نظرات في حديث (القابضون على الجمر) مناسبة للتعميم
إبراهيم بن صالح العجلان
انتظروها الليلة
المشاهدات 4787 | التعليقات 7
إخوة الإيمان :
نصحَ أمَّتَه ، تركها على البيضاءِ ، بيَّنَ لها معالمَ نجاتِها وعزِّها ، وأوضحَ لها ملامحَ ذُلِّها وهوانِها ، وحدَّثها عن الفتنِ والتغيراتِ التي سيصيبُ آخرها .
نقفُ مع قبسٍ من كلامه صلى الله عليه وسلم ، موجزِ العبارة ، واضحِ الإشارة
مختَصرٍ في ألفاظه ومبانيه ، عظيمٍ في دلالاتِه ومعانية .
يحكي لنا واقعاً ملموساً ، ويصوِّر فينا حالاً محسوساً .
نقف مع نورٍ نَبَوي يُجلِّي لنا حالَ الناسِ زمنَ تَقاطرِ الفتنِ وظلامها .
فتعالوا إلى أنوارِ المشكاةِ المحمدية ، وهداياتِ التوصيفاتِ المصطفوية لنأخذ من حديثِه العبرَ والأحاديث .
روى الترمذي وغيره وصححه الألباني أن أنس بن مالك روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ المُتَمَسِّكُ فِيهِ بِسُنَّتِي عِنْدَ اخْتِلاَفِأُمَّتِي كَالقَابِضِ عَلَى الجَمْرِ)، وَفِي لَفْظٍ آخَرَ : (يِأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ الْقَابِضُ عَلَى دِينِهِ كَالْقَابِضِ عَلَى الْجَمْرِ) .
عباد الله : ولنا مع هذا الحديثِ وقفاتٌ وتأملات :
ــــ الوقفة الأولى : في هذا الخبرِ النبوي ، إخبارٌ عن أمرٍ غيبي ، وهو اختلافُ الأمةِ وافتراقُها ، إلى شيعٍ ومذاهبَ وأحزاب ، كلٌ حزبٍ يدَّعي أنَّ الحقَّ معه وأنَّه المتحدث الرسمي باسم الدين .
هذا الاختلافُ بين العباد هو سنةٌ ربانيةٌ قديمةٌ في أرضِ الله ، (إنَّ الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً ) ، وأمتنا .... قَدَرُها أنَّها سَتَتَّبع سَنَنَ من كان قبلها من الأممِ في أمور شتَّى ، ومنها الافتراق .
فالافتراقُ في هذه الأمةِ إذاً كبيرٌ وعميق ، أعظمُ من افتراقِ الأممِ الغابرة ، قال صلى الله عليه وسلم : ( افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة ، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة ، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة ) رواه الإمام أحمد وأهل السنن ، وهو حديث حسن .
ــــ الوقفة الثانية : إذا كان وقوعُ الافتراقِ في الأمةِ أمراً قدرياً ، فإنَّ من الواجبِ الشرعي البعدُ عن هذا الافتراق، فالحديثُ يشير إلى وقوع الافتراق لا تبريره .
ولذا أمرنا النبيُّ صلى الله عليه وسلم بالتمسك بالسنةِ للنجاة والخلاص من هذا الافتراق .
فوجودُ الافتراقِ لا يعني صحتَه ، بل الواجبُ هو استدفاعُ هذا التفرق ، وأصحُّ طريقٍ لاجتماع الأمة بعد تفرُّقها هو الاجتماعُ على الكتابِ والسنة ، فهما صمامُ أمانٍ من الضلالِ في الدنيا ، والشقاءِ في الآخرة ( فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى )
ــــ الوقفة الثالثة : وفي الحديث إشارة إلى أن الاختلاف والافتراق هو بوابة الفتن ، والفتن إذا عمَّت أعمت ، واستشرفت لها القلوب وأضلّت ، فلا يرى المخرج من ظلامها ودخانها إلا من نور قلبه بنور السنة ، وهذه إشارة واضحة إلى أن التمسك بالسنة هو سبيل العز والنهضة ، وهو أول خطوة للإصلاح والتغيير بعد مكدرات الفتن والتقلبات والتغيرات .
ـــ الوقفة الرابعة : في وصْفِ النبي صلى الله عليه وسلم المتمسكينَ بالسنة كالقابضين على الجمر إشارةٌ إلى قلَّتهم .
فهم يعيشون واقعاً تغيَّرت فيه المفاهيم ، وانقلبت معه التصورات فأصبح المعروف منكرا ، والمنكر معروفا ، وزُين الباطل وشرعن له ، وشوِّه الحق ونيل منه ، حتى أضحتْ القيم الإسلامية وإظهارها والتمسك بها أمراً غريباً وثقيلا على مجموع الأمة.
وأصبح التمسك بالسنة يحتاج إلى جهدٍ شديد ، وجهادٍ طويل مع النفس ، لا يطيقة إلا أهل العزائم والتجلد من الرجال ، وهم قليل بالنسبة لمجموع الأمة .
ولذا وصف النبي صلى الله عليه وسلم الغرباء في حديث آخر : بأنهم ( ناس صالحون قليل ، في ناس سوء كثير ، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم ) رواه أحمد وصححه الألباني .
ــــ الوقفة الخامسة : حال القابض على الجمر هو حال من يستمسك بالسنة جميعا ، فهو قابض على دينه كله ، كما قال سبحانه ( يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ) ، أي اعملوا وتمسكوا بجميع شرائع الإسلام
وليس المقصود التمسك ببعض السنن ، لأن التمسك ببعض السنن أو الأوامر الشرعية لا يعد غريبا في مجتمع ما،وإنما المراد بالتمسك بالسنة أي جميعها.
ــــ الوقفة السادسة : في الحديث إشارة إلى رقة الدين زمن التفرق والاختلاق ، ولذلك تهجر السنن وتُستغرب ، ويكثر الشر ، وتعدد طرقه ووسائله ، عندها يرخص أمر الدين ، فيبيع المرء دينه لعرض من الدنيا قليل .
هذا العَرَض ربما كان من أجل مال .
وربما كان طمحاً لمنصب .
وربما كان العرض لأجل شهرة واستفاضة ، فيأتي بالرأي المخالف للنصوص الصحيحة ، والإجماعات المنعقدة لأجل أن يُذكر في القنوات ، أو يسطر اسمه في الصحف والمجلات .
ــــ الوقفة السابعة : لا حلَّ زمن الفتن والافتراق والأهواء إلا بالصبر والتواصي عليه ، فالصبر هو عدة المؤمن إذا استحكمت الشبهات ، وانفجرت الشهوات من كل اتجاه .
(فيا عباد الله اثبتوا ) قالها النبي صلى الله عليه لمواجهة فتنة الدجال .
مشكلتنا أن كثيرا من أهل زماننا ملَّت الحق ولم تصبر عليه .
لن يصلح أمر ديننا إلا بالصبر ، نحتاج إلى الصبر في حياتنا كلها ، نحتاج إليه حال فتورنا عن الطاعة ، نحتاج إليه إذا ضعفت نفوسنا أمام المعصية .
نحتاج للصبر أمام كثر الفتن المضلة ، من كثرة المعارضين للحق .
نحتاج إلى الصبر إذا علت أصوات الغمز والاستهزاء بالدين .
نحتاج إلى الصبر إذا رأينا كيد الكفار وكذبهم وخذلانهم ونفاقهم معنا .
نحتاج إليه إذا أبصرنا تمالىء أمم الكفر علينا ، ( وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا ) ، وصدق نبينا صلى الله عليه وسلم : ( ما أعطي أحدٌ عطاء خيراً وأوسعَ من الصبر ) .
