موقفنا من خلاف الفقهاء

هلال الهاجري
1436/03/08 - 2014/12/30 09:49AM
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا و أَنْنمْ مُسْلِمُونَ).
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا).
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) .. أما بعد:

لَمّا انْصَرَفَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى الْمَدِينَةِ بَعْدَ غَزْوَةِ الْخَنْدَقِ، لَمْ يَكُنْ إلّا أَنْ وَضَعَ سِلَاحَهُ فَجَاءَهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ: (أَوَضَعْتَ السّلَاحَ، وَاَللّهِ إنّ الْمَلَائِكَةَ لَمْ تَضَعْ أَسْلِحَتَهَا؟ فَانْهَضْ بِمَنْ مَعَكَ إلَى بَنِي قُرَيْظَةَ -وَكَانُوا قَدْ نَقَضُوا عَهْدَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ-، فَإِنّي سَائِرٌ أَمَامَكَ أُزَلْزِلُ بِهِمْ حُصُونَهُمْ وَأَقْذِفُ فِي قُلُوبِهِمْ الرّعْبَ)، فَسَارَ جِبْرِيلُ فِي مَوْكِبِهِ مِنْ الْمَلَائِكَةِ، وَرَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى أَثَرِهِ فِي مَوْكِبِهِ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ يَوْمَئِذٍ: (لَا يُصَلّيَنَّ أَحَدُكُمْ الْعَصْرَ إلّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ)، فَبَادَرُوا إلَى امْتِثَالِ أَمْرِهِ، وَنَهَضُوا مِنْ فَوْرِهِمْ فَأَدْرَكَتْهُمْ الْعَصْرُ فِي الطّرِيقِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا نُصَلّيهَا إلّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ كَمَا أُمِرْنَا، فَصَلّوْهَا بَعْدَ عِشَاءِ الْآخِرَةِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَمْ يُرِدْ مِنَّا ذَلِكَ وَإِنّمَا أَرَادَ سُرْعَةَ الْخُرُوجِ فَصَلّوْهَا فِي الطّرِيقِ، فَلَمْ يُعَنّفْ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَاحِدَةً مِنْ الطّائِفَتَيْنِ.

عبادَ اللهِ ..

هذا هو سببٌ من أسبابِ الخِلافِ بينَ العلماءِ .. وهو الاختلافُ في فَهم النَّصِ الشَّرعي كما حدثَ بينَ الصَّحابةِ رضيَ اللهُ عنهم في فَهمِ قولِه صلى اللهُ عليه وسلمَ: (لَا يُصَلّيَن أَحَدُكُمْ الْعَصْرَ إلّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ) .. ولا ريبَ أن الصَّوابَ مع الذينَ صلَّوا الصَّلاةَ في وقتِها؛ لأن النُّصوصَ في وجوبِ الصَّلاةِ في وقتِها مُحكمَةً، وهذا نصٌ مُشْتَبِه.

وقبلَ أن نبدأَ في ذكرِ بعضِ الأسبابِ الأخرى في خِلافِ الفُقهاءِ .. لا بُدَّ أن نعلمَ أن الحقَّ واحدٌ لا يتعدَّدُ .. فقد يُصيبُ العالمُ أو الحاكمُ الحقَّ وحُكمَ اللهِ تعالى وقد يُخطئُه، فهو في اجتهادِه مأجورٌ .. وعلى غلطِه معذورٌ .. كما جاءَ في الحديثِ: (إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ) .. وهاهو رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا بَعَثَ أَمِيرًا أَوْ سَرِيَّةً دَعَاهُ فَأَوْصَاهُ ثُمَّ يَقُولُ لَهُ: (وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ أَنْ تُنْزِلَهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ فَلَا تُنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِكَ فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي أَتُصِيبُ حُكْمَ اللَّهِ فِيهِمْ أَمْ لَا) فقد يجتهدُ العالمُ ولا يُصيبُ حكمَ اللهِ عزَّ وجلَّ .. واسمعْ إلى قولِه سبحانَه: (وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ) .. فأصابَ سليمانُ عليه السَّلامُ الحكمَ بتوفيقِ اللهِ تعالى له، فمدحَ اللهُ تعالى سُليمانَ ولم يذُم داوودَ عليهما السَّلامُ .. ومع ذلك قالَ اللهُ عنهما: (وَكُلا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا).

