موعظة الصيف

هلال الهاجري
1446/01/11 - 2024/07/17 21:46PM

الْحَمْدُ للهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَحْرَّاً وَبَرَّاً، وَقَلَّبَ الْفُصُولَ بَرْداً وَحَرّاً، وَقَدَّرَ المَقَادِيرَ خَيْراً وَشَرّاً،  فَاختَلفَ طَعمُ الأيامِ حُلْواً وَمُرّاً، أَحْمَدُهُ سُبحَانَهُ حَمْدَاً كَثيراً وشُكْرَاً، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، شَهَادَةَ مَنِ امْتَثَلَ شَرْعَهُ نَهْياً وَأَمْراً، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّداً عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، أَكْرَمُ الْبَرِيَّةِ قَدْراً، وَأَعْبَدُ الْخَلْقِ سِرّاً وَجَهْراً، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ الَّذِينَ سَبَقُوا إِلَى اللهِ إيماناً وصَبْراً، وَجَعَلُوا لأَنْفُسِهِمْ دُونَ جَهَنَّمَ حِجَاباً وَسِتْراً، وَعَلَى مَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ مَا جَعَلَ اللهُ فِي الْعَالَمِينَ نَسَباً وَصِهْراً، أَمَّا بَعْدُ:

(وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ)

مَاذا يَعني لَنا مَا نَراهُ من التَّقلُّباتِ الجَويَّةِ، والتَّغيُّراتِ المَنَاخيَّةِ؟، فَمِنْ صَيفٍ إلى شِتاءٍ، وَمِنْ سُكونٍ إلى هَواءٍ، لَيلٌ ونَهارٌ، صَفاءٌ وغُبارٌ، حَرارةٌ تَلتَهِبُ مِنها الأقدَامُ، وبُرودةٌ تَتَكَسَّرُ مِنها العِظامُ، أَحوالٌ يَنظرُ إليها البَّعضُ نَظرةً بَصريَّةً حِسيَّةً، ويَنظرُ إليها المُؤمنُ العَاقلُ نَظرةً قَلبيَّةً تَدَبُريَّةً، قَالَ تَعالى: (يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُولِي الْأَبْصَارِ)، فَأصحَابُ العُقولِ يَرونَ بِعَينِ البَصيرةِ مَا لا يَراهُ الآخَرونَ.

قُلوبُ العارِفِينَ لَها عُيونٌ *** تَرى مَا لا يَراهُ النَّاظِرونَا

وَلِذلكَ لَو تَأمَّلَ المُؤمنُ في فَصلِ الصَّيفِ، لَرَأى فِيهِ العِبرَ والعِظَاتٍ، والفَوائدَ والآياتِ، فَمِنْ تِلكَ المَواعظِ: أَن يَعلمَ الإنسانُ أنَّ هَذهِ الحَياةَ لا تَصلُحُ أَبداً لِلخُلودِ، فَمُنَغِصاتُ العَيشِ فِيها لَيسَ لَها حُدودٌ.  

يَتمنَّى المَرءُ فِي الصَّيفِ الشِّتا *** فإذَا جَاءَ الشِّتاءُ أَنكَرهُ
فهو لَا يَرضَى بحَالٍ وَاحِدٍ *** قُتلَ الإنسَانُ مَا أَكفرَهُ

فَلا رَاحةَ ولا سَعادةَ إلا في جَناتِ النَّعيمِ، حَيثُ الرَّحمةُ والرِّضوانُ والسُّرورُ المُقيمُ، هُناكَ (لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً)، فَهُم (خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا)، أَيْ لا يُريدونَ الانتِقالَ والتَّحوِّلَ عَنْها أَبداً.

وَمِنْ مَواعظِ الصَّيفِ: أَنَّهُ كَمَا أنَّنا لا نَستطيعُ أن نَقِفَ في حَرِّ الظَّهيرةِ حَاسريِّ الرَّأسِ، حُفاةَ الأقدامِ، فَإنَّ هُناكَ يَوماً طُولُهُ خَمسونَ أَلفَ عَامٍ، يَقومُ النَّاسُ فِيهِ عُراةَ الأجسامِ، قَالَ عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: (تَدْنُو الشَّمْسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ الْخَلْقِ، حَتَّى تَكُونَ مِنْهُمْ كَمِقْدَارِ مِيلٍ، فَيَكُونَ النَّاسُ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ فِي العَرَقِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى كَعْبَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى حَقْوَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُلْجِمُهُ الْعَرَقُ إِلْجَامًا)، وَأَشَارَ بِيَدِهِ إلى فِيهِ، فَاعمَلْ عَملاً يَجعَلُكَ في الظِّلِ، (فالرَّجُلُ فِي ظِلِّ صَدَقَتِه)، (ومَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا، أَوْ وَضَعَ لَهُ، أَظَلَّهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَحْتَ ظِلِّ عَرْشِهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ)، (وسَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ: الإِمَامُ الْعَادِلُ، وَشَابٌّ نَشَأَ بِعِبَادَةِ اللّهِ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ، وَرَجُلاَنِ تَحَابَّا فِي اللّهِ، اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ، فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللّهَ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا؛ حَتَّى لاَ تَعْلَمُ يَمِينُهُ مَا تُنْفِقُ شِمَالُهُ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللّهَ خَالِيًا، فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ)، فَلا ظِلَّ في ذَلكَ اليَومِ، إلا بِعَملٍ صَالحٍ في هَذا اليَومِ.

وَمِنْ مَواعظِ الصَّيفِ: أن نَتَذكَّرَ فِي أَشَدِّ مَا يَكونُ مِنْ حَرارةِ الصَّيفِ، أنَّ هَذا إنَّما هو نَفَسٌ مِن أَنفاسِ النَّارِ، جَاءَ في الحَديثِ: (اشْتَكَتِ النَّارُ إلى رَبِّهَا، فَقالَتْ: يا رَبِّ أَكَلَ بَعْضِي بَعْضاً، فأذِنَ لَهَا بنَفَسَيْنِ، نَفَسٍ في الشِّتَاءِ، وَنَفَسٍ في الصَّيْفِ، فَهْوَ أَشَدُّ ما تَجِدُونَ مِنَ الحَرِّ، وَأَشَدُّ ما تَجِدُونَ مِنَ الزَّمْهَرِيرِ)، فَلِذلكَ قَالَ  النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ لأصحَابِهِ: (نَارُكُمْ هَذِهِ الَّتِي يُوقِدُ ابْنُ آدَمَ جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا، مِنْ حَرِّ جَهَنَّمَ » قَالُوا: وَاللهِ إِنْ كَانَتْ لَكَافِيَةً، يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: (فَإِنَّهَا فُضِّلَتْ عَلَيْهَا بِتِسْعَةٍ وَسِتِّينَ جُزْءًا، كُلُّهَا مِثْلُ حَرِّهَا)، فَاستَعيذوا باللهِ تَعالى مِن جَهَنَمَ، فَفي الحَديثِ: (مَنِ اسْتَجَارَ مِنَ النَّارِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، قَالَتِ النَّارُ: اللَّهُمَّ أَجِرْهُ مِنَ النَّارِ).

تَفِرُّ مِنَ الهَجيرِ وَتَتَّقيهِ *** فَهَلّا عَن جَهَنَّمَ قَد فَرَرتا

وَلَستَ تُطيقُ أَهوَنَها عَذاباً *** وَلَو كُنتَ الحَديدَ بِها لَذُبتا

أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.

الخطبة الثانية:

الْحَمْدُ للهِ مُدَبِّرِ الأَكْوَانِ، وَمