نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم (لفضيلة/صالح الجبري
منصور الفرشوطي
1435/03/22 - 2014/01/23 20:19PM
http://www.alminbar.net/alkhutab/khutbaa.asp?mediaURL=10829
حديثنا معكم اليوم عن الحبيب محمد ، وشخصية الرسول في العصر الحديث لم تنل ما تستحقه من دراسة واعية، ومن محاولات لفهم هذه الشخصية العظيمة ورسالتها وصِلتها بربها، وقد عرفنا أن الحبيب محمدا أدبه ربه فأحسن تأديبه، ورباه فأكمل تربيته، وجعل نفسه أطهر نفس، وخلقه أزكى خلق، وعقله أسمى عقل في الوجود الإنساني، وشهد الله له بذلك كله فقال: وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * مَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم: 1-4].
هذا الحبيب محمد أرسله الله للعالمين فقال: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ [الأنبياء: 107].
وفعلا فقد جبل الله رسوله على الرحمة، وجعلها خلقا ملازما وصفة بارزة دائمة له، تبدو في معاملاته مع الصديق والعدو, ومع جميع البشر على السواء، بل إن رحمته لتتسع حتى تُظِل العالم من إنس وجن وحيوان وطير وغيرهم من خلق الله، والسبب أن الله سبحانه قد جبله على الرحمة.
ويبدو هذا واضحًا عندما يأتي الكفار ويطلبون منه إن كان صادقا أن يطلب من الله أن ينتقم منهم، فماذا يقول الله؟ يقول: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ الْمَثُلاَتُ [الرعد: 6]. يعني: يطلبون منك أن تدعو الله بأن ينتقم منهم بدلا من أن يطلبوا منك أن تدعو الله أن يرحمهم، وقد سبقت أمم انتقم الله منهم، والله قادر على أن ينتقم، فماذا قال ربك بعد هذا؟ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ [الرعد: 6]. أي: يسألونك أن ينتقم منهم، أخبرهم أن الرب قادر أن ينتقم منهم لكنه يغفر ويرحم ويعفو حتى لا تبقى لهم حجة ولا يبقى لهم عذر.
ويقول تعالى: نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الحجر: 49]. فبدأ سبحانه بالمغفرة والرحمة قبل العذاب, وطلب من رسوله أن يخبر قومه بذلك، هذا منهج رباني، فإذا كانت رحمة لله سبقت غضبه، فإن رحمة الله عمت الكافرين والمؤمنين فعلا، فالله يقول ويفعل ما يقول، لذا أرسل الرسول ليكون صورة لحكمه، فهو رسول منه بالرحمة إلى خلقه، يتكلم بالرحمة، ويدعو إلى الرحمة، ويخطب في الرحمة، ويقول: ((الراحمون يرحمهم الله، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء))، ويقول: ((من لا يرحم لا يرحم))، ثم يقوم هو بتطبيق الرحمة على أعلى مستوى، فهو في بيته يرحم الصغير والكبير, ويساعد زوجته؛ فيكنس البيت ويرقع الثوب ويكون في مهنة أهله، كان يفعل ذلك ويقول: ((خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهله)).
وكان يرحم حتى الصغار، بل ويحرص على ذلك، يقول أسامة بن زيد: كان رسول الله يأخذني فيقعدني على فخذه، ويقعد الحسن بن علي على فخذه الآخر، ثم يضمهما ويقول: ((اللهم ارحمهما فإني أرحمهما)).
بل كان يحمل ويقبل أبناءه وأبناء بناته وغيرهم من أبناء المسلمين، حتى إنه في مرة أحضروا له صبيا في حجره يحنكه -أي: يضع التمر في الفم ويدلكه بالحنك- فبال عليه الصبي، فدعا بماء فأتبعه ولم يغضب ، وقد حصل له من هذا الشيء الكثير.
وعندما رآه الأقرع بن حابس يقبل الحسن قال: تقبلون الصبيان! فما نقبلهم، فماذا قال له ؟ قال له: ((أَوَأملك لك أن نزع الله من قلبك الرحمة؟!)) عليه الصلاة والسلام، لقد كان أرحم الناس بالصبيان والعيال.
بل إن رحمته قد شملت الحيوانات والطيور، لقد كان حريصًا على مشاعر الحيوان والطير، فقد رأى رجلا يضجع شاة يريد أن يذبحها ثم يحد سكينه والشاة تنظر إليها، فتأثر بهذا المنظر وقال له: ((أتريد أن تميتها موتات؟! هلَّا حددت شفرتك قبل أن تضجعها)).
وعن ابن مسعود قال: كنا مع رسول الله في سفر, فانطلق لحاجته، فرأينا حُمَّرة معها فرخان فأخذنا فرخيها، فجاءت الحُمَّرة فجعلت تُعرِّش، فلما جاء رسول الله قال: ((من فجع هذه بولدها؟ ردوا ولدها إليها)). ولما رأى رسول الله حمارا قد وسم في وجهه غضب وقال: ((لعن الله من فعل هذا))، وقال: ((لعن الله من مثَّل بالحيوان)).
إذن حين طبق الإسلام طبق أسلوب الرحمة، لم يطبق الإسلام قولا وخطبا وشعارات، ولكنه طبقه قولا وعملا في أصحابه وفي مجتمعه، وتعرفون في غزوة أحد وتلك قاصمة الظهر، أمر رسول الله الرماة من أصحابه أن يقفوا فوق الجبل حتى يمنعوا الأعداء من صعوده، وانتصر المسلمون في بداية الأمر مع أن عددهم كان قليلا مقابل الأعداء، لكن الرماة حين رأوا النصر نزلوا لأخذ الغنيمة، ورأى الكفار ذلك فصعدوا فوق الجبل وتمكنوا من المسلمين، وأخذوا يقتلون منهم قتلا شنيعا، فقتل سبعون، وقتل حمزة عم النبي ، وجاءت هند بنت عتبة فشقت بطن حمزة وأخذت قطعة من كبده لتأكلها، والرسول نفسه وقع في حفرة، وانْدَقَّ المِغفَر في وجهه، وكسرت رباعيته، وكانت الحال فوق ما يتصوره أي مسلم، حتى أشيع أن النبي قد قتل، وفي نهاية المعركة جاء ووقف على الصحابة ورأى ما بهم، ورأى عمه حمزة وما به، فبكى وقال: ((ما وقفت موقفا هو أغيظ لي من هذا الموقف، ولن يعود ذلك بعد إن شاء الله))، وقال: ((كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم وهو يدعوهم إلى الله؟!)). تعلمون كل ذلك.
لكن الموقف العظيم هو موقفه من أصحابه بسبب الهزيمة، لو كان رسول الله قائدًا عاديًا لقتل منهم, ولسجن ولفعل الأفاعيل، لكنه لم يفعل من ذلك شيئا، بل إنه طبَّق منهج الرحمة كما أمره الله. الله الذي عزاه في المصيبة وعزى المسلمين وقال لهم: إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران: 140]. فبين الله أن الحرب صولات وجولات، فإن كانت هذه عليكم فقد كان لكم غيرها قبل ذلك، ثم يقول سبحانه لرسوله: لا تغضب على أصحابك، وشاورهم في المستقبل كما شاورتهم في الماضي، وربك يأمرك بأن تعفو عنهم وأن تطلب منه أن يغفر لهم، لأنك إن لم تغفر لهم فلن يغفر الله لهم. فاطلب من ربك أن يغفر لهم، يا محمد الله فطرك على الرحمة، وبالرحمة اجتمعت عليك الأمة: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ [آل عمران: 159].
أبعد هذه الرحمة رحمة؟! لكنه منهج رباني نزل من عند الله وطبَّقه رسوله .
وفي غزوة بني المصطلق حدثت حادثتان شنيعتان فظيعتان، كان سببهما زعيم المنافقين الأكبر عبد الله بن أبي بن سلول: الأولى: حدثت مشادة بين غلام من الأنصار وغلام من المهاجرين، فانتهز ابن أبي هذه الفرصة وقال: لقد شاركونا في كل شيء -يقصد الرسول والمهاجرين- لقد شاركونا أرضنا وأموالنا، والآن يستعلون علينا, إنما مثلنا ومثلهم كقول القائل: سمن كلبك يأكلك، ولئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، يقصد أنه هو العزيز وأن الرسول هو الذليل، فأنزل الله سورة بأكملها وقال فيها: إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ [المنافقون: 1].
ولم يكتف ابن أبي بذلك، بل وصل به الحال إلى اتهام السيدة الطاهرة العفيفة عائشة في حادثة الإفك المعروفة؛ الأمر الذي أدى إلى سخط المسلمين وغضبهم ومطالبتهم بمحاكمته وقتله.
حتى إن عبد الله بن عبد الله بن أبي -وكان رجلا مؤمنا صادقا- جاء لرسول الله وقال له: يا رسول الله، بلغني أن أبي قال ما قاله، فإن كنت قاتله فمرني أن أقتله، فوالله لئن أمرتني لأفعلن، وأخشى يا رسول الله أن تأمر غيري بقتل أبي فيقتله، فتأخذني الحمية فأقتله، فأكون قتلت مؤمنا بكافر، فقال له : ((بل نحسن إليه ما كان بيننا)).
فلما وصلوا إلى المدينة ذهب عبد الله ووقف أمام أبيه شاهرا سيفه وقال له: ألم تقل لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل؟! والله إنك الأذل ورسول الله هو الأعز, ولن تدخل المدينة إلا بإذنه. فلما بلغ ذلك النبي حضر وقال: ((يا عبد الله دع أباك، فقد أذنت له))، فقال له: الآن تدخلها وأنت ذليل بإذن رسول الله.
إذن فابن أُبيّ صاحب جريمتين، كل جريمة لوحدها يستحق أن يعاقب عليها أشد العقاب، لكن النبي عفا عنه وعن غيره بعد أن انتظر أمر الله، إنه لم يخط خطوة من ذات نفسه، إنه رحمة، وما دام رحمة فلينتظر حكم الرحمة من الله، فكل أحكام الله رحمة حتى الأحكام بقطع يد السارق وجلد الزاني ورجمه وقتل القاتل، كلها رحمة من أجل المجتمع وحياته السعيدة، أو من أجل الأشخاص أنفسهم الذين يقام عليهم الحد، لأن الله يغفر لهم الذنب بهذا العقاب وعقاب الدنيا مهما كان أهون وأرحم من عقاب الآخرة.
هكذا كان شغله الشاغل نشر الرحمة بين المسلمين.
يأتي في يوم من الأيام فيرى أبا مسعود البدري يضرب غلاما له، فيناديه: ((أبا مسعود))، فينظر أبو مسعود فيرى النبي ، فيقول له: ((اعلم أبا مسعود أن الله أقدر عليك منك على هذا الغلام))، فيقول أبو مسعود: يا رسول الله، أشهدك أني قد أعتقته لوجه الله، فيقول له: ((أما لو لم تفعل للفحتك النار))، أي: لو لم تفعل لأدخلك الله جهنم بسبب ضربك لهذا الغلام.
أيها الإخوة، كم قتلنا من زوجات بسوء معاملتنا لهن! كم قتلنا من بنين وبنات حين حرمناهم العطف والرحمة، وحرمناهم النفقة! كم قتلنا من فقراء عمال وخدم! كم أدخلنا البؤس في بيوت المسلمين! كم يتَّمَ المسلمون من أطفال! كم منَعوا حقَّ الله عن عباد الله! كم استعملوهم في العمل ولم يعطوهم من الأجر ما يصلح لهم! كم فعلوا ذلك! إننا يجب أن نعود إلى منهج النبي ونطبقه كما فعل ذلك .
وعندما نتكلم عن الرحمة فليس معنى ذلك أن الحزم لا يجب أحيانا، لا، فإن رسول الرحمة هو الذي قتل من بني قريظة سبعمائة في غداة واحدة؛ لأن أمر الإسلام والمسلمين كان يستدعي ذلك، فكما أن الرحمة مطلوبة فالحزم مطلوب، لكن الرحمة ليست اختيارا لي ولك، إنما لها أحكام من عند الله، والحزم ليس اختيارا لي ولك ولا هوى ولا شهوة، إنما الحزم له أحكام من عند الله، فعلينا أن نرتبط بذلك، وأن نعود إلى فهم ديننا وإلى تربية مجتمعنا تربية تليق بأننا خير أمة أخرجت للناس، كما قال ربنا سبحانه وتعالى: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ [آل عمران: 110].
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم، إنه هو الغفور الرحيم.
ملخص الخطبة
1- عناية الله تعالى بالنبي . 2- رحمة النبي بالكفار. 3- رحمة النبي بالأهل وبالصغار. 4- رحمة النبي بالحيوان. 5- رحمة النبي بأصحابه المتسببين في هزيمة يوم أحد. 6- رحمة النبي برأس المنافقين. 7- حالنا مع الرحمة. 8- أمة بدون رحمة أمة ضائعة.
الخطبة الأولى
1- عناية الله تعالى بالنبي . 2- رحمة النبي بالكفار. 3- رحمة النبي بالأهل وبالصغار. 4- رحمة النبي بالحيوان. 5- رحمة النبي بأصحابه المتسببين في هزيمة يوم أحد. 6- رحمة النبي برأس المنافقين. 7- حالنا مع الرحمة. 8- أمة بدون رحمة أمة ضائعة.
الخطبة الأولى
حديثنا معكم اليوم عن الحبيب محمد ، وشخصية الرسول في العصر الحديث لم تنل ما تستحقه من دراسة واعية، ومن محاولات لفهم هذه الشخصية العظيمة ورسالتها وصِلتها بربها، وقد عرفنا أن الحبيب محمدا أدبه ربه فأحسن تأديبه، ورباه فأكمل تربيته، وجعل نفسه أطهر نفس، وخلقه أزكى خلق، وعقله أسمى عقل في الوجود الإنساني، وشهد الله له بذلك كله فقال: وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * مَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم: 1-4].
هذا الحبيب محمد أرسله الله للعالمين فقال: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ [الأنبياء: 107].
وفعلا فقد جبل الله رسوله على الرحمة، وجعلها خلقا ملازما وصفة بارزة دائمة له، تبدو في معاملاته مع الصديق والعدو, ومع جميع البشر على السواء، بل إن رحمته لتتسع حتى تُظِل العالم من إنس وجن وحيوان وطير وغيرهم من خلق الله، والسبب أن الله سبحانه قد جبله على الرحمة.
ويبدو هذا واضحًا عندما يأتي الكفار ويطلبون منه إن كان صادقا أن يطلب من الله أن ينتقم منهم، فماذا يقول الله؟ يقول: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ الْمَثُلاَتُ [الرعد: 6]. يعني: يطلبون منك أن تدعو الله بأن ينتقم منهم بدلا من أن يطلبوا منك أن تدعو الله أن يرحمهم، وقد سبقت أمم انتقم الله منهم، والله قادر على أن ينتقم، فماذا قال ربك بعد هذا؟ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ [الرعد: 6]. أي: يسألونك أن ينتقم منهم، أخبرهم أن الرب قادر أن ينتقم منهم لكنه يغفر ويرحم ويعفو حتى لا تبقى لهم حجة ولا يبقى لهم عذر.
ويقول تعالى: نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الحجر: 49]. فبدأ سبحانه بالمغفرة والرحمة قبل العذاب, وطلب من رسوله أن يخبر قومه بذلك، هذا منهج رباني، فإذا كانت رحمة لله سبقت غضبه، فإن رحمة الله عمت الكافرين والمؤمنين فعلا، فالله يقول ويفعل ما يقول، لذا أرسل الرسول ليكون صورة لحكمه، فهو رسول منه بالرحمة إلى خلقه، يتكلم بالرحمة، ويدعو إلى الرحمة، ويخطب في الرحمة، ويقول: ((الراحمون يرحمهم الله، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء))، ويقول: ((من لا يرحم لا يرحم))، ثم يقوم هو بتطبيق الرحمة على أعلى مستوى، فهو في بيته يرحم الصغير والكبير, ويساعد زوجته؛ فيكنس البيت ويرقع الثوب ويكون في مهنة أهله، كان يفعل ذلك ويقول: ((خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهله)).
وكان يرحم حتى الصغار، بل ويحرص على ذلك، يقول أسامة بن زيد: كان رسول الله يأخذني فيقعدني على فخذه، ويقعد الحسن بن علي على فخذه الآخر، ثم يضمهما ويقول: ((اللهم ارحمهما فإني أرحمهما)).
بل كان يحمل ويقبل أبناءه وأبناء بناته وغيرهم من أبناء المسلمين، حتى إنه في مرة أحضروا له صبيا في حجره يحنكه -أي: يضع التمر في الفم ويدلكه بالحنك- فبال عليه الصبي، فدعا بماء فأتبعه ولم يغضب ، وقد حصل له من هذا الشيء الكثير.
وعندما رآه الأقرع بن حابس يقبل الحسن قال: تقبلون الصبيان! فما نقبلهم، فماذا قال له ؟ قال له: ((أَوَأملك لك أن نزع الله من قلبك الرحمة؟!)) عليه الصلاة والسلام، لقد كان أرحم الناس بالصبيان والعيال.
بل إن رحمته قد شملت الحيوانات والطيور، لقد كان حريصًا على مشاعر الحيوان والطير، فقد رأى رجلا يضجع شاة يريد أن يذبحها ثم يحد سكينه والشاة تنظر إليها، فتأثر بهذا المنظر وقال له: ((أتريد أن تميتها موتات؟! هلَّا حددت شفرتك قبل أن تضجعها)).