يا أهلَ الإيمانِ ..

ومن أسبابِ الخلافِ بينَ العُلماءِ أن يكونَ الدَّليلُ لم يبلغْ هذا العالمَ الذي أَخطأَ في حُكمِه .. ومنه ماوردَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خَرَجَ إِلَى الشَّامِ، حَتَّى إِذَا كَانَ بِسَرْغَ لَقِيَهُ أَهْلُ الْأَجْنَادِ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ وَأَصْحَابُهُ، فَأَخْبَرُوهُ أَنَّ الْوَبَاءَ قَدْ وَقَعَ بِالشَّامِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَقَالَ عُمَرُ: ادْعُ لِي الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ فَدَعَوْتُهُمْ، فَاسْتَشَارَهُمْ وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ الْوَبَاءَ قَدْ وَقَعَ بِالشَّامِ، فَاخْتَلَفُوا فَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَدْ خَرَجْتَ لِأَمْرٍ وَلَا نَرَى أَنْ تَرْجِعَ عَنْهُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعَكَ بَقِيَّةُ النَّاسِ وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا نَرَى أَنْ تُقْدِمَهُمْ عَلَى هَذَا الْوَبَاءِ، فَقَالَ: ارْتَفِعُوا عَنِّي.

ثُمَّ قَالَ: ادْعُ لِي الْأَنْصَارِ، فَدَعَوْتُهُمْ لَهُ فَاسْتَشَارَهُمْ، فَسَلَكُوا سَبِيلَ الْمُهَاجِرِينَ وَاخْتَلَفُوا كَاخْتِلَافِهِمْ فَقَالَ: ارْتَفِعُوا عَنِّي.

ثُمَّ قَالَ: ادْعُ لِي مَنْ كَانَ هَاهُنَا مِنْ مَشْيَخَةِ قُرَيْشٍ مِنْ مُهَاجِرَةِ الْفَتْحِ، فَدَعَوْتُهُمْ فَلَمْ يَخْتَلِفْ عَلَيْهِ رَجُلَانِ، فَقَالُوا: نَرَى أَنْ تَرْجِعَ بِالنَّاسِ وَلَا تُقْدِمَهُمْ عَلَى هَذَا الْوَبَاءِ، فَنَادَى عُمَرُ فِي النَّاسِ إِنِّي مُصْبِحٌ عَلَى ظَهْرٍ فَأَصْبِحُوا عَلَيْهِ، قَالَ: فَجَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَكَانَ مُتَغَيِّبًا فِي بَعْضِ حَاجَتِهِ، فَقَالَ: إِنَّ عِنْدِي مِنْ هَذَا عِلْمًا سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقُولُ: (إِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ فَلَا تَقْدَمُوا عَلَيْهِ، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ)، قَالَ: فَحَمِدَ اللَّهَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ثُمَّ انْصَرَفَ .. وهكذا اختلفَ الصَّحابةُ رضيَ اللهُ عنهم في الأمرِ لأن الحديثَ لم يكن قد بَلَغَهم، فلما سمعوه أذعنوا إليه وأطاعوا.

وقد يكونُ سببُ الخلافِ هو نِسيانُ العالمِ للدَّليلِ فيُفتي بخِلافِه .. كما في قصَّةِ عمرَ بنِ الخَّطَّابِ وعمَّارِ بنِ ياسرٍ رضيَ اللهُ عنهم كما ذكرَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبْزَى: أَنَّ رَجُلًا أَتَى عُمَرَ، فَقَالَ: إِنِّي أَجْنَبْتُ فَلَمْ أَجِدْ مَاءً، فَقَالَ: لَا تُصَلِّ، فَقَالَ عَمَّارٌ: أَمَا تَذْكُرُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ أَنَا وَأَنْتَ فِي سَرِيَّةٍ، فَأَجْنَبْنَا فَلَمْ نَجِدْ مَاءً، فَأَمَّا أَنْتَ فَلَمْ تُصَلِّ، وَأَمَّا أَنَا فَتَمَعَّكْتُ فِي التُّرَابِ وَصَلَّيْتُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكَ أَنْ تَضْرِبَ بِيَدَيْكَ الْأَرْضَ، ثُمَّ تَنْفُخَ، ثُمَّ تَمْسَحَ بِهِمَا وَجْهَكَ وَكَفَّيْكَ)، فَقَالَ عُمَرُ: اتَّقِ اللَّهَ يَا عَمَّارُ، قَالَ: إِنْ شِئْتَ لَمْ أُحَدِّثْ بِهِ، فَقَالَ عُمَرُ: نُوَلِّيكَ مَا تَوَلَّيْتَ.

فهذا عمرُ على جلالةِ قدرِه وعلمِه قد نسيَ حادثةً مُهمَّةً في حكمٌ شرعيٌّ وهو التَّيمَّمُ لمن أجنبَ ولم يجد الماءَ.

ومن الأسبابِ في خلافِ العُلماءِ هو اختلافُهم في تصحيحِ بعضِ الأحاديثِ أو تضعيفِها أو قد يتعارضُ عندَهم مفهومَ بعضِ الأحاديثِ فتختلفُ في ذلك أفهامُهم وآراءُهم الفقهيَّةُ .. فيصيبُ البَّعضُ ويُخطيءُ البعضُ الآخرُ .. إذاً فلا يُقالُ لكلِّ قَولٍ يُستخرجُ من الكتبِ لعالمٍ من العلماءِ أنه حقٌ حتى يُوافقَ الفِهمَ السَّليمَ للكِتابِ العزيزِ والسُّنَّةِ الصَّحيحةِ .. فإن كانَ صحيحاً فنَعَم .. وإن كانَ خطئاً فيُعتذرُ لقائلِه مع عدمِ الأخذِ بقولِه.

قالَ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميَّةَ رحمَه اللهُ: (قد ثَبَتَ بالكتابِ والسنَّةِ والإجماعِ أنَّ الله سُبحانهُ وتعالى فَرَضَ على الخلقِ طاعَتَهُ وطاعَةَ رسُولِهِ، ولم يُوجِبْ على هذه الأمَّةِ طاعَةَ أحدٍ بِعينهِ في كُلِّ ما يأمُرُ به وينهى عنه، إلا رَسُولَ اللهِ صَلَّى الله عليهِ وَسَلَّمَ، حتى كانَ صدِّيقُ الأمَّةِ وأفضلُها بعد نبيِّها يقولُ: (أطيعوني ما أطعتُ الله، فإذا عصيتُ اللهَ فلا طاعةَ لي عليكم) .. واتفقوا كلُّهم على أنه ليسَ أحدٌ معصوماً في كلِّ ما يأمُرُ به وينهى عنه إلا رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ؛ ولهذا قال غَيرُ واحدٍ من الأئِمّةِ: كُلُّ أحدٍ من الناسِ يؤخذُ من قولِهِ ويُتركُ، إلا رَسُولَ الله صلَّى الله عليهِ وسلَّمَ.
وهؤلاءِ الأئِمةُ الأربعةُ رضيَ اللهُ عنهُم، قد نَهَوا الناسَ عن تقليدِهِم في كل ما يقولونَهُ، وذلكَ هو الواجبُ عليهم، فقالَ أبو حنيفَةَ: هذا رأيي فمن جاءَ برأيٍ خيرٍ منه قبلناه، ولهذا لَمَّا أتى أفضلُ أصْحابِهِ أبو يوسُفَ إلى الإمامِ مالِكٍ فسألهُ عن مسألةِ الصاعِ وصَدَقةِ الخضراواتِ ومسألةِ الأجناسِ، فأخبَرَهُ مالكٌ بما يدُلُّ على السنَّةِ في ذلك، فقالَ: رَجعتُ إلى قولِك يا أبا عبدِ اللهِ، ولو رأى صاحبي ما رأيتُ لرَجعَ كما رجعتُ إلى قولكِ يا أبا عبدِ اللهِ.
ومالكٌ كانَ يقولُ: إنّما أنا بشرٌ أصيبُ وأخطئ، فاعرِضوا قولي على الكِتابِ والسُّنَّةِ.
والشافعيُّ كانَ يقولُ: إذا صَحَّ الحديثُ فاضربوا بقولي الحائطَ.
والإمامُ أحمدُ كانَ يقولُ: لا تُقلِّدني ولا تقلِّدْ مالكاً، ولا الشَّافعيَ، ولا الثُّوريَ، وتَعَلَّم كما تعلَّمنَا).

