نشر الفضائح

إبراهيم بن صالح العجلان
1437/02/22 - 2015/12/04 07:24AM
نشر الفضائح
إخوة الإيمان:
رسالة تطرق الهاتف، لتقول: شاهد فضيحة فتاة مع أحد الشباب!!
ورسالة أخرى عنوانها: حصري مناظر مخلَّة لفلان في مكان كذا!
وآخر يسارع في إظهار معايب من يكره، والفرح بإشهارها بين الناس!
ومواقع تتسابق تحت ذريعة التميز أو السبق الإعلامي في إظهار مشين الأقوال والمواقف، والتي لم تُعرف لولا نشر هؤلاء لها.
هذه جزء من واقع مؤلم، وتصرفات نشاهدها، وربما نمارسها في حالة جهل بعضنا أو ذهول آخرين مع أنَّ حكم الشرع فيها واضح وصريح.

فصِنفٌ من الناس - هداهم الله - تراه سمَّاعًا لقَالة السوء، نقَّالاً لأخبار الفَساد، يتلذَّذ بإشاعتها وإذاعتها، يتصدَّر المجالسَ بالتجريح والتخسيف، الظَّن عنده يقين، والإشاعة في منطقه حقيقة، والهفوة في ميزانه خُلق دائم، لا يمل من تكرار الأخبار المشؤومة، ولا يفتر من كشف الأحداث المستورة.
يا أهل الإيمان: إنَّ بثَّ مثلِ هذا القاذورات وانتشارها آفةٌ خطيرةٌ، ومرض موجع، يفسد الدين، ويخرب الدنيا، فإذا تهتكتِ الأستارُ، تكسَّرَ الحياء من النُّفوس، وإذا نزع الحياء، فكَبِّرْ على العِفَّة والطهر بعدها أربعًا.
إذا علم العاصي - وكُلنا ذاك العاصي - أنَّ الأفواه لاكته، والنَّظرات قد نهشته، والأصابع قد أشارته، لم يبالِ بعدها بمجاهرةٍ في مَعصيته أو مفاخرة في ذنب.
روى أبو داود في سننه بسند صحَّحه النَّووي عن مُعاوية tقال: سمعت رسول الله r يقول: (إنَّك إن اتَّبعت عَوْرَاتِ النَّاس، أفسدتهم أو كدت أن تفسدَهم).
شيوع الفاحشة وانتشارُ - عبادَ الله - شرارتِها الأُولى إذاعة الأخبار السيِّئة، والمعاصي الخفية، فيجترئ حينها وبعدها ضعافُ النفوس ومرضى القلوب على مُعاقرتها في الهواء الطلق، بلا خوفٍ من خالقٍ أو حياءٍ من مخلوق.
وإذا انتشرتْ المعائب، وأُفْشِيَت المثالبُ، فلا تسلْ بعد ذلك عن عدم ثِقَة الناس بعضهم ببعض، ولا تَسَلْ أيضًا عن الاعتراك والتصادُم بين أفراد المجتمع الواحد؛ إذ إنَّ إشاعة عورات الآخرين سببٌ لبذر الإِحَن والمحن، وتنافر القلوب وعدم الْتِمَامها.
معاشرَ المؤمنين:
ما أجملَ السَّتر، وما أعظم بركتَه، وأبهى حُلَّته، الستر خُلُق الأنبياء،
وسيما الصَّالحين، يورث المحبة، ويُثمر حسن الظَّن، ويُطفئ نارَ الفساد.
الستر سلوك راق، وخلق نفيس تنبئ عن مروءة صاحبه ورجولته، ورحمته بالخلق.
الستر على العباد طاعةٌ وقُربان، ودِين وإحسان، وصف به نفسه الرَّحمن، فهو سبحانه ستِّير يستُر كثيرًا، ويحبُّ أهل السَّتر؛ ففي الحديث الصحيح يقول النبي صلى الله عليه وسلَّم: (إنَّ الله حَيِيٌّ سِتِّير، يُحب الحياء والسَّتْر).
وهو الحَيِيُّ فَلَيسَ يَفْضَحُ عَبْدَهُ * * * عندَ التَّجَاهُرِ مِنْهُ بالعِصْيَانِ
لَكِنَّهُ يُلْقِي عَلَيْهِ سِتْرَهُ * * * فَهْوَ السَّتِيرُ وصَاحِبُ الغُفْرَانِ
ندب الإسلامُ لهذا الخلق الكريم؛ ووعد أهله بالجزاء الأخروي العظيم، فمَن سَتَرَ مُسلمًا في الدُّنيا، ستره الله في الدُّنيا والآخرة)؛ حديث صحيح، أخرجه مسلم.
ولأجل السَّتْر شرع الإسلام حد القذف؛ حتَّى لا تكون الأعراضُ بعد ذلك كلأً مباحًا.
ولأجل السَّتر أمر الشارعُ في إثبات حدِّ الزنا بأربعة شهود؛ حمايةً للأعراض، وصَوْنًا للمحارم.
ولأجل السَّتر أيضًا توعَّد الجبارُ أهلَ السوء، الذين يُحبون إشاعة الفاحشة - بالعذاب الأليم؛ {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ}.
ومن أجل الستر أيضًا نَهى الإسلامُ عن التجسس على الآخرين؛ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا}.
قال المُفسِّرون: التجسسُ: البحثُ عن عيبِ المسلمين وعورتهم.

