نستسقي فلا نسقى.. لماذا؟!
الشيخ د إبراهيم بن محمد الحقيل
1432/01/24 - 2010/12/30 08:30AM
نَسْتَسْقِي فَلَا نُسْقَى.. لِمَاذَا؟!
25/1/1432
الْحَمْدُ لله الْحَلِيْمِ الْرَّحِيْمِ؛ دَافِعِ الْبَلَاءِ، وَكَاشِفِ الضَّرَّاءِ [وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ] {الْأَنْعَامِ:17} نَحْمَدُهُ عَلَى الْرَّحْمَةِ وَالْنَّعْمَاءِ، وَنَسْتَعِيْنُ بِهِ عَلَى الْبَأْسَاءِ وَالْضَّرْاءِ، وَنَسْتَغَيثُ بِهِ لِرَفْعِ الْفِتْنَةِ وَالْبَلَاءِ؛ فَهُوَ غَوْثُ المُسْتَغِيْثِيْنَ، وَعَوْنُ الْعَاجِزِيْنَ، وَمَلَاذُ المُضْطَرِّيْنَ.. وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ؛ يُغْدِقُ الْنِّعَمَ عَلَى عِبَادِهِ فَلَا يَشْكُرُوْنَ، وَيَدْفَعُ الْبَلْاءَ عَنْهُمْ فَيَكْفُرُوْنَ، وَإِذَا اضْطُرُّوا إِلَيْهِ مَعَ كُفْرِهِمْ غَلَبَتْ رَحْمَتُهُ غَضَبَهُ فَأَجَابَ دَعَوْتَهُمْ، وَكَشَفَ كُرْبَتَهُمْ، وَدَفَعَ الْبَلَاءَ عَنْهُمْ [لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْرَّحْمَنُ الْرَّحِيْمُ] {الْبَقَرَةِ:163} وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدَاً عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ؛ أَكْثَرُ الْنَّاسِ رَجَاءً لله تَعَالَى، وَتَوَكُّلَاً عَلَيْهِ، وَرَغْبَةً فِيْهِ، وَثِقَةً بِهِ؛ أَدْرَكَهُ المُشْرِكُوْنَ يَوْمَ الْهِجْرَةِ حَتَّى وَقَفُوْا عَلَى الْغَارِ، فَقَالَ أَبُوْ بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:«لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ تَحْتَ قَدَمَيْهِ لَأَبْصَرَنَا، فَقَالَ: مَا ظَنُّكَ يَا أَبَا بَكْرٍ بِاثْنَيْنِ اللهُ ثَالِثُهُمَا» صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الْدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيْعُوْهُ، وَعَلِّقُوا بِهِ قُلُوْبَكُمْ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اضْطِرَارَكُمْ إِلَيْهِ لَا يَنْفَكُّ عَنْكُمْ فِيْ فَرَحِكُمْ وَحُزْنِكُمْ، وَصِحَتِكُمْ ومَرَضِكُمْ، وَأَمْنِكُم وَخَوْفِكُمْ، وَغِنَاكُمْ وَفَقْرِكُمْ.. فَكُنَّا قَبْلَ وُجُوْدِنَا مُضْطَرِّيْنَ لله تَعَالَى، وَكُنَّا بَعْدَ وُجُوْدِنَا مُضْطَرِّيْنَ إِلَيْهِ فِيْ حَيَاتِنَا الْدُّنْيَا وَفِيْ قُبُوْرِنَا وَفِيْ آَخِرَتِنَا لَا ننْفَكُّ عَنِ الاضْطِّرَارِ إِلَيْهِ أَبَدَاً [يَا أَيُّهَا الْنَّاسُ اذْكُرُوْا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ الله يَرْزُقُكُمْ مِنَ الْسَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُوْنَ] {فاطِرِ:3}.
أَيُّهَا الْنَّاسُ: مِنْ رَحْمَةِ الله تَعَالَى بِخَلْقِهِ، وَلُطْفِهِ بِعِبَادِهِ، أنَّهُ لَمْ يُعَامِلْهُمْ فِيْ الْدُّنْيَا عَلَى وُفْقِ أَعْمَالِهمْ وَإِلَّا لَأَهْلَكَهُمْ، وَلَكِنَّهُ عَامَلَهُمْ بِمُقْتَضَى اضْطِرَارِهِمْ إِلَيْهِ، وَافْتِقَارِهِمْ لَهُ، فَوَسِعَهُمْ بِرَحْمَتِهِ، وَشَمِلَهُمْ بِحِلْمِهِ، وَأَغْدَقَ عَلَيْهِمْ مِنْ رِزْقِهِ.
وَالْإِنْسَانُ أَيَّ إِنْسَانٍ: مُؤْمِنَاً كَانَ أَمْ كَافِرَاً، كِتَابِيَاً أَوْ وَثَنِيَاً أَوْ مُلْحِدَاً لَا يُؤْمِنُ بِالله تَعَالَىْ فَهُوَ مَفْطُورٌ عِنْدَ الْشَّدَائِدِ عَلَى الاضْطِرَارِ إِلَى الله تَعَالَى، فَيَلْجَأُ إِلَيْهِ فِيْ شِدَّتِهِ، وَيَعُوْدُ إِلَى حَقِيْقَةِ فِطْرَتِهِ، وَيَزُوْلُ عَنْهُ اسْتِكْبَارُهُ وَتَمَرُّدُهُ، وَتَأَمَّلُوْا فِيْ نِهَايَةِ فِرْعَوْنَ الَّذِيْ قَالَ [أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى] {الْنَّازِعَاتِ:24} عَادَتْ إِلَيْهِ فِطْرَتُهُ عِنْدَ الِاضْطِرَارِ [حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آَمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِيْ آَمَنَتْ بِهِ بَنُوْ إِسْرَائِيْلَ وَأَنَا مِنَ المُسْلِمِيْنَ] {يُوْنُسَ:90} لَكِنَّ هَذَا الإِيْمَانَ لَمْ يَنْفَعْهُ؛ لِأَنَّهُ وَقَعَ بَعْدَ فَوَاتِ الْأَوَانِ؛ فَكَانَ مِنْ أَهْلِ الْنَّارِ.
يَا لعَظِيْمِ رَحْمَةِ الله تَعَالَى بِعِبَادِهِ حِيْنَ أَلْجَأَهُمْ إِلَيْهِ عِنْدَ الِاضْطِرَارِ، وَجَعَلَ ذَلِكَ مِنْ فَطْرَتِهِ الَّتِي فَطَرَهُمْ عَلَيْهَا وَإِلَّا لَضَاعُوا. فَإِذَا مَا عَظُمَ كَرْبُهُمْ، وَاشْتَدَّ بَلْاؤُهُمْ، وَأَيْقَنُوْا بِالْهَلاكِ انْسَاقُوْا بِفِطْرَتِهِمْ إِلَى رَبِّهِمْ مُضْطَرِّيْنَ فَكَشَفَ ضُرَّهُمْ، وَأَجَابَ دُعَاءَهُمْ، وَلَوْ كَانُوْا مِنْ قَبْلُ عُصَاةً أَوْ مُشْرِكِيْنَ، وَلَوْ عَادُوْا بَعْدَ مَرْحَلَةِ الاضْطِرَارِ إِلَى المعْصِيَةِ أَوِ الْشِّرْكِ مَرَّةً أُخْرَى، لَمْ يَتَخَلَّ عَنْهُمْ رَبُّهُمْ فِيْ مَرْحَلَةِ الِاضْطِرَارِ الَّتِيْ كَانَتْ بَيْنَ مَعْصِيَتَيْنِ أَوْ شِرْكَيْنِ.. وَيَتَكَرَّرُ ذَلِكَ مِنْهُمْ وَرَبُّهُمْ يَحْلُمُ عَنْهُمْ، وَلَا يَسْأَمُ مِنْهُمْ، وَيُسْعِفُهُمْ كُلَّمَا اضْطُرُّوا إِلَيْهِ..
إِنَّ لُجَوْءَ الْعِبَادِ إِلَى رَبِّهِمْ فِيْ كَرْبِهِم، وَإِنْ كَشْفَهُ سُبْحَانَهُ لَضُرِّهِمْ لِدَلِيْلٌ عَلَى رُبُوْبِيَّتِهِ وَأُلُوْهِيَّتِهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَدُعَاؤُهُمْ فِيْ تِلْكَ الْحَالِ يُسَمَّى عِبَادَةَ الِاضْطِرَارِ؛ لِأَنَّهُمْ مَا أَخْلَصُوْا لَهُ الْدُّعَاءَ إِلَّا حَالَ اضْطِرَارِهِمْ، وَفِيْ تَعْدَادِ أَدِلَّةِ الرُّبُوْبِيَّةِ وَالْأُلُوهِيَّةِ فِيْ الْقُرْآَنِ الْكَرِيْمِ ذَكَرَ اللهُ تَعَالَىْ مِنْهَا [أَمَّنْ يُجِيْبُ المُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ الْسُّوْءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ الله قَلِيْلَاً مَا تَذَكَّرُوْنَ] {الْنَّمْلِ:62} وَجَاءَ رَجُلٌ إِلَى الْنَّبِيِّ ^ فَقَالَ لَهُ:« إِلَامَ تَدْعُو؟ قَالَ: أَدْعُو إِلَى الله وَحْدَهُ الَّذِي إِنْ مَسَّكَ ضُرٌّ فَدَعَوْتَهُ كَشَفَ عَنْكَ وَالَّذِي إِنْ ضَلَلْتَ بِأَرْضٍ قَفْرٍ دَعَوْتَهُ رَدَّ عَلَيْكَ وَالَّذِي إِنْ أَصَابَتْكَ سَنَةٌ فَدَعَوْتَهُ انْبَتَ عَلَيْكَ» رَوَاهُ أَحْمَدُ.
وَحَوَادِثُ المُضْطَرِّيْنَ فِيْ تَارِيْخِ الْبَشَرِيَّةِ كَثِيْرَةٌ.. الَّذِيْنَ حِيْنَ تَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْحِبَالُ، وَحِيْلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْأَسْبَابِ، تَذَكَّرُوْا حَبْلَ الله تَعَالَىْ المَمْدُوْدَ إِلَيْهِمْ فَتَعَلَّقُوا بِهِ فَلَمْ يَخِيبُوا.. مِنْهُمْ أَنْبِيَاءُ، وَمِنْهُمْ مُؤْمِنُوْنَ، وَمِنْهُمْ كُفَّارٌ أَقَرُّوْا بِافْتِقَارِهِمْ إِلَى رَبِّهِمْ حَالَ كَرْبِهِم، وَأَعْلَنُوا اضْطِرَارَهُمْ إِلَيْهِ سَاعَةَ عُسْرَتِهِمْ فَاسْتَجَابَ الله تَعَالَىْ دَعْوَتَهُمْ..
