نحن الفقراء إلى الله
د محمد بن حمد الهاجري
في مدينةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، والتي كان غالبُ عيشِ أهلِها وقوتِهم على الفِلاحةِ والزراعة، مرَّ بهم في عامٍ من أعوامِهم حالةٌ من القحط فيبست حينها الديار، واحمرت الأشجار، وجف الضرع، وهلكت المواشي، واشتد على الناس المحل.
فمشى الصحبُ الكرامُ إلى الرحمةِ المهداة، يشكون إليه حاجتَهم وضرَّهم، فما كان من النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن وعدهم يوماً يخرجون فيه إلى المصلى. فخرج الناسُ إلى مصلاهم، ذُكراهم وأُنثاهم، شيوخُهم وشبانُهم.
خرجوا على حالٍ من التخشعِ والتذللِ والإخبات، حداؤهم... التسبيح والتكبير، والاستغفار والتهليل، فالقلوبُ من خشيةِ اللهِ خاشعة، والعيونُ لرجاء ربها دامعة، والنفوسُ لعطايا الربِّ الكريمِ مؤمِّلةٌ راجية.
فلما بَزَغَ حاجبُ الشمسِ إذا بخيرِ الورى، وأفضلِ من وطئ الثرى يخرج إلى الناس على حالٍ من التبذلِ والتضرع، والترسلِ والتخشع، فصلى بالناس، وخطب بهم خطبة جامعة، ثم رفع يديه الشريفتين حتى رُئِيَ بياضُ إبطيه، فدعا واجتهد، وألحَّ وابتهل.
فلم يكد رسول الهدى صلى الله عليه وسلم ينزلُ من منبره إلا والمددُ الإلهي قد حان، والعطاءُ الرباني قد آن، فإذا المزنُ المتفرقةُ تجتمعُ وتتلاحم،ثم تبرق وترعد.
فلم يرجعْ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى منزله إلا وقد سالت السيول، وخاض الناسُ في الغدران، واستبشرت النفوسُ فرحاً واستبشاراً (فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ)[لقمان:48].
عندها ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، فقال: "أشهد أنَّ الله على كل شي قدير، وأني عبدُ الله ورسولُه".
هذه صفحةٌ مشرقةٌ من صفحاتِ خيرِ جيل، نعم.... جازاهم الله بالعطاء والإحسان؛ لأنهم كانوا أهل تقى وإحسان، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان.
والغيثُ نوعُ من الرحمة، ورحمةُ الله وسعت كلَّ شيء، وكتبها الرحمنُ للذين يتقون، ويؤتون الزكاة، والذين هم بآيات الله يؤمنون.
فما أكرمه من خالقٍ جوادٍ عظيم، يعطي بفضلِه، ويمنعُ بعدله (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ)[الأنبياء:23].
ما أرأفه من إله بَرٍّ رحيم، يُغدقُ على العباد من فضله وستره، ويكلؤهم برعايته وحفظه، ويُصبِّحهم ويُمسِّيهم برحمته ورزقه (وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ)[النساء:27] (يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ)[النساء:28].
يا أهل الإيمان: ما استجلبت رحماتُ الله، ولا استمطرت خيراتُه بمثل الافتقارِ إليه، والانكسارِ بين يديه، فهو سبحانه رؤوف بعباده، يرحمُ أنينَهم، ويعطفُ على حنينِهم.
يكشف ضُرَّهم، ويستحي من سؤْلِهم، ويُجيبُ دعوةَ مضطرهم.
فاطلبوا خيراتِ ربِّكم بلسانِ الحالِ قبل المقال، فكم أعطى عباداً بأحوالهم، ولم يسألوه بدعائهم.
شكا إليه موسى عليه السلام حاله إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) [القصص:24]فرحمَه ربه الرحيم فيسر له الزوجةَ الصالحة، ثم أكرمه بعد ذلك بالنبوة، واختصه بالكلام.
سؤال المولى بالحال يكون بالاعتراف بالضعف والفقر والحاجة (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ)[فاطر:15].
الافتقارُ إلى الله بالحال يعني استشعارَ تغييرِ الحال، من حالٍ إلى حال، فتكونُ بين جنبي العبد نفسٌ لوَّامة تؤزه نحو الندم أزاً، إذا تذكَّرَ خطاياه، تلجلجت الحسرةُ بين ثناياه، وظهرَ الأسى على محياه.
فيكون العبدُ عندها وبعدها عظيمَ الخشية، سريعَ الدمعة، كثيرَ الاستكثار من الحسنةِ، والحسنةِ بعدها.
الافتقارُ بالحال أن ينكسر القلبُ لربه، خضوعاً لعظمته، واستمطاراً لرحمته، واستجلاباً لعطفه ومغفرته.
الافتقارُ بالحال أن يبادرَ العبدُ بلا تسويف، إلى غسلِ النُّكتِ السوداءِ الجاثمةِ على قلبه، ويتعاهد بإصلاحِ هذه المضغةِ بتجنيبها الفتن، مع استكثار الأعمال القلبية التي يحبها الله وينظر إليها....من الإخلاص والتوكل، والندم واليقين.
الافتقارُ للملك العظيم ليست حالة مؤقتة، في لحظة أو لحظات محدودة.
الافتقارُ لله هي منهج حياة، يخط بها العبد طريقه بهمة عاليه نحو ربه ومولاه، ترى هذا المفتقر لا يترك باباً من أبواب البر إلا وله فيه سهم.
إذا قرئ القرآن حنَّ قلبه، وإذا ذكر الله لهج لسانه، وإذا سمع النداء تاقت نفسه للصلاة، وإذا مرت أيام الصوم الفاضة جفت أمعاؤه وقرقر بطنه.
الافتقارُ إلى الله بالحال لا يعني أن ينعزلَ العبدُ إلى تحنثه ورهبنته، بعيداً عن إصلاحِ بيته ومجتمعه.
المفتقرُ الحق.. هو الذي إذا أصلح ما بينه وبين ربه، سعى بعد ذلك لإصلاح ما فسد وأفسده الناس بالكلمة الطيبة الصادقة المشفقة، يسعى لتعليم الجاهل وتذكير الغافل، وتوجيه المخطئ، وبذل النصيحة للعامة والخاصة.
حتى يكون هذا المفتقرُ لربِّه عضواً فاعلاً، وحتى يكونَ حضورُه مكسباً غالياً للمجتمع، وصمامَ أمانٍ من العقوباتِ الإلهية (فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ)[يوسف:116].
الخطبة 2
أما بعد: فإن الإنسان فقير إلى الله، محتاجٌ إلى مولاه في كل حال، وفي كل مرحلة من مراحل عمره إلى أن يلقاه.
محتاج إليه وهو مريض أن يشفيه، محتاج إليه في صحته أن يحفظها له، ويستعملها في طاعته؛ لئلا يكفر بنعمته.
فقير إلى الله إذا قل ما في يده، وعضه الجوع، ونابه الدهر، ومحتاج إلى الله في غناه وإقبال الدنيا عليه أن يحمي ثروته وتجارته، وييسرَ أمره، ويمتعَه بما رزقه.
محتاج إلى الله حال كونه لم ينل شيئاً من حظوظ الدنيا في الجاه فلا أحد يلتفت إليه، إن قال لم يُسمع، وإن شفع لم يشفع، وإن سأل لم يُعط؛ كما أنه محتاج إلى الغني الكريم وقد بُسط له في الجاه، وحظي باحترام الآخرين أن يستر الله عليه عيوبه فلا تظهر للخلق، إذ لو ظهرت لسقط من عيونهم.
فقير إلى الله أن يحفظ له عقله ورأيه، فلو ضعفت نعمة العقل والرأي بضعف الذاكرة أو تزاحم الهموم فلن يظل هو ذلك الشخص المرموق الذي يحترمه الكثيرون.
إن الناس بحاجةٍ دائمة إلى تذكر نعم الله تعالى، كما أنهم في حاجة متجددة إلى سؤال اللهِ تعالى من فضله؛ لأنهم فقراءُ إليه في كل شيء فقدوه أو وجدوه.
الناس بحاجة إلى تذكر هذه الحقيقة لئلا يقتلَهم اليأس والقنوط من رحمة الله حين يفقدون نعمه، أو لئلا يركبهم الغرور حين يرون نعم الله تفتح لهم وتتدفق عليهم وينالون من فضله الكثير.
أيها المسلمون: كان دأب الرسل إليكم، وسبيل الصالحين قبلكم: الافتقار إلى الله تعالى، والانطراح بين يديه، والاعتراف له بالعجز والفاقة، والضعف والحاجة، والتبرؤ من الحول والقوة.هذا خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام يتبرأ من أصنام قومه، ويعلن فقره لله تعالى في كل شئونه الدنيوية والأخروية ( قَالَ أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ *الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ *وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ ) [الشعراء:75-82] . اعتراف منه عليه السلام بفضل الله تعالى عليه، وإعلان الفقر والحاجة إليه، وتعداد نعمه عليه.ونبيكم محمد صلى الله عليه وسلم كان أشد الناس فقرا إلى الله تعالى، واعترافا بفضله، وتعدادا لنعمه، وتعلقا بجنابه، وإلحاحا في دعائه ، دعاه عليه الصلاة والسلام رجل من أهل قباء، فلما طعم وغسل يديه قال: " الحمد لله الذي يطعِم ولا يطعَم، منَّ علينا فهدانا وأطعمنا وسقانا، وكل بلاء حسن أبلانا، الحمد لله غير مودع ولا مكافىء ولا مكفور ولا مستغنى عنه، الحمد لله الذي أطعم من الطعام، وسقى من الشراب، وكسا من العري، وهدى من الضلالة، وبصر من العماية، وفضل على كثير ممن خلق تفضيلا، الحمد لله رب العالمين" صححه ابن حبان والحاكم.وكان عليه الصلاة والسلام يربي ذريته وأمته على دوام الافتقار إلى الله تعالى، والإقرار بالحاجة إليه سبحانه في كل شيء، روى أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لابنته فاطمة رضي الله عنها: " ما يمنعك أن تسمعي ما أوصيك به أن تقولي إذا أصبحت وإذا أمسيت: يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث أصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين " رواه الحاكم وصححه.فسيروا -رحمكم الله تعالى- سيرة الأنبياء والصالحين في افتقارهم إلى الله تعالى، وإعلان الحاجة إليه؛ فكم نحتاج إلى إحياء هذا الافتقار في القلوب، بعد أن قست بالذنوب.لنعلن يا عباد الله فقرنا إلى الله تعالى، ولنلح عليه بالدعاء؛ فما أفقرنا إلى ربنا جل في علاه، وما أحوجنا إليه.إننا مفتقرون إلى الله تعالى في صلاح قلوبنا، وزكاء أعمالنا، واستقامتنا على ديننا، وكل ذلك بيد الله تعالى؛ إذ إن قلوبنا بين أصبعين من أصابعه يقلبها كيف شاء، ومفتقرون إليه سبحانه في حفظ أنفسنا وأولادنا وأموالنا من الأمراض والحوادث والجوائح، ومفتقرون إليه سبحانه في دوام أمننا واستقرارنا، وفي حفظ بلادنا وبلاد المسلمين من كيد الكفار والمنافقين، ومفتقرون إليه عز وجل في ديمومة النعم التي أنعم بها علينا، فهو من يملك بقاءها وزوالها.ما أفقرنا إلى الله تعالى في صلاح بيوتنا، واستقامة أزواجنا وأولادنا على ما ينفعهم في الدنيا والآخرة، وما أفقرنا إلى عفو ربنا ورحمته؛ لنعتق من النار، ويكتب لنا الرضوان، ولربنا تبارك وتعالى هبات وعطايا فما أشد حاجتنا إليها.فتعرضوا لنفحات ربكم، بدعائكم وإلحاحكم، وإقراركم بفقركم إلى ربكم، ولا تغتروا بجاهكم وأموالكم وصحتكم ورغد عيشكم، وما بسط عليكم من النعم؛ فإن ذلك من أبين الدلائل على فقركم؛ لأنكم وقعتم في أسرها، ولا تطيقون فراقها، ولا يملك دوامها لكم إلى الله تعالى، فافتقروا إليه سبحانه يغنكم، ولا تستغنوا بغيره فتهلكوا.انطرحوا بين يديه خاشعين باكين، داعين مستغفرين، تقرون بفضله ونعمته عليكم، وتعترفون بجرمكم وتقصيركم في حقه؛ فإن ربكم غني حميد، جواد كريم، إن علم صدقكم، ورأى ذلكم، وسمع تضرعكم؛ غفر لكم، وأعطاكم سؤلكم، ودفع الشر عنكم (وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ) [آل عمران:135] ( وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ )
يا مَن يرى ما في الضمير ويسمع *** أنت المعَدّ لكل ما يُتوقّع
يا مَن يُرجى للشدائد كلها *** يا مَن إليه المشتكى والمفزع
يا مَن خزائن ملكه في قول كن *** امنُن فإنّ الخير عندك أجمع
مالي سوى فقري إليك وسيلة ***بالافتقار إليك فقري أدفع
مالي سوى قرعي لبابك حيلة *** ولئن رُددت فأيّ بابٍ أقرعُ
ومن الذي أدعو وأهتفُ باسمه *** إن كان فضلك عن فقيرك يُمنعُ
حاشا لمجدك أن تُقنّط عاصيًا *** والفضل أجزلُ والمواهب أوسع