موعظة حر الصيف

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
إخوة الإيمان والعقيدة .. فاتقوا الله حق التقوى، فتقوى اللهِ وصيةُ اللهِ للأولين والآخرين، وهي مستمسك الصالحين، وسبيل النجاة في الدنيا ويومِ الدين.
أيها المؤمنون .. نعيش هذه الأيام موعظةً بليغة ودروسًا عظيمة، يشهدها الأعمى والبصير، ويدركها الأصم والسميع، لكنها لا تُؤتي أُكلها إلاّ حين تصادف من كان له قلبٌ أو ألقى السمع وهو شهيد.
نعيش هذه الأيام مع واعظ حر الصيف، فمَن مِنا الذي لم يؤذه حر الصيف، ولا لفحُ سمومِه؟!، فمن أين يأتينا هذا الحر؟
جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة ـ أي: أخروها حتى يبرد الجوّ ـ، فإن شدة الحر من فيح جهنم) وجاء في حديث آخر قال ( اشتكت النار إلى ربها فقالت: يا رب أكل بعضي بعضًا، فجعل لها نَفَسين: نَفَسٌ في الشتاء، ونَفَسٌ في الصيف، فشدة ما تجدون من البرد من زمهريرها، وشدة ما تجدون من الحر من سمومها ).
أيها الأحبة .. إنّ شدة الحر التي نجدها في حرِّ الظهيرة ما هي إلاّ نَفَسٌ من فيح جهنم، نعوذ بالله منها ومن حرها، وقد كان من دعائه صلى الله عليه وسلم ( اللهم إني أعوذ بك من فتنة القبر، ومن فتنة الدجال، ومن فتنة المحيا والممات، ومن حرِّ جهنم ).
وفي حديث أبي هريرة أن رسول الله قال ( ناركم هذه التي يوقد بنو آدم جزءٌ من سبعين جزءًا من نار جهنم ) قالوا: والله إن كانت لكافية! قال ( إنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءًا كلهن مثل حرها ).
فحقٌ على العاقل أن يسأل نفسه وهو يتقي حرّ الدنيا: ماذا أعدّ لحرِّ الآخرة ونارها؟
يا من لا يصبر على وقفة يسيرة في حرِّ الظهيرة، كيف بك إذا دنت الشمس من رؤوس الخلق، وطال وقوفهم، وعظم كربهم، واشتد زحامهم؟! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( تُدنى الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم كمقدار ميل، فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق، فمنهم من يكون إلى كعبيه، ومنهم من يكون إلى ركبتيه، ومنهم من يكون إلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق إلجامًا ) قال: وأشار رسول الله بيده إلى فيه.
تلكم نارُ الآخرة، وذاك حرُّ الموقف، فأين المتقون !! ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ) اللهم إن أجسادنا لا تقوى على النار، فأجرنا منها يا رحيم.
رأى عمر بن عبد العزيز رحمه الله قومًا في جنازة قد هربوا من الشمس إلى الظل، وتوقوا الغبار، فأبكاه حال الإنسان يألف النعيم والبهجة، حتى إذا وُسِّد قبره فارقهما إلى التراب والوحشة، وأنشد:
من كان حين تُصيبُ الشمسُ جبهته *** أو الغبارُ يخافُ الشَيـنَ والشَعثـا
ويألفُ الظـــلَّ كي تبقى بشاشته *** فسوفَ يسكنُ يومـًا راغمًا جدثًا
في ظــــل مَقْفَرَةٍ غبراءَ مظلمةٍ *** يُطيلُ تحت الثرى في غمها اللبثـا
تجهـزي بجَهَــازٍ تبلُغيـن بــه *** يا نفس قبل الردى لم تخلقي عبثـا
أيها المؤمنون .. لئن كنا نتقي الحرَّ بأجهزة التكييف والماء البارد والسفر إلى المصائف، وكل هذه نعمٌ تستوجب الشكر، فهل تأملنا وتفكرنا كيف نتقي حرَّ جهنم؟ كيف ندفع لفحها وسمومها عن أجسادنا الضعيفة ووجوهنا المنعمة؟.
تفر من الهجير وتتقيه *** فهلا من جهنم قد فررتا
وتشفق للمصر على الخطايا *** وترحمه ونفسك ما رحمتا
يقول صلى الله عليه وسلم ( من صام يومًا في سبيل الله باعد الله بذلك اليوم حرَّ جهنم عن وجهه سبعين خريفًا ) صيام الهواجر ومكابدة الجوع والعطش في يوم شديدٍ حرُّه بعيدٍ ما بين طرفيه، ذاك دأب الصالحين وسنة السابقين.
يقول أبو الدرداء رضي الله عنه: صوموا يومًا شديدًا حره ، لحر يوم النشور، وصلوا ركعتين في ظلمة الليل لظلمة القبور.
أيها المؤمنون .. إن من أعظم ما يُدفع به العذاب وتُتقى به النار الاستكثار من الحسنات والتخفف من السيئات، فذاك هو الزاد، وتلك هي الجُنّة، واللهِ .. لَلَّه أرحم بنا من أمهاتنا، ولكنه يريد التائب المقبل المنيب.
خرج ابن عمر رضي الله عنه في سفر معه بعض أصحابه، فوضعوا سفرة لهم، فمر بهم راعٍ، فدعوه إلى أن يأكل معهم، فقال: إني صائم، فقال ابن عمر: في مثل هذا اليوم الشديد حره وأنت بين هذه الشعاب في آثار هذه الغنم وأنت صائم؟! فقال: أُبادر أيامي هذه الخالية.
فهلم - عباد الله - نبادر أيامنا الخالية، حتى تلتذ أسماعنا، وما ألذه من مقال، يوم يُقال ( كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ )
أيها المؤمنون .. وإذا تذكرنا حر يوم النشور ، فلا ننسى فضل الصدقة ، وظلها الوارف لأصحابها في ذلك اليوم العظيم الذي تدنو فيه الشمس من الخلائق، قال النبي صلى الله عليه وسلم ( كل إمرئ في ظل صدقته حتى يفصل بين الناس ) أو قال ( حتى يحكم بين الناس ) ألا فلنغتنم صيفنا بالطاعات، ولنستزد فيه من الحسنات، فالأجر يعظُم مع المشقة.
في غزوة تبوك ابتلي الناس بالخروج للجهاد، في زمن عُسرة وشدة من الحرِّ وجدب من البلاد، وحين طابت الثمار والناس يحبون المقام في ثمارهم وظلالهم، فخرج المؤمنون الصادقون، وقعد الذين في قلوبهم مرض ( وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ ) نعم ( فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ )
حذار حذار أن تُقعدنا عن المبادرة إلى الخير، نفوسٌ تعاف الحرَّ، وتحبُ الراحة، فنندم يوم لا ينفع الندم .
أقول ما تسمعون وأستغفر الله العلي العظيك لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبه، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.



الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
معاشر المؤمنين .. يقف بنا واعظ حر الصيف في موعظته مع ذلك الخلق العجيب وتلك الآية العظيمة . هذه الشمس بحجمها الهائل وحرارتها المحرقة ولهبها المتوهج تسجد بين يدي ربها مذعنة ذليلة، يقول أبو ذر رضي الله عنه : كنت مع رسول الله في المسجد حين غربت الشمس فقال ( يا أبا ذر، أتدري أين تذهب الشمس؟ ) قلت: الله ورسوله أعلم، قال ( فإنها تذهب حتى تسجد بين يدي ربها، فتستأذن في الرجوع فيؤذن لها، ويوشك أن تسجد فلا يقبل منها، وتستأذن فلا يؤذن لها، يقال لها، ارجعي من حيث جئت، فتطلع من مغربها، فذلك قوله تعالى: وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ )
لقد استجاب الكون كله لله، الأرض والسماء، النجوم والأشجار، الجبال والبحار، الزروع والأنهار، الكل لبّى مطيعًا مذعنًا خاشعًا خائفًا مسبحًا لله .
( تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ) ( أَلَمْ تَرَى أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ ) (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ )
سبحان الله .. كل أجزاء الكون تُعلن الوحدانية لمن خلقها، وتدين بالطاعة لمن فطرها، فلماذا يتلكأ الإنسان عن الاستجابة؟! لماذا يتمرد وهو المخلوق الضعيف، فيعصي العظيم الجليل سبحانه .
فاتقوا الله عباد الله ، وبادروا الآجال بالأعمال ، وقدموا لأنفسكم ، واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه، وبشر المؤمنين.
وصلوا وسلموا رحمكم الله على خير البرية ...
المشاهدات 2541 | التعليقات 1

جزاك الله خيرا