نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا حَدِيثًا 1442/12/27هـ
عبد الله بن علي الطريف
نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا حَدِيثًا 1442/12/27هـ
الحَمدُ للهِ الذي من علينا بالإسلام، وعلمنا الحكمة والقرآن، وجعل أمتنا خير الأمم، وأسبغ علينا النعم ما ظهر منها وما بطن، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِراً.. أَمَا بَعْدُ: اتقوا الله حق التقوى واعلموا أنَّ أصدقَ الحديث كتابُ الله، وأحسنَ الْهَدْي هَدْيُ محمد ﷺ وشر الأمور مُحْدثاتها، وكل مُحْدثةٍ بدعة، وكلُ بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها الإخوة: من متواتر الحديث ونقصد بالمتواتر الذي رواه جمعٌ عن جمعٍ يستحيلُ أن يجتمعوا على كذبٍ قط أو على نقله وروايته وهذا حديث رواه عشرون صحابياً من صحاب النبي ﷺ ورواه عنهم عشرات الرواة، وفي هذا الحديث حَثَّ النَّبيُّ ﷺ أصحابَه على تَبليغِ دَعْوةِ الحقِّ إلى النَّاسِ ونَقْلِ سُنَّتِه إلى مَن بَعْدَهم حتَّى يَنتشِرَ الدِّينُ.
وله ألفاظ عِدَّة منها قَوْلَهُ ﷺ: «نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا حَدِيثًا، فَحَفِظَهُ حَتَّى يُبَلِّغَهُ، فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَيْسَ بِفَقِيهٍ» رواه أبوداود عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وصححه الألباني
وفي لفظ: «نضَّرَ الله عبدًا سَمِع مقالتي فوعاها، فبَلَّغها مَن لَم يَسْمعها، فرُبَّ حامل فِقْه إلى مَن هو أفقه منه، ورُبَّ حامل فِقْه لا فِقْهَ له، ثلاثُ لا يغلُّ عليهنَّ قلبُ المؤمن: إخلاص العمَل لله، والنصيحة لولاة الأمر، ولزوم الجماعة؛ فإنَّ دعوتهم تكون من ورائهم».. ومنها: «نضَّر الله امرأً سَمِع مقالتي فوَعَاها وحَفِظها وبَلَّغها، فرُبَّ حامل فِقْه إلى مَن هو أفقه منه، ثلاث لا يغلُّ عليهنَّ قلبُ مسلم: إخلاصُ العمل لله، ومناصحة أئمة المسلمين، ولزوم جماعتهم؛ فإنَّ الدَّعْوة تُحيط من ورائهم».
وقد "قام رَسُولُ اللهِ ﷺ بالخَيْفِ مِن مِنًى"، بهذا الحديث خَطيبًا، وكان ذلك في حجَّةِ الوداعِ أكبر تجمع اجتمع له ﷺ، وهو مكان مسجد الخَيفِ الأن المعروف في منى بالقرب من الجمرات، فقال ﷺ: "نَضَّر اللهُ"، أي مِن النَّضارةِ، وهي الحُسْنُ والرَّوْنَقُ، والمعنى خصه الله تعالى بالبهجة والسرور لما رُزِقَ بعلمِه ومعرفتِه، من القدر والمنزلة بين الناس، وإنما خص حافظ سنته ﷺ ومبلغها بهذا الدعاء؛ لأنه سعى في نضارةَ العلم وتجديدِ السنة، فجازاه ﷺ في دعائه له بما يناسبُ حالَه في المعاملة.. وهو دُعاءٌ بأن يُحسِنَ اللهُ خَلْقَه ويَرْفَعَ قَدْرَه "امْرَأً"، أي: شخصًا أيًّا كان مِن الصَّحابةِ الكرامِ ومَن سَمِع مِنهم، وهو على الإطلاقِ حتَّى يومِنا هذا وما بعده، "سَمِع مَقالتي"، أي: كَلامًا قوليًّا عن النَّبيِّ ﷺ أو فِعلًا أو تَقريرًا، وقولُهُ: "ووعاها" أي حفظ الكلام بقلبه، ودام على حفظه ولم ينسه. قوله: "ورب حامل فقه" أي كثيرٌ ممن يحملون الفقه، يؤدونه إلى من يفقهه أكثر منهم... وقوله: "فبَلَّغَها"، أي: نقَلَها إلى غيرِه كما سَمِعَه، وفي رِوايةٍ: "فحَفِظَه"، أي: فاستَوْعَبه بعَقلِه وقَلبِه، وبَقِي حافِظًا له؛ "فرُبَّ حامِلِ فقهٍ غيرُ فقيهٍ، ورُبَّ حامِلِ فقهٍ إلى مَن هو أفقَهُ مِنه"، والمعنى: فكَثيرًا ما يكونُ الرَّاوي السَّامِعُ ليس عالِمًا ولا فَقيهًا، ولكنَّه يَحفَظُ السُّنَّةَ ويَنقُلُها إلى غيرِه بِمَن فيهم العُلَماءُ والفُقهاءُ الَّذين يَستنبِطونَ الأحكامَ.
