موعظة وذكرى بعد العشر والحج ،، ألقيت في 15/ 12 / 1424 هـ
د. عبدالله بن حسن الحبجر
نعمة الله على عباده بالعشر وما فيها من صالح العمل .
حرص الإسلام على الاجتماع من خلال شعائره .
التذكير بيوم القيامة من خلال مشهد الحجاج .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ـ.
الحمد لله ، أفاء على أمة الإسلام من مواسم الخيرات ما تجدد به إيمانها ، أكرم المسلمين بأيام وليال فاضلة تعوِّض ما فاتها ، فالمغبون فيها من تساوت الأيام وألْهَتْهُ الدنيا بزخرفها ، والفائز حقاً من شمّر عن ساعد الجد وسابق إلى الطاعات بأنواعها.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له جعل الحج وسيلة للتقوى (ومن يتق الله يجعل له مخرجاً) وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خير من حج واعتمر وهو المغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، صلوات الله وسلامه عليه ، وعلى أبويه آدم وإبراهيم ، وعلى إخوانه من النبيين ، وعلى أصحابه الغر الميامين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
ها قد عاش المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها أياماً مشهودة ، ومناسبات سعيدة ، كتب الله لهم فيها ما كتب من الأجر والمَغْنَم ، أغاظوا عدوهم من الجن ، وأعداءهم من الإنس ، طابت نفوسهم ، وزاد إيمانهم وزكت قلوبهم.
قضوا عشر ذي الحجة ، بما فيها من فضائل ومغانم ، حل بساحتهم يوم عرفة ، فالحجاج على صعيدها المبارك يبتهلون إلى الله بالدعاء ، والمسلمون في سائر الأقطار يصومون إيقاناً بالأجر والثواب ، فما رؤي الشيطان أحقر ولا أصغر ولا أذل منه في ذلك اليوم إلا ما كان من يوم بدر.
ثم بعده يوم الحج الأكبر ، يوم النحر وعيد الأضحى وأيام التشريق ، حيث الأكل الشرب والذكر لله تعالى وذبح الأضاحي والتقرب إلى الله بصالح الأعمال.
ألا فهنيئاً للمسلمين بهذه المناسبات السعيدة والأيام الفاضلة ، هنيئاً لمن حج ولم يرفث ولم يفسق . بُشراك في قول النبي صلى الله عليه وسلم فيما روى الطبراني عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أما خروجك من بيتك تؤم البيت الحرام فإن لك بكل وطأة تطؤها راحلتك يكتب الله لك بها حسنة ، ويمحو عنك بها خطيئة ، وأما وقوفك بعرفة فإن الله عز وجل ينزل إلى السماء الدنيا فيباهي بهم الملائكة فيقول: هؤلاء عبادي جاؤوني شعثاً غُبراً من كل فج عميق ، يرجون رحمتي ويخافون عذابي ولم يروني فكيف لو رأوني ، فلو كان عليك مثل رمل عالج أو مثل أيام الدنيا ، أو مثل قطر السماء ذنوباً غسلها الله عنك ، وأما رميك الجمار فإنه مدخور لك ، وأما حلقك رأسك فإن لك بكل شعرة تسقط حسنة ، فإذا طفت بالبيت خرجت من ذنوبك كيوم ولدتك أمك) أورده الألباني في صحيح الجامع وحسنه.
يكفيك أيها الحاج أن الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة.
وحين يُهنّأ العاملون الموفقون ، يُعَزَّى المفرطون المضيعون للفرض ، ويُذَكّر الجميع باستدامة الطاعة والحفاظ على الرصيد من الأعمال الصالحة مع الندم على التقصير والتفريض في جنب الله.
عباد الله :
في نظرة إلى اهتمام الإسلام بوحدة المسلمين وتألفهم وتوادهم وتراحمهم وتعاطفهم وتراصهم ، يلحظ كل مسلم ، بل وكل منصف من غير المسلمين أن هذا الدين بتعاليمه وعباداته ، بتشريعاته وأحكامه ، يحرص تمام الحرص على جمع الكلمة وائتلاف الصف ، فأفراده يلتقون في صعيد واحد ، يجتمعون اجتماعاً مصغراً كل يوم خمس مرات في الصلوات الخمس ، ويجتمعون أكبر في صلاة الجمعة كل أسبوع ، ويجتمعون أعظم وأعظم كل عام في الحج.
وزيادة على ذلك قبلتهم واحدة ، كتابهم واحد ، ويصومون شهراً واحداً.
بل إن ضد ذلك منهي عنه ومذموم في الشرع ، إذْ هو من أسباب الفشل في الحياة (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم) ، (إن الذين فرّقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء).
