نارٌ تحرق, وسحابةٌ تُساق .. مُرفق word

عبدالرحمن المهيدب
1442/07/06 - 2021/02/18 15:06PM

الحمد لله رب العالمين ، أعطى ليميز الشاكرين ، ومنع ليرفع درجة الصابرين. أحمده وهو للحمد أهل، وأشكره وهو المتفضل عزَّ وجل , وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبدُهُ ورسوله  .. أما بعد ..

رجلٌ صالحٌ سكنَ جَنوب الجزيرة, أنعم الله عليه, وبسط له في رزقه, ومما أنعم عليه: بُستانٌ وارف, طاب زرعه, وكثُر نتاجُه, فأغناه وأغنى عياله. بل عمّ خيرُهُ الأرملةَ والمسكين واليتيم الفقير, يُنفقُ عليهم ويُعطيهِم بلا مَنٍّ ولا أذى, وكأنهم شركاء له في بستانه, وقُسَمَاؤهُ في خراجِه, وتِلك هي أعلى درجاتِ الصدقة.

وجَرَت على هذا المُحسِنِ سُنَّةُ الله في خلقه: ( كلّ نفسٍ ذائقة الموت ) فقبض الله روحه, وخلَّف من بعدِهِ ثلاثة أبناء, فما ساروا سيره, وما حذوا حذوه. يقول ابن كثيرٍ –رحمه الله تعالى- : [ لمّا مات صاحب الجنة وَرِثَهُ بَنُوه, فكان مما يقولون: كان أبونا أحمقا لكثرة ما ينفق من بستانه على الفقراء, ولو أننا منعناهم لتوفر لنا شيءٌ كثير ] مُستصحبين المقاييس الدنيوية المجردة عن النظرة الأخروية, غافلين عن أن هذا العطاء هو ابتلاء من الله رب السماء .. نعم .. ( ونبلوكم بالشر والخير فتنة) ناسين أن الله هو من بسط لهم هذا الرزق, وهو قادرٌ على أن يمنعهم ويصرفه لغيرهم, فعزموا عزمًا جادًا على أن يسبِقوا الفقراءَ والمساكين, والضعفاءَ المحتاجين, ليقطعوا عادة أبيهم, ويبدِّلوا سُنَّتَه, والله مطّلِعٌ على سرائرهم, وهو أعلم بما تُخفي صُدُورهم, فأقسموا قسمًا ءاثما, ونذروا نذرًا ظالما: على أن يمنعوا الخيرَ أهلَه, فعزموا على قطف ثمر بُستانهم من غير استثناء: ( فأقسموا ليصرمُنَّها مُصبحين * ولا يستثنون ) وجاء الصباح .. فساء صباحُهُم وساءت ليلتهم لسوءِ نيَّتِهِم, ( فتنادَوا مُصبِحِين * أنِ اغدوا على حرثكم إن كنتم صارمين ) , فخرجوا مسرعين, وهم يتخافتون ويتهامسون بينهم: (ألّا يدخُلَنَّها اليومَ عليكم مسكين * وغدَوْا على حردٍ قادرين ) : أي خرجوا أول النهار يظنون أنهم قادرون على تنفيذ ما عزموا عليه, فكان أمرُ الله سابق, وقدرهُ واقِع: (فطاف عليها طائفٌ من ربِّك وهم نائمون ) , فأنزل الله على بستانهم نارًا, أحرقت ثمارهم, وأتلفت حصادهم: ( فأصبحت كالصريم ) كالليل المُظلِم من أثَر تِلك النار, وكل هذا وقع وهم نائمون, في مضاجعهم يتقلبون, ( ولا تحسبنّ اللهَ غافلًا عمّا يعملُ الظالمون ), فيا تُرى ما هو شعورهم حينما رأوها على هذه الحال ؟ وأيُّ حسرةٍ نزَلَت بهم بعدَ أن رأوْا سوء المآل ؟

أسأل الله ألّا يُرينا غضبه ولا يبدل نعمه, ويزيدنا من فضله.. اللهم آمين.

---------------------------------

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد .. فمن هَوْل الفاجعة التي رأوها, ومن عظم الصدمة التي شاهدوها, كذبوا ما رأتهُ عُيونُهم, وأنكروا ما حل ببستانهم: (فلمّا رأوها قالوا إنا لضالُّون) لِعِظَم الكارثة التي تيقَّنوا نزولها, ومشهدِ العقوبة التي حلَّت بنعمةٍ ما شكروها, فما إن زالت سكرة التكذيب, وحلَّت صحوة التصديق, قالوا: بل نحنُ محرومون, وبدأ التلاوُمُ والحسرة, فذكَّرَهُم أفضلهُم, وأخيَرُهُم بنُصحِهِ السابق لهم: (ألم أقل لكم لولا تُسبِّحُون؟), فقالوا: ( سُبحان ربنا إنا كنا ظالمين ) بعد أن فات الأوان, فاعترفوا بظُلمِهِم, وأقَرُّوا بسوءِ نيَّتِهِم, وقالوا: ( عسى ربُّنا أن يُبدِلَنا خيرًا منها إنا إلى ربنا راغبون ) حتى يعملوا كما عمل أبوهم, ويُحسِنوا كما أحسن الله إليهم.

 ثم ختم اللهُ تعالى هذه القصة, بآيةٍ كالصاعقة لكل جاحدٍ مُكَذِّب: ( كذلك العذاب ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون ) نعم .. ولعذاب الأخرة أكبر لو كانوا يعلمون, فويلٌ لمن جحد نعمة الله, وحرم عباد الله حقهم.

يا مَن حرم إخوته أو أحد أقاربه حقهم؛

ويا مَن خانَ شريكَهُ ونقض العهدَ والأمانة؛ تذكَّر أن الله مُطَّلعٌ عليك, ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور

ويا من شكر وأحسَن؛ وعامَل بما هو أحسن, أبشر ثم أبشر, فقد جاء في صحيح مسلم عن أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "بَيْنَا رَجُلٌ بِفَلَاةٍ مِنَ الْأَرْضِ، فَسَمِعَ صَوْتًا فِي سَحَابَةٍ: اسْقِ حَدِيقَةَ فُلَانٍ، فَتَنَحَّى ذَلِكَ السَّحَابُ، فَأَفْرَغَ مَاءَهُ فِي حَرَّةٍ، فَإِذَا شَرْجَةٌ مِنْ تِلْكَ الشِّرَاجِ قَدِ اسْتَوْعَبَتْ ذَلِكَ المَاءَ كُلَّهُ، فَتَتَبَّعَ المَاءَ، فَإِذَا رَجُلٌ قَائِمٌ فِي حَدِيقَتِهِ يُحَوِّلُ المَاءَ بِمِسْحَاتِهِ، فَقَالَ لَهُ: يَا عَبْدَ اللَّـهِ مَا اسْمُكَ؟ قَالَ: فُلَانٌ - الِاسْم الَّذِي سَمِعَ فِي السَّحَابَةِ - فَقَالَ لَهُ الرجل: يَا عَبْدَ اللَّـهِ لِمَ تَسْأَلُنِي عَنِ اسْمِي؟ فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ صَوْتًا فِي السَّحَابِ الَّذِي هَذَا مَاؤُهُ يَقُولُ: اسْقِ حَدِيقَةَ فُلَانٍ، لِاسْمِكَ، فَمَا تَصْنَعُ فِيهَا؟ قَالَ: أَمَّا إِذْ قُلْتَ هَذَا، فَإِنِّي أَنْظُرُ إِلَى مَا يَخْرُجُ مِنْهَا، فَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثِهِ، وَآكُلُ أَنَا وَعِيَالِي ثُلُثًا، وَأَرُدُّ فِيهَا ثُلُثَهُ" فيا الله ما أعظم إحسان الله لمن أحسن , وما أعظم كرم الله لمن بذل وأنعم!

ففرقٌ بين شاكرِ النعمة وكافرها, سحابةٌ تُساقُ لحديقته, وآخر نارٌ تحرِقُ بُستانه.

أسأل الله أن يجعلنا من عباده الشاكرين الذاكرين, التائبين الأوابين المخبِتِين, اللهم إنا نسألُكَ حُبَّك وحُبَّ من يُحِبُّك, وحب العمل الذي يقربنا إلى حبك, اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا, وكَرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين, اللهم اشفِ مرضانا, وعاف مبتلانا, ورُدَّ غائبنا, واقضِ دُيوننا واشرح صدورنا يارب العالمين .. اللهم وفق ولي أمرنا لما تحب وترضى , وخذ بناصيته للبر والتقوى, اللهم كن لإخواننا المرابطين على الثغور, اللهم سدد رميهم, وصوِّب رأيهم, واحفظهم من بين أيديهم ومن خلفهم, وعن أيمانهم وعن شمائلهم, ونعوذ بك أن يغتالوا من تحتهم وصلى الله وسلم على رسول الله.

المشاهدات 1363 | التعليقات 0