وَأَفْضَلُ الْأَنْبِيَاءِ الْخَلِيْلَانِ دَعَيَا دُعَاءَ المُضْطَرِّ فَاسْتُجِيْبَ لَهُمَا، أَمَّا إِبْرَاهِيْمُ عَلَيْهِ الْسَّلامُ فَحِيْنَ أُلْقِيَ فِي الْنَّارِ [قُلْنَا يَا نَارُ كُوْنِيْ بَرْدَاً وَسَلَامَاً عَلَى إِبْرَاهِيْمَ] {الْأَنْبِيَاءِ:69} وَأَمَّا مُحَمَّدٌ ^ فَفِيْ بَدْرٍ اسْتَغَاثَ فَأُجِيْبَ [إِذْ تَسْتَغِيْثُوْنَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّيْ مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ المَلَائِكَةِ مُرْدِفِيْنَ] {الْأَنْفَالِ:9} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا:«حَسْبِيَ اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيْلُ قَالَهَا إِبْرَاهِيْمُ حِيْنَ أُلْقِيَ فِي الْنَّارِ، وَقَالَهَا مُحَمَّدٌ حِيْنَ قَالُوْا:[إِنَّ الْنَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيْمَانَاً وَقَالُوْا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيْلُ] {آَلِ عِمْرَانَ: 173 }»رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
وَدَعَا دُعَاءَ المُضْطَرِّ نُوحٌ عَلَيْهِ الْسَّلَامُ حِيْنَ كُذِّبَ وَأُوْذِيَ [فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّيْ مَغْلُوْبٌ فَانْتَصِرْ] {الْقَمَرَ:10} فَاسْتَجَابَ اللهُ تَعَالَى لَهُ وَأَغْرَقَ قَوْمَهُ [وَنُوْحَاً إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيْمِ] {الْأَنْبِيَاءِ:76}.
وَدَعَا يَعْقُوْبُ دُعَاءَ المُضْطَرِّ حِيْنَ فَتَّتَ الْحَزْنُ عَلَى وَلَدِهِ كَبِدَهُ، وَأَعْمَى الْبُكَاءُ بَصَرَهُ، وَفَقَدَ الْثَّانِيَ مَعَهُ [قَالَ إِنَّمَا أَشْكُوْ بَثِّيْ وَحُزْنِي إِلَى الله] {يُوَسُفَ:86} فَسَمِعَ اللهُ تَعَالَىْ شِكَايَتَهُ، وَأَزَالَ حُزْنَهُ، وَأَذْهَبَ هَمَّهُ، وَأَفْرَحَ قَلْبَهُ، وَرَدَّ عَلَيْهِ بَصَرَهُ، وَجَمَعَهُ بِوَلِدَيْهِ جَمِيْعَاً.
وَنَبِيُّ الله تَعَالَى أَيُّوبُ عَلَيْهِ الْسَّلَامُ دَعَا فِيْ مَرَضِهِ دُعَاءَ المُضْطَرِّ [وَأَيُّوْبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّيْ مَسَّنِيَ الْضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الْرَّاحِمِيْنَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ] {الْأَنْبِيَاءِ:83-84}.
وَنَبِيُّ الله يُوْنُسُ عَلَيْهِ الْسَّلَامُ لما أَطْبَقَ عَلَيْهِ الْحُوتُ فَحُبِسَ فِيْ بَطْنِهِ عَلِمَ أَنَّهُ لَا سَامِعَ لاسْتِغَاثَتِهِ إِلَّا اللهُ تَعَالَى فَدَعَاهُ دُعَاءَ المُضْطَرِّ [فَنَادَى فِي الْظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الْظَّالِمِيْنَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ] {الْأَنْبِيَاءِ:87-88} أُوْلَئِكَ ثُلَّةٌ مِنْ رُسُلِ الله تَعَالَى دَعَوا دُعَاءَ المُضْطَرِّيْنَ فَاسْتُجِيْبَ لَهُمْ..
وَأَمَّا عُمُوْمُ المُؤْمِنِيْنَ فَأَخْبَارُهُمْ فِيْ دُعَاءِ الِاضْطِرَارِ لَا تَكَادُ تُحْصَى مِنْ كَثْرَتِهَا، بَلْ لَوْ قِيلَ: إِنَّهُ مَا مِنْ مُؤْمِنٍ إِلَّا وَقَدْ أَلْجَأَتْهُ ضَرُوْرَةٌ إِلَى الْدُّعَاءِ فَتَوَجَّهَ لله تَعَالَىْ مُسْتَغِيثَاً بِهِ، بِقَلْبٍ فَقِيْرٍ مُضْطَرٍّ فَاسْتُجِيْبَ لَهُ لَما كَانَ ذَلِكَ بَعِيْدَاً..
وَمِنْ أَخْبَارِهِمْ قِصَّةُ أَصْحَابِ الْغَارِ الْثَّلاثَةِ الَّذِيْنَ انْحَدَرَتْ عَلَيْهِمْ صَخْرَةٌ فَدَعَوُا اللهَ تَعَالَى بِصَالِحِ أَعْمَالِهِمْ فَفَرَّجَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمْ، وَفِيْ تَرَاجُمِ مُجَابِي الْدَّعْوَةِ أَخْبَارٌ كَثِيْرَةٌ عَنْ أَقْوَامٍ حُوْصِرُوا حَتَّى كَادُوْا أَنْ يَهْلِكُوا عَطَشَاً فَاسْتَسْقَوا اللهَ تَعَالَى فَسَقَاهُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ، أَوْ فَكَّ الحِصَارَ عَنْهُمْ...
وَأَمَّا إِجَابَةُ المُضْطَرِّيْنَ مِنَ الْكُفَّارِ فَجَاءَ ذِكْرُهَا فِي الْقُرْآَنِ كَثِيْرَاً جَدَّاً [فَإِذَا رَكِبُوْا فِيْ الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِيْنَ لَهُ الْدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُوْنَ] {الْعَنْكَبُوْتِ:65} [وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الْضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدَاً أَوْ قَائِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ] {يُوْنُسَ:12} [وَإِذَا مَسَّ الْنَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُّنِيْبِيْنَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيْقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُوْنَ] {الْرُّوْمُ:33}.
وَبِهَذِهِ الْآَيَاتِ وَأَمْثَالِهَا عَدَّ الْعُلَمَاءُ دَعْوَةَ المُضْطَرِّ فِيْ الْدَّعَوَاتِ المُجَابَةِ وَلَوْ كَانَ فَاسِقَاً أَوْ كَافِرَاً إِذَا أَخْلَصَ لله تَعَالَى فِي دُعَائِهِ؛ لِأَنَّ رَغْبَةَ المُضْطَرِّ أَقْوَى، وَدُعَاءَهُ أَخْضَعُ وَأَخْلَصُ.
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:« ضَمِنَ اللهُ تَعَالَى إِجَابَةَ المُضْطَرِّ إِذَا دَعَاهُ، وَأَخْبَرَ بِذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ، وَالْسَّبَبُ فِيْ ذَلِكَ أَنَّ الْضَّرُوْرَةَ إِلَيْهِ بِالَلجِيءِ يَنْشَأُ عَنِ الْإِخْلَاصِ، وَقَطْعِ الْقَلْبِ عَمَّا سِوَاهُ، وَلِلْإِخْلَاصِ عِنْدَهُ سُبْحَانَهُ مَوْقِعٌ وَذِمَّةٌ، وُجِدَ مِنْ مُؤْمُنٍ أَوْ كَافِرٍ، طَائِعٍ أَوْ فَاجِرٍ».اهـ وَقَالَ الْذَّهَبِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:« دُعَاءُ المُضْطَرِّ مُجَابٌ فِيْ أَيِّ مَكَانٍ اتَّفَقَ».
أَعُوْذُ بِالله مِنَ الْشَّيْطَانِ الْرَّجِيْمِ [وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِيْ الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُوْرَاً] {الْإِسْرَاءِ:67}.
بَارَكَ اللهُ لِيْ وَلَكُمْ..
الخُطْبَةُ الْثَّانِيَةُ
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيْعُوْهُ؛ فَإِنَّ الْتَّقْوَى سَبَبٌ لِلْقَطْرِ وَالزَّرْعِ وَالْرِّزْقِ وَالْبَرَكَةِ [وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوْا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ الْسَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوْا يَكْسِبُوْنَ] {الْأَعْرَافِ:96}.
