نزول الملائكة بين غزوة بدر وليلة القدر
هلال الهاجري
1434/09/16 - 2013/07/24 19:54PM
الحمدُ للهِ وحدَه، نصرَ عبدَه، وأعزَّ جندَه، وهزمَ الأحزابَ وحدَه، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، له الحمدُ والشكرُ في الأولى والآخرةِ .. وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه، أرسلَه اللهُ إلى كافةِ الخلقِ بشيرًا ونذيرًا، فبلغَ الرسالةَ، وأدى الأمانةَ، ونصحَ الأمةَ، وجمعَ الكلمةَ، صلى اللهُ عليه وعلى صحابتِه ومن اقتفى آثارَهم إلى يومِ الدينِ، أما بعد:
(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)
في صَبِيحَةِ يومِ الْجُمعةِ من رَمَضَانَ في العامِ الثاني للهجرةِ، في مثلِ هذا اليومِ السابعِ عشرَ، وقعَ حدثٌ عظيمٌ للإسلامِ والمسلمينَ .. فما هو يا تُرى؟
بَلَغَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَبَرُ قَافِلَةٍ مُقْبِلَةٍ مِنْ الشَّامِ لِقُرَيْشِ، وأَنَّهَا قَدْ فَصَلَتْ مِنْ الشَّامِِ، عَائِدَةً إِلى مَكَّةَ، فَنَدَبَ لَهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ، لِلْخُرُوجِ إِلَيْهَا، وَأَمَرَ مَنْ كَانَ ظَهْرُهُ حَاضِرًا بِالنُّهُوضِ، فخَرَجَ مُسْرِعًا وَمَعَهُ ثَلاثُمِائَةٍ وَبِضْعَةُ عَشَرَ رَجُلاً مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ.
ووَصَلَ الْخَبَرُ إلى أَبي سُفْيَانَ أَنَّ مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ يَتَرَصَّدُونَ عوْدَته، فأرْسَلَ على عَجَلٍ ضَمْضَمَ بنَ عَمْروٍ الغِفَارِيّ إلى مَكَّةَ، مُسْتَصْرِخًا لِقُرَيْشٍ بالنَّفِير إلى عِيرِهِمْ، وَوَصَّاهُ أَنْ يَتَّخِذَ لِذَلِكَ كُلَّ وَسِيلَةٍ تُثِيرُ مَشَاعِرَ القَوْمِ، وَتَسْتَنْهِضُ هِمَمَهُمْ لِلْغَوْثِ وَالنَّجْدَةِ، فَاتَّخَذَ رَسُولُهُ لِذَلِكَ كُلَّ مَظَاهِرِ الصَّارِخِ الْمَلْهُوفِ، فَجَدَع بَعِيرَهُ، وَحَوَّلَ رَحْلَهُ، وَشَقَّ قَمِيصَهُ، وَوَقَفَ يَصْرُخُ بِبَطْنِ الوَادِي قَائِلاً: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ اللَّطِيمَةَ اللَّطِيمَةَ، أَمْوَالُكُمْ مَعَ أَبِي سُفْيَانَ، قَدْ عَرَضَ لَهَا مُحَمَّدٌ وَأَصْحَابُهُ، لا أَرَى أَنْ تُدْرِكُوهَا، الغَوْثَ الغَوْثَ.
وأما أبو سفيانَ فقد أخذَ طريقَ سَاحِلِ البحرِ، فَاسْتطَاعَ أَنْ يَنْجُوَ بَأَمْوَالِ قُرَيْشٍ، وَلَمَّا رَأَى أَنَّهُ قَدْ نَجَا وَأَحْرَزَ العَيْرَ، كَتَبَ إِلى قريشٍ أَنْ ارْجِعُوا، فَإِنَّكُمْ إِنَّمَا خَرَجْتُمْ لِتُحْرِزُوا عِيرَكُمْ، فَأتَاهُمْ الْخَبَرُ وَهُمْ بِالْجُحْفَةِ ، فَهَمُّوا بالرُّجُوعِ وَرَغِبَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ بِذَلِكَ، وَلَكِنَّ أَبَا جَهْلٍ أخَذَ يَصِيحُ في القَوْمِ وَيَقُولُ: وَاللهِ لا نَرْجِعُ حَتَّى نَرِدَ بَدْرًا، فَنُقِيمَ بِهَا، وَنُطْعِمَ مَنْ حَضَرَنَا مِنْ العَرَبَ وَنَسْقِيَ الْخَمْرَ، وَتَعْزِفُ عَلَيْنَا القِيَانُ –المُغنياتُ-، وَتَسْمَعَ العربُ بنا، وبِمَسِيرنا، وَجَمْعِنَا، وَلا يَزَالُونَ يَهَابُونَنَا .. كما وصفَهم اللهُ تعالى: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ).
