نحن و أبناؤنا 1444/12/26ه

يوسف العوض
1444/12/22 - 2023/07/10 10:30AM

الخطبة الأولى


أَيُّهَا المُسْلِمُونَ:إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْمِنَنِ وَأَتَمِّ النِّعَمِ الَّتِي امْتَنَّ اللهُ تَعَالَى بِهَا عَلَى عِبَادِهِ نِعْمَةَ (الوَلَدِ)، فَقَدْ وَصَفَ اللهُ الوَلَدَ بِأَنَّهُ زِينَةُ الحَيَاةِ الدُّنْيا، فَقَالَ:(الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا)، وَوَصَفَ اللهُ الوَلَدَ بِأَنَّهُ فِتْنَةٌ، فَقَالَ: ( وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ )، وَقَدْ فَطَرَ اللهُ النُّفُوسَ عَلَى حُبِّ الوَلَدِ وَالتَّعَلُّقِ بِهِ، وَوَطَّنَ اللهُ القُلُوبَ عَلَى التَّأَسُّفِ الشَّدِيدِ عِنْدَ إِصَابَتِهِ بِأَدْنَى مَكْرُوهٍ، فَهَا هُوَ يَعْقُوبُ عَلَيْهِ وعلى نَبِيِّنا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الحُزْنِ حِينَ أَعْلَمَهُ أَبْناؤُهُ بِمَوْتِ ابْنِهِ يُوسُفَ، وَهَا هُوَ نَبِيُّنا مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ صَاحِبُ القَلْبِ المُشْفِقِ وَالصَّبْرِ العَظِيمِ يَحْمِلُ عَلَى ظَهْرِهِ وَهُوَ يُصَلِّي الحُسَيْنَ وَهُوَ يُشْفِقُ عَلَيْهِ أَلَّا يَسْقُطَ، وَهُوَ نَفْسُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ تَدْمَعُ عَيْنُهُ لِفَقْدِ ابْنِهِ إِبْراهِيمَ، وَحيِنَ سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ قَالَ: «إِنَّ القَلْبَ لَيَحْزَنُ، وَإِنَّ العَيْنَ لَتَدْمَعُ، وَإِنَّا عَلَى فِرَاقِكَ يَا إِبْراهِيمُ لَمَحْزُونُونَ، وَلَا نَقُولُ إِلَّا مَا يُرْضِي رَبَّنا، إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ» [رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ].
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ:لَا يُوجَدُ إِنْسَانٌ إِلَّا وَهُوَ يَطْلُبُ مِنْ رَبِّهِ صَلَاحَ الذُّرِّيَّةِ وَقَرَارَ الْعَيْنِ بِهَا فِي الدُّنْيا وَالآخِرَةِ؛ قَالَ اللهُ تَعَالَى عَنْ وَصْفِ المُؤْمِنينَ عِبادِ الرَّحْمَنِ:( وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا )، أَيْ مَا تَقَرُّ الْعَيْنُ بِهِمْ لِصَلَاحِهِمُ المُتَمَثِّلِ فِي الصَّلَاحِ الدِّينِيِّ وَالِاسْتِقَامَةِ عَلَى طَاعَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَاجْتِنَابِ مَا حَرَّمَ اللهُ تَعَالَى، وَلِيُعْلَمْ أَنَّ صَلَاحَهُمْ سَبَبٌ لِكَثِيرٍ مِنَ الخَيْرَاتِ عَلَى الوَالِدَيْنِ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ، فَصَلَاحُهُمْ سَبَبٌ لِجَرَيَانِ الحَسَنَاتِ لِلْوَالِدَيْنِ بَعْدَ مَوْتِهِمَا، فَهُمَا رَصِيدٌ مُدَّخَرٌ وَعَارِيَةٌ مَضْمُونَةٌ، قَالَ عَليهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، وَعِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، وَوَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ» [رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ ]، وَإِصْلَاحُ الذُّرِّيَّةِ سَبَبٌ لِلنَّجَاةِ فِي الآخِرَةِ : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا)، وَصَلَاحُ الذُّرِّيَّةِ سَبَبٌ لِتَخْفِيفِ الحِسَابِ، فَاللهُ سَائِلٌ كُلَّ إِنْسَانٍ عَمَّا اسْتَرْعَاهُ حَفِظَ أَمْ ضَيَّعَ؟، قَالَ :«كُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالرَّجُلُ رَاعٍ وَمَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ....» [رَوَاهُ البُخَارِيُّ فِي الأَدَبِ المُفْرَدِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِاللهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا]، وَصَلَاحُ الذُّرِّيَّةِ سَبَبٌ لِإِبْعَادِ النَّارِ عَنْ وَجْهِكَ يَوْمَ القِيَامَةِ؛ فَفِي الحَدِيثِ المُتَّفَقِ عَلَيْهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ : «مَنِ ابْتُلِيَ مِنْ هَذِهِ البَنَاتِ بِشَيْءٍ فَأَحْسَنَ إِلَيْهِنَّ كُنَّ لَهُ سِتْراً مِنَ النَّارِ»، فَهَذِهِ الثَّمَرَاتُ وَغَيْرُها كَثِيرٌ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ دَافِعاً وَحَافِزاً للإِنْسَانِ لِأَجْلِ أَنْ يَحْرِصَ عَلَى إِيجَادِ أَبْنَاءٍ وَبَنَاتٍ بَرَرَةٍ تَقَرُّ بِهِمْ عَيْنُهُ يَوْمَ لِقَاءِ رَبِّهِ، وَقَبْلَ ذَلِكَ تَقَرُّ عَيْنُهُ بِهِمْ فِي الدُّنْيَا.
أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ:إِنَّ أَوَّلَ وَسِيلَةٍ لِإِيجَادِ أَبْنَاءٍ صَالِحِينَ هُوَ فِي صَلَاحِ الوَالِدَيْنِ، وَكَوْنِهِمَا قُدْوَةً صَالِحَةً لِأَوْلَادِهِمَا؛ فَصَلَاحُهُمَا وَامْتِثَالُهُمَا بِأَنْ يَكُونَا قُدْوَةً صَالِحَةً سَبَبٌ عَظِيمٌ لِصَلَاحِ أَوْلَادِهِمَا وَحِفْظِهِمَا فِي حَيَاتِهِمَا وَبَعْدَ مَوْتِهِمَا. قَالَ اللهُ تَعَالَى فِي قِصَّةِ الخِضْرِ ومُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي خَبَرِ الغُلَامَيْنِ: ( وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا ) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: «حُفِظَا بِصَلَاحِ أَبِيهِمَا وَلَمْ يَذْكُرْ لَهُمَا صَلَاحاً» ، فَهَذَا يُجَلِّي لَنَا أَنَّ أَوَّلَ خُطْوَةٍ لِصَلَاحِ الأَبْنَاءِ هِيَ فِي صَلَاحِ الوَالِدَيْنِ وَمُحَافَظَتِهِمْ عَلَى الطَّاعَاتِ ، وَامْتِنَاعِهِمْ عَنِ المَعَاصِي، وَعَدَمِ أَكْلِ الحَرامِ ، وَعَدَمِ التَّعَرُّضِ لِحُرُمَاتِ المُسْلِمِينَ وَالنَّيْلِ مِنْ أَعْرَاضِهِمْ، وَعَدَمِ الوُرُودِ عَلَى أَمَاكِنِ المُنْكَراتِ، وَعَدَمِ الإِسَاءَةِ إِلَى آبَائِهِمْ وَأُمَّهاتِهِمْ وَالتَّقْصِيرِ فِي حَقِّهِمْ فَكَمَا تَدِينُ تُدَانُ، وَالجَزَاءُ مِنْ جِنْسِ العَمَلِ، فَهَذِهِ الأَعْمَالُ وَهِذِهِ المُنْكَراتُ وَاحِدَةٌ مِنْهَا كَفِيلَةٌ بِهَدْمِ بُنْيَانِ الأُسْرَةِ وَتَفْتِيتِ عَلَاقَاتِهَا مَعَ بَعْضِهَا، فَكَيْفَ بِاجْتِمَاعِهَا؟!! عِيَاذَاً بِاللهِ تَعَالَى.
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ:إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ جَوَانِبِ التَّقْصِيرِ فِي هَذِهِ الأَوْقَاتِ الَّتِي نَعِيشُهَا: ضَعْفَ مُرَاقَبَةِ الأَبْناءِ وَالتَّقْصِيرِ عَنْ مُتَابَعَتِهِمْ، فَبَعْضُ الآبَاءِ وَالأُمَّهاتِ بَلَغَ بِهِ التَّفْريِطُ فِي حَقِّ أَبْنائِهِ إِلَى الدَّرَجَةِ الَّتِي لَا يَدْرِي أَيْنَ يَذْهَبُ ابْنُهُ؟ وَمَنْ أَصْحَابُهُ وَزُمَلَاؤُهُ؟ وَلَا يَعْلَمُ أَيْنَ تَذْهَبُ ابْنَتُهُ؟ وَمَعَ مَنْ تُصَاحِبُ ؟ ولا حولَ ولا قوةَ إلا باللهِ !! لَا شَكَّ - عِبَادَ اللهِ - أَنَّ الرِّقَابَةَ إِذَا كَانَتْ مُهِمَّةً فِي السَّابِقِ فَهِيَ فِي هَذَا الزَّمَنِ أَهَمُّ وَأَشَدُّ تَأْكِيداً، سَيَّمَا مَعَ كَثْرَةِ المُلْهِيَاتِ وَالْمُفْسِدَاتِ، وَكَثْرَةِ قُرَنَاءِ السُّوءِ مِمَّنْ يُفْسِدُونَ وَلَا يُصْلِحُونَ، وَيَهْدِمُونَ وَلَا يَبْنُونَ.
أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ: الوَاجِبُ عَلَى أَوْلِيَاءِ الأُمُورِ أَنْ يَهْتَمُّوا بِإِشْغَالِ أَبْنائِهِمْ فِيمَا يَعُودُ عَلَيْهِمْ بِالنَّفْعِ، سِيَّمَا فِي زَمَانِ الفَرَاغِ القَاتِلِ مِنْ خَلَالِ إِشْرَاكِهِمْ فِي حَلَقَاتِ القُرْآنِ الكَرِيمِ، وَالحُضُورِ مَعَهُمْ إِلَى مَجَالِسِ الذِّكْرِ وَالخُطَبِ وَإِشْرَاكِهِمْ فِي بَعْضِ المَرَاكِزِ الصَّيْفِيَةِ الَّتِي يَنْهَلُ مِنْهَا الأَبْناءُ مَا يَنْفَعُهُمْ فِي دِينِهِمْ ودُنْيَاهُمْ، مَعَ مَا فِي هَذِهِ المَرَاكِزِ مِنِ احْتِكَاكِهِ بِالصُّحْبَةِ الصَّالِحَةِ الَّتِي تُعِينُهُ عَلَى نَفْسِهِ، وَتَأْخُذُ بِهِ إِلَى المَعَالِي وَسُمُوِّ الأَخْلَاقِ، وَتُبْعِدُهُ عَنْ دَنَسِ أَصْحَابِ السُّوءِ، وَمَزَالِقِ شَيَاطِينِ الإِنْسِ، وَلَا يَنْبَغِي لِلْأَبِ أَنْ يَكُونَ أَنانِيّاً فِي كُلِّ شَيْءٍ، فَبَعْضُ الآبَاءِ يَشِحُّ عَلَى أَبنْائِهِ بِوَقْتِهِ فَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَذْهَبَ وَيَأْتِيَ، وَيضْحَكَ وَيَمْرَحَ، وَيُسافِرَ وَيسْهَرَ دُونَ أَنْ يَكُونَ لِأَبْنائِهِ وَأَهْلِهِ مِنْ وَقْتِهِ نَصِيبٌ ، (رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا ).

الخطبة الثانية

أَيُّهَا الآبَاءُ وَالمُصْلِحُونَ وَالْمُرَبُّونَ: اعْلَمُوا رَحِمَكُمُ اللهُ أَنَّ مَنْ شَبَّ عَلَى شَيْءٍ شَابَ عَلَيْهِ، فَمَنْ نَشَّأَ وَلَدَهُ عَلَى الدِّينِ وَالمُثُلِ العُلْيَا فِي الصِّغَرِ سُرَّ بِهِ فِي الْكِبَرِ. وَاعْلَمُوا أَنَّ أَمَامَكُمُ اليَوْمَ خَطَراً عَظِيماً وَغَزْواً هَائِلاً مُتَسَتِّراً بِبَعْضِ الثَّقَافَاتِ لِهَدْمِ عَقَائِدِ الجِيلِ وَأَخْلَاقِهِ، وَمَا لَمْ نَسْعَ فِي حِيَاطَتِهِمْ بِسِيَاجِ الدِّينِ وَالْقِيَمِ، وَغَرْسِ ذَلِكَ فِي نُفُوسِهِمْ سَتَكُونُ النَّتِيجَةُ وَخِيمَةً وَالضَّرَرُ بَالِغاً لَيْسَ عَلَى الوَالِدَيْنِ فَحَسْبُ، بَلْ عَلَى المُجْتَمَعِ وَالأُمَّةِ بِأَسْرِهَا.
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: إِنَّ تَرْبِيَةَ الأَبْنَاءِ لَيْسَتْ مَسْؤُولِيَّةَ الخَدَمِ، وَلَا هِيَ مَسْؤُولِيَّةَ المَدَارِسِ وَالجَامِعَاتِ بِالدَّرَجَةِ الأُولَى، بَلِ المَسْؤُولِيَّةُ الأُولَى هِيَ مَسْؤُولِيَّةُ الوَالِدَيْنِ وَالأُسْرَةِ بِالْمَقَامِ الأَوَّلِ، وَهَذَا الأَمْرُ يُدْرِكُهُ الجَمِيعُ مِنْ شَرْعِيِّينَ وَتَرْبَوِيِّينَ وَنَفْسَانِيِّينَ وَإِعْلَامِيِّينَ وَأَمْنِيِّينَ ، فَتَعاهَدُوا أَوْلَادَكُمْ بِالنُّصْحِ المُسْتَمِرِّ، وَالتَّوْجِيهِ الدَّائِمِ، وَلْيَكُنْ لَكُمْ فِي سَلَفِكُمُ القُدْوَةُ وَالِهدَايَةُ ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ صَلاحَ النِّيَةِ و الذُّرِيَةِ .

المشاهدات 643 | التعليقات 0