبل أعداء الله للإسلام والمسلمين، سواء أكان فكرياً أم اجتماعياً أم عسكرياً أم سياسياً أم اقتصادياً أم أي مجال آخر. وسواء أكان هذا التربص بالتشويه أم التحريف أم الكذب أم التهديد بالحرب أم غير ذلك. وخاصة إذا كان هذا التربص من خلال إعلام أعداء الإسلام وهذا التربص يصدّقه قول الحق سبحانه وتعالى: (إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ) [الممتحنة] وقوله تعالى: (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ) [البقرة] وقوله: (كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ) [التوبة].
ومن التحديات الخارجية أيضاً هي كيفية إيصال الدعوة الإسلامية إلى العالم قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) [سبأ].
ويمكن مواجهة هذه التحديات أيضاً من خلال القائمين على رعاية شؤون الإعلام بأن يضعوا الخطط والأساليب التي تمكن من مواجهة هذه التحديات، ويمكن أن يكون ذلك ابتداء بإيجاد تقنية تعمل على منع وصول هذا الإعلام المتربص إلى الأمة الإسلامية أو التشويش عليه حتى لا يصل “ فعن جابر بن عبد الله (رضي الله عنه) أن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) أتى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بكتاب أصابه من بعض أهل الكتب فقرأه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فغضب فقال أمتهوكون فيها يا ابن الخطاب، والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبوا به أو بباطل فتصدقوا به، والذي نفسي بيده لو أن موسى عليه السلام كان حياً ما وسعه إلا أن يتبعني" رواه أحمد. وهذا الحديث واضح فيه -من غضب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)- النهي عن سماع أو قراءة كل ما يمكن أو يؤدي إلى التشكك في أمور الدين.
ويمكن أن تكون مواجهة هذه التحديات أيضاً بمقارعة هذا الإعلام وتفنيد دعاويه وأكاذيبه وافتراءاته وتهجمه على الإسلام قال تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) [النحل] وتكون كذلك ببث الروح الجهادية في الأمة والإعداد النفسي إذا كان هناك احتمالية المواجهة العسكرية (يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ) [الأنفال] وغير ذلك من إعداد الخطط والوسائل والأساليب التي تمكن كذلك من إيصال الدعوة الإسلامية إلى أرجاء المعمورة.
الخاتمة
لقد تتبعنا في هذا البحث المتواضع بمباحثه االخمسة، شيئاً من سياسة الإعلام في الإسلام، ورأينا عظمة هذا الدين وشموله لمعالجات شؤون الإنسان والحياة جميعاً، بما فيها الناحية الإعلامية في حياة المسلمين حاكمين ومحكومين . ورأينا كذلك عظمة هذا الدين، والالتزام بأحكامه الشرعية، ووفاءه، وصدقه، وأمانته بما وضع لذلك كله من أحكام ترعى كل ذلك وتطبقه.
وفي هذا البحث -سياسة الإعلام في الإسلام- رأينا أن الإسلام لم يغفل صغيرة ولا كبيرة إلا تكلم عنها، ووضع لها الأحكام والقواعد العامة، والتي يمكن من خلالها استنباط كل الجزئيات والتفصيلات. والأجمل من ذلك كله، رأينا عظمة هذا الدين في الحفاظ على مصالح المسلمين -أموالهم، وأعراضهم، ودمائهم- من خلال مراعاة قاعدة (الأمن والخوف) في الحفاظ على المسلمين وبلادهم. وقد رأينا أن سياسة الإعلام في الإسلام كانت طريقة وأحكاماً شرعية تُمكّن الراعي (الخليفة) من تحقيق هذه الغاية.
لذلك نأمل أن يكون بحثنا هذا دافعاً للتمسك بأحكام هذا الدين والعضّ عليها بالنواجذ، وزيادة الثقة بها .والعمل على إيجاد من يقوم بتطبيق الإسلام بكامل أحكامه، ومنها السياسة الإعلامية.
وأخيراً: نسأل الله تعالى أن ينفعنا بهذا البحث وأن ينفع المسلمين به، وأن يجعله الله في ميزان حسناتنا. وأن يهيئ لهذه الأمة من يطبق هذا الدين كما أمر الله.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
المصدر: مجلة الوعي
تعديل التعليق