أَيُّهَا المُسْلِمُوْنَ: قَدِ اسْتَقَرَّ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ المُضْطَرَّ لَا يُوْصِي غَيْرَهُ بِالْدُّعَاءِ لَهُ، بَلْ يَدْعُو هُوَ لِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ مَرْجُوُ الْإِجَابَةِ أَكْثَرَ مِنْ غَيرِهِ، قَالَ عُبَيْدُ الله بْنُ أَبَىْ صَالِحٍ:«دَخَلَ عَلَيَّ طَاوُسٌ يَعُوْدُنِيْ، فَقُلْتُ لَهُ: ادْعُ اللهَ لِي يَا أَبَا عَبْدِ الْرَّحْمَنِ. قَالَ: ادْعُ لِنَفْسِكَ، فَإِنَّهُ يُجِيْبُ المُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ» وِجَاءَ رَجُلٌ إِلَى مَالِكِ بْنِ دِيْنَارٍ فَقَالَ:«أَنَا أَسْأَلُكَ بِالله أَنْ تَدْعُوَ لِي فَأَنَا مُضْطَرٌّ، قَالَ: إِذَنْ فَاسْأَلْهُ فَإِنَّهُ يُجِيْبُ المُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ».
وَالَّذِي لَا يُسْتَجَابُ لَهُ إِمَّا أَنَّهُ غَيْرُ مُضْطَرٍّ، أَوْ أَنَّهُ لَمْ يَدْعُ دُعَاءَ المُضْطَرِّ مِنْ جِهَةِ تَعَلُّقِ قَلْبِهِ بِالله تَعَالَىْ، وَقَطْعِ كُلِّ تَعَلُّقٍ بِغَيْرِهِ، أَوْ أَنَّهُ لَمْ يَخْلِصْ فِيْ دُعَائِهِ كَمَنْ أَشْرَكَ مَعَ الله تَعَالَى غَيْرَهُ..وَإِلَّا فَمَنْ كَانَ مُضْطَرَّاً، وَدَعَا دُعَاءَ المُضْطَرِّ، وَأَخْلَصَ فِيْ دُعَائِهِ اسْتَجَابَ اللهُ تَعَالَىْ لَهُ فِيْ حَالِ اضْطِرَارِهِ وَلَوْ كَانَ مَاضِيْهِ سَيِّئَاً.
وَالِاسْتِغَاثَةُ بِالله تَعَالَىْ، وَطَلَبُ الْسُقْيَا مِنْهُ هِيَ مِنْ دَعَوَاتِ الِاضْطِرَارِ؛ لِأَنَّهُ لَا حَيَاةَ لِلْأَحْيَاءِ بِلَا مَاءٍ، فَفِيْ عَدَمِهِ هَلَاكُهُمْ، وَفِيْ نَقْصِهِ عَطَشُهُمْ وَقَذَرُهُمْ، وَمَوْتُ زَرْعِهِمْ، وَنُفُوقُ نَعَمِهِمْ، وَتَلَفُ أَمْوَالِهِمْ، فَتَكُوْنُ حَالُهُمْ مَعَ قِلَّةِ المَاءِ حَالَ المَكْرُوْبِ المُضْطَرِّ؛ وَلِذَا اشْتُهِرَ الِاسْتِسْقَاءُ فِيْ كُلِّ الْأُمَمِ، وَعَرَفَهُ أَكْثَرُ الْبَشَرِ؛ لِمَا يَرَوْنَ مِنْ أَثْرِهِ فِيْ نُزُوْلِ المَطَرِ، وَقَدْ نُقِلَ الِاسْتِسْقَاءُ عَنِ الْوَثَنِيِّيْنَ بِشَتَّى مِلَلِهِمْ. وَكَانَ المُشْرِكُوْنَ يَسْتَسْقُونَ فِيْ جَاهِلِيَّتِهِمْ، وَطَلَبُوا مِنَ الْنَّبِيِّ ^ أَنْ يَسْتَسْقِيَ لَهُمْ وَهُمْ لَمْ يُؤْمِنُوَا بِهِ..