وتتجلى نعمة الله على عباده بالاجتماع والائتلاف (واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً) ، (وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألّفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم).
ومن هذا المنطلق على كل فرد من أفراد المجتمع المسلم أن يسعى حثيثاً لتحقيق هذا المبدأ وتلك الغاية ، بأن يكون أداة لجمع إخوانه على الحق والخير ، والبعد بهم عن الباطل والشر.
أن يسعى لأن يكون مباركاً أينما حل أو نزل.
كلٌّ بإمكانه ذلك ، رجلاً كان أم امرأة ، صغيراً كان أم كبيراً ، بأن يكون أداة خير لإيصال الخير ، يأمر بمعروف ، ينهى عن منكر ، يحث على فضيلة ، يحذّر من رذيلة ، يصل أقاربه وذوي رحمه ، يتفادى أسباب القطيعة معهم ، يحسن إلى جيرانه ، يتودد إلى إخوانه ، يجتمع معهم ويقوي صلته بهم في كل ما يرضي الله تعالى من قول أو فعل ، لا يرضى زلة أو خطأً في دين الله دون نصيحة أو توجيه ، فإنْ لم يُجْدِ ذلك أعرض وترك الجاهلين.
أيها الأخوة :
إن ما أنعم الله به علينا من صحة في الأبدان وسعة في الأرزاق ووفرة في أسباب الراحة ، مع أمنٍ في الأوطان يوجب شكرها حتى لا تزول ، فقد حذر الله تعالى في كتابه الكريم من ذلك في مثل قوله تعالى: (وإذْ تأذّن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد) ولم يخش رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمته الفقر ، بل خاف عليهم الغنى ووفرة المال ، فهو من أسباب طغيان بني آدم (كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى) كثيراً ما كان المال والثراء ، والنعمة ، والرخاء سبباً في شقاء بين آدم ؛ لأنها ربما تلهيهم عن طاعة الله أو تؤدي بهم إلى أمور تسخط الله
كلٌ يسير بعقله وتفكيره نحو ما فيه الرشد والفلاح ، لا يكن أحدكم إمّعة ، إن أحسن الناس أحسن ، وإن أساؤوا أساء ، ولكن ليوطن نفسه إن أحسن الناس أن يُحسن وإن أساؤوا أن يتجنب إساءتهم ، فمن أرضى الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس ، ومن أرضى الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس ، وإن الله سائل كل مخلوق عن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه ، وعن علمه ماذا عمل فيه ، عن عمره فيم أفناه عن شبابه فيم أبلاه ، فرحم الله امرءاً عمر بالتقوى قلبه ، وبالخير والهدى والرشاد مجلسه ، أو مجلس عشيرته ، وجعل ماله سبباً لنجاته يوم قيامته.
(يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون) ، (واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم .....
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ...
عباد الله : لقد أبصر المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها حجاج بيت الله الحرام حين اجتماعهم على صعيد عرفات ، رأوا أناساً أشبه ما يكونون بمن يستعد للموت أو قد مات ، نعم لقد شابه أولئك الحجاج الموتى ، فالميت يجرد من ثيابه وهؤلاء قد تجردوا من ثيابهم ، الميت يغسل قبل الكفن ، وهؤلاء قد اغتسلوا للإحرام ، الميت يكفن في ثياب بيض ، وهؤلاء لبسوا من الإحرام أبيضاً ، الموتى يجمعون يوم القيامة على أرض واحدة ، وهؤلاء قد وقفوا على صعيد واحد.
وفي هذا من التذكير لكل مسلم ومسلمة بذلك اليوم العظيم ، فبينما يذهب بعض الحجاج للبحث عن ظل في ذلك اليوم ليقي من لفحة الشمس أو زحام الناس ، فإن على كل مسلم أن يحرص على أن يكون له ظل يستظل به يوم القيامة حين تدنوا الشمس من الخلائق حتى تكون منهم كمقدار ميل.
نسأل الله أن يظلنا في ظله يوم لا ظل إلا ظله
وثمت مسألة أخيرة أذكر بها نفسي وإخواني وهي أن على المسلم ألا يقطع فعل الخير والطاعات بعد انقضاء المواسم الفضيلة ، فإن العمل ليس مقصوراً عليها.
لئن كان ذكر الله تعالى ذا مزية خاصة في العشر وأيام التشريق ، فإن له فضلاً لا يخفى في كل وقت (فاذكروني أذكركم واشكروني ولا تكفرون) ، (سبق المفردون قالوا: وما المفردون؟ قال: الذاكرون الله كثيراً والذاكرات) ، (أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني ، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأٍ خير منهم).