ـــــ الوقفة الثامنة : وفي الحديث الثناء على الثبات على الدين زمن التغيرات والتقلبات ، فلا شيء أغلى من الدِّين ، وإذا وجد الدين هان كل مفقود ، وإذا ذهبت جوهرة الدين فلا قيمة لكل موجود .
وإذا كان الحديث قد حث على الثبات على الدين ، فمن التواصي على الخير التواصي على معرفة الوسائل المعينة على الثبات على الدين ، ومنها :
أولاً:التمسك بالقرآن الكريم ، فهو العصمة والنجاة (كذلك لنثبت به فؤادك)
فالالتصاق بكلام الله تلاوة وتدبراً ، وحفظا وعملاً أعظم وأهم معين على الثبات ( فاستمسك بالذي أوحي إليك )
ثانياً : الإكثار من السنن المستحبات ، والأعمال الخفيات ، فبها يزداد الإيمان ، وبها تتوثق العلاقة مع الرحمن .
ثالثاً : التعلق بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم ، وسيرة صحابته الذين عضوا على سنته بالنواجذ ، فيرى في حياته وحياتهم الصدقَ والثبات ، والصبرَ على الغربة والابتلاءات ، وبِسِيَر هؤلاء تتحرك النفوس والهمم نحو المعالي ، وكلَّ عمل عال ، فتراجم الرجال مدارس الأجيال .
رابعاً : مجالسة من يعينك على أمر دينك ، ويهديك عيوبك ، ويسديك نصائحه ، فالصاحب ساحب ، والمرء على دين خليلة فلينظر أحدكم من يُخالل .
خامساً : معرفة الباطل وأهله وقولهم ولحنهم ، لماذا ؟ حتى لا ينجر المسلم إلى مسلكهم ، ومن مأثور قول الفاروق رضي الله عنه : إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية .
سادساً : وهو أهمها الالتجاء إلى الله بالدعاء أن يثبتنا على دينه ، فقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم كثيرا ما يدعوا ربه ( يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك ) ، وفي محكم التنزيل دعا الراسخون في العلم : ( ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب )
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ....
أما بعد فيا إخوة الإيمان : ومن الوقفات مع الحديث أن كل افتراق واختلاف سببه البعد عن السنة والنص الشرعي ، أو الوقوع في التفسير الخاطىء والتأويل البعيد .
وإذا كان التمسك بالنص زمن الاختلاف مطلوب ، فإن من الواجب التزام فهم النصوص على فهم السلف، الذين عاصروا نزول الوحي ، فهم أعلم الأمة بمقاصد النصوص ، وأعلم باللغة ممن جاء بعدهم .
فالبعد عن تفسيرهم للدين سبب رئيسي للانحراف ومن ثمَّ التفرق المذموم ،
وأول انحراف حصل في تاريخ الإسلام كان سببه الفهم السقيم للنص الشرعي
وكان أبطاله هم الخوارج الذين غلو في الدين ، فجاءوا إلى آيات نزلت في الكفار فأنزلوها على المسلمين ، فكفَّروا المسلمين واستباحوا الدماء واسترخصوا الأرواح ، واقلقوا المجتمع الإسلامي من داخله سنوات طويلة .
ولم يكد الزمان يغف إغفاءة إلا وافتراق آخر ينبت في جسد الأمة ، كان بمثابة ردة فعل لغلو الخوارج ، فحصلت فتنة الإرجاء ، القائلين بأن الذنوب لا تؤثر على الإيمان ، ولا يَكْفُر أحد من أهل الشهادتين ، واستمر هذا الفكر التمييعي حقبا طويلة في تاريخ الأمة .
ولا زال هذان الفكران المتضادان تسري أفكارهما إلى اليوم ، لا تزال أفكارهما الضالة وشبههما الجارفة تعصف بالعقول ، وتشوش الحقائق ، فينجرف للغلو من قلت بضاعته في العلم ، وينجرف للإرجاء من نقص زاده من التقى .
ناهيكم عن واقع الأمة المرير الذي تعاني فيه من الضعف والهوان والافتراق والخذلان .