وَكَانَ البَشَرُ عَلَى مَرِّ الْتَّارِيْخِ إِذَا خَرَجَوا لِلِاسْتِسْقَاءِ لَا يَرْجِعُوْنَ مِنْ مَحَلِّ اسْتِسْقَائِهِمْ إِلَّا وَهُمْ يَنْتَظِرُوْنَ المَطَرَ، وَيُوْقِنُوْنَ بِنُزُوْلِهِ، فَيُعَامِلُهُمْ الْرَّبُّ جَلَّ فِيْ عُلَاهُ مُعَامَلَةَ المُضْطَرِّ الَّذِيْ أَصَابَهُ الْضُّرُّ، وَيُعْطِيْهِمْ عَلَى قَدْرِ إِخْلَاصِهِمْ وَيَقِيْنِهِمْ..
وَكَانَ الْنَّاسُ إِلَى عَهْدٍ قَرِيْبٍ إِذَا أُعْلِنَ عَنْ صَلَاةِ الِاسْتِسْقَاءِ أَخَذْتُهُمْ رِعْدَةُ الْخُشُوْعِ، وَزَادَ إِيْمَانُهُمْ بِالله تَعَالَى، وَعَظُمَتْ رَغْبَتُهُمْ فِيْهِ، وَخَرَجُوْا لِلصَّلَاةِ مُنْكَسِرِيْنَ خَاضِعِيْنَ بِقُلُوْبٍ مُضْطَرَّةٍ مُفْتَقِرَةٍ إِلَى الله تَعَالَى، رَاجِيَةٍ مَا عِنْدَهُ، طَامِعَةٍ فِيْ كَرَمِهِ، فَلَا يَعُوْدُوْنَ مِنْ مُصَلَّاهُمْ إِلَّا وَهُمْ مُوْقِنُوْنَ أَنَّ الْغَيْثَ يَسْبِقُهُمْ إِلَى مَزَارِعِهِمْ وَدَوْرِهِمُ!! فَلِمَاذَا نَسْتَسْقِي نَحْنُ وَلَا نُسْقَى؟! وَلِمَاذَا نُعَاوِدُ الِاسْتِسْقَاءَ كَرَّاتٍ وُمَرَّاتٍ وَلَا نُسْقَى أَيْضَاً؟!
إِنَّ مِنْ أَهَمِّ أَسْبَابِ ذَلِكَ فَقْدُ الْشُّعُوْرِ بِالِاضْطِرَارِ.. نَعَمْ إِنَّهُ انْعِدَامُ الْإِحْسَاسِ بِاضْطِرَارِنا لِلِاسْتِسْقَاءِ.. فَالجُمُوعُ مِنَ الْبَشَرِ تَخْرُجُ لدُنْيَاهَا كَلَّ صَبَاحٍ، لَكِنَّها فِي صَبِيحَةِ الِاسْتِسْقَاءِ تَسْتَثْقِلُ المَيْلَ إِلَى المُصَلَّى، وَكَأَنَّهَا تَرَى أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ لَا يَعْنِيْهَا؛ حَتَّى إِنَّ المُصَلَّيَاتِ عَلَى قِلَّتِهَا لَا يَحْضُرُهَا إِلَّا الْقَلِيلُ مِنَ الْنَّاسِ.
وَرُبَّمَا أَنَّ كُثِيرَاً مِمنْ حَضَرُوهَا مَا حَضَرُوْا بِقُلُوْبٍ مُضْطَرَّةٍ مُفْتَقِرَةٍ إِلَى الله تَعَالَى، تَدْعُو دُعَاءَ المُضْطَرِّ.. لَكِنْ لَوْ أَنَّ الْنَّاسَ فَقَدُوا المَاءَ مِنْ بُيُوْتِهِمْ شُهْرَاً أَوْ شَهْرَيْنِ، وَظَنُّوا أَنَّهُ لَا يَعُوْدُ إِلَيْهِمْ إِلَّا بِاسْتِسْقَائِهِمْ لَرَأَيْتُمْ المَسَاجِدَ لَا تَسَعُ الْنَّاسَ، وَلأَبْصَرْتُمُ الِاضْطِرَارَ وَالافْتِقَارَ وَالْخُشُوْعَ لله تَعَالَىْ فِي وُجُوْهِهِمْ.. وَإِذَا أَرَدْتُمْ مَعْرِفَةَ حَقِيْقَةِ ذَلِكَ فَانْظُرُوْا إِلَى ازْدِحَامِ الْنَّاسِ وَخِصَامِهِمْ عَلَى شَّاحَنَاتِ تَرْوِيَةِ الْمِيَاهِ فِيْ حَيٍّ أَبْطَأَ عَنْهُ المَاءُ.. وَصَلَاةُ الِاسْتِسْقَاءِ، وَدُعَاءُ الِاضْطِرَارِ أَهْوَنُ مِنْ تَحَمُّلِ الْزِّحَامِ وَالانْتِظَارِ وَالْخِصَامِ، وعَطَاءُ الله تَعَالَى أَكْثَرُ، وَفَضْلُهُ أَوْسَعُ، وَخَزَائِنُهُ لَا تَنْفَدُ..
مَا أَحْوَجَنَا -عِبَادَ الله- إِلَى الشُعُوْرِ بِافْتِقَارِنَا إِلَى الله تَعَالَى، وَاضْطِرَارِنَا إِلَيْهِ، وَحَاجَتِنَا إِلَى مَدَدِهِ وَعَوْنِهِ فِيْ كُلِّ شَيْءٍ.. وَعَلَى رَأْسِ ذَلِكَ -بَعْدَ الثَّبَاتِ عَلَى الإِيْمَانِ- حَاجَتِنَا إِلَى سَبَبِ بَقَائِنَا وَحَيَاتِنَا وَهُوَ المَاءُ، وَعَدَمِ غُرُوْرِنَا بِمَا يَصِلُنَا فِيْ بُيُوَتِنَا مِنْهُ؛ فَإِنَّ الْجَفَافَ يَضُرُّ بِالزَّرْعِ وَالْضَّرْعِ وَالْهَوَاءِ، وَيُؤَثِرُ فِي مَعَايشِ النَّاسِ، وَيَكُوْنُ سَبَبَاً فِيْ الْقِلَّةِ وَالْحَاجَةِ..
مَا أَحْوَجَنَا وَنَحْنُ نَسْتَسْقِي أَنَّ نَجْأَرَ إِلَى رَبِّنَا سُبْحَانَهُ مُضْطَرِّيْنَ مُفْتَقِرِينَ مُلِحِّينَ مُنْكَسِرِيْنَ، نَسْتَحْضِرُ عَجْزَنَا وَضَعْفَنَا وَقِلَّةَ حِيْلَتِنَا، مَعَ اسْتِحَضَارِنَا لِعَظَمَةِ رَبِّنَا وَقُدْرَتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَكَرَمِهِ؛ فَإِنَّنَا إِنْ فَعَلْنَا ذَلِكَ أَفَاضَ عَلَيْنَا رَحْمَتَهُ، وَأَغْدَقَ عَلَيْنَا رِزْقَهُ، وَكَشَّفَ ضُرَّنَا، فَأَمْطَرَتْ سَمَاؤُنَا، وَأَنْبَتَتْ أَرْضُنَا، وَبُوْرِكَ لَنَا فِيْ زَرَعِنَا وَضَرْعِنَا وَرِزْقِنَا [وَلله خَزَائِنُ الْسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ] {الْمُنَافِقُوْنَ:7} [وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُوْمٍ] {الْحَجَرَ:21} [لَهُ مَقَالِيْدُ الْسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الْرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ] {الْشُّوْرَىْ:12}.
وَصَلُّوْا وَسَلِّمُوْا عَلَى نَبِيِّكُمْ..