أمَّا خَيْر الخلق وأَعْرفُ الخلق بما يُرضي الله - تعالى - فقد كان عظيمَ الحياء، عفيفَ اللِّسان، بعيدًا عن كشف العورات، حريصًا على كَتْم المعائب والزلاَّت، كان إذا رأى شيئًا يُنكره ويكرهُه، عرَّض بأصحابه وألمح، كم من مرَّة قال للناس: ((ما بال أقوام يقولون كذا وكذا))، ((ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا)).
لقد أدَّب المصطفى
r
أمَّته، فأحسن تأديبها يومَ أنْ خطب بالناس، فقال بنبرةٍ حادَّةٍ وصوتٍ عالٍ: (يا معشر مَن آمن بلسانه، ولم يدخل الإيمان، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتِهم، فإنَّه من يتبع عوراتِهم، يتبعِ الله عورته، ومن يتبعِ اللهُ عورتَه، يفضحه في بيته))؛ رواه الإمام أحمد وأبو داود، وصححه ابن حبان.
بهذا المنهج وهذه العِفَّة تربَّى الصَّحابة - رضوانُ الله عليهم - فستروا عيوبَ النَّاس، وطَوَوا معائبَهم.
فهذا صدِّيقُ الأُمَّة
t
يقول: "لو لم أجد للسارق والزاني وشارب الخمر إلاَّ ثوبي، لأحببتُ أن أستره به"؛ رواه ابن أبي شيبة، وصحح سنده الحافظُ ابن حجر.
أمَّا الفاروق - رضي الله عنه - فحين سمع ذاك الرَّجل يقول للنبي - صلى الله عليه وسلم -: "إني عالجت امرأةً فأصبت منها دون أن أمسَّها"، بادره عمر - رضي الله عنه - يقول: لقد سترك الله، لو سترت على نفسك
وهذا ابنُ مسعود - رضي الله عنه - يُؤتى إليه في مَجلسه برجلٍ، فقيل له: هذا فلان تقطر لحيتُه خمرًا - أي: كثيرًا ما يشرب الخمر - فقال - رضي الله عنه -: إنَّا نُهينا عن التجسس، ولكن إنْ يظهر لنا منه شيءٌ، نأخذه به.
أما أمُّنا أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فقد جاءتْها امرأةٌ، فأخبرتها أنَّ رجلاً قد أخذ بساقها وهي مُحرمة ـ أي حاول كشف عورتها ـ فقاطعتها عائشةُ وأعرضت بوجهها وقالت: "يا نساءَ المؤمنين، إذا أذنبتْ إحداكُنَّ ذنبًا، فلا تخبرن به النَّاس، ولتستغفر الله، ولتتب إليه؛ فإنَّ العباد يُعيِّرونَ ولا يُغيِّرون، والله يُغَيِّر ولا يُعيِّر.
