نبت الأرض ألوان

عاصم بن محمد الغامدي
1438/08/23 - 2017/05/19 08:20AM
[align=justify]الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي غمر صفوة عباده بلطائفه طولاً وامتنانًا، وألَّف بين قلوبهم فأصبحوا بنعمته إخوانًا، ونزع الغل من صدورهم فظلوا في الدنيا أصدقاء وأخدانًا، وفي الآخرة رفقاء وخلانًا، والصلاة والسلام على محمد المصطفى، وعلى آله وأصحابه الذين اتبعوه واقتدوا به قولاً وفعلاً وعدلاً وإحسانًا، أما بعد عباد الله:
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى في السر والعلن، فاتقوا الله رحمكم الله، فاللبيب من تفكر في مآله، والحازم من تزود لارتحاله، والعاقل من جدَّ في أعماله، نظر في المصير، وجانب التقصير، ترك الحطام، واجتنب الحرام، فخذوا بالأحزم من أموركم رحمكم الله، فأمامكم يومٌ لا ينفع فيه الندم، ولا يفيد فيه الأسف إذا زلَّتِ القدم، يوم تبعثون، {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}.
عباد الله:
الأضداد لا تتفق، والأشكال لا تفترق، والأرواح جنودٌ مجندةٌ ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف، وقد أمر الله سبحانه نبيَّه عليه الصلاة والسلام بالصبر على الصحبة الصالحة، مع أنه غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}، ولعل من أسباب هذا الأمر أن تمتلئ نفوس أصحابه بمحبته، وتتشرب معاني أخوته، وتزيد به تأسيًا واقتداء، وتقوى علاقتهم ببعضهم، ويكون الواحد منهم للآخَرِ صديقًا محبًا، وصاحبًا ناصحًا، يفضي إليه، ويخشى وقوع الضرر عليه، ويقبل منه، ولا يرضى بديلاً عنه، ولو اختلفت أفكارهم ما تناكرت قلوبهم، وهو ما حصل في ذلك الجيل الطاهر، رضي الله عنهم وأرضاهم، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذْ أَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ آخِذًا بِطَرَفِ ثَوْبِهِ حَتَّى أَبْدَى عَنْ رُكْبَتِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمَّا صَاحِبُكُمْ فَقَدْ غَامَرَ» -أي: دخل في خصومة- فَسَلَّمَ وَقَالَ: إِنِّي كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ ابْنِ الخَطَّابِ شَيْءٌ، فَأَسْرَعْتُ إِلَيْهِ ثُمَّ نَدِمْتُ، فَسَأَلْتُهُ أَنْ يَغْفِرَ لِي فَأَبَى عَلَيَّ، فَأَقْبَلْتُ إِلَيْكَ، فَقَالَ: «يَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ» ثَلاَثًا، ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ نَدِمَ، فَأَتَى مَنْزِلَ أَبِي بَكْرٍ، فَسَأَلَ: أَثَّمَ أَبُو بَكْرٍ؟ فَقَالُوا: لاَ، فَأَتَى إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَلَّمَ، فَجَعَلَ وَجْهُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَمَعَّرُ، حَتَّى أَشْفَقَ أَبُو بَكْرٍ، فَجَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَاللَّهِ أَنَا كُنْتُ أَظْلَمَ، مَرَّتَيْنِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي إِلَيْكُمْ فَقُلْتُمْ كَذَبْتَ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ صَدَقَ، وَوَاسَانِي بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَهَلْ أَنْتُمْ تَارِكُوا لِي صَاحِبِي» مَرَّتَيْنِ، فَمَا أُوذِيَ بَعْدَهَا. [رواه البخاري]. فانظر إلى شفقة أبي بكر على عمر، حتى جثا على ركبتيه مخافة أن تلحق بعمر غضبة من نبي الله صلى الله عليه وسلم، وانظر إلى دفاع النبي عليه الصلاة والسلام عن أبي بكر رضي الله عنه.
والصديق من صَدَقَكَ، لا من صدَّقك، وخير الأصدقاء من كان حاجزًا لك عن الخطأ، ومعينًا لك على الحق، لما ولي أبو بكر الخلافة أقطع طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه أرضًا، وكتب له بها كتابًا، أشهد فيه ناسًا منهم عمر رضي الله عنه، فأتى طلحةُ إليه ليختمه، فأبى عمر فرجع طلحة مغضبًا إلى أبي بكر، وقال: والله ما أدري، أأنت الخليفة أم عمر!! فقال الصديق رضي الله عنه: بل عمر لكنه أنا. [رواه ابن أبي شيبة في مصنفه وأبو عبيد في الأموال وغيرهم].
ولهذا كان يقال: من اتخذ إخوانًا، كانوا له أعوانًا، ورب صديق أودُّ من شقيق.
والصديق يحكي حال المرء، فمن صاحب الأخيار حُسِب منهم، ومن صاحب غيرهم دخل في حكمهم.
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه
فكل قرين بالمقارن يقتدي
إذا كنت في قوم فصاحب خيارهم
ولا تصحب الأردى فتردى مع الردي
عباد الله:
إن من أكثر الفئات تأثرًا بالصداقات، الطلابَ والطالباتِ في المدارس والجامعات، فنفوسهم لا زالت تتشكل، وحواجز تجاربهم لا زالت قصيرة، ولذا فهم من أكثر المستهدفين بالإفساد، من أعداء البلاد والعباد.
ومن أبرز صور الاستهداف، محاولة تدمير عقولهم، وإفسادِ حياتهم، بإسقاطهم في شرك المخدرات، عن طريق نشر رفاق السوء بين الشباب، ودعمهم بكل ما يتاح لهم من وسائل، بالمال والمخدرات، فهم يعلمون قدرة الصديق على التأثير والإقناع، فجميع الدراسات النفسية والاجتماعية التي أجريت على المتعاطين تكاد تجمع على أن إلحاح الأصدقاء من أهم أسباب الوقوع في المخدرات -كما ذكر ذلك مجمع الأمل للصحة النفسية بالرياض في مقال نشره على موقعه الإلكتروني-. [http://www.alamal.med.sa/med_article6.shtml].
وهذا يزيد الحمل على أولياء الأمور وقادة المجتمع، ويحثهم على احتواء الشباب وربط الصداقات والعلاقات الصالحة معهم، وإشغالهم بالنافع والمفيد.
ومما يثلج الصدر ما نسمعه بين فينة وأخرى من ضبط الجهات المختصة كميات كبيرةً من المخدرات والمفترات، والقبض على مروجين ومتعاونين كثر.
هل تصدقون أن وزارة الداخلية -زادها الله في الحق قوة وثباتًا- ضبطت خلال ستةِ أشهر فقط أكثرَ من عشرين مليون حبة كبتاجون، وأكثر من تسعة عشر طنًا من الحشيش المخدر، وأكثر من عشرة كيلو جرامات من الهيروين الخام، وأكثر من مئتي كيلو من الكوكايين المخدر، وقبضت على أكثر من ألف وستمئة متورط في جرائم التهريب والنقل والترويج للمخدرات والمؤثرات العقلية؟
وهذه الأرقام تدق ناقوس الخطر، وتدلُّ دِلالة واضحة على عمق الاستهداف وخطورة الأهداف، والوعي بها وبدلالاتها واجب حتمي على أولياء الأمور، ومحفزٌّ لهم للتعرف على أصحاب أولادهم، وتوجهاتهم وأفكارهم، وطبيعة العلاقة بينهم، خصوصًا في أيام الاختبارات التي نمر بها، وما يأتي بعدها من أيام الإجازة الطويلة المدى، ففيها تكثر ساعات الفراغ، وتزداد أوقات اللقاء بالأصحاب، وينتشر في الوقت نفسِه المجرمون الذين يحاولون ترويج السموم، واختراق أمن هذه البلاد من خلال تدمير طاقة شبابها وإفساد عقولهم، كفانا الله والمسلمين شرورهم، ورد كيدهم في نحورهم.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.

الخطبة الثانية:
الحمدلله رب العالمين، وصلى الله على خير خلقه أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين، أما بعد، أيها المسلمون:
فإن العاقل يختبر صاحبه قبل مؤاخاته، ومن لم يقدم الامتحان قبل الثقة، والثقة قبل الأنس، أثمرت مودته ندمًا، ومن الصفات التي يمكن بها معرفة الإنسان قبل مصادقته: معرفةُ صاحبه، قال ابن مسعود رضي الله عنه: (ما شيءٌ أدل على شيءٍ -ولا الدخانُ على النار- من الصاحب على الصاحب). [أدب الدنيا والدين للماوردي ص: 268].
ومن أهم خصال الصاحب، العقلُ الذي يدلُّه على مراشد الأمور، فإن الحمقَ لا تثبت معه مودة، ولا تدوم لصاحبه استقامة، ومنها الدين الواقف بصاحبه على الخيرات، فإن تاركَ الدين عدوُّ نفسه، فكيف ترجى مودته لغيره؟
ومنها أن يكون محمودَ الأخلاقِ مرضيَّ الفعالِ، حريصًا على الخير دالاً عليه، فصداقة الشرير تكسب الأعداء، وإخوان السوء كشجر النار يُحرق بعضه بعضًا، وليس معنى هذا أن الصديق لا يخطئ، ومن رام إخوانًا لا يختلفون عليه، فقد طلب مستحيلاً، والمقصد أن يحرص على الخير جملةً، ويعفو في مقابل كثيره عن قليل الزلل، ويعلمَ أنَّ الرجال كالشجر شرابها واحدٌ، وثمرتها مختلفة.
بنو آدمَ كالنبتِ ونبتُ الأرضِ ألوانُ
فمنهُ شَجَرُ الصندَلِ والكافورُ والبانُ
ومنهُ شجرٌ أفضلُ ما يحملُ قِطْرانُ
فكونوا أيها الكرام من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وبادروا بالأعمال قبل حلول المنايا، وقدموا لآخرتكم، واحرصوا على أهلكم وأولادكم، وصلوا وسلموا على خير الورى طرًا، فمن صلى عليه صلاة، صلى الله عليه بها عشرًا، فاللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.[/align]
المشاهدات 945 | التعليقات 0