أيها الإخوة: لقد دل هذا الحديث على فوائد عظيمة منها: بيان فضل طلب الحديث، وأدائه، فقد دعا النبيِّ ﷺ لِمَن اشتغل بسُنته وبلَّغها وعَمِل بها أنْ يجعلَه ذا نضرة وبهجة؛ بأن يكون وجْهه مُشْرقًا مُضيئًا في الدنيا والآخرة، فتكون عليه البهجة في الدنيا، ويكون ذا نضرة وبهجة في الآخرة، ويُعْطَى حُسنَ الجاه والقَدْرِ في الْخَلق.. قال الله تعالى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ* إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ [القيامة:22 - 23].
وفيه كذلك: فضل أصحاب رسول الله ﷺ فهم من سمع منه ﷺ، ووعوا قوله، وهم الذين أدوه إلى الأمة، وما جَحدوا شيئًا مما سمعوا، وما زادوا وما نقَصوا، فحازوا فضْل الأداء والوعي والعدالة رضي الله عنهم وأرضاهم.
ومما يدل عليه هذا الحديث: أنه ليس من شرط الراوي أن يكون فقيهًا، ولا أن يكونَ عاملاً بما روى.. وهنا وقفة مراجعة لواقعنا مهمة وسؤال.
ما مقدار ما نعطي سنة رسولنا ﷺ من وقتنا واطلاعنا.؟ المتأمل لحالنا يجد فينا تقصيراً كبيراً؛ فإن نظرت إلى حال أئمة المساجد لم تجد إلا القليل منهم من يقوم بذلك، مع أن إدارة المساجد جعلت من مهام الإمام القراءة على جماعة المسجد من رياض الصالحين وغيره من الكتب الموثوقة، ولم يفكر كثير منا يوماً بقراءة نصوص الأحاديث على جماعة مسجده، لا قبل الصلاة ولا بعدها؛ فحرم نفسه وجماعة مسجده من هذا الفضل الذي ذكره رسول الله ﷺ في هذا الحديث، وليس شرطاً أن يكون من يقرأ الحديث من أئمة المساجد عالماً أو محدثاً، ويكفي أن يحسن نطق الألفاظ؛ فقد حث النبي ﷺ الجميع على نشر السنة فقال: «رُبَّ مبلِّغٍ أوْعَى من سامع» وفي رواية: «فرُبَّ حاملِ فِقْهٍ إلى مَنْ هُو أَفقهُ منه»
كذلك حرم جماعة مسجده من هذا الفضل والخير..
وكذلك على مستوى مجالسنا الخاصة مع أسرنا ومع أصحابنا وخصوصاً الاجتماعات المحددة بليالي معينة كل أسبوع أو أكثر أو أقل.. لما لا يكون لسنة رسولنا ﷺ منها نصيب ولو دقائق نقرأ برياض الصالحين أو غيره لنحوز هذا الفضل، والعجيب أننا نستعد بكل شيء إلا هذا الخير إما أننا لم نفكر فيه أو لم نستعد له، وربما رفضه بعضنا بحجة الأنس وغاب عنه هذا الفضل..
وفي هذا الزمان هيئت التقنية الحديثة سبل سماع وقراءة الأحاديث فكم من التطبيقات في ذلك، بل إن الدولة وفقها الله جعلت قناة تلفزيونية خاصة للسنة فهل نستفيد منها.. أسأل الله تعالى أن يوفقنا لإعادة النظر بواقعنا وتخصيص شيء من وقتنا لسماع السنة والتعلم منها إنه سميع مجيب الدعوات.. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً..
