نصائح لاغتنام شهر المرابح للشيخ صلاح البدير
عبدالرحمن اللهيبي
1436/09/02 - 2015/06/19 02:07AM
نصائح لاغتنام شهر المرابح للشيخ صلاح البدير خطبةمزيدة مهذبة ومنقحة
الْحَمْدُ لِلَّـهِ الْكَرِيمِ الْجَوَادِ، الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ؛ يُفِيضُ عَلَى عِبَادِهِ مِنْ نِعَمِهِ وَآلَائِهِ، وَيَشْمَلُهُمْ بِعَفْوِهِ وَغُفْرَانِهِ، وَيَسَعُهُمْ بِبِرِّهِ وَرَحَمَاتِهِ، لَا تَنْفَدُ خَزَائِنُهُ، وَلَا يَنْقَطِعُ عَطَاؤُهُ. لَا تُعْجِزُهُ حَاجَةٌ، وَلَا تُثْقِلُهُ مَسْأَلَةٌ، نَحْمَدُهُ بِيَدِهِ الْخَيْرُ كُلُّهُ، وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ، وَنَشْكُرُهُ عَلَى شَرِيعَةٍ أَتَمَّهَا، وَعَافِيَةٍ أَسْبَغَهَا، وَنِعَمٍ تَابَعَهَا، وَنِقَمٍ دَفَعَهَا؛ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أما بعد: فيا أيها المسلمون، اتقوا الله فإن تقواه أفضل زاد، وأحسن عاقبةً في معاد، يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ
واعلموا أن الدنيا حلوةٌ خضرة، جميلة نضرة، نعيمٌ لكن لا يدوم، المستقِرُّ فيها يزول، والمقيم عنها منقول، وكلُّ عبد فيها مسؤول، أيامُها تسير في خبَب، وشهورها تتتابع في عجب، الدنيا كلُّها قليل، وما بقي منها وربي إلا أقلُ القليل، والناس يتقلبون فيها بين مؤمن وكافر، وتقي وفاجر، وناجٍ وخاسر، وسالم وعاثر، فطوبى لمن حفظ نفسَه وأولادَه، وأهله ونساءَه ، من موجبات السخط والذم، ووسائل الشر والهدم، وَمَن يَعْتَصِم بِٱللَّهِ فَقَدْ هُدِىَ إِلَىٰ صِرٰطٍ مّسْتَقِيمٍ
أيها المسلمون، أتاكم شهرُ المرابحِ برحماته وبركاته ، وخيراته ونفحاته، وعطائه وهباته, لا تُعدَّ نفحاتُه، ولا تحصى خيراته، ولا تستقصى مكرماته، غرَس في قلوب الصالحين الإيمان والتقى ، فلا ترى في المساجد إلا عابداً يركع، وقارئا يرتّل ويخشع، يرقُّ قلبه ويدمع، بآيات تجلو الصدى، وتزيل العشى، فاحمدوا الله يا مسلمون أن بلَّغكم، واشكروه على أن أخَّركم إلى رمضان ومكَّنكم، فكم من طامع بلوغَ هذا الشهر العظيم فما بلَغَه، وكم مؤمِّل إدراكَه فما أدركه، فاجأه الموت فأهلكه.
أيها المسلمون، بلغناه .. وكم حبيب لنا فقدناه، أدركناه.. وكم قريب لنا في القبر أضجعناه، يا صائمون، رحيلُ من رحل عنا نذيرٌ لنا ، وهذا الموت منا قد دنا، والرحيل قرُب ولا زاد عندنا، فالعمل العمل قبل أن لا توبةً تُنال، ولا عثرةً تُقال، ولا يُفدى أحد بمال، فأقبلوا على ربكم، وأروا الله في هذا الشهر خيراً من أنفسكم، فبالجد على الهدى فاز من فاز، وبالعزم على التقى جاز من جاز، تقول عائشةُ رضي الله عنها: كان رسول الله يجتهد في رمضان ما لا يجتهد في غيره. أخرجه مسلم
أيها المسلمون، هذا شهر القبول والسعود، هذا شهر العتق والجود، فيا خسارة أهلِ الغفلة والرقود ويا ندامةَ أهلِ الإعراض والصدود، فعن أنس رضي الله عنه عن النبي يرويه عن ربه عز وجل قال: ((إذا تقرب العبد إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً، وإذا تقرب مني ذراعاً تقربت منه باعاً، وإذا أتاني مشياً أتيته هرولة)) أخرجه البخاري.
يا عبد الله، هذا أوان الجد إن كنت مجداً، هذا زمان الاجتهاد في العبادة إن كنت عبدا، هذا نسيم القبول هبّ، هذا الشيطان صُفد فكَبّ، وباب الخير مفتوحٌ لمن أحب، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إذا كانت أول ليلة من رمضان صفّدت الشياطينُ ومردةُ الجن، وغلِّقت أبواب النار فلم يفتح منها باب، وفتحت أبواب الجنة فلم يُغلق منها باب، ونادى مناد: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاءُ من النار، وذلك في كل ليلة)).
أيّها الصائمون، أتاكم شهرُ الغفران المرتجَى والعطاءِ والرّضا والرأفةِ والزُّلفى، أتاكم شهرُ الصّفحِ الجميلِ والعفوِ الجليل، شهرُ النّفَحات وإقالةِ العثرات وتكفيرِ السيّئات، فليكُن شهرُكم هذا بدايةَ مَولدِكم وانطلاقةَ رجوعِكم وتباشيرَ فجركم..
فبالله عليكم يا مسلمون من لم يتُب في زمنِ الخيرات والهبات فمتى يتوب؟! مَن لم يرجِع في زمَن النّفحات فمتى يؤوب؟! فكم من مذنبٍ طال أرقُه واشتدَّ قلقُه وتفطر قلبه وعظُم كمَدُه ، تقيدُه أغلال المعصية، وتعتصِره كآبَة الخطيئة ،يتلمَّس نسيمَ رجاءٍ، يشرِق بنورِ التوبةِ والهدايةِ والإنابة؛ ليذهب معها اليأسُ والقنوط، وتنجلِي بها وحشة القلب وظلمة الصدور
فيا من ألف الذنوب وأجرمَا، يا من غدا على زلاته متندمَا، تُب اليوم فدونَك المنى والمغنمَا، والله يحب أن يجود ويرحمَا، وينيل التائبين فضلَه تكرماً، فطوبى لمن غسل في هذا الشهر أدران ذنوبه بتوبة، ورجع عن خطاياه قبل فوات الأوبة
أيها الصائمون: التوبة نجاةٌ من كلّ غمّ، وجُنّة من كلّ همّ، وظفَرٌ بكلِّ مطلوب، وسلامةٌ من كلّ مرهوب، بابُها مفتوح وخيرُها ممنوح ما لم تغرغِر الروح، فعن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((لو أخطَأتم حتى تبلُغ خطاياكم السّماء ثم تُبتُم لتابَ الله عليكم)) وعن أبي ذر رضي الله عنه عن رسول الله : ((قال الله تعالى: يا عبادي، إنكم تخطِئون بالليل والنهار وأنا أغفِر الذنوبَ جميعًا فاستغفِروني أغفر لكم)) وعن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه قال: سمعتُ رسولَ الله يقول: ((قال الله تعالى: يا ابنَ آدم، إنّك ما دعوتني ورجَوتني غفرتُ لك على ما كان منك ولا أُبالي. يا ابنَ آدم، لو بلغَت ذنوبُك عَنانَ السماءِ ثم استغفرتني غفرتُ لك.. يا ابنَ آدم، إنك لو أتيتني بقرابِ الأرض خطايا ثم لقيتَني لا تشرِك بي شيئًا لأتيتُك بقرابها مغفرةً)) فيا له من فضلٍ عظيم وعطاء جسيم من ربٍّ كريم وخالقٍ رحيم، أكرمنا بعفوِه، وغشَّانا بحِلمِه ومغفرتِه، وجلَّلنا بسِتره، وعمنا بفضله , وفتح لنا بابَ توبته. يعفو ويصفَح وبتوبةِ عبدِه يفرَح،
هو سبحانه وتعالى غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنْ السَّيِّئَاتِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرْ اللَّهَ يَجِدْ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا
يا مسلمون، هذه التوبةُ قد شُرِعت أبوابُها وحلَّ زمانها وحان أوانُها، فتوبوا إلى الله عزّ وجلّ من فاحشاتِ المحارم وفادحات الجرائم ، توبوا على الفورِ، أحدِثوا توبَةً لكلّ الذنوب التي وقعت، وتوبوا من المعاصِي ولو تكرَّرت
أيّها المسلمون، إلى من يلجَأ المذنِبون؟! وعلى من يعوِّل المقصِّرون؟! وإلى أيِّ مهرَب يهربون؟!وإلى أين يفرون والمرجِع إلى الله يومَ المعادِ، يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ
يا أسير المعاصي، وكلنا وربي كذلك، هذا شهر يُفَكّ فيه العاني، ويعتق فيه الجاني، ويُتجاوَز فيه عن العاصي، فبادر الفرصة، وحاذر الفوتة، ولا تكن ممن أعرض أبى، وصم أذنه وانجفى ,وخرج رمضان ولم ينل فيه الرحمة والغفران والمنى، صَعَدَ رسول الله المنبر فقال: ((آمين، آمين، آمين)) فقيل: يا رسول الله، إنك صعدت المنبر فقلت: آمين آمين آمين!! فقال : ((إن جبريل عليه السلام أتاني فقال: من أدرك شهرَ رمضان فلم يُغفر له فدخل النار فأبعده الله قل: آمين، قلت: آمين)) . فأقبِلوا يا مسلمون على الله بتوبةٍ نصوح وإنابة صادقة وقلوبٍ منكسرة وجِباه خاضِعة ودموعٍ منسكِبة.
أيها المسلمون، احذروا ما أعدّه لكم أهلُ الأهواء والانحلال، ودعاة الفساد والضلال، من برامج مضلة، ومسلسلات مخِلّة، والله إنهم لقومٌ فاسقون لا يبالون ذماً، ومجرمون لا يراعون فطراً ولا صوماً، جرَّعوا المسلمين مسموم الشراب، من نظر حرام وسمع حرام , وما زادهم غير تتبيب، وتدمير وتخريب، فيا من رضي لنفسه سوء المصير، وارتكب أسباب الخسارة والحرمان والتحقير، أخسر بها من صفقة، وأقبح بها من رفقة.
يا مطلقي البصرَ في مشاهد البور ومحرمات المنظور، ها أنتم اليوم في خير الشهور، فحَذَارِ حذار من انتهاك حرمتِه، وتدنيس شرفه، وانتقاص مكانته، فوالله ما صام رمضان على مراد الله من قلب بصره في الشاشات يتابع الأفلام والمسلسلات ويستمع إلى الأغاني والقينات , ما صام رمضان على مراد الله من أطلق لسانه في غيبة إخوانه المسلمين والوقيعة في أعراضهم , ما صام رمضان على مراد الله من يتكسب بالحرام ويأكل الحرام وغذى جسده بالحرام , ما صام رمضان على مراد الله من أسرف على نفسه بالشهوات وفعل المعاصي والموبقات يقول رسول الهدى : ((من لم يدع قول الزور والعملَ به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)) أخرجه البخاري.
أيها الصائمون، إن أولى ما قُضِيت فيه الأوقات وصُرفت فيه الساعات مدارسةُ الآيات وتدبّر البينات والعظات، وقد كان جبريل عليه السلام يَلقى رسول الله في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن. متفق عليه.
القرآن يا مسلمون شفاءٌ لما في الصدور، وحَكَم عدل عند مشتبهات الأمور، قصصٌ باهرة، ومواعظُ زاجرة، وحكمٌ زاهرة، فأقبِلوا على القرآن ، واستخرجوا دُرَره، وراجعوا كتبَ التفسير والتأويل، ولا تقنعوا من تلاوته بالقليل، شَهْرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِى أُنزِلَ فِيهِ ٱلْقُرْآنُ هُدًى لّلنَّاسِ وَبَيِّنَـٰتٍ مِّنَ ٱلْهُدَىٰ وَٱلْفُرْقَانِ .
وكن ـ يا عبد الله ـ كالحالِّ المرتحل، كلما ختمه عاد على أوله يقرأ ويرتِّل، يقول رسول الهدى : ((الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي رب، منعتُه الطعام والشهوة فشفِّعني فيه، ويقول القرآن: منعتُه النومَ بالليل فشفِّعني فيه، فيشفعان))
أيها المسلمون، هذا شهر الإنفاق، والبذل والإشفاق، فيا أهل اليسار والغنى ، تذكروا الأكباد الجائعة، أهلَ الخصاصة والخماصة، ممن يعانون عُدما، ويعالجون سقَما، أعينوهم وعالجوهم وأغنوهم، وَأَطْعِمُواْ ٱلْقَـٰنِعَ وَٱلْمُعْتَرَّ وأغيثوا الجائع والمضطر، وأنفقوا وأوسعوا، ولا توكوا فيوكي الله عليكم، ولا تحصوا فيحصي الله عليكم، قال : ((أفضل الصدقة صدقة في رمضان)) , وكان رسول الله أجودَ الناس، وكان أجودَ ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل عليه السلام.
أيها المسلمون إنه يجب عليكم متابعة نسائكم وأهليكم فيجب على المرأة المسلمة إذا شهدت العشاء والتراويح أن تجتنب العطور والبخور، والتبرج والسفور وما يثير الفتنة من ملابس الزينة المزخرفة وغيرها، والتي تستميل نفوس ضعاف الإيمان، وتفتن من في قلبه مرضٌ. وعليها أن تجتنب الخلوة بالسائق لما في ذلك من النتائج التي لا تُحمد عقباها، ولا يُعرف منتهاها، فعن زينب الثقفية رضي الله عنها قالت: قال رسول الله : ((إذا شهدت إحداكن العشاء فلا تتطيّب تلك الليلة))، وصلاتهن في قعر بيوتهن خيرٌ لهن، فعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي قال: ((لا تمنعوا نساءكم المساجد، وبيوتهن خير لهن)) أقول قولي....
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فيا أيها المسلمون، إن مما يؤسِف الناظر ويُحزن الخاطر ظاهرةً مقيتة وعادة قبيحة سرت في صفوف بعض المسلمين، ألا وهي ظاهرة الإسراف في المآكل والمشارب في شهر رمضان، زيادة على قدر الحاجة، حمل الكثير إلى رمي ما زاد من الأكل والزاد في النفايات مع المهملات والقاذورات، في حين أن هناك أكباداً جائعة وأُسرًا ضائعة تبحث عما يسدّ جوعَها ويُسَكِّن ظمأها.
فاتقوا الله عباد الله، فما هكذا تُشكر النعم، وتستدفَع النقم، وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُسْرِفِينَ
أيها المسلمون، لكل صائم في كل يوم وليلة دعوة مستجابة، تُفتح لها أبواب الإجابة، فعن [عبد الله بن] عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله في: ((إن للصائم عند فطره لدعوة ما تردّ)) .
فاستكثروا من الدعوات الطيبات في شهر النفحات والبركات، لكم ولأنفسكم ولأهليكم وذويكم، ولجميع المسلمين المستضعفين،
اللهم أنت المستعان، وعليك التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بك.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين...
الْحَمْدُ لِلَّـهِ الْكَرِيمِ الْجَوَادِ، الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ؛ يُفِيضُ عَلَى عِبَادِهِ مِنْ نِعَمِهِ وَآلَائِهِ، وَيَشْمَلُهُمْ بِعَفْوِهِ وَغُفْرَانِهِ، وَيَسَعُهُمْ بِبِرِّهِ وَرَحَمَاتِهِ، لَا تَنْفَدُ خَزَائِنُهُ، وَلَا يَنْقَطِعُ عَطَاؤُهُ. لَا تُعْجِزُهُ حَاجَةٌ، وَلَا تُثْقِلُهُ مَسْأَلَةٌ، نَحْمَدُهُ بِيَدِهِ الْخَيْرُ كُلُّهُ، وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ، وَنَشْكُرُهُ عَلَى شَرِيعَةٍ أَتَمَّهَا، وَعَافِيَةٍ أَسْبَغَهَا، وَنِعَمٍ تَابَعَهَا، وَنِقَمٍ دَفَعَهَا؛ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أما بعد: فيا أيها المسلمون، اتقوا الله فإن تقواه أفضل زاد، وأحسن عاقبةً في معاد، يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ
واعلموا أن الدنيا حلوةٌ خضرة، جميلة نضرة، نعيمٌ لكن لا يدوم، المستقِرُّ فيها يزول، والمقيم عنها منقول، وكلُّ عبد فيها مسؤول، أيامُها تسير في خبَب، وشهورها تتتابع في عجب، الدنيا كلُّها قليل، وما بقي منها وربي إلا أقلُ القليل، والناس يتقلبون فيها بين مؤمن وكافر، وتقي وفاجر، وناجٍ وخاسر، وسالم وعاثر، فطوبى لمن حفظ نفسَه وأولادَه، وأهله ونساءَه ، من موجبات السخط والذم، ووسائل الشر والهدم، وَمَن يَعْتَصِم بِٱللَّهِ فَقَدْ هُدِىَ إِلَىٰ صِرٰطٍ مّسْتَقِيمٍ
أيها المسلمون، أتاكم شهرُ المرابحِ برحماته وبركاته ، وخيراته ونفحاته، وعطائه وهباته, لا تُعدَّ نفحاتُه، ولا تحصى خيراته، ولا تستقصى مكرماته، غرَس في قلوب الصالحين الإيمان والتقى ، فلا ترى في المساجد إلا عابداً يركع، وقارئا يرتّل ويخشع، يرقُّ قلبه ويدمع، بآيات تجلو الصدى، وتزيل العشى، فاحمدوا الله يا مسلمون أن بلَّغكم، واشكروه على أن أخَّركم إلى رمضان ومكَّنكم، فكم من طامع بلوغَ هذا الشهر العظيم فما بلَغَه، وكم مؤمِّل إدراكَه فما أدركه، فاجأه الموت فأهلكه.
أيها المسلمون، بلغناه .. وكم حبيب لنا فقدناه، أدركناه.. وكم قريب لنا في القبر أضجعناه، يا صائمون، رحيلُ من رحل عنا نذيرٌ لنا ، وهذا الموت منا قد دنا، والرحيل قرُب ولا زاد عندنا، فالعمل العمل قبل أن لا توبةً تُنال، ولا عثرةً تُقال، ولا يُفدى أحد بمال، فأقبلوا على ربكم، وأروا الله في هذا الشهر خيراً من أنفسكم، فبالجد على الهدى فاز من فاز، وبالعزم على التقى جاز من جاز، تقول عائشةُ رضي الله عنها: كان رسول الله يجتهد في رمضان ما لا يجتهد في غيره. أخرجه مسلم
أيها المسلمون، هذا شهر القبول والسعود، هذا شهر العتق والجود، فيا خسارة أهلِ الغفلة والرقود ويا ندامةَ أهلِ الإعراض والصدود، فعن أنس رضي الله عنه عن النبي يرويه عن ربه عز وجل قال: ((إذا تقرب العبد إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً، وإذا تقرب مني ذراعاً تقربت منه باعاً، وإذا أتاني مشياً أتيته هرولة)) أخرجه البخاري.
يا عبد الله، هذا أوان الجد إن كنت مجداً، هذا زمان الاجتهاد في العبادة إن كنت عبدا، هذا نسيم القبول هبّ، هذا الشيطان صُفد فكَبّ، وباب الخير مفتوحٌ لمن أحب، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إذا كانت أول ليلة من رمضان صفّدت الشياطينُ ومردةُ الجن، وغلِّقت أبواب النار فلم يفتح منها باب، وفتحت أبواب الجنة فلم يُغلق منها باب، ونادى مناد: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاءُ من النار، وذلك في كل ليلة)).
أيّها الصائمون، أتاكم شهرُ الغفران المرتجَى والعطاءِ والرّضا والرأفةِ والزُّلفى، أتاكم شهرُ الصّفحِ الجميلِ والعفوِ الجليل، شهرُ النّفَحات وإقالةِ العثرات وتكفيرِ السيّئات، فليكُن شهرُكم هذا بدايةَ مَولدِكم وانطلاقةَ رجوعِكم وتباشيرَ فجركم..
فبالله عليكم يا مسلمون من لم يتُب في زمنِ الخيرات والهبات فمتى يتوب؟! مَن لم يرجِع في زمَن النّفحات فمتى يؤوب؟! فكم من مذنبٍ طال أرقُه واشتدَّ قلقُه وتفطر قلبه وعظُم كمَدُه ، تقيدُه أغلال المعصية، وتعتصِره كآبَة الخطيئة ،يتلمَّس نسيمَ رجاءٍ، يشرِق بنورِ التوبةِ والهدايةِ والإنابة؛ ليذهب معها اليأسُ والقنوط، وتنجلِي بها وحشة القلب وظلمة الصدور
فيا من ألف الذنوب وأجرمَا، يا من غدا على زلاته متندمَا، تُب اليوم فدونَك المنى والمغنمَا، والله يحب أن يجود ويرحمَا، وينيل التائبين فضلَه تكرماً، فطوبى لمن غسل في هذا الشهر أدران ذنوبه بتوبة، ورجع عن خطاياه قبل فوات الأوبة
أيها الصائمون: التوبة نجاةٌ من كلّ غمّ، وجُنّة من كلّ همّ، وظفَرٌ بكلِّ مطلوب، وسلامةٌ من كلّ مرهوب، بابُها مفتوح وخيرُها ممنوح ما لم تغرغِر الروح، فعن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((لو أخطَأتم حتى تبلُغ خطاياكم السّماء ثم تُبتُم لتابَ الله عليكم)) وعن أبي ذر رضي الله عنه عن رسول الله : ((قال الله تعالى: يا عبادي، إنكم تخطِئون بالليل والنهار وأنا أغفِر الذنوبَ جميعًا فاستغفِروني أغفر لكم)) وعن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه قال: سمعتُ رسولَ الله يقول: ((قال الله تعالى: يا ابنَ آدم، إنّك ما دعوتني ورجَوتني غفرتُ لك على ما كان منك ولا أُبالي. يا ابنَ آدم، لو بلغَت ذنوبُك عَنانَ السماءِ ثم استغفرتني غفرتُ لك.. يا ابنَ آدم، إنك لو أتيتني بقرابِ الأرض خطايا ثم لقيتَني لا تشرِك بي شيئًا لأتيتُك بقرابها مغفرةً)) فيا له من فضلٍ عظيم وعطاء جسيم من ربٍّ كريم وخالقٍ رحيم، أكرمنا بعفوِه، وغشَّانا بحِلمِه ومغفرتِه، وجلَّلنا بسِتره، وعمنا بفضله , وفتح لنا بابَ توبته. يعفو ويصفَح وبتوبةِ عبدِه يفرَح،
هو سبحانه وتعالى غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنْ السَّيِّئَاتِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرْ اللَّهَ يَجِدْ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا
يا مسلمون، هذه التوبةُ قد شُرِعت أبوابُها وحلَّ زمانها وحان أوانُها، فتوبوا إلى الله عزّ وجلّ من فاحشاتِ المحارم وفادحات الجرائم ، توبوا على الفورِ، أحدِثوا توبَةً لكلّ الذنوب التي وقعت، وتوبوا من المعاصِي ولو تكرَّرت
أيّها المسلمون، إلى من يلجَأ المذنِبون؟! وعلى من يعوِّل المقصِّرون؟! وإلى أيِّ مهرَب يهربون؟!وإلى أين يفرون والمرجِع إلى الله يومَ المعادِ، يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ
يا أسير المعاصي، وكلنا وربي كذلك، هذا شهر يُفَكّ فيه العاني، ويعتق فيه الجاني، ويُتجاوَز فيه عن العاصي، فبادر الفرصة، وحاذر الفوتة، ولا تكن ممن أعرض أبى، وصم أذنه وانجفى ,وخرج رمضان ولم ينل فيه الرحمة والغفران والمنى، صَعَدَ رسول الله المنبر فقال: ((آمين، آمين، آمين)) فقيل: يا رسول الله، إنك صعدت المنبر فقلت: آمين آمين آمين!! فقال : ((إن جبريل عليه السلام أتاني فقال: من أدرك شهرَ رمضان فلم يُغفر له فدخل النار فأبعده الله قل: آمين، قلت: آمين)) . فأقبِلوا يا مسلمون على الله بتوبةٍ نصوح وإنابة صادقة وقلوبٍ منكسرة وجِباه خاضِعة ودموعٍ منسكِبة.
أيها المسلمون، احذروا ما أعدّه لكم أهلُ الأهواء والانحلال، ودعاة الفساد والضلال، من برامج مضلة، ومسلسلات مخِلّة، والله إنهم لقومٌ فاسقون لا يبالون ذماً، ومجرمون لا يراعون فطراً ولا صوماً، جرَّعوا المسلمين مسموم الشراب، من نظر حرام وسمع حرام , وما زادهم غير تتبيب، وتدمير وتخريب، فيا من رضي لنفسه سوء المصير، وارتكب أسباب الخسارة والحرمان والتحقير، أخسر بها من صفقة، وأقبح بها من رفقة.
يا مطلقي البصرَ في مشاهد البور ومحرمات المنظور، ها أنتم اليوم في خير الشهور، فحَذَارِ حذار من انتهاك حرمتِه، وتدنيس شرفه، وانتقاص مكانته، فوالله ما صام رمضان على مراد الله من قلب بصره في الشاشات يتابع الأفلام والمسلسلات ويستمع إلى الأغاني والقينات , ما صام رمضان على مراد الله من أطلق لسانه في غيبة إخوانه المسلمين والوقيعة في أعراضهم , ما صام رمضان على مراد الله من يتكسب بالحرام ويأكل الحرام وغذى جسده بالحرام , ما صام رمضان على مراد الله من أسرف على نفسه بالشهوات وفعل المعاصي والموبقات يقول رسول الهدى : ((من لم يدع قول الزور والعملَ به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)) أخرجه البخاري.
أيها الصائمون، إن أولى ما قُضِيت فيه الأوقات وصُرفت فيه الساعات مدارسةُ الآيات وتدبّر البينات والعظات، وقد كان جبريل عليه السلام يَلقى رسول الله في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن. متفق عليه.