فالحذرَ يا عبادَ اللهِ ممن يتَتبَّعُ أخطاءَ العُلماءِ ويُظهرُها كأنها هي القولُ الرَّاجحُ .. وعليكم بأقوالِ العُلماءِ الرَّاسخينَ المعروفينَ بعلمِهم وورعِهم وسيرتِهم الطيِّبةِ وموافقةِ أقوالِهم للكِتابِ والسُّنَّةِ .. الذينَ لا يتَّحرونَ انتقاءَ الشَّاذِّ من الأقوالِ لأجلِ ضغوطِ المُجتمعِ أو الهزيمةِ النَّفسيَّةِ أمامَ الكُّفارِ أو ما يُطلبُه بعضُ النَّاسِ من فتاوى ليَتفلَّتوا بها من أحكامِ الدِّينِ التي ثَقلتْ عليهم .. يقولُ مُحَمَّدُبْنُ سِيرِينَ رحمَه اللهُ: (إِنَّ هَذَا الْعِلْمَ دِينٌ، فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ عَمَّنْ يَأْخُذُ دِينَهُ) .. وقالَ الخَطيبُ البَغداديُّ رحمَه اللهُ للمُستفتي: (فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْأَلَ مَنْ يَثِقُ بِدِينِهِ وَيَسْكُنُ إِلَى أَمَانَتِهِ عَنْ أَعْلَمِهِمْ وَأَمْثَلِهِمْ، لِيَقْصِدَهُ وَيَؤُمَّ نَحْوَهُ، فَلَيْسَ كُلُّ مَنِ ادَّعَى الْعِلْمَ أَحْرَزَهُ، وَلا كُلُّ مَنِ انْتَسَبَ إِلَيْهِ كَانَ مِنْ أَهْلِهِ).

أقولُ قَولي هَذَا، وأَستَغفِرُ اللهَ لي ولَكم ولِسَائِرِ الْمُسلِمينَ مِنْ كُلِّ ذنبٍ فاستغفروه، إنَّه هوَ الغَفورُ الرَّحيمُ.

الخطبة الثانية:

الحمدُ للهِ علاَّمِ الغُيوبِ، نشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، المطَّلعِ على أسرارِ القلوبِ، ونشهدُ أنَّ محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُه الْمتَّقِي الأوَّابَ صلَّى الله وسلَّم وباركَ عليه وعلى جميعِ الآلِ والأصحابِ، ومن تبعهم بإحسانٍ وإيمانٍ إلى يوم المآبِ .. أَمَّا بَعْدُ:

قَالَ إسْمَاعِيلَ الْقَاضِيَ رَحِمَهُ اللهُ: دَخَلْتُ عَلَى الْمُعْتَضِدِ فَدَفَعَ إِلَىَّ كِتَابًا نَظَرْتُ فِيهِ، وَكَانَ قَدْ جُمِعَ لَهُ الرُّخَصُ مِنْ زَلَلِ الْعُلَمَاءِ وَمَا احْتَجَّ بِهِ كُلٌّ مِنْهُمْ لِنَفْسِهِ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مُصَنِّفُ هَذَا الْكِتَابِ زِنْدِيقٌ –أيْ مُنَافِقٌ-، فَقَالَ: لَمْ تَصِحَّ هَذِهِ الأَحَادِيثُ؟، قُلْتُ: الأَحَادِيثُ عَلَى مَا رُوِيَتْ، وَلَكِنْ مَنْ أَبَاحَ الْمُسْكِرَ، لَمْ يُبِحِ الْمُتْعَةَ، وَمَنْ أَبَاحَ الْمُتْعَةَ لَمْ يُبِحِ الْغِنَاءَ وَالْمُسْكِرَ، وَمَا مِنْ عَالِمٍ إِلاَّ وَلَهُ زَلَّةٌ، وَمَنْ جَمَعَ زَلَلَ الْعُلَمَاءِ، ثُمَّ أَخَذَ بِهَا ذَهَبَ دِينُهُ، فَأَمَرَ الْمُعْتَضِدُ فَأُحْرِقَ ذَلِكَ الْكِتَابُ .. ولذلك قَالَ سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ رحمَه اللهُ: (إِنْ أَخَذْتَ بِرُخْصَةِ كُلِّ عَالِمٍ، اجْتَمَعَ فِيكَ الشَّرُّ كُلُّهُ).