الخطبة الثانية:
أما بعد أيها الإخوة: اتقوا الله حق التقوى، ونحن خلال أيام نودع عاماً هجرياً ونستقبل آخر حري بنا أن نعتبر بتعاقب الأعوام ابتداء وختاما..
ثم اعلموا أنه ليسَ لختامِ عامٍ وابتداءِ أخر سُنن مخصوصة، فتحديد بداية العام بالمحرم اتفق عليه الصحابة بعهد عُمرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، ويكثر الحديث في هذا الوقت عن أمور لابد من بينها منها:
ليعلم أنه ليس لختام العام أدعية أو عبادات مخصوصة، وما نُسبَ لابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: "مَنْ صَامَ آخِرَ يَوْمٍ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ وَأَوَّلَ يَوْمٍ مِنَ الْمُحَرَّمِ فَقَدْ خَتَمَ السَّنَةَ الْمَاضِيَةِ وَافْتَتَحَ السَّنَةَ الْمُسْتَقْبَلَةَ بِصَوْمٍ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ كَفَّارَةَ خَمْسِينَ سَنَةً".. فهذا حديث موضوع ذكره ابن الجوزي بكتابه الموضوعات وقال الْهَرَوِيّ: فيه كَذَّابان ووَضاعان، وقال الشوكاني فيه كذابان.
أما ربط ختم الأعمال وطي الصحائف بنهاية العام الهجري فهذا لا أصل له؛ فقد دلت السنةُ على أن أعمالَ العبادِ ترفعُ للعرضِ على الله عز وجل أولاً بأول، في كلِ يومٍ مرتين، مرة بالليل ومرة بالنهار: فعَنْ أَبِي مُوسَى الأشعري رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لا يَنَامُ، وَلا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ، يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ، يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ، وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ. رواه مسلم.. قال النووي رحمه الله: الْمَلائِكَة الْحَفَظَة يَصْعَدُونَ بِأَعْمَالِ اللَّيْل بَعْد اِنْقِضَائِهِ فِي أَوَّل النَّهَار، وَيَصْعَدُونَ بِأَعْمَالِ النَّهَار بَعْد اِنْقِضَائِهِ فِي أَوَّل اللَّيْل..
وبعض العوام يجعل نهاية العام موسماً للاستغفار وطلب المسامحة من الآخرين، أما الاستغفار فهو مشروع في كل وقت قَالَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: كَانَ يُعَدُّ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي الْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ مِائَةُ مَرَّةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَقُومَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَتُبْ عَلَيَّ إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الْغَفُورُ. رواه الترمذي وأبو داود وابن ماجة. قال الألباني صحيح. ولم يرد قصر الاستغفار على نهاية العام، ولم يرد الحث عليه.. أما المسامحة فإن كانت عن ظلم واقع فيجب أن يبادر بها...
أما التهنئة بالعام الجديد فالأصل فيها الإباحة، فليست مشروعة وليست بدعة، ولقد هنأ الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله أحد طلابه عندما بعث له رسالةً في أول العام فقال في ديباجة رسالته: ونهنئكم بالعام الجديد، جدد الله علينا وعليكم النعم ودفع عنا وعنكم النقم.. إلخ.. أقول: وفي الأمر سعة إن شاء الله.
أيها الأخوة: عملاً بالأسباب حثت وزارة التعليم المعلمين والمعلمات وأساتذة الجامعات والطلاب والطالبات على المبادرة بأخذ لقاح كورنا كما هو مقرر طبياً من وزارة الصحة، وحثت الجميع على المبادرة، حفاظا على سلامتهم وأقربائها واقرانهم، للوقاية من العدوى وانتشار فيروس كورونا إن شاء الله، وحتى تكون المنشآت التعليمية مكملة للبيئة الآمنة وتتحقق إن شاء الله الأهداف التعليمية والتدريبية.
ندعو الجميع لفعل الأسباب والاتكال على الله والمحافظة على أوراد الصباح والمساء ففي ذلك كله حفظ إن شاء الله.. وصلوا وسلموا على نبيكم..