القرآن يا مسلمون شفاءٌ لما في الصدور، وحَكَم عدل عند مشتبهات الأمور، قصصٌ باهرة، ومواعظُ زاجرة، وحكمٌ زاهرة، فأقبِلوا على القرآن ، واستخرجوا دُرَره، وراجعوا كتبَ التفسير والتأويل، ولا تقنعوا من تلاوته بالقليل، شَهْرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِى أُنزِلَ فِيهِ ٱلْقُرْآنُ هُدًى لّلنَّاسِ وَبَيِّنَـٰتٍ مِّنَ ٱلْهُدَىٰ وَٱلْفُرْقَانِ .
وكن ـ يا عبد الله ـ كالحالِّ المرتحل، كلما ختمه عاد على أوله يقرأ ويرتِّل، يقول رسول الهدى : ((الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي رب، منعتُه الطعام والشهوة فشفِّعني فيه، ويقول القرآن: منعتُه النومَ بالليل فشفِّعني فيه، فيشفعان))
أيها المسلمون، هذا شهر الإنفاق، والبذل والإشفاق، فيا أهل اليسار والغنى ، تذكروا الأكباد الجائعة، أهلَ الخصاصة والخماصة، ممن يعانون عُدما، ويعالجون سقَما، أعينوهم وعالجوهم وأغنوهم، وَأَطْعِمُواْ ٱلْقَـٰنِعَ وَٱلْمُعْتَرَّ وأغيثوا الجائع والمضطر، وأنفقوا وأوسعوا، ولا توكوا فيوكي الله عليكم، ولا تحصوا فيحصي الله عليكم، قال : ((أفضل الصدقة صدقة في رمضان)) , وكان رسول الله أجودَ الناس، وكان أجودَ ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل عليه السلام.
أيها المسلمون إنه يجب عليكم متابعة نسائكم وأهليكم فيجب على المرأة المسلمة إذا شهدت العشاء والتراويح أن تجتنب العطور والبخور، والتبرج والسفور وما يثير الفتنة من ملابس الزينة المزخرفة وغيرها، والتي تستميل نفوس ضعاف الإيمان، وتفتن من في قلبه مرضٌ. وعليها أن تجتنب الخلوة بالسائق لما في ذلك من النتائج التي لا تُحمد عقباها، ولا يُعرف منتهاها، فعن زينب الثقفية رضي الله عنها قالت: قال رسول الله : ((إذا شهدت إحداكن العشاء فلا تتطيّب تلك الليلة))، وصلاتهن في قعر بيوتهن خيرٌ لهن، فعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي قال: ((لا تمنعوا نساءكم المساجد، وبيوتهن خير لهن)) أقول قولي....
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فيا أيها المسلمون، إن مما يؤسِف الناظر ويُحزن الخاطر ظاهرةً مقيتة وعادة قبيحة سرت في صفوف بعض المسلمين، ألا وهي ظاهرة الإسراف في المآكل والمشارب في شهر رمضان، زيادة على قدر الحاجة، حمل الكثير إلى رمي ما زاد من الأكل والزاد في النفايات مع المهملات والقاذورات، في حين أن هناك أكباداً جائعة وأُسرًا ضائعة تبحث عما يسدّ جوعَها ويُسَكِّن ظمأها.
فاتقوا الله عباد الله، فما هكذا تُشكر النعم، وتستدفَع النقم، وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُسْرِفِينَ
أيها المسلمون، لكل صائم في كل يوم وليلة دعوة مستجابة، تُفتح لها أبواب الإجابة، فعن [عبد الله بن] عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله في: ((إن للصائم عند فطره لدعوة ما تردّ)) .
فاستكثروا من الدعوات الطيبات في شهر النفحات والبركات، لكم ولأنفسكم ولأهليكم وذويكم، ولجميع المسلمين المستضعفين،
اللهم أنت المستعان، وعليك التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بك.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين...