نظافة وطهارة القلوب سبيل إلى كل مطلوب
الشيخ السيد مراد سلامة
الحمد لله الذي زين قلوب أوليائه بأنوار الوفاق، وسقى أسرار أحبائه شرابًا لذيذ المذاق، وألزم قلوب الخائفين الوجَل والإشفاق، فلا يعلم الإنسان في أي الدواوين كتب ولا في أيِّ الفريقين يساق، فإن سامح فبفضله، وإن عاقب فبعدلِه، ولا اعتراض على الملك الخلاق.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، إلهٌ عزَّ مَن اعتز به فلا يضام، وذلَّ مَن تكبر عن أمره ولقي الآثام.
وأشهد أن سيدنا وحبيبنا وشفيعنا محمدًا عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وحبيبه، خاتم أنبيائه، وسيد أصفيائه، المخصوص بالمقام المحمود، في اليوم المشهود، الذي جُمع فيه الأنبياء تحت لوائه.
وعلى آله وأصحابه، ومن سار على نهجه، وتمسَّك بسنته، واقتدى بهديه، واتَّبعهم بإحسان إلى يوم الدين، ونحن معهم يا أرحم الراحمين.
ثم أما بعد:
إخوة الإيمان أتباع النبي – العدنان-صلى الله عليه وسلم: حديثنا في هذا اليوم الطيب الميمون الأغر مع موضوع غاية في الأهمية الأمة بحاجة إليه لتخرج الأمة من صحراء الخلاف ومن هوة الهوان والفرقة والاختلاف مع نظافة وطهارة القلوب سبيل إلى كل مطلوب-
عجبت كل العجب ممن يهتم بثيابه ويهتم بحذائه يغسل وجهه في كل صلاة ثلاث مرات ينظف أسنانه عند كل صلاة وهذا أمر محمود ومأمور به ولكن العجب ممن أهملوا قلوبهم فتراهم يطهرون الأبدان وقلوبهم مظلمة أرجاؤها مسودة جوانبها بالحقد والحسد والشحناء تراهم متراصين في صفوف الصلوات وقد تباعدت قلوبهم وتنافرت أبعد مما بين السماوات وأبعد مما بين المشرق والمغرب
إن القلوب إذا تنافر ودها *** مثل الزجاجة كسرها لا يُجْبَر
وقال أخر
مَا الخيرُ صَومٌ يَذُوبُ الصَّائمونَ له** ولا صَلاةٌ ولا صوفٌ عَلى الجَسَدِ
وإنَّما هوَ ترْكُ الشَّرِّ مُطَّرَحاً** ونَفضُكَ الصَّدرَ مِن غِلٍّ ومِن حَسَدِ
فأعيروني القلوب والأسماع
أولا: لماذا طهارة ونقاء القلوب؟
إخوة الإسلام: وقد يقول قائل لماذا طهارة ونقاء القلوب وما هي الحكمة من تلك الطهارة؟
الجواب بحول الملك الوهاب أيها الأحباب في عدة نقاط وهي:
- القلب ملك الجوارح ومحركها:
اعلم بارك الله فيك: أن جسد الإنسان يشبه مملكة كبيرة فيها جنود وخدم ولتلك الجنود ملك يحركها ويرشدها
فلملك هو القلب الذي تربع على كرسي المملكة والأعضاء والجوارح جنود وخدم لذلك الملك فإن استقاد الملك استقامة الرعية وصلحت المملكة وإن فسد الملك فسدت الرعية وساد الاضطراب والاختلاف بين جنود المملكة
قال ابن القيم: "ولما كان القلب لهذه الأعضاء كالملك المتصرف في الجنود، الذي تصدر كلها عن أمره، ويستعملها فيما شاء، فكلها تحت عبوديته وقهره، وتكتسب منه الاستقامة والزيغ، وتتبعه فيما يعقده من العزم أو يحله، قال النبي-صلى الله عليه وسلم-: ((إِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً: إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، أَلاَ وَهِيَ القَلْبُ)) ([1]).
فهو ملكها، وهي المنفذة لما يأمرها به، القابلة لما كان يأتيها من هديته، ولا يستقيم لها شيء من أعمالها حتى تصدر عن قصده ونيته. وهو المسؤول عنها كلها "لأن كل راع مسؤول عن رعيته" كان الاهتمام بتصحيحه وتسديده أولى ما اعتمد عليه السالكون. والنظر في أمراضه وعلاجها أهم ما تنسك به الناسكون ([2]) .