وأما رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ فلما أَتَاهُ الْخَبَرُ عَنْ قُرَيْشٍ بِمَسِيرِهِمْ لِيَمْنَعُوا عِيرَهُمْ، اسْتَشَارَ النَّاسَ، وَأَخْبَرَهُمْ عَنْ قُرَيْشٍ فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، فَقَالَ وَأَحْسَنَ، ثُمَّ قَامَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَقَالَ وَأَحْسَنَ، ثُمَّ قَامَ الْمِقْدَادُ بْنُ عَمْرٍو فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، امْضِ لِمَا أَرَاكَ اللَّهُ فَنَحْنُ مَعَكَ، وَاَللَّهِ لَا نَقُولُ لَكَ كَمَا قَالَتْ بَنُو إسْرَائِيلَ لِمُوسَى: (اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا، إنَّا هَهُنَا قَاعِدُونَ)، وَلَكِنْ اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إنَّا مَعَكُمَا مُقَاتِلُونَ، فَوَاَلَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَوْ سِرْتَ بِنَا إلَى بِرْكِ الْغِمَادِ لَجَالَدْنَا مَعَكَ مِنْ دُونِهِ، حَتَّى تَبْلُغَهُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرًا، وَدَعَا لَهُ بِهِ.
ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَشِيرُوا عَلَيَّ أَيُّهَا النَّاسُ وَإِنَّمَا يُرِيدُ الْأَنْصَارَ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ عَدَدُ النَّاسِ، وَأَنَّهُمْ حِينَ بَايَعُوهُ بِالْعَقَبَةِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ: إنَّا بُرَاءٌ مِنْ ذِمَامِكَ حَتَّى تَصِلَ إلَى دِيَارِنَا، فَإِذَا وَصَلْتَ إلَيْنَا، فَأَنْتَ فِي ذِمَّتِنَا نَمْنَعُكَ مِمَّا نَمْنَعُ مِنْهُ أَبْنَاءَنَا وَنِسَاءَنَا. فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَخَوَّفُ أَلَّا تَكُونَ الْأَنْصَارُ تَرَى عَلَيْهَا نَصْرَهُ إلَّا مِمَّنْ دَهَمَهُ بِالْمَدِينَةِ مِنْ عَدُوِّهِ، وَأَنْ لَيْسَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَسِيرَ بِهِمْ إلَى عَدُوٍّ مِنْ بِلَادِهِمْ، فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ: وَاَللَّهِ لَكَأَنَّكَ تُرِيدُنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟، قَالَ أَجَلْ، قَالَ: فَقَدْ آمَنَّا بِكَ وَصَدَّقْنَاكَ، وَشَهِدْنَا أَنَّ مَا جِئْتَ بِهِ هُوَ الْحَقُّ، وَأَعْطَيْنَاكَ عَلَى ذَلِكَ عُهُودَنَا وَمَوَاثِيقَنَا، عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، فَامْضِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لِمَا أَرَدْتَ فَنَحْنُ مَعَكَ، فَوَاَلَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، لَوْ اسْتَعْرَضْتَ بِنَا هَذَا الْبَحْرَ فَخُضْتَهُ لَخُضْنَاهُ مَعَكَ، مَا تَخَلَّفَ مِنَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ، وَمَا نَكْرَهُ أَنْ تَلْقَى بِنَا عَدُوَّنَا غَدًا، إنَّا لَصُبُرٌ فِي الْحَرْبِ، صُدُقٌ فِي اللِّقَاءِ، ولَعَلَّ اللَّهَ يُرِيكَ مِنَّا مَا تَقَرُّ بِهِ عَيْنُكَ، فَسِرْ بِنَا عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ .. فَسُرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِ سَعْدٍ، ثُمَّ قَالَ: سِيرُوا وَأَبْشِرُوا، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ وَعَدَنِي إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، وَاَللَّهِ لَكَأَنِّي الْآنَ أَنْظُرُ إلَى مَصَارِعِ الْقَوْمِ.