فيا أيُّها المُستفتي .. يقولُ ابنُ القَيِّمِ رحمَه اللهُ في إعلامِ ‏المُوَّقعينَ: (لَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِمُجَرَّدِ فَتْوَى الْمُفْتِي إذَا لَمْ تَطْمَئِنَّ نَفْسُهُ، وَحَاكَ فِي صَدْرِهِ مِنْ قَبُولِهِ، وَتَرَدَّدَ فِيهَا، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (اسْتَفْتِ نَفْسَكَ وَإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ وَأَفْتَوْكَ)، فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَفْتِيَ نَفْسَهُ أَوَّلًا، وَلَا تُخَلِّصُهُ فَتْوَى الْمُفْتِي مِنْ اللَّهِ إذَا كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ الْأَمْرَ فِي الْبَاطِنِ بِخِلَافِ مَا أَفْتَاهُ، كَمَا لَا يَنْفَعُهُ قَضَاءُ الْقَاضِي لَهُ بِذَلِكَ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ فَلَا يَأْخُذُهُ، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ نَارٍ)، وَالْمُفْتِي وَالْقَاضِي فِي هَذَا سَوَاءٌ، وَلَا يَظُنُّ الْمُسْتَفْتِي أَنَّ مُجَرَّدَ فَتْوَى الْفَقِيهِ تُبِيحُ لَهُ مَا سَأَلَ عَنْهُ إذَا كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ الْأَمْرَ بِخِلَافِهِ فِي الْبَاطِنِ، سَوَاءٌ تَرَدَّدَ، أَوْ حَاكَ فِي صَدْرِهِ، لِعِلْمِهِ بِالْحَالِ فِي الْبَاطِنِ، أَوْ لِشَكِّهِ فِيهِ، أَوْ لِجَهْلِهِ بِهِ، أَوْ لِعِلْمِهِ جَهْلَ الْمُفْتِي أَوْ مُحَابَاتِهِ فِي فَتْوَاهُ أَوْ عَدَمَ تَقْيُّدِهِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَوْ لِأَنَّهُ مَعْرُوفٌ بِالْفَتْوَى بِالْحِيَلِ وَالرُّخَصِ الْمُخَالِفَةِ لِلسُّنَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْبَابِ الْمَانِعَةِ مِنْ الثِّقَةِ بِفَتْوَاهُ وَسُكُونِ النَّفْسِ إلَيْهَا).

ويا أيُّها المفتي .. قالَ الشَّيخُ بكرُ أبو زيدٍ رحمَه اللهُ تعالى: (فالحذرَ يا عبدَ اللهِ، أن تَبنيَ مجدَك وحياتَك على العِزِّ الكَاذبِ، بنشرِ الشُّذوذِ والتَّرخصِ الفَاسدِ، مبررًا للواقعِ الآثمِ، وسعيًا وراءَ الحظِّ الزَّائلِ، فقد نزلَ أُناسٌ عن كراسي العِزةِّ وزالوا، وكأنهم ما كانوا، وبَقيتْ واقعاتُهم على اختلافِ طبقاتِهم قَصصًا تُتلى للاعتبارِ، فاحذرْ أن تُطوى في صحائفِهم للمُعتبرينَ).


اللهمَّ إنا نسألُك بعزِّك وذُلِّنا إلا رحمتَنا، نسألُك بقوتِك وضعفِنا إلا غفرتَ لنا، اللهم اغفر زلَّاتِنا، وأمِّن روعاتِنا، واستر عوراتِنا، واحفظنا من بين أيدينا ومن خلفِنا وعن أيمانِنا وعن شمائِلنا ومن فوقِنا، ونعوذُ بك اللهمَّ أن نُغتالَ من تحتِنا، اللهم تقبَّلنا في التَّائِبينَ، اللهم جازِنا بالإحسانِ إحساناً، وبالإساءة عفوًا وغفراناً، ربَّنا آتنا في الدنيا حَسَنَةً وفي الآخرةِ حَسَنَةً وقِنَا عذابَ النَّارِ.
المرفقات

موقفنا من خلاف الفقهاء.docx

موقفنا من خلاف الفقهاء.docx

المشاهدات 2197 | التعليقات 1

جزاك الله خيرا