وقال شيخ الإسلام: الْقَلْبُ هُوَ الْأَصْلُ فَإِذَا كَانَ فِيهِ مَعْرِفَةٌ وَإِرَادَةٌ سَرَى ذَلِكَ إلَى الْبَدَنِ بِالضَّرُورَةِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَخَلَّفَ الْبَدَنُ عَمَّا يُرِيدُهُ الْقَلْبُ([3]) .
2-محِل التقوى:
اعلم علمني الله وإياك: أن القلب هو موطن التقوى فهو الأرض التي ينبت فيها نبات التقى و يقوم على أصوله لذا كانت منزلته عظيم و الله تعالى اذا أراد اختبار عبده ليخصه بنعامه و إكرامه امتحن الله تعالى قلبه ليصل إلى درجة التقوى كما قال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى} [الحجرات: 3]، أي اختبرها وأخلصها كما يمتحن الذهب بالنار ليخرج خالصه لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ
و عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيه وَسَلَّم: الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لاَ يَخُونُهُ وَلاَ يَكْذِبُهُ وَلاَ يَخْذُلُهُ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ، عِرْضُهُ وَمَالُهُ وَدَمُهُ، التَّقْوَى هَا هُنَا، بِحَسْبِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ. ([4]) .
يشير إلى صدره مبينا محل التقوى وأن الأمور التي سبقت هذه منبعها التقوى فإذا وجدت التقوى فإنها يسهل على الإنسان ألا يحسد وأن لا ينجش وألا يبغض .
فالنبي صلى الله عليه وسلم أشار في هذه الكلمة إلى منبع هذه المذكورات وأن منبعها التقوى، والتقوى تكون في القلب ليست في اللسان ولا في الجوارح.
فإذا وجدت التقوى القلبية استقامة الأمور السابقة (الظاهرية). ([5])
3-محِل نظر الإله:
واعلموا أيها الأحباب أن رب الأرباب جل جلاله لا ينظر إلى الأبدان و لا إلى الأموال و إنما محل نظر الكبير المتعال إلى القلوب و الأعمال
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَفَعَهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ، وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ إِنَّمَا يَنْظُرُ إِلَى أَعْمَالِكُمْ، وَقُلُوبِكُمْ» ([6]).
وحينئذ، فقد يكونُ كثيرٌ ممَّن له صورةٌ حسنةٌ، أو مالٌ، أو جاهٌ، أو رياسةٌ في الدنيا، قلبه خراباً من التقوى، ويكون من ليس له شيء من ذلك قلبُه مملوءاً مِنَ التَّقوى، فيكون أكرمَ عند الله تعالى، بل ذلك هو الأكثر وقوعاً
قال المناوي: "فكم من ظريف اللسان جميل المنظر عظيم الشأن هالك غدا في القيامة لسوء عمله وكآبة منقلبه وقبح سيرته وسوء سريرته، فالقلب هو محل نظر الحق فلا عبرة بحسن الظاهر وزخرف اللسان مع خبث الجنان"([7]) .
4-تتفاوت الدرجات بتفاوت ما في القلوب:
قال ابن القيم: "إِنَّ الْأَعْمَالَ لَا تَتَفَاضَلُ بِصُوَرِهَا وَعَدَدِهَا، وَإِنَّمَا تَتَفَاضَلُ بِتَفَاضُلِ مَا فِي الْقُلُوبِ، فَتَكُونُ صُورَةُ الْعَمَلَيْنِ وَاحِدَةً، وَبَيْنَهُمَا فِي التَّفَاضُلِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَالرَّجُلَانِ يَكُونُ مَقَامُهُمَا فِي الصَّفِّ وَاحِدًا، وَبَيْنَ صَلَاتَيْهِمَا كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ"([8]) .
ومع عِظم منزلة القلب إلا أنه سريع التقلب من حال إلى حال، عَنِ الْمِقْدَادِ بْنِ الْأَسْوَدِ-رضي الله عنه-، قَالَ: مَا آمَنُ عَلَى أَحَدٍ بَعْدَ الَّذِي سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: ((لَقَلْبُ ابْنِ آدَمَ أَسْرَعُ تَقَلُّبًا مِنَ الْقِدْرِ إِذَا اسْتَجْمَعَتْ غَلَيَانًا)) ([9])
ولله در القائل:
مَا سُمِّيَ الْقَلْبُ إِلَّا مِنْ تَقَلُّبِهِ ** فَاحْذَرْ عَلَى القلب من قلبٍ وتحويل
وقال بعض السلف: مثل القلب في سرعة تقلبه كريشة ملقاة بأرض فلاة تقلبها الرياح ظهراً لبطن. ويكفي في هذا قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال: 24]، فأي قرار لمن هذه حاله؟ ومن أحق بالخوف منه؟ بل خوفه لازم له في كل حال وإن توارى عنه بغلبة حالة أُخرى عليه. وهذا الخوف ثمرة العلم بقدرة الله وعزته وجلاله، وأنه الفعال لما يريد وأنه المحرك للقلب المصرف له المقلب له كيف يشاءُ لا إِلَهَ إلا هو ([10]) .
ثانيا مجالات طهارة ونقاء القلب
فإن قلت أخي المستمع الكريم ما هي مجالات ومواطن نقاء القلب
يأتيك الجواب بحول الكريم الوهاب من عدة أمور:
أولا: من شرك يناقض التوحيد.
فإذا أردت قلبا طاهرا نقيا فلابد أن تطهر و أرجاس و أنجاس الشرك لأنه يخال الإقرار بوحدانية الله تعالى و لقد وصف الله تعالى المشركين بالنجاسة فقال سبحانه {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ } [التوبة: 28]
أي: ليس المشركون كما تعلمون من حالهم إلا أنجاسا فاسدي الاعتقاد، يشركون بالله ما لا ينفع ولا يضر، فيعبدون الرجس من الأوثان والأصنام، ويدينون بالخرافات والأوهام، ولا يتنزهون عن النجاسات ولا الآثام ، ويأكلون الميتة والدم من الأقذار الحسية ، ويستحلون القمار والزنا من الأرجاس المعنوية ، ويستبيحون الأشهر الحرم . وقد تمكنت صفات النجس منهم حسا ومعنى حتى كأنهم عينه وحقيقته،
والنجاسة هنا ليس حسية وإنما هي معنوية حيث تنجست القلوب بأقذار الشرك بالله تعالى كما قال جمهور العلماء
قال: {أُولِئك الّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ في الدُّنيا خِزْيٌ وَلَهُمْ في الآخِرَةِ عَذابٌ عَظيْمٌ} [المائدة من الآية:41]، والآية دليل دامغ على أن من لم يطهِّر قلبه فلا بد أن يناله الخزي في الدنيا والعذاب في الآخرة، ولهذا حرَّم الله سبحانه الجنة على من كان في قلبه مثقال ذرة من خبث، عَنْ عَبْدِ اللهِ؛ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ كِبْرٍ» ([11])
فأما نجاسة الشرك فهي نوعان: نجاسة مغلظة، ونجاسة مخففة، فالمغلظة: الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله عز وجل، فإن الله لا يغفر أن يشرك به. والمخففة: الشرك الأصغر، كيسير الرياء، والتصنع للمخلوق، والحلف به وخوفه ورجائه. ونجاسة الشرك عينية.
ثانيا: طهارة من بدعة تخالف السنة.
وقد تتلوث القلوب بالبدع والخرافات ويتشربها القلب كما يتشرب الإسفنج الماء فلا تراه إلا معاديا للسنة داعيا إلى البدعة مبغضا لأهل السنة محبا لأهل البدعة وتلك هي طامة الطامات
فالبدعة أصل كل ضلال وسبب كل بلاء وشقاء كما قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-
عَنِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ الْفَزَارِيِّ، وَكَانَ مِنَ الْبَاكِينَ قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الْغَدَاةِ فَأَقْبَلَ عَلَيْنَا فَوَعَظَنَا مَوْعِظَةً بَلِيغَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا الْأَعْيُنُ وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ، فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَأَنَّ هَذَا مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ، فَقَالَ: «أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالسَّمْعَ وَالطَّاعَةَ وَإِنْ عَبْدًا حَبَشِيًّا مُجَدَّعًا، فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدِي عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ» ([12])
يقول الله تعالى (إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89))
قال أبو عثمان النيسابوري: هو القلب الخالي من البدعة، المطمئن إلى السنة.