هذا الواقع انعكست رؤيته على هذين الفكرين ، فالفكر الغالي استعجل الاصلاح والتغيير ، والعنف والتدمير ، فكانت نتيجته استرخاص الدماء ، والاستخفاف بأرواح المعصومين الأبرياء ، وهتك للحرمات ، واعتداء على الممتلكات ، ناسفين بذلك نصوصا قطعية مقدسة ( إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا ) . تضرب أمثال هذه النصوص الصريحة الواضحة ويتعلق بقول قائل ، قاله في زمن معين ، وواقعة محددة ، وظروف خاصة .
فأين تعظيمنا واستمساكنا للقرآن ونصوص السنة
إن التحذير من هذه الأفعال والمسالك الغالية مما يجب انكاره ، وأن نرفع الصوت به ولا نخافت ، نستنكر ذلك لا من تأثير إعلام ، ولا تسجيل براءة ، ولا والله رجاء تزلف أو نوال ، وإنما هو موقف يؤكده الدين الإسلامي ، ويمليه الضمير الإنساني .
فحرام وأيم الله حرام أن تحول بلاد المسلمين الآمنة ـــ وإن كان فيها من الانحراف ما فيها ــــ إلى مسرح للاقتتال والتحارب ، أو جرها للفتن والافتراق من خلال خطف السفراء والدبلوماسيين ، والمساومة بهم ، وفجع ذوويهم فيهم .
فهذا نوع من الفساد والإفساد ( والله لا يحب المفسدين) (والله لا يصلح عمل المفسدين )
وفي مقابل فكر الغلو جاء الفكر الإرجائي التمييعي فانهزم أمام الواقع ، وتنازل عن قيمه ودينه ، وسعى إلى تقديم مفاهيم جديدة للدين ليواكب روح العصر زعموا ، فظهر للسطح مفاهيم تبديلية منحرفة ، من أمثال :
_ الفهم الجديد للنص .
_ تفسيرات عصرية للإسلام .
_ القبول بسيادة القيم الديمقراطية مكان الشريعة الإسلامية .
وكان نهاية وعاقبة هذا الفكر التمييعي دعوة للعلمانية ، وإن تقمصت بعباءة شرعية ، وتكحلت بشيء من النصوص ، فالعبرة بالحقائق والمضامين .
وهكذا ضاع نور الحق والهدى بين عواطف أهل الغلو ، وعواصف أهل الجفاء ، وبقيت أولو بقية في الأمة ينهون عن إفساد هؤلاء ، وفساد أولئك .
فاللهم اجعلنا منهم ، واهدنا للحق وارزقنا اتباعة ، واحفظنا من مسالك الغواية والضلالة .
بوركت على هذه الخطبة النافعة الحامعة
لكن ترى ملف الوورد باقي في جهازك !!
وهذا ملف وورد مرفق
انتظرناها فإذا هي درر وياقوت
كفت ووفت وللخير جمعت
أجزل الله لك الأجر والثواب وحشرنا واياك من حبينا محمد صلى الله عليه وسلم وزمرة الأصحاب
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:
فجزاكم الله خيرا وأحسن إليكم.
هذا تنسيق للخطبة مع تصرف، أسأل الله أن ينفعني وإخواني المسلمين به، والسلام عليكم.
المرفقات
https://khutabaa.com/wp-content/uploads/attachment/7/1/4/نظرات%20في%20حديث(القابضون%20على%20الجمر)-إبراهيم%20العجلان-28-5-1433هـ-الملتقى-بتصرف.doc
https://khutabaa.com/wp-content/uploads/attachment/7/1/4/نظرات%20في%20حديث(القابضون%20على%20الجمر)-إبراهيم%20العجلان-28-5-1433هـ-الملتقى-بتصرف.doc
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاكم الله كل خير
د. منصور الصقعوب
سددك الله يا شيخ إبراهيم, وبوركت كلماتك وزادك ربي توفيقاً
تعديل التعليق