فلما التقى الجيشانِ، قالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلمَ: (قُومُوا إِلَى جَنَّةٍ عَرْضُها السَّمَواتُ وَالأَرْضُ) ..فقالَ عُميرُ بنُ الحُمَامِ الأنصاري: يا رسولَ اللهِ، جنةٌ عرضُها السمواتِ والأرضِ؟ .. قالَ: (نَعَمْ) .. قالَ: بخٍ بخٍ .. قالَ: (مَا يَحْمِلُكَ عَلَى قَوْلِ بَخٍ بَخٍ؟) .. قالَ: رجاءَ أنْ أكونَ من أهلِها .. قالَ: (فَإِنَّكَ مِنْ أَهْلِهَا) .. فأخرجَ تمراتٍ من قَرَنه –وعاءِ النِّبالِ-؛ فجعلَ يأكلُ منها؛ ثم قالَ: لئنْ أنا حييتُ حتى آكلَ هذه التمراتِ، إنها لحياةٌ طويلةٌ؛ فرمى بما كانَ معه من التمرِ ثم قاتلَهم حتى قُتلَ شهيداً رضيَ اللهُ عنه وأرضاهُ.
ولما عَدّلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الصّفُوفَ رَجَعَ إلَى العريشِ، فَدَخَلَهُ وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ الصّدّيقُ، لَيْسَ مَعَهُ فِيهِ غَيْرُهُ، وإذا بَرَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يُنَاشِدُ رَبّهُ مَا وَعَدَهُ مِنْ النّصْرِ، وَيَقُولُ: (اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي .. اللَّهُمَّ آتِ مَا وَعَدْتَنِي.. اللَّهُمَّ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ مِنْ أَهْلِ الإسلام لا تُعْبَدْ فِي الأرْضِ) .. وبالغَ في الابتهالِ، فَمَا زَالَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ مَادًّا يَدَيْهِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ مَنْكِبَيْهِ، فَأَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ فَأَخَذَ رِدَاءَهُ فَأَلْقَاهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ، ثُمَّ الْتَزَمَهُ مِنْ وَرَائِهِ، وَقَالَ: (يَا نَبِيَّ اللَّهِ، كَفَاكَ مُنَاشَدَتُكَ رَبَّكَ، فَإِنَّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ).
فما الذي حدثَ بعدَ ذلك؟
أَخَذَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِنَةٌ مِنْ النَّوْم ثُمَّ اِسْتَيْقَظَ مُبْتَسِمًا فَقَالَ: (أَبْشِرْ يَا أَبَا بَكْر أَتَاك نَصْرُ اللّهِ، هَذَا جِبْرِيلُ آخِذٌ بِعَنَانِ فَرَسٍ يَقُودُهُ، عَلَى ثَنَايَاهُ النّقْعُ –أي الغبارُ-) .. ثُمَّ خَرَجَ مِنْ بَابِ الْعَرِيش وَهُوَ يَتْلُو قَوْلَه تَعَالَى: (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُر) .. كما وصفَ اللهُ تعالى: (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).
قـالَ ابنُ عباسٍ في خَبَرِ يومِ بَدْرٍ: بينما رَجـلٌ من المسلمينَ يومئذٍ يَشْتَدُّ في أثَرِ رَجُلٍ مِـن الْمُشْرِكِين أمَامَه إذ سَمِعَ ضَرْبةً بِالسَّوطِ فَـوْقَه وصَوتَ الفَارِسِ يَقول: أَقْدِم حَيْزُوم –اسمُ فَرَسِ المَلَكِ-، فنظـرَ إلى الْمُشْرِكِ أمَامَه، فَخَرَّ مُسْتَلْقِيًا، فَنَظَر إلـيه فإذا هو قد خُطِمَ أنْفُه، وشُقَّ وَجْهُه كَضَرْبَةِ السَّـوطِ، فَاخْضَرَّ ذَلِكَ أَجْمَعُ، فَجَاءَ الأَنْصَارِيُّ فَحَدَّثَ بِذَلِـكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّـمَ، فَقَالَ: (صَدَقْتَ .. ذَلِكَ مِنْ مَدَدِ السَّمَـاءِ الثَّالِثَةِ).
وكانَ نصراً عظيماً للمسلمينَ .. حتى أن اللهَ تعالى سماهُ يومَ الفرقانِ حيثُ فرقَ به بينَ الحقِ والباطلِ في أولِ مواجهةٍ بينَ الإسلامِ والشركِ .. فقُتلُ من المشركينَ سبعونَ من زعمائِهم .. وأُسرَ منهم مثلُ ذلك.
