موقف المسلم من كورونا وغيره من الأوبئة

أما بعد، كثر الحديث -عباد الله- اليوم في المجالس وغيرها عن ذلك الوباء الذي انتشر وجاب البلاد بلا إذن ولا تصريح، عن ذلك المرض الذي أصاب العباد فأوردهم المهالك، عن ذلك الميكروب الذي هزَّ الاقتصاد وأوقع الخسائر المادية وهو لا يُرى بالعين المجردة، حديثهم -أيها الكرام- لا يخلو من التندر أو الخوف الشديد المبالغ فيه، والرسالة الربانية تقول: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ}[1].

أيها المسلمون، لن أتحدث عن تاريخ المرض، وعن أصله وفصله وكيف نشأ وأين حدث، ولن أتحدث عما أوقعه من آثارٍ وما سبَّبه من أضرارٍ، وإنما أحدثكم اليوم عن الموقف الإيجابي للمسلم حيال هذا المرض خاصة وغيره من الأوبئة عامة، عن النظرة التفاؤلية التي ينبغي أن يتحلى بها المسلم في أوقات الأزمات، وعند حدوث المشكلات.

إخوة الإيمان، حين ينزل البلاء بالناس فإنك ترى المؤمن معتصمًا بالله -عز وجل- وحاله كما حكى القرآن: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}[2].

نظرةٌ كُلُّها تفاؤلٌ، كُلُّها اعتمادٌ وتوكلٌ على الله وحده لا شريك له، نعم -يا عبد الله- لن يصيبَك إلا ما كتب الله عليك، فلا تحزن، ولا تقلق، واعتصم بالله مولاك؛ لاعتقادك ويقينك أن الأمور كلها بيد الله -عز وجل- وأنك متى ما اعتصمت به هداك ووفقك، قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}[3].

وجاء في الحديث ما يرسخ هذا المعنى في النفوس؛ ليكون عقيدة في قلب كل مسلم، فعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: كنتُ خلفَ رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: (يا غلام، إني أُعَلِّمُكَ كلماتٍ: احْفَظِ اللهَ يَحْفَظْكَ، احفظِ اللهَ تَجدْهُ تُجاهك، إذا سألتَ: فاسألِ اللهَ، وإذا استعنتَ: فاستعنْ باللهِ، واعْلَمْ أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيءٍ لم ينفعوك إلا بشيءٍ قد كتبَه اللهُ لك، ولو اجتمعوا على أن يضروكَ بشيءٍ لم يضروك إلا بشيءٍ قد كتبَه اللهُ عليك، رُفِعَتِ الأقلامُ وجَفَّتِ الصُّحُفُ)[4].

هكذا رسَّخَ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- هذه العقيدة في قلب الغلام، هكذا قال -صلى الله عليه وسلم- لابن عمه وللأمة أجمع: (واعْلَمْ أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيءٍ لم ينفعوك إلا بشيءٍ قد كتبَه اللهُ لك، ولو اجتمعوا على أن يضروكَ بشيءٍ لم يضروك إلا بشيءٍ قد كتبَه اللهُ عليك).

الله أكبر! هكذا -معشر المسلمين- ينبغي أن ترسخ هذه العقيدة في قلوبنا رسوخ الجبال الرواسي.

أيها المؤمنون، كما علمتنا الشريعة الإسلامية الاعتصام بالله -عز وجل- عند الأزمات، واعتقاد أن الأمور كلها بيد الله، فلن يُصاب إنسان إلا بأمره، ولن ينجو أحد إلا بعلمه، علمتنا بذل الأسباب للوقاية والحماية من الأمراض، فالقائل في الحديث المتفق على صحته: (لا عدوى ولا طِيَرَة)[5]، هو القائل: (وفِرَّ من المجذوم فرارك من الأسد)[6].

فالنبي -صلى الله عليه وسلم- يعلم الأمة أن العدوى موجودة، ولكنها لا تعدي بطبعها، ولا تصيب إلا من كتب الله عليه الإصابة بالمرض؛ ولذا أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأخذ الحيطة والحذر، وعدم مخالطة الصحيح للمريض؛ لاحتمال الإصابة -إذا شاء الله -عز وجل-، فقال -صلى الله عليه وسلم-: (وفِرَّ من المجذوم فرارك من الأسد)، وقال: (لَا يُورِدُ مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحٍّ)[7]، كل هذا يدل على حرص الشريعة على أسباب السلامة.

ومما يدل على عناية الشريعة بالوقاية والسلامة وأخذ الأسباب: ما جاء عنه -صلى الله عليه وسلم-في مرض الطاعون، فقد انتشر هذا الوباء في بلاد الشام زمن أمير المؤمنين عمر، وقد قال -صلى الله عليه وسلم- عن هذا الداء: (إذا سمعتم به بأرضٍ فلا تَقْدموا عليه، وإذا وقع بأرضٍ وأنتم بها فلا تخرجوا فرارًا منه). كل هذا يدل على الوقاية والسلامة، وهذا ما يسمى اليوم بالحجر الصحي.

أيها المسلمون، ومن الثوابت عند أهل الإسلام: أن الداء إذا نزل على العباد، فإن الشافي منه، والرافع له: هو الله -عز وجل-، قال الله -جل جلاله-: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ[8]، فالشافي هو الله، والكافي هو الله، والمعافي هو الله وحده لا شريك، وأما الذهاب إلى الطبيب فلا ينافي التوكل على الله؛ وكذا وأخذ العلاج، فما هي إلا أسباب يسلكها العبد غير أن القلب معلق بالله -عز وجل-.

فإذا ابتلاك الله -يا عبد الله- فابذل الأسباب، وفوض أمرك على مدبر الأسباب -عز وجل-، واعلم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (لكل داءٍ دواءٌ، فإذا أُصيبَ دواءُ الدَّاءِ بَرَأَ بإذن الله -عز وجل-)[9]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (ما أنزل اللهُ داءً، إلا قد أنزل له شفاءً، علمه من علمه، وجهله من جهله)[10].

قال العَلَّامةُ ابنُ القيم: "وفي الأحاديث الصحيحة الأمرُ بالتداوي، وأنه لا ينافي التوكل، كما لا ينافيه دفعُ داءِ الجوع والعطش، والحر، والبرد بأضدادها، بل لا تتمُ حقيقةُ التوحيد إلا بمباشرة الأسباب التي نصبها الله مقتضياتٍ لمسبَّبَاتِها قَدَرًا وشرعًا، وأن تعطيلها يَقْدَحُ في نفس التوكل، كما يَقْدَحُ في الأمر والحكمة، ويُضْعِفُهُ من حيث يظنُّ مُعَطِّلُهَا أن تركها أقوى في التوكل، فإن تَرْكها عجزًا ينافي التوكلَ الذي حقيقتُه: اعتمادُ القلب على الله في حصول ما ينفعُ العبدَ في دينه ودنياه، ودفع ما يضره في دينه ودنياه، ولا بد مع هذا الاعتمادِ من مباشرة الأسباب وإلا كان مُعَطِّلًا للحكمة والشرع، فلا يَجْعَلُ العبدُ عَجْزَهُ توكلًا ولا توكُّلَهُ عجزًا"[11].

حمى الله المسلمين من الشرور والآفات، وعافاهم من الابتلاءات.

عباد الله، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله من كل ذنب فاستغفروه، وقد أفلح المستغفرون.

الخطبة الثانية.

أما بعد، أذكر نفسي وإياكم -عباد الله- بخطورة بث الأخبار الكاذبة، ونشر المعلومات الخاطئة؛ لما له من أثر سلبي في نفس المتلقي، فكم أقلقت الأخبار الكاذبة حياة الناس، وكم أدخلت الرعب في قلوبهم، فمن أراد الحديث: فليتحدث ولينشر الخير، روى راوية الإسلام أبو هريرةَ الدَّوسيُّ قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (من كان يؤمنُ بالله واليوم الآخر: فليقلْ خيرًا أو ليصمت) متفق عليه[12]. وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لا عدوى ولا طِيَرَةَ، ويعجبني الفألُ). قالوا: وما الفألُ؟ قال: (كلمةٌ طيبةٌ) متفق عليه، واللفظ للبخاري[13].

فاحرص -أيها المؤمن- كل الحرص على الكلام الطيب ونشره بين الناس.  

واعلم -أيها الموفق- أن أمرك كله خير، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (عجبًا لأمر المؤمن، إن أمره كُلَّهُ خيرٌ، وليس ذاكَ لأحدٍ إلا للمؤمن، إن أصابَتْهُ سَرَّاءُ: شَكَرَ فكان خيرًا له، وإن أصابَتْهُ ضَرَّاَءُ: صَبَرَ فكان خيرًا له).

فأمرك -يا عبد الله- إلى خير، في حال الرخاء وحال العناء، فلا تيأس، ولا تتحطم، وتحلى بالتفاؤل.

وفقنا الله لكل خير، وحمانا من كل شر، وأعاننا على ذكره وشكره وحسن عباده، صلوا -عباد الله- وسلموا على السراج المنير، والهادي البشير -صلى الله عليه وسلم-.         

      

 

  

 

     

 

[1] سورة المدثر (31).

[2] سورة التوبة (51).

[3] سورة التغابن (11).

[4] أخرجه الترمذي في جامعه رقم (2516) وقال: "هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ".

[5] صحيح البخاري رقم (5707)، صحيح مسلم رقم (2220).

[6] صحيح البخاري رقم (5707).

[7] صحيح البخاري رقم (5774)، صحيح مسلم رقم (2221).

[8] سورة الشعراء (80).

[9] أخرجه مسلم في صحيحه من حديث جابر -رضي الله عنه- رقم (2204).

[10] أخرجه أحمد في مسنده رقم (3648)، وابن حبان في صحيحه رقم (6062) من حديث ابن مسعود -رضي الله عنه-

[11] زاد المعاد لابن القيم (4 / 14).

[12] صحيح البخاري رقم (6475)، صحيح مسلم رقم (47).

[13] صحيح البخاري رقم (5776)، صحيح مسلم رقم (2223).

المشاهدات 1178 | التعليقات 0