عباد الله: وأَوْلى النَّاس بالسَّتْر: أن يستر العبدُ نفسَه، ويُغطي عَيْبه، فليسَ من العافية - نسأل الله العافية - أنْ يفاخرَ العبدُ بالذنب أو أن يُباهي بالخطيئة، ليس من العافية تسميع العباد بالذُّنوب الخفيَّات، وخطايا الخلوات؛ يقول النبيُّ
r
: (كُلُّ أمتي معافى إلاَّ المجاهرون، وإنَّ من المجاهرة أنْ يعملَ الرجل بالليل عملاً، ثم يصبح وقد ستره الله، فيقول: يا فلان، عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربُّه، ويصبح يكشف ستر الله عليه))؛ أخرجه البخاري في صحيحه.
الستر على النفس بعد الخطيئة عملٌ فاضل مطلوب، يُرجى لصاحبه أنْ يكرمه ربه بالستر عليه في الآخرة.
ففي الصحيحين يقولُ النبي
r
: يُدنى المؤمنُ يوم القيامة من ربِّه عز وجل حتى يضعَ عليه كنفه، فيقرره بذنوبه، فيقولُ: هل تعرف؟ فيقول: أيْ رب، أعرف، قال: فإنِّي قد سترتها عليك في الدُّنيا، وإني أغفرها لك اليوم، فيُعطى صحيفة حسناته).
وأحقُّ الناس بالستر وكتم العيب هم ذوو الهيئات وأهل المروءة، الذين ليس مِن عادتِهم المجاهرة بالمعاصي، وليسوا من المسوِّقين للمنكرات، فالستر على هؤلاء يأتي في الصَّفِّ الأول والمقام الأكمل؛ قال - صلى الله عليه وسلم -: ((أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلاَّ الحدود))؛ رواه الإمام أحمد وغيره، وهو حديث حسن.
إخوة الإيمان: الستر على المعاصي لا يعني ترك مناصحة مَن وقع فيها، وإسداء التوجيه المناسب لهم، ولا يعني إسقاطَ الحدِّ على من وجب عليه الحد.
والستر على الخطايا أيضًا لا يعني تهوينها في النفس، وموت القلب تجاهها، فالقلب الذي لا ينقبض غيرةً على دين الله وحرمات المسلمين هو قلبٌ خاوي الإيمان.
وليس وراء إنكار القلب حَبَّة خردل من إيمان؛ كما قال - صلى الله عليه وسلم.
عباد الله:
وإذا كان نشر فضائح العباد قد ذَمَّ الشرعُ فاعله وتوعده، فكيف بمَنْ يتهمون الآخرين بالظن، ويشيعون التُّهَمَ بالوهم، يفترون على الأبرياء، ويشوهون صورة الفضلاء بالإفْكِ والبهتان، فهذا الرجم بالإثم إن استهان به مَن استهان، فهو عند الله عظيم وجُرم كبير؛ قال تعالى: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ} [النور: 15].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...



الخطبة الثانية
الحمدُ لله وحدَه، والصلاة والسلام على مَن لا نبيَّ بعده، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.... أمَّا بعد، فيا إخوةَ الإيمان:
وأشنع من التشهير بالمعصية وأقبح أنْ يُعيِّر المرءُ أخاه بالذنب، ويثلب عليه بالمعصية، فهذا - لعَمْر الله - خُلُقٌ دنيء، وسلوك تأباه الشِّيَم.

يقول الفضل بن عياض: المؤمن يستر وينصح، والفاجر يهتك ويُعيِّ.
ويقول الحسن البصري: كان يقال: مَن عَيَّر أخاه بذنب تاب منه، لم يَمتْ حتَّى يبتليه الله به.
فيا مَن يرجو الله واليوم الآخر، لسانَك لسانَك، صُنْه عن أعراض المسلمين، وسمْعَك سمعَك، صُنه عن التحسُّس والتجسس، فهذا - وربي - عملٌ ليس بخير، ولا يأتي بخير.
تذكَّر - أخي المسلم -
كما أنَّ للناس عيوبًا، لك عيوبٌ أيضًا، وكما لهم حرماتٌ ومحارم، لك أيضًا مثل ذلك.
لَسَانُكَ لاَ تَذْكُرْ بهِ عَوْرَةَ امْرِئٍ ** فَكُلُّكَ عَوْرَاتٌ وَلِلنَّاسِ أَلْسُنُ
وَعَيْنُكَ
إِنْ أَبْدَتْ إِلَيْكَ مَعَائِبًا ** فَدَعْهَا وَقُلْ يَا عَيْنُ لِلنَّاسِ أَعْيُنُ
تذكر - أخي المسلم - أنَّ الجزاءَ من جنس العمل، جزاءً وفاقًا، فمن فضح إخوانَه المسلمين، سلَّط عليه ألسنةً حدادًا تهتك ستره، وتفضح أمره.
قال بعضُ السلف: أدركتُ أقوامًا لم يكُن لهم عيوبٌ، فذكروا عيوبَ الناس، فذكر الناسُ لهم عيوبًا، وأدركت أقوامًا كانت لهم عيوبٌ، فكفُّوا عن عيوب الناس، فنُسِيَت عيوبُهم.
عباد الله:
وإذا جعل المرءُ مَخافةَ الله بين عينيه، واستشعر حقًّا وصدقًا أنَّه سيتحمل وِزرَ كلِّ كلمة تهدم ولا تبني، لعفَّ لسانُه، وصَلَحَ منطقُه، وزان قولَه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقلْ خيرًا أو ليصمت.
وأخيرًا - إخوةَ الإيمان - فخُلُقُ الستر هو الأصل والأساس في التعامُل مع الخطأ والأخطاء، إلاَّ أنه أحيانًا يكون التشهير والفضيحة هو الدَّواء وهو النصيحة، فإذا أعلن المرءُ فجوره، ودعا له ونادى، كان التحذيرُ منه وفضحه أسلوبًا واجبًا لا تبرأ الذِّمَّة إلا به.
سُئِلَ الإمامُ أحمد: إذا عُلِمَ من الرجل الفُجُور، أيُخبر به النَّاس، قال: لا، بل يستر عليه؛ إلاَّ أن يكون داعية.
ويكون التشهيرُ بأهل المعصية مطلوبًا أيضًا إذا كان ضررُها متعدِّيًا للمجتمع كلِّه؛ كمن يروج للانحرافات العَقديَّة والفكرية، أو يتعاطى السِّحر والكهانة والشَّعوذة، أو يروِّج للمُخدِّرات، أو يهدد الأمن.
فهؤلاء يَجبُ فضحُهم وهَتْك سترهم؛ حماية للدين، ونصحًا للأمة، وحفظًا للأعراض والعقول والدِّماء.
نسأل الله أن يستر عيوبنا، ويغفر ذنوبنا، ويتجاوز عن زلاَّتنا وهفواتنا، وأن يصون عوراتنا، ويؤمن روعاتنا؛ إنَّه - سبحانه - قريب مجيب الدعاء.
المرفقات

ثقافة نشر الفضائح.docx

ثقافة نشر الفضائح.docx

المشاهدات 2886 | التعليقات 3

جزاك الله خيرا يا شيخنا الكريم
خطبة رائعة ومهمه في زمن التصوير والنشر بأسرع وقت بالتواصل الاجتماعي


جُزيت الجنة ..ووالديك


بسم الله الرحمن الرحيم
جزاك الله خيرا شيخنا الكريم و بيض الله وجهك موضوع يجب أن يطرح خصوصا هذه الأيام ..,,