موعظة وذكرى
محمد ابراهيم السبر
موعظة وذكرى
الحمدُ لله الرحيم التواب، يحيي ويميت وإليه المآب، جعل الدنيا دار عمل واكتساب، والآخرة دار جزاء وثواب، أحمده سبحانه وأشكره على جزيل نعمه، وترادف مننه، وأشهد أ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه وأتباعه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، اتقوه حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، واعلموا أن كل حي مصيره للفناء، وكل ما على الأرض كائن للتراب: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ}، والعمر أنفاس محدودة، وأيام معدودة، وكلنا يعلم ذلك، ولكن حب الدنيا، قد استولى على النفوس، وران على القلوب طول الأمل، فقست القلوب عن التأثر بالمواعظ، وأعرضت النفوس عن الناصح والواعظ؛ فلا تلين عند تذكير ووعيد، ولا تتأثر من تخويف وتهديد، كأنها من طول الأمل سكارى: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ *مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ}.
إنه يوم عظيم ما أطوله، وحساب ما أدقه، وهول ما أعظمه: {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا * يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ * وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا}، {يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا}، {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ}.
وما أسوأ حال المعرضين عن طاعة ربهم، وما أشد أسفهم حينما يتساءل المؤمنون وهم في نعيمهم، وينادون المجرمين وهم في جحيمهم، يقولون لهم توبيخاً وتقريعاً: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ * فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ}. وما أعظمها من خسارة، وما أشدها من حسرة وندامة أولئك: {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ}، {ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ}، {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ *إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}.
أما آن للعاقل أن يعود إلى ربه، ويصلح حاله قبل ارتحاله؟ أما آن لك أن تتوب إلى ربك من سوء ذنبك؟ وتستغفره من قبيح فعلك قبل أن يغلق عنك باب التوبة؟ فلا يبقى لك سوى الحسرة والندامة؟ أما آن لكل أحد أن يعي معاتبة ربه لعباده: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ}.
ألا فبادروا بالتوبة النصوح، والرجوع إلى ربكم بقلوب ملؤها الندم على ما فرط ومضى من سيئ الأعمال، والعزم على استدراك ما فات من التفريط والإهمال، وعدم العودة إلى ما سلف وكان، فو الله ما ليلة تمر أو يوم يذهب إلا تخترم فيه أجساد سليمة، وأبدان صحيحة تم أجلها، وخذوا بوصية أصدق الخلق، وأنصحهم؛ إذ يقول لعبد الله بن عمر رضي الله عنهما: " كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل "، وكان ابن عمر يقول: "إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك".
فأكثروا من ذكر هادم اللذات، ومفرق الجماعات، فإن ذكر الموت نعم العون على الاستعداد، والتزود للمعاد، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّۖ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ۖ وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ}. فعما قريب تلاقون ربكم كما بدأكم أول مرة، وتعرضون للحساب على مثقال الذرة، فينظر أحدكم أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وأشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، فاتقوا النار ولو بشق تمرة، فأمامكم يوم عظيم، يشيب لهوله الوليد، يخاف منه أهل الطاعة، فكيف بأهل التفريط والإضاعة.
أين من كان قبلكم في الأيام الخالية، رحلوا إلى القبور، وتركوا فسيح القصور، وقل والله بقاؤنا بعدهم، هذه دورهم فيها سواهم، وهذا صديقهم قد نسيهم وجفاهم، لقد صاروا عبرة للمعتبرين، ونحن إلى ما صاروا إليه صائرون، فيفوز المتقون، ويخسر الغافلون: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ}.
جعلني الله وإياكم من المنتفعين بالوعظ والتذكير، ونبهنا من رقدة الغافلين، ونفعني وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي سيد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، ولسائر المسلمين، من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى، وسمع الله لمن دعا، وبعد، فاتقوا الله -عباد الله- حق التقوى، وتوبوا إليه وأطيعوه وتدركوا رضاه، واستدركوا عمرا ضيعتم أوله، ولا تضمنون عمل الخير في آخره، فرحم الله عبدا اغتنم أيامه ولياليه، وبادر بالتوبة والإنابة قبل طي الكتاب على ما فيه، وأخذ نصيبه من الباقيات الصالحات قبل أن يتمنى ساعة واحدة من ساعات الحياة واغتنم أوقاته فيها، فقدم لنفسه ما يكون له ذخرا عند ربه، وفرجاً له اشتداد كربه. {إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ}.
اللهم إنا أسألك إيمانا كاملاً، ويقيناً صادقاً، ورزقاً واسعاً، وقلباً خاشعاً، ولساناً ذاكراً، وتوبة نصوحاً، وتوبة قبل الموت، وبرد العيش بعد الموت، وعفواً عند الحساب، والفوز بالجنة والنجاة من النار يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، ووفق خادم الحرمين الشريفين وولي عهده لما تحب وترضى، اللهم أعذنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن.