نصف الدين. (عبادة التوكل).

عاصم بن محمد الغامدي
1437/11/23 - 2016/08/26 04:21AM
[align=justify]نِصْفُ الدِّينِ.
الخطبة الأولى:
الحمد لله، أعز من التجأ إليه وكفاه، ونصر من تعلق به وآواه، وقَبِلَ من أناب إليه وحَمَاه، ذو الملكوتِ فلا يحصل في ملكه إلا ما ارتضاه، العالم بمكنون الضمير وما حواه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة من توكل عليه ورجاه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، خير من أرسله واجتباه، وأفضل من خلقه وهداه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم عدد الرمل في الفلاة، أما عبد عباد الله:
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى، فالأيام قلائل، والأهواءُ قواتل، فليعتبرِ الأواخر بالأوائل، من كان الموتُ طالبَه فكيف يلَذُّ له قرار، ومن كان رحيله إلى الآخرة، فليست له الدنيا بدار، بنو آدم فرائسُ الأحداث، وغرائسُ الأجداث، لقد صدق الزمانُ في تصريفه وما كذب، وأرى الناسَ في تقلباتِه العجب.
فبادروا رحمكم الله أيامَكم قبل هجوم الفاقرة، واستعدوا للقدوم إلى الدار الآخرة، {فإنما هي زجرة واحدة* فإذا هم بالساهرة}.
أيها المسلمون:
قيل لأعرابي: لقد أصبح ثمن الخبز بدينار، فقال: والله لا أبالي، ولو أصبحت حبة الشعير بدينار، أنا أعبد الله كما أمرني، وهو يرزقني كما وعدني.
التوكل صدقٌ وإيمانٌ، وسكينةٌ واطمئنان، ثقةٌ باللهِ في الله، وأملٌ يصحب العَمَل، وعزيمةٌ لا ينطفئ وهجُها مهما ترادفت المتاعب.
إنه إيمان بالغيب، بعد استنفاد الوسائل المشروعة في عالم الشهادة، وتسليم لله بعد أداء كل ما يرتبطُ بالنفس من مطلوباتٍ وواجباتٍ.
والتوكل نصفُ الدين، والنصف الثاني الإنابة، فإن الدينَ استعانة وعبادة، فالتوكل هو الاستعانة بالله، والإنابة هي العبادة لله.
والمتوكلُ آيسٌ من الخلق، معتمدٌ بقلبه على الله عز وجل، في استجلاب المصالح ودفع المضار.
والْمُؤْمِنُونَ هم: {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال: 2].
ومن دعائهم: {رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا}.
ومن لم يتوكل على الله فليس من المؤمنين: {إِنْ كُنتُمْ ءامَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنْتُم مُّسْلِمِينَ}.
والشّيطان لا سلطانَ له على عبادِ الله المتوكّلين: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَلَى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [النحل:99].
ولأهميته قرن الله تعالى بينه وبين العبادة، فخاطب نبيه عليه الصلاة والسلام قائلاً له: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ}.
قال بعض السلف: "التوكل جِماع الإيمان"، وقال بعضهم: متى رضيت بالله وكيلاً، وجدت إلى كل خير سبيلاً.
توكلت في رزقي على الله خالقي وأيقنتُ أن اللهَ لا شكَّ رازقي
وما يكُ من رزقي فليس يفوتني ولو كان في قاع البحار العوامقِ
سيأتي به الله العظيم بفضله ولو لم يكن مني اللسان بناطقِ
ففي أي شيء تذهب النفس حسرةً وقد قسم الرحمن رزق الخلائقِ؟
أيها المسلمون:
التَّوَكُّلُ ثَلَاثُ دَرَجَاتٍ: أُولَاهَا تَرْكُ الشِّكَايَةِ، وَالثَّانِيَةُ الرِّضَا، وَالثَّالِثَةُ الْمَحَبَّةُ، فَتَرْكُ الشِّكَايَةِ دَرَجَةُ الصَّبْرِ، وَالرِّضَا سُكُونُ الْقَلْبِ بِمَا قَسَمَ اللَّهُ لَهُ، وَهِيَ أَرْفَعُ مِنَ الْأُولَى، وَالْمَحَبَّةُ أَنْ يَكُونَ محُبًّا لِمَا يَصْنَعُ اللَّهُ بِهِ.
فمرحى للمتوكلين على ربهم، الذين لا يكتوون، ولا يسْتَرْقون، ولا يتطيرون، فقد أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم أنهم يدخلون الجنة بغير حساب. [رواه مسلم].
والمتوكلون لا يرجون سوى الله، ولا يقصدون إلا إياه، ولا يلوذون إلا بجنابه، ولا يطلبون الحوائج إلا منه، ولا يرغبون إلا إليه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من تعلق شيئًا وكِلَ إليه". [رواه الترمذي، وصححه الألباني].
والمتوكلون لا يعرفون الشح ولا الجبن، {وَلَا يَجِدُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوْا}، قال صلى الله عليه وسلم: "شر ما في المرء، شح هالع، وجبن خالع". [رواه أحمد وأبو داود وصححه الألباني].
عباد الله:
ليس التعلق بالأسباب من ضعف التوكل، فقد أمر الله سبحانه أنبياءه بذلك، فقال لنبيه لوط -عليه السلام-: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ} [هود:81]، وأوحى إلى موسى: {أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ} [الشعراء:52]، ونادى أهلَ الإيمان: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} [النساء:71]، ولم يأمر نبيه عليه الصلاة والسلام بالتوكل إلا بعد التحرزِ واستفراغ الوسع: {وَشَاوِرْهُمْ ِفِي الاْمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [آل عمران:159].
وإمام المتوكلين عليه الصلاة والسلام، قد اختفى في الغار عن الكفار، وظاهر في بعض غزواته بين درعين، وقال في بعض معاركه: "من يحرسنا الليلة؟!"، وتعاطى الدواء، وأمر بإغلاق الباب وإطفاء النار عند المبيت، وقال لصاحب الناقة: "اعقلها وتوكل"، فليس التوكل بإهمال العواقب واطّراح التحفظ، بل هو اليقين بموعود الله، مع الأخذ بالأسباب.
اللهم اجعلنا من عبادك المتوكلين عليك، المربوطة قلوبهم بك، الواثقين بموعودك في الدنيا والآخرة، يا رحمن يا رحيم.

الخطبة الثانية:
الحمدلله وحده، نصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده، وصلى الله وسلم على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أيها المسلمون:
التوكل إيمانٌ وثقة، والتواكل عجز وتفريط، وتضييع للسنن، ومن تأمَّل في كتاب الله علم أن العاملين هم المتوكلون: (نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ * الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) [العنكبوت:58، 59].
فالمتوكل يسعى ويعمل، والمتواكل ينتظر السماء تمطر عليه ذهبًا وفضة، فما أحراه بدُرة عمر، تُذهب عنه كيد الشيطان.
كان بعض الحجاج يرتحلون ولا يستعدون بما يلزمهم من الزاد، ويقولون: نحن المتوكلون، فإذا وصلوا مكة سألوا الناس، فلقيهم عمر رضي الله عنه، فَقَالَ: مَنْ أَنْتُمْ؟ قَالُوا: نَحْنُ الْمُتَوَكِّلُونَ. قَالَ: "بلْ أَنْتُمُ الْمُتواكِلُونَ، إِنَّمَا الْمُتَوَكِّلُ الَّذِي يُلْقِي حَبَّهُ فِي الْأَرْضِ، وَيَتَوَكَّلُ عَلَى اللَّهِ عز وجل".
فالمتوكل معلّق القلب بالله، لا يرتجي من الخلق نفعًا ولا ضرًا، لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "من نزلت به فاقةٌ فأنزلها بالناس، لم تُسَدّ فاقته، ومن نزلت به فاقة، فأنزلها بالله، فيوشك الله له برزقٍ عاجل أو آجل". [رواه الترمذي وصححه الألباني].
والمتوكل يعلم أن الأسبابَ المجرّدة تخذُل المرءَ عن تحقيقِ مُناه، وقد يطرُق بابًا يظنُّ أنّ فيه نفعَه فإذا هو ضررٌ محض، ولا ينجي من ذلك إلاّ التوكّل على العزيز الرحيم؛ لذا عظّم الله من شأن التوكّل وجعله منزلةً من منازل الدين.
أيها المسلمون:
أهم بواعث التوكل ومصادره توحيد الله وإفراده بالعبادة؛ فالرب المعبود سبحانه: له الأسماء الحسنى والصفات العلى، ومن صدَق في التوكل على الله ابتعد عن معاصيه، فقد قال صلى الله عليه وسلم: "ولا يحملَنَّكم استبطاء الرزق أن تأخذوه بمعصية الله، فإن الله لا يُنال ما عندَه إلا بطاعته". [حسنه الألباني].
ولما ضعف التوكّل، وتعلقت قلوب الكثير بالأسباب الظّاهرة، كثرت مشاكلهم، وعظمت فاقاتهم، ولو حقّقوا التوكَّلَ على الله بقلوبهم، لساق إليهم أرزاقَهم مع أدنى سبب، كما يسوق للطير أرزاقها بالغدوِّ والرَّواح، لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لو أنَّكم تتوكّلون على الله حقّ توكّله لرزقكم كما يرزقُ الطيرَ تغدو خِماصًا وتروح بطانًا". [رواه الترمذي، وقال: حسن صحيح].
فحققوا رحمكم الله معنى التوكلِ في القلوب، واربطوا النفوس بعلام الغيوب، واعلموا أن الله قد هداكم سبلكم، فاشكروه بالتوكل عليه، واحذروا من نزغات الشيطان، إن الشيطان للمؤمنين عدو مبين.
ثم صلوا وسلموا على البشير النذير، والسراج المنير، تحقيقًا لأمر الله تعالى، وتأسيًا بملائكته الكرام عليهم السلام: {إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا}.
فاللهم صلِّ وسلِّم على عبدِك ورسولِك محمدٍ، وارضَ اللهم عن خلفائِه الأربعة، أصحاب السنة المُتَّبعة: أبي بكرٍ، وعُمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن الصحابة والآل أجمعين، وتابِعيهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بمنِّك وجُودِك وكَرَمِكَ يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمُشركين، ودمِّر أعداء الدين يا رب العالمين.
اللهم أدِم على بلاد الحرمين الشريفين أمنَها ورخاءَها، وعزَّها واستِقرارَها، ووفِّق قادتَها لما فيه عزُّ الإسلام وصلاحُ المُسلمين.
اللهم اشفِ مرضانا، وعافِ مُبتلانا، وارحم موتانا، وفُكَّ أسرانا، وانصُرنا على من عادانا يا رب العالمين.[/align]
المشاهدات 1265 | التعليقات 0