عن رفاعةَ بنِ رافعٍ قالَ: جاءَ جبريلُ إلى النبيِ صلى اللهُ عليه وسلمَ فقالَ: مَا تَعُدُّونَ أَهْلَ بَدْرٍ فِيكُمْ؟، قال: مِنْ أَفْضَلِ الْمُسْلِمِينَ، قالَ: (وَكَذَلِكَ مَنْ شَهِدَ بَدْرًا مِنَ الْمَلاَئِكَةِ).
أقولُ قولي هذا وأستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم ولجميعِ المسلمينَ من كلِ ذنبٍ فاستغفروه إنه هو الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ ربِ العالمينَ، الذي أنزلَ القرآنَ في ليلةٍ مباركةٍ، والصلاةُ والسلامُ على من اجتهدَ في تلك اللياليِ العظيمةِ المباركةِ، نبيِنا محمدٍ وعلى آلهِ وصحبِه أجمعينَ .. أما بعدُ:
يا أهلَ الإيمانِ ..
بعدَ ليالٍ قليلةٍ ستنزلُ ملائكةُ الرحمنِ مرةً أخرى ومعها الروحُ الأمينُ جبريلُ عليه السلامُ .. (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ) .. وليسوا ألفاً أو خمسةَ آلافٍ، بل كما جاء في الحديثِ: (إِنَّ الْمَلائِكَةَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ فِي الأَرْضِ أَكْثَرُ مِنْ عَدَدِ الْحَصَى).
تلك الملائكةُ التي تحبُكم وتستغفرُ لكم عندَ عرشِ الرحمنِ (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا) .. سيأتونَ لزيارةِ الأرضِ ليروا عبادَ اللهِ وكيفَ يتنافسونَ على طاعةِ اللهِ تعالى في تلك الليلةِ .. الجليلةِ القَدرِ .. العظيمةِ الأجرِ .. الذي من قامَها إيماناً واحتساباً غُفرَت له ذنوبُ العُمُرِ.
فهل سَترى الملائكةُ شيئاً مما رأتْهُ في غزوةِ بدرٍ؟
هل سَترى مَنْ يستغيثُ اللهَ يدعو بالمغفرةِ والعتقِ من النارِ رافعاً يديه كما كان يستغيثُ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ ربَه؟ .. هل سَترى مَنْ يُقَدِمُ طاعةَ اللهِ تعالى ورسولِه عليه الصلاةُ والسلامُ على كلِ شيءٍ، حتى ولو كان الثمنُ روحَه التي بين جنبيه كما كان الصحابةُ رضيَ اللهُ عنهم؟ .. هل سَترى القائمَ الراكعَ الساجدَ التاليَ لكتابِ اللهِ تعالى الذي يشتاقُ إلى جنةٍ عرضُها السمواتُ والأرضُ كما اشتاقَ عميرٌ رضيَ اللهُ عنه؟.
هل سيرونَ ما ظَنّوه من قبلُ (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ)؟ .. أم سَيرون قياماً وتلاوةً وصدقةً ودعاءً؟.
كَانَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ إِذَا دَخَلَ العَشْرُ الأَوَاخِرُ مِنْ رَمَضَانَ، أحْيَا اللَّيْلَ، وَأيْقَظَ أهْلَهُ، وَجَدَّ وَشَدَّ المِئزَرَ، ويعتكفُ في المسجدِ، ويَجْتَهِدُ فِى الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مَا لاَ يَجْتَهِدُ فِى غَيْرِهَا .. هذا حالُ من غُفرَ له ما تقدمَ من ذنبِه وما تأخرَ .. فما هو حالُنا؟ .. فأروا اللهَ تعالى وملائكتَه خيراً .. فإنما هي أيامٌ فينتهي الشهرُ .. ويفوزُ من قامَ ليلةَ القدرِ .. وعليكم بالدعاءِ الذي وصاكم به نبيُكم عليه الصلاةُ والسلامُ: (اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ العَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي).
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ هَذَا الشَّهْرَ قَدْ حَضَرَكُمْ وَفِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، مَنْ حُرِمَهَا فَقَدْ حُرِمَ الْخَيْرَ كُلَّهُ، وَلا يُحْرَمُ خَيْرَهَا إِلا مَحْرُومٌ).
اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِمَّنْ يَقُومُونَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَاناً وَاحْتِسَاباً .. اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّا .
(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)
في صَبِيحَةِ يومِ الْجُمعةِ من رَمَضَانَ في العامِ الثاني للهجرةِ، في مثلِ هذا اليومِ السابعِ عشرَ، وقعَ حدثٌ عظيمٌ للإسلامِ والمسلمينَ .. فما هو يا تُرى؟
بَلَغَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَبَرُ قَافِلَةٍ مُقْبِلَةٍ مِنْ الشَّامِ لِقُرَيْشِ، وأَنَّهَا قَدْ فَصَلَتْ مِنْ الشَّامِِ، عَائِدَةً إِلى مَكَّةَ، فَنَدَبَ لَهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ، لِلْخُرُوجِ إِلَيْهَا، وَأَمَرَ مَنْ كَانَ ظَهْرُهُ حَاضِرًا بِالنُّهُوضِ، فخَرَجَ مُسْرِعًا وَمَعَهُ ثَلاثُمِائَةٍ وَبِضْعَةُ عَشَرَ رَجُلاً مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ.
ووَصَلَ الْخَبَرُ إلى أَبي سُفْيَانَ أَنَّ مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ يَتَرَصَّدُونَ عوْدَته، فأرْسَلَ على عَجَلٍ ضَمْضَمَ بنَ عَمْروٍ الغِفَارِيّ إلى مَكَّةَ، مُسْتَصْرِخًا لِقُرَيْشٍ بالنَّفِير إلى عِيرِهِمْ، وَوَصَّاهُ أَنْ يَتَّخِذَ لِذَلِكَ كُلَّ وَسِيلَةٍ تُثِيرُ مَشَاعِرَ القَوْمِ، وَتَسْتَنْهِضُ هِمَمَهُمْ لِلْغَوْثِ وَالنَّجْدَةِ، فَاتَّخَذَ رَسُولُهُ لِذَلِكَ كُلَّ مَظَاهِرِ الصَّارِخِ الْمَلْهُوفِ، فَجَدَع بَعِيرَهُ، وَحَوَّلَ رَحْلَهُ، وَشَقَّ قَمِيصَهُ، وَوَقَفَ يَصْرُخُ بِبَطْنِ الوَادِي قَائِلاً: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ اللَّطِيمَةَ اللَّطِيمَةَ، أَمْوَالُكُمْ مَعَ أَبِي سُفْيَانَ، قَدْ عَرَضَ لَهَا مُحَمَّدٌ وَأَصْحَابُهُ، لا أَرَى أَنْ تُدْرِكُوهَا، الغَوْثَ الغَوْثَ.
وأما أبو سفيانَ فقد أخذَ طريقَ سَاحِلِ البحرِ، فَاسْتطَاعَ أَنْ يَنْجُوَ بَأَمْوَالِ قُرَيْشٍ، وَلَمَّا رَأَى أَنَّهُ قَدْ نَجَا وَأَحْرَزَ العَيْرَ، كَتَبَ إِلى قريشٍ أَنْ ارْجِعُوا، فَإِنَّكُمْ إِنَّمَا خَرَجْتُمْ لِتُحْرِزُوا عِيرَكُمْ، فَأتَاهُمْ الْخَبَرُ وَهُمْ بِالْجُحْفَةِ ، فَهَمُّوا بالرُّجُوعِ وَرَغِبَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ بِذَلِكَ، وَلَكِنَّ أَبَا جَهْلٍ أخَذَ يَصِيحُ في القَوْمِ وَيَقُولُ: وَاللهِ لا نَرْجِعُ حَتَّى نَرِدَ بَدْرًا، فَنُقِيمَ بِهَا، وَنُطْعِمَ مَنْ حَضَرَنَا مِنْ العَرَبَ وَنَسْقِيَ الْخَمْرَ، وَتَعْزِفُ عَلَيْنَا القِيَانُ –المُغنياتُ-، وَتَسْمَعَ العربُ بنا، وبِمَسِيرنا، وَجَمْعِنَا، وَلا يَزَالُونَ يَهَابُونَنَا .. كما وصفَهم اللهُ تعالى: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ).
وأما رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ فلما أَتَاهُ الْخَبَرُ عَنْ قُرَيْشٍ بِمَسِيرِهِمْ لِيَمْنَعُوا عِيرَهُمْ، اسْتَشَارَ النَّاسَ، وَأَخْبَرَهُمْ عَنْ قُرَيْشٍ فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، فَقَالَ وَأَحْسَنَ، ثُمَّ قَامَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَقَالَ وَأَحْسَنَ، ثُمَّ قَامَ الْمِقْدَادُ بْنُ عَمْرٍو فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، امْضِ لِمَا أَرَاكَ اللَّهُ فَنَحْنُ مَعَكَ، وَاَللَّهِ لَا نَقُولُ لَكَ كَمَا قَالَتْ بَنُو إسْرَائِيلَ لِمُوسَى: (اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا، إنَّا هَهُنَا قَاعِدُونَ)، وَلَكِنْ اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إنَّا مَعَكُمَا مُقَاتِلُونَ، فَوَاَلَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَوْ سِرْتَ بِنَا إلَى بِرْكِ الْغِمَادِ لَجَالَدْنَا مَعَكَ مِنْ دُونِهِ، حَتَّى تَبْلُغَهُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرًا، وَدَعَا لَهُ بِهِ.
ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَشِيرُوا عَلَيَّ أَيُّهَا النَّاسُ وَإِنَّمَا يُرِيدُ الْأَنْصَارَ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ عَدَدُ النَّاسِ، وَأَنَّهُمْ حِينَ بَايَعُوهُ بِالْعَقَبَةِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ: إنَّا بُرَاءٌ مِنْ ذِمَامِكَ حَتَّى تَصِلَ إلَى دِيَارِنَا، فَإِذَا وَصَلْتَ إلَيْنَا، فَأَنْتَ فِي ذِمَّتِنَا نَمْنَعُكَ مِمَّا نَمْنَعُ مِنْهُ أَبْنَاءَنَا وَنِسَاءَنَا. فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَخَوَّفُ أَلَّا تَكُونَ الْأَنْصَارُ تَرَى عَلَيْهَا نَصْرَهُ إلَّا مِمَّنْ دَهَمَهُ بِالْمَدِينَةِ مِنْ عَدُوِّهِ، وَأَنْ لَيْسَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَسِيرَ بِهِمْ إلَى عَدُوٍّ مِنْ بِلَادِهِمْ، فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ: وَاَللَّهِ لَكَأَنَّكَ تُرِيدُنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟، قَالَ أَجَلْ، قَالَ: فَقَدْ آمَنَّا بِكَ وَصَدَّقْنَاكَ، وَشَهِدْنَا أَنَّ مَا جِئْتَ بِهِ هُوَ الْحَقُّ، وَأَعْطَيْنَاكَ عَلَى ذَلِكَ عُهُودَنَا وَمَوَاثِيقَنَا، عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، فَامْضِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لِمَا أَرَدْتَ فَنَحْنُ مَعَكَ، فَوَاَلَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، لَوْ اسْتَعْرَضْتَ بِنَا هَذَا الْبَحْرَ فَخُضْتَهُ لَخُضْنَاهُ مَعَكَ، مَا تَخَلَّفَ مِنَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ، وَمَا نَكْرَهُ أَنْ تَلْقَى بِنَا عَدُوَّنَا غَدًا، إنَّا لَصُبُرٌ فِي الْحَرْبِ، صُدُقٌ فِي اللِّقَاءِ، ولَعَلَّ اللَّهَ يُرِيكَ مِنَّا مَا تَقَرُّ بِهِ عَيْنُكَ، فَسِرْ بِنَا عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ .. فَسُرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِ سَعْدٍ، ثُمَّ قَالَ: سِيرُوا وَأَبْشِرُوا، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ وَعَدَنِي إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، وَاَللَّهِ لَكَأَنِّي الْآنَ أَنْظُرُ إلَى مَصَارِعِ الْقَوْمِ.
فلما التقى الجيشانِ، قالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلمَ: (قُومُوا إِلَى جَنَّةٍ عَرْضُها السَّمَواتُ وَالأَرْضُ) ..فقالَ عُميرُ بنُ الحُمَامِ الأنصاري: يا رسولَ اللهِ، جنةٌ عرضُها السمواتِ والأرضِ؟ .. قالَ: (نَعَمْ) .. قالَ: بخٍ بخٍ .. قالَ: (مَا يَحْمِلُكَ عَلَى قَوْلِ بَخٍ بَخٍ؟) .. قالَ: رجاءَ أنْ أكونَ من أهلِها .. قالَ: (فَإِنَّكَ مِنْ أَهْلِهَا) .. فأخرجَ تمراتٍ من قَرَنه –وعاءِ النِّبالِ-؛ فجعلَ يأكلُ منها؛ ثم قالَ: لئنْ أنا حييتُ حتى آكلَ هذه التمراتِ، إنها لحياةٌ طويلةٌ؛ فرمى بما كانَ معه من التمرِ ثم قاتلَهم حتى قُتلَ شهيداً رضيَ اللهُ عنه وأرضاهُ.
ولما عَدّلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الصّفُوفَ رَجَعَ إلَى العريشِ، فَدَخَلَهُ وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ الصّدّيقُ، لَيْسَ مَعَهُ فِيهِ غَيْرُهُ، وإذا بَرَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يُنَاشِدُ رَبّهُ مَا وَعَدَهُ مِنْ النّصْرِ، وَيَقُولُ: (اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي .. اللَّهُمَّ آتِ مَا وَعَدْتَنِي.. اللَّهُمَّ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ مِنْ أَهْلِ الإسلام لا تُعْبَدْ فِي الأرْضِ) .. وبالغَ في الابتهالِ، فَمَا زَالَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ مَادًّا يَدَيْهِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ مَنْكِبَيْهِ، فَأَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ فَأَخَذَ رِدَاءَهُ فَأَلْقَاهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ، ثُمَّ الْتَزَمَهُ مِنْ وَرَائِهِ، وَقَالَ: (يَا نَبِيَّ اللَّهِ، كَفَاكَ مُنَاشَدَتُكَ رَبَّكَ، فَإِنَّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ).
فما الذي حدثَ بعدَ ذلك؟
أَخَذَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِنَةٌ مِنْ النَّوْم ثُمَّ اِسْتَيْقَظَ مُبْتَسِمًا فَقَالَ: (أَبْشِرْ يَا أَبَا بَكْر أَتَاك نَصْرُ اللّهِ، هَذَا جِبْرِيلُ آخِذٌ بِعَنَانِ فَرَسٍ يَقُودُهُ، عَلَى ثَنَايَاهُ النّقْعُ –أي الغبارُ-) .. ثُمَّ خَرَجَ مِنْ بَابِ الْعَرِيش وَهُوَ يَتْلُو قَوْلَه تَعَالَى: (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُر) .. كما وصفَ اللهُ تعالى: (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).
قـالَ ابنُ عباسٍ في خَبَرِ يومِ بَدْرٍ: بينما رَجـلٌ من المسلمينَ يومئذٍ يَشْتَدُّ في أثَرِ رَجُلٍ مِـن الْمُشْرِكِين أمَامَه إذ سَمِعَ ضَرْبةً بِالسَّوطِ فَـوْقَه وصَوتَ الفَارِسِ يَقول: أَقْدِم حَيْزُوم –اسمُ فَرَسِ المَلَكِ-، فنظـرَ إلى الْمُشْرِكِ أمَامَه، فَخَرَّ مُسْتَلْقِيًا، فَنَظَر إلـيه فإذا هو قد خُطِمَ أنْفُه، وشُقَّ وَجْهُه كَضَرْبَةِ السَّـوطِ، فَاخْضَرَّ ذَلِكَ أَجْمَعُ، فَجَاءَ الأَنْصَارِيُّ فَحَدَّثَ بِذَلِـكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّـمَ، فَقَالَ: (صَدَقْتَ .. ذَلِكَ مِنْ مَدَدِ السَّمَـاءِ الثَّالِثَةِ).
وكانَ نصراً عظيماً للمسلمينَ .. حتى أن اللهَ تعالى سماهُ يومَ الفرقانِ حيثُ فرقَ به بينَ الحقِ والباطلِ في أولِ مواجهةٍ بينَ الإسلامِ والشركِ .. فقُتلُ من المشركينَ سبعونَ من زعمائِهم .. وأُسرَ منهم مثلُ ذلك.
عن رفاعةَ بنِ رافعٍ قالَ: جاءَ جبريلُ إلى النبيِ صلى اللهُ عليه وسلمَ فقالَ: مَا تَعُدُّونَ أَهْلَ بَدْرٍ فِيكُمْ؟، قال: مِنْ أَفْضَلِ الْمُسْلِمِينَ، قالَ: (وَكَذَلِكَ مَنْ شَهِدَ بَدْرًا مِنَ الْمَلاَئِكَةِ).
أقولُ قولي هذا وأستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم ولجميعِ المسلمينَ من كلِ ذنبٍ فاستغفروه إنه هو الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ ربِ العالمينَ، الذي أنزلَ القرآنَ في ليلةٍ مباركةٍ، والصلاةُ والسلامُ على من اجتهدَ في تلك اللياليِ العظيمةِ المباركةِ، نبيِنا محمدٍ وعلى آلهِ وصحبِه أجمعينَ .. أما بعدُ:
يا أهلَ الإيمانِ ..
بعدَ ليالٍ قليلةٍ ستنزلُ ملائكةُ الرحمنِ مرةً أخرى ومعها الروحُ الأمينُ جبريلُ عليه السلامُ .. (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ) .. وليسوا ألفاً أو خمسةَ آلافٍ، بل كما جاء في الحديثِ: (إِنَّ الْمَلائِكَةَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ فِي الأَرْضِ أَكْثَرُ مِنْ عَدَدِ الْحَصَى).
تلك الملائكةُ التي تحبُكم وتستغفرُ لكم عندَ عرشِ الرحمنِ (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا) .. سيأتونَ لزيارةِ الأرضِ ليروا عبادَ اللهِ وكيفَ يتنافسونَ على طاعةِ اللهِ تعالى في تلك الليلةِ .. الجليلةِ القَدرِ .. العظيمةِ الأجرِ .. الذي من قامَها إيماناً واحتساباً غُفرَت له ذنوبُ العُمُرِ.
فهل سَترى الملائكةُ شيئاً مما رأتْهُ في غزوةِ بدرٍ؟
هل سَترى مَنْ يستغيثُ اللهَ يدعو بالمغفرةِ والعتقِ من النارِ رافعاً يديه كما كان يستغيثُ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ ربَه؟ .. هل سَترى مَنْ يُقَدِمُ طاعةَ اللهِ تعالى ورسولِه عليه الصلاةُ والسلامُ على كلِ شيءٍ، حتى ولو كان الثمنُ روحَه التي بين جنبيه كما كان الصحابةُ رضيَ اللهُ عنهم؟ .. هل سَترى القائمَ الراكعَ الساجدَ التاليَ لكتابِ اللهِ تعالى الذي يشتاقُ إلى جنةٍ عرضُها السمواتُ والأرضُ كما اشتاقَ عميرٌ رضيَ اللهُ عنه؟.
هل سيرونَ ما ظَنّوه من قبلُ (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ)؟ .. أم سَيرون قياماً وتلاوةً وصدقةً ودعاءً؟.
كَانَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ إِذَا دَخَلَ العَشْرُ الأَوَاخِرُ مِنْ رَمَضَانَ، أحْيَا اللَّيْلَ، وَأيْقَظَ أهْلَهُ، وَجَدَّ وَشَدَّ المِئزَرَ، ويعتكفُ في المسجدِ، ويَجْتَهِدُ فِى الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مَا لاَ يَجْتَهِدُ فِى غَيْرِهَا .. هذا حالُ من غُفرَ له ما تقدمَ من ذنبِه وما تأخرَ .. فما هو حالُنا؟ .. فأروا اللهَ تعالى وملائكتَه خيراً .. فإنما هي أيامٌ فينتهي الشهرُ .. ويفوزُ من قامَ ليلةَ القدرِ .. وعليكم بالدعاءِ الذي وصاكم به نبيُكم عليه الصلاةُ والسلامُ: (اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ العَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي).
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ هَذَا الشَّهْرَ قَدْ حَضَرَكُمْ وَفِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، مَنْ حُرِمَهَا فَقَدْ حُرِمَ الْخَيْرَ كُلَّهُ، وَلا يُحْرَمُ خَيْرَهَا إِلا مَحْرُومٌ).
اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِمَّنْ يَقُومُونَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَاناً وَاحْتِسَاباً .. اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّا .
المرفقات
نزول الملائكة بين غزوة بدر وليلة القدر.zip
نزول الملائكة بين غزوة بدر وليلة القدر.zip
المشاهدات 3873 | التعليقات 3
موعظةٌ جليلة ، تقبّل الله منك أستاذ هلال و جعلها في ميزان الحسنات .
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا ونفع بك
ابو عبدالله التميمي
بارك الله فيك شيخ هلال.
تعديل التعليق