ثالثا طهارة القلب من الذنوب والمعاصي
وأشر الذنوب التي تفتك بالقلوب الحقد والحسد والبغضاء فان ما تعانيه الأمة من فرقة ومن تمزق ومن ضعف وهوان إنما سببه تلك الموبقات
فمن الناس من يحمل نفساً مظلمة، وقلبا أسود، لا يعرف للعفو طريقا، ولا للصفح سبيلا، فبمجرد أدنى إساءة تقع في حقه من أحد إخوانه تجده يحقد عليه ولا يكاد ينسى إساءته مهما تقادم العهد عليها، فتجده يتربص بصاحبه الدوائر، وينتظر منه غرة، لينفذ إليه منها، ويصيبه من خلالها، فيشفي غيظه ويروي غليله .
لذا حذرنا الله تعالى منها وكذا رسوله الكريم – صلى الله عليه وسلم-كان يحذر من شرها ومن خطرها واليكم طرفا من ذلك:
- قال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ [البقرة: 204 -205].
عَنْ جَابِرٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «تُعْرَضُ الْأَعْمَالُ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ، فَمِنْ مُسْتَغْفِرٍ فَيُغْفَرُ لَهُ، وَمِنْ تَائِبٍ فَيُتَابُ عَلَيْهِ، وَيُرَدُّ أَهْلُ الضَّغَائِنِ لِضَغَائِنِهِمْ حَتَّى يَتُوبُوا»
قال المنذري: الضغائن: هي الأحقاد ([13]).
عنِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ أَنَّهُ حَدَّثَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلى الله عَلَيه وسَلم، قَالَ: دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الأُمَمِ قَبْلَكُمْ: الْحَسَدُ، وَالْبَغْضَاءُ، وَالْبَغْضَاءُ هِيَ الْحَالِقَةُ، أَمَا إِنِّي (1) لاَ أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعْرَ، وَلَكِنْ (2) تَحْلِقُ الدِّينَ، ثُمَّ قَالَ: وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لاَ تَدْخُلُونَ (3) الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلاَ تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، ثُمَّ قَالَ: أَلاَ أُنَبِّئُكُمْ بِأَمْرٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؟ قَالُوا: مَا هُوَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: أَفْشُوا السَّلاَمَ بَيْنَكُمْ.
نماذج من طهارة ونقاء القلوب
أولا: النبي صلى الله عليه وسلم القدوة في الأخلاق الحسنة ومنها سلامة الصدر من الحقد والضغائن، وقد ذكر ابن القيم سلامة الصَّدر، من منازل إياك نعبد وإياك نستعين فقال: (ومن أراد فهم هذه الدرجة كما ينبغي فلينظرْ إلى سيرة النبي صلى الله عليه وسلم مع الناس يجدها بعينها) ([14]).
وقد قال صلى الله عليه وسلم ((لا يبلغني أحد من أصحابي عن أحد شيئا، فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر)) ([15]).
أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب – رضي الله عنهما
وهكذا كان أصحاب رسول لله قلوبهم سليمة من الأحقاد والضغائن ومن تلك النماذج ما رواه أبو الدرداء رضي الله عنه، قال: ((كنت جالسا عند النبي صلى الله عليه وسلم، إذ أقبل أبو بكر آخذا بطرف ثوبه حتى أبدى عن ركبته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما صاحبكم فقد غامر فسلم وقال: إني كان بيني وبين ابن الخطاب شيء، فأسرعت إليه ثم ندمت، فسألته أن يغفر لي فأبى علي، فأقبلت إليك، فقال: يغفر الله لك يا أبا بكر ثلاثا، ثم إن عمر ندم، فأتى منزل أبي بكر، فسأل: أثم أبو بكر؟ فقالوا: لا فأتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسلم، فجعل وجه النبي صلى الله عليه وسلم يتمعر، حتى أشفق أبو بكر، فجثا على ركبتيه، فقال: يا رسول الله، والله أنا كنت أظلم، مرتين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله بعثني إليكم فقلتم كذبت، وقال أبو بكر صدق، وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركوا لي صاحبي مرتين، فما أوذي بعدها)) ([16]).
ثلة من الصحابة الكرام
عن عائذ بن عمرو، ((أن أبا سفيان، أتى على سلمان، وصهيب، وبلال في نفر، فقالوا: والله ما أخذت سيوف الله من عنق عدو الله مأخذها، قال فقال أبو بكر: أتقولون هذا لشيخ قريش وسيدهم؟، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال: يا أبا بكر لعلك أغضبتهم، لئن كنت أغضبتهم، لقد أغضبت ربك فأتاهم أبو بكر فقال: يا إخوتاه أغضبتكم؟ قالوا: لا يغفر الله لك يا أخي)) ([17]).
عن أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: " يَطْلُعُ عَلَيْكُمُ الْآنَ مِنْ هَذَا الْفَجِّ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ "، [ص:8] قَالَ: فَطَلَعَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ تَنْطُفُ لِحْيَتُهُ مِنْ وَضُوئِهِ وَقَدْ عَلَّقَ نَعْلَيْهِ فِي يَدِهِ الشِّمَالِ فَسَلَّمَ، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ ذَلِكَ، فَطَلَعَ الرَّجُلُ عَلَى مِثْلِ صَرَّتِهِ الْأُولَى، فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ مَقَالَتِهِ أَيْضًا، فَطَلَعَ الرَّجُلُ عَلَى مِثْلِ حَالَتِهِ الْأُولَى، فَلَمَّا قَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَبِعَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، فَقَالَ: إِنِّي لَاحَيْتُ أَبِي فَأَقْسَمْتُ أَنْ لَا أَدْخُلَ عَلَيْهِ ثَلَاثًا، فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تُؤْوِيَنِي إِلَيْكَ حَتَّى تَمْضِيَ الثَّلَاثُ فَعَلْتَ؟ قَالَ: " نَعَمْ "، قَالَ أَنَسٌ: وَكَانَ عَبْدُ اللهِ يَعْنِي ابْنَ عَمْرٍو يُحَدِّثُ أَنَّهُ: بَاتَ مَعَهُ ثَلَاثَ لَيَالٍ، قَالَ: فَلَمْ يَرَهُ يَقُومُ مِنَ اللَّيْلِ شَيْئًا غَيْرَ أَنَّهُ إِذَا تَعَارَضَ مِنَ اللَّيْلِ، وَتَقَلَّبَ عَلَى فِرَاشِهِ ذَكَرَ اللهَ، وَكَبَّرَهُ حَتَّى يَقُومَ لِصَلَاةِ الْفَجْرِ غَيْرَ أَنَّهُ إِذَا تَعَارَّ مِنَ اللَّيْلِ لَا يَقُولُ إِلَّا خَيْرًا. قَالَ: فَلَمَّا مَضَتِ الثَّلَاثُ لَيَالٍ وَكِدْتُ أَحْتَقِرُ عَمَلُهُ، قُلْتُ: يَا عَبْدَ اللهِ، لَمْ يَكُنْ بَيْنِي وَبَيْنَ وَالِدِي غَضَبٌ وَلَا هِجْرَةٌ، وَلَكِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " يَطْلُعُ الْآنَ عَلَيْكُمْ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ "، فَطَلَعْتَ أَنْتَ الثَّلَاثَ مَرَّاتٍ فَأَرَدْتُ أَنْ آوِيَ إِلَيْكَ، فَأُنْظِرَ مَا عَمَلُكَ فَلَمْ أَرَكَ تَعْمَلُ كَثِيرَ عَمَلٍ، فَلَمَّا وَلَّيْتُ دَعَانِي، فَقَالَ: مَا هُوَ إِلَّا مَا رَأَيْتَ غَيْرَ أَنِّي لَا أَجِدُ فِي نَفْسِي عَلَى أَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ غِشًّا، وَلَا أَحْسُدُهُ عَلَى خَيْرٍ أَعْطَاهُ اللهُ إِيَّاهُ، فَقَالَ عَبْدُ اللهِ: فَهَذِهِ الَّتِي بَلَغَتْ بِكَ وَهِيَ الَّتِي لَا تُطَاقُ) ([18]).
وقد تأسى العلماء الربانيون بالنبي صلى الله عليه وسلم فتخلقوا بأخلاقه فأصبحت قلوبهم سليمة لا تحمل حقداً على أحد حتى على من آذاهم ومن هؤلاء شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول ابن القيم: (وما رأيت أحدا قط أجمع لهذه الخصال من شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه وكان بعض أصحابه الأكابر يقول: وددت أني لأصحابي مثله لأعدائه وخصومه وما رأيته يدعو على أحد منهم قط وكان يدعو لهم وجئت يوما مبشرا له بموت أكبر أعدائه وأشدهم عداوة وأذى له فنهرني وتنكر لي واسترجع ثم قام من فوره إلى بيت أهله فعزاهم وقال: إني لكم مكانه ولا يكون لكم أمر تحتاجون فيه إلى مساعدة إلا وساعدتكم فيه ونحو هذا من الكلام فسروا به ودعوا له وعظموا هذه الحال منه) . ([19]).
أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم الكريم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب؛ فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما.
أما بعد:
كيف أطهر قلبي من كل هذا؟
1-جدد الإيمان في قلبك يشرق ويضيء
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلى الله عَلَيه وسَلم: جَدِّدُوا إِيمَانَكُمْ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَكَيْفَ نُجَدِّدُ إِيمَانَنَا؟ قَالَ: أَكْثِرُوا مِنْ قَوْلِ: لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ.([20])
2-اتبع السيئة الحسنة تمحها
قم أخي الحبيب بعملية تنظيف لقلبك أولا بأول ولا يكون ذلك إلا بالإكثار من الحسنات و التوبة
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ العَبْدَ إِذَا أَخْطَأَ خَطِيئَةً نُكِتَتْ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، فَإِذَا هُوَ نَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ وَتَابَ سُقِلَ قَلْبُهُ، وَإِنْ عَادَ زِيدَ فِيهَا حَتَّى تَعْلُوَ قَلْبَهُ، وَهُوَ الرَّانُ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ» {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14].([21])
3-الدعاء: أكثروا من الدعاء وسؤال الله تعالى أن يطهر قلوبكم قال الله تعالى {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران: 8]
و كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم ما جاء في حديث مَوْلَى أَبِي سَعِيدٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَدْعُو بِهَذِهِ الدَّعَوَاتِ: «اللَّهُمَّ طَهِّرْ قَلْبِي مِنَ النِّفَاقِ، وَفَرْجِي مِنَ الزِّنَا، وَلِسَانِي مِنَ الْكَذِبِ، وَعَيْنِي مِنَ الْخِيَانَةِ، فَإِنَّكَ تَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ»([22])
4-تدبر القرآن: احرص على قراءة القران بتدبر وتمعن {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24]
قال عثمان بن عفان رضي الله عنه: " لو طهرت قلوبكم ما شبعت من كلام ربكم "
[1] - أخرجه البخاري(52)، ومسلم(107)، من حديث النعمان بن بشير-رضي الله عنه-.
[2] - إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان (1/ 5).
[3] - مجموع الفتاوى (7/ 187).
[4] - مسلم (2564)
[5] - شرح الأربعين النووية و تتمة ابن رجب (ص: 136)
[6] - أخرجه مسلم(34)، من حديث أبي هريرة-رضي الله عنه-.
[7] - فيض القدير (5/ 50).
[8] - مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (1/ 340).
[9] - أخرجه ابن أبي عاصم في السنة(226)، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير (5147).
[10] - طريق الهجرتين وباب السعادتين، لابن القيم (ص: 283).
[11] -(صحيح الترمذي [1999]).
[12] - أخرجه أحمد (4/126 ، رقم 17184) ، وأبو داود (4/200 ، رقم 4607)
[13] - رواه الطبراني في ((الأوسط)) (7/ 251). قال المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (3/ 307): رواته ثقات. وقال الهيثمي في ((المجمع)) (8/ 66): رجاله الثقات.
[14] -((مدارج السالكين)) لابن القيم (2/ 345).
[15] - رواه أبو داود (4860)، والترمذي (3896)، وأحمد (1/ 395) (3759). قال الترمذي: غريب من هذا الوجه. وضعفه الألباني في ((ضعيف الجامع)) (6322).
[16] - رواه البخاري (3661)
[17] - رواه مسلم (2504).
[18] - رواه أحمد (3/ 166) (12720)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (9/ 318) (10633)، والبيهقي في ((الشعب)) (9/ 7) (6181).
[19] -((مدارج السالكين)) لابن القيم (2/ 345).
[20] -أخرجه أحمد (2/359 ، رقم 8695) ، قال الهيثمى (1/52) : إسناده جيد
[21] -أخرجه أحمد (2/297 ، رقم 7939) ، والترمذي (5/434 ، رقم 3334)
[22] -ذكره الحكيم (2/227) ، وأخرجه الخطيب (5/267) ، والديلمى (1/478 ، رقم 1953)
المرفقات
وطهارة-القلوب-سبيل-إلى-كل-مطلوب
وطهارة-القلوب-سبيل-إلى-كل-مطلوب