وعن ابن مسعود قال: كنا مع رسول الله في سفر, فانطلق لحاجته، فرأينا حُمَّرة معها فرخان فأخذنا فرخيها، فجاءت الحُمَّرة فجعلت تُعرِّش، فلما جاء رسول الله قال: ((من فجع هذه بولدها؟ ردوا ولدها إليها)). ولما رأى رسول الله حمارا قد وسم في وجهه غضب وقال: ((لعن الله من فعل هذا))، وقال: ((لعن الله من مثَّل بالحيوان)).
إذن حين طبق الإسلام طبق أسلوب الرحمة، لم يطبق الإسلام قولا وخطبا وشعارات، ولكنه طبقه قولا وعملا في أصحابه وفي مجتمعه، وتعرفون في غزوة أحد وتلك قاصمة الظهر، أمر رسول الله الرماة من أصحابه أن يقفوا فوق الجبل حتى يمنعوا الأعداء من صعوده، وانتصر المسلمون في بداية الأمر مع أن عددهم كان قليلا مقابل الأعداء، لكن الرماة حين رأوا النصر نزلوا لأخذ الغنيمة، ورأى الكفار ذلك فصعدوا فوق الجبل وتمكنوا من المسلمين، وأخذوا يقتلون منهم قتلا شنيعا، فقتل سبعون، وقتل حمزة عم النبي ، وجاءت هند بنت عتبة فشقت بطن حمزة وأخذت قطعة من كبده لتأكلها، والرسول نفسه وقع في حفرة، وانْدَقَّ المِغفَر في وجهه، وكسرت رباعيته، وكانت الحال فوق ما يتصوره أي مسلم، حتى أشيع أن النبي قد قتل، وفي نهاية المعركة جاء ووقف على الصحابة ورأى ما بهم، ورأى عمه حمزة وما به، فبكى وقال: ((ما وقفت موقفا هو أغيظ لي من هذا الموقف، ولن يعود ذلك بعد إن شاء الله))، وقال: ((كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم وهو يدعوهم إلى الله؟!)). تعلمون كل ذلك.
لكن الموقف العظيم هو موقفه من أصحابه بسبب الهزيمة، لو كان رسول الله قائدًا عاديًا لقتل منهم, ولسجن ولفعل الأفاعيل، لكنه لم يفعل من ذلك شيئا، بل إنه طبَّق منهج الرحمة كما أمره الله. الله الذي عزاه في المصيبة وعزى المسلمين وقال لهم: إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران: 140]. فبين الله أن الحرب صولات وجولات، فإن كانت هذه عليكم فقد كان لكم غيرها قبل ذلك، ثم يقول سبحانه لرسوله: لا تغضب على أصحابك، وشاورهم في المستقبل كما شاورتهم في الماضي، وربك يأمرك بأن تعفو عنهم وأن تطلب منه أن يغفر لهم، لأنك إن لم تغفر لهم فلن يغفر الله لهم. فاطلب من ربك أن يغفر لهم، يا محمد الله فطرك على الرحمة، وبالرحمة اجتمعت عليك الأمة: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ [آل عمران: 159].
أبعد هذه الرحمة رحمة؟! لكنه منهج رباني نزل من عند الله وطبَّقه رسوله .
وفي غزوة بني المصطلق حدثت حادثتان شنيعتان فظيعتان، كان سببهما زعيم المنافقين الأكبر عبد الله بن أبي بن سلول: الأولى: حدثت مشادة بين غلام من الأنصار وغلام من المهاجرين، فانتهز ابن أبي هذه الفرصة وقال: لقد شاركونا في كل شيء -يقصد الرسول والمهاجرين- لقد شاركونا أرضنا وأموالنا، والآن يستعلون علينا, إنما مثلنا ومثلهم كقول القائل: سمن كلبك يأكلك، ولئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، يقصد أنه هو العزيز وأن الرسول هو الذليل، فأنزل الله سورة بأكملها وقال فيها: إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ [المنافقون: 1].
ولم يكتف ابن أبي بذلك، بل وصل به الحال إلى اتهام السيدة الطاهرة العفيفة عائشة في حادثة الإفك المعروفة؛ الأمر الذي أدى إلى سخط المسلمين وغضبهم ومطالبتهم بمحاكمته وقتله.
حتى إن عبد الله بن عبد الله بن أبي -وكان رجلا مؤمنا صادقا- جاء لرسول الله وقال له: يا رسول الله، بلغني أن أبي قال ما قاله، فإن كنت قاتله فمرني أن أقتله، فوالله لئن أمرتني لأفعلن، وأخشى يا رسول الله أن تأمر غيري بقتل أبي فيقتله، فتأخذني الحمية فأقتله، فأكون قتلت مؤمنا بكافر، فقال له : ((بل نحسن إليه ما كان بيننا)).
فلما وصلوا إلى المدينة ذهب عبد الله ووقف أمام أبيه شاهرا سيفه وقال له: ألم تقل لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل؟! والله إنك الأذل ورسول الله هو الأعز, ولن تدخل المدينة إلا بإذنه. فلما بلغ ذلك النبي حضر وقال: ((يا عبد الله دع أباك، فقد أذنت له))، فقال له: الآن تدخلها وأنت ذليل بإذن رسول الله.
إذن فابن أُبيّ صاحب جريمتين، كل جريمة لوحدها يستحق أن يعاقب عليها أشد العقاب، لكن النبي عفا عنه وعن غيره بعد أن انتظر أمر الله، إنه لم يخط خطوة من ذات نفسه، إنه رحمة، وما دام رحمة فلينتظر حكم الرحمة من الله، فكل أحكام الله رحمة حتى الأحكام بقطع يد السارق وجلد الزاني ورجمه وقتل القاتل، كلها رحمة من أجل المجتمع وحياته السعيدة، أو من أجل الأشخاص أنفسهم الذين يقام عليهم الحد، لأن الله يغفر لهم الذنب بهذا العقاب وعقاب الدنيا مهما كان أهون وأرحم من عقاب الآخرة.
هكذا كان شغله الشاغل نشر الرحمة بين المسلمين.
يأتي في يوم من الأيام فيرى أبا مسعود البدري يضرب غلاما له، فيناديه: ((أبا مسعود))، فينظر أبو مسعود فيرى النبي ، فيقول له: ((اعلم أبا مسعود أن الله أقدر عليك منك على هذا الغلام))، فيقول أبو مسعود: يا رسول الله، أشهدك أني قد أعتقته لوجه الله، فيقول له: ((أما لو لم تفعل للفحتك النار))، أي: لو لم تفعل لأدخلك الله جهنم بسبب ضربك لهذا الغلام.
أيها الإخوة، كم قتلنا من زوجات بسوء معاملتنا لهن! كم قتلنا من بنين وبنات حين حرمناهم العطف والرحمة، وحرمناهم النفقة! كم قتلنا من فقراء عمال وخدم! كم أدخلنا البؤس في بيوت المسلمين! كم يتَّمَ المسلمون من أطفال! كم منَعوا حقَّ الله عن عباد الله! كم استعملوهم في العمل ولم يعطوهم من الأجر ما يصلح لهم! كم فعلوا ذلك! إننا يجب أن نعود إلى منهج النبي ونطبقه كما فعل ذلك .
وعندما نتكلم عن الرحمة فليس معنى ذلك أن الحزم لا يجب أحيانا، لا، فإن رسول الرحمة هو الذي قتل من بني قريظة سبعمائة في غداة واحدة؛ لأن أمر الإسلام والمسلمين كان يستدعي ذلك، فكما أن الرحمة مطلوبة فالحزم مطلوب، لكن الرحمة ليست اختيارا لي ولك، إنما لها أحكام من عند الله، والحزم ليس اختيارا لي ولك ولا هوى ولا شهوة، إنما الحزم له أحكام من عند الله، فعلينا أن نرتبط بذلك، وأن نعود إلى فهم ديننا وإلى تربية مجتمعنا تربية تليق بأننا خير أمة أخرجت للناس، كما قال ربنا سبحانه وتعالى: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ [آل عمران: 110].
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
كما علمنا بأن الله قد أرسل رسوله رحمة للعالمين، وأنزل كتابه القرآن ليكون أيضا رحمة للعالمين، فقال تعالى: نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ [النحل: 89].
فالقائد جعله الله رحمة لأتباعه وللناس كما قال تعالى: لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ [التوبة: 128]. إذن فالقيادة رحيمة رؤوفة، والمنهج الذي أنزل من الله على الرسول هو منهج رحمة، وهو منهج عدالة، وهو منهج سعادة, فإذا استطاع الرسول أن يطبق المنهج كما أمره الله، وإذا كانت نفسية الرسول مطبوعة على الرحمة فإن أتباع هذا الرسول لن يجدوا منه ولا من تشريع الله لهم إلا الرحمة، فالرحمة في المنهج موجودة، والرحمة في القيادة موجودة، فبقيت الرحمة في الأمة، فهل تستطيع الأمة أن تستوعب المنهج؟ أن تفهم القرآن فتفهمه على أنه منهج رحمة؟ على أنه كتاب رحمة؟ هل تستطيع الأمة أن تدرس حياة رسولها لتدرك أن جميع خطوات هذا الرسول كانت رحمة؟ وهل إذا درست الأمة عندها استعداد أن تطبق كتاب الرحمة ومنهج رسول الرحمة على نفسها؟ فتطبق الرحمة على شعوبها؟ وتطبق الرحمة في بيوتها؟ وتطبق الرحمة في مجتمعها؟ وتطبق الرحمة في كل جوانب حياتها؟ وإذا كان كل شيء في حياته يشعر بالرحمة فهل نحن أخذنا عنه تلك الرحمة أم قلنا كما قال غيرنا: آمنا واستقمنا، ثم عشنا بقلوب جاهلية ونفوس شيطانية وحياة دنسة قذرة، يأكل القوي منا الضعيف، ويسحق الغني منا الفقير، ويشعر المحتاج فينا أن الأرض ضاقت عليه حين يعيش بين المسلمين، وأن الكتاب الذي يتلى لا يفكر الناس فيه إلا من باب مصالحهم، وأن الرسول الذي يحتفل بذكراه كذبا وزورا لا يفكر الناس به إلا من خلال مطامعهم الشخصية فقط، أما أن يقتل الإنسان الأنانية في نفسه، وأن ينصف الناس من نفسه، وأن يكون رحيما يشعر بشعور المنكوبين واليتامى والفقراء والمظلومين والمضطهدين فقليل من يهتم بذلك ويعبأ به؟
إن عليك أن تعلم -يا أخي المسلم- أن لمسة حنان وعطف ورحمة على رأس يتيم قد تدخلك الجنة، أن دعاء أرملة تحسن إليها فتمنعها من الانحراف ومن الحاجة للناس قد تدخلك الجنة. إن دعاء امرأة عجوز محرومة مهضومة لأنك أحسنت إليها قد تدخلك الجنة.
يا قوم، إن الذي رحم كلبا غفر الله له، فما بالكم من يرحم إنسانا مؤمنا؟! إن الذي يريد رحمة الله ويطمع فيها عليه أن يكون هو رحيما، رحيما بكل شيء، فهذا يقول: ((من رحم ولو ذبيحة عصفور رحمه الله يوم القيامة))، ويقول: ((والشاة إن رحمتها يرحمك الله)).
ولتعلم -أخي المسلم- أنه بمثل معاملتك للناس فسوف يعاملك الله يوم القيامة، فإن رحمت الناس رحمك الله، وإن لم ترحمهم فلا تحلم برحمة الله؛ لأن النبي يقول: ((لا يرحم الله من عباده إلا الرحماء))، ويقول: ((من لا يرحم الناس لا يرحمه الله))، وقال: ((من لا يرحم لا يرحم، ومن لا يعفو لا يغفر له))، ويقول: ((لا تنزع الرحمة إلا من شقي))، وإذا كنت تريد الجنة أيضا فعليك بالرحمة لأن النبي عندما ذكر أهل الجنة ذكر منهم ((رجل رحيم القلب ورقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم)).
أيها الإخوة، هذا هو الإسلام، الإسلام بدون عدل, وبدون رحمة، وبدون صفح وعفو عن المسلمين, وبدون مساواة في الحقوق، وبدون وفاء، وبدون بر، ليس إسلاما صحيحا ولو صليت في اليوم ألف ركعة، فهل يفهم المسلمون ذلك؟! نرجو هذا ونتمناه. وفقنا الله جميعا لما يحب ويرضاه.
اللهم صل على من بلغ البلاغ المبين، اللهم ارحمنا رحمة تغنينا بها عن رحمة من سواك، ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين، ربنا اغفر وارحم وأنت خير الراحمين، ربنا هب لنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا، ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطانا، اللهم إنا نسألك من فضلك ورحمتك فإنه لا يملكها إلا أنت، اللهم اغفر لنا وارحمنا وأهدنا وعافنا وارزقنا...
كما علمنا بأن الله قد أرسل رسوله رحمة للعالمين، وأنزل كتابه القرآن ليكون أيضا رحمة للعالمين، فقال تعالى: نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ [النحل: 89].
فالقائد جعله الله رحمة لأتباعه وللناس كما قال تعالى: لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ [التوبة: 128]. إذن فالقيادة رحيمة رؤوفة، والمنهج الذي أنزل من الله على الرسول هو منهج رحمة، وهو منهج عدالة، وهو منهج سعادة, فإذا استطاع الرسول أن يطبق المنهج كما أمره الله، وإذا كانت نفسية الرسول مطبوعة على الرحمة فإن أتباع هذا الرسول لن يجدوا منه ولا من تشريع الله لهم إلا الرحمة، فالرحمة في المنهج موجودة، والرحمة في القيادة موجودة، فبقيت الرحمة في الأمة، فهل تستطيع الأمة أن تستوعب المنهج؟ أن تفهم القرآن فتفهمه على أنه منهج رحمة؟ على أنه كتاب رحمة؟ هل تستطيع الأمة أن تدرس حياة رسولها لتدرك أن جميع خطوات هذا الرسول كانت رحمة؟ وهل إذا درست الأمة عندها استعداد أن تطبق كتاب الرحمة ومنهج رسول الرحمة على نفسها؟ فتطبق الرحمة على شعوبها؟ وتطبق الرحمة في بيوتها؟ وتطبق الرحمة في مجتمعها؟ وتطبق الرحمة في كل جوانب حياتها؟ وإذا كان كل شيء في حياته يشعر بالرحمة فهل نحن أخذنا عنه تلك الرحمة أم قلنا كما قال غيرنا: آمنا واستقمنا، ثم عشنا بقلوب جاهلية ونفوس شيطانية وحياة دنسة قذرة، يأكل القوي منا الضعيف، ويسحق الغني منا الفقير، ويشعر المحتاج فينا أن الأرض ضاقت عليه حين يعيش بين المسلمين، وأن الكتاب الذي يتلى لا يفكر الناس فيه إلا من باب مصالحهم، وأن الرسول الذي يحتفل بذكراه كذبا وزورا لا يفكر الناس به إلا من خلال مطامعهم الشخصية فقط، أما أن يقتل الإنسان الأنانية في نفسه، وأن ينصف الناس من نفسه، وأن يكون رحيما يشعر بشعور المنكوبين واليتامى والفقراء والمظلومين والمضطهدين فقليل من يهتم بذلك ويعبأ به؟
إن عليك أن تعلم -يا أخي المسلم- أن لمسة حنان وعطف ورحمة على رأس يتيم قد تدخلك الجنة، أن دعاء أرملة تحسن إليها فتمنعها من الانحراف ومن الحاجة للناس قد تدخلك الجنة. إن دعاء امرأة عجوز محرومة مهضومة لأنك أحسنت إليها قد تدخلك الجنة.
يا قوم، إن الذي رحم كلبا غفر الله له، فما بالكم من يرحم إنسانا مؤمنا؟! إن الذي يريد رحمة الله ويطمع فيها عليه أن يكون هو رحيما، رحيما بكل شيء، فهذا يقول: ((من رحم ولو ذبيحة عصفور رحمه الله يوم القيامة))، ويقول: ((والشاة إن رحمتها يرحمك الله)).
ولتعلم -أخي المسلم- أنه بمثل معاملتك للناس فسوف يعاملك الله يوم القيامة، فإن رحمت الناس رحمك الله، وإن لم ترحمهم فلا تحلم برحمة الله؛ لأن النبي يقول: ((لا يرحم الله من عباده إلا الرحماء))، ويقول: ((من لا يرحم الناس لا يرحمه الله))، وقال: ((من لا يرحم لا يرحم، ومن لا يعفو لا يغفر له))، ويقول: ((لا تنزع الرحمة إلا من شقي))، وإذا كنت تريد الجنة أيضا فعليك بالرحمة لأن النبي عندما ذكر أهل الجنة ذكر منهم ((رجل رحيم القلب ورقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم)).
أيها الإخوة، هذا هو الإسلام، الإسلام بدون عدل, وبدون رحمة، وبدون صفح وعفو عن المسلمين, وبدون مساواة في الحقوق، وبدون وفاء، وبدون بر، ليس إسلاما صحيحا ولو صليت في اليوم ألف ركعة، فهل يفهم المسلمون ذلك؟! نرجو هذا ونتمناه. وفقنا الله جميعا لما يحب ويرضاه.
اللهم صل على من بلغ البلاغ المبين، اللهم ارحمنا رحمة تغنينا بها عن رحمة من سواك، ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين، ربنا اغفر وارحم وأنت خير الراحمين، ربنا هب لنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا، ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطانا، اللهم إنا نسألك من فضلك ورحمتك فإنه لا يملكها إلا أنت، اللهم اغفر لنا وارحمنا وأهدنا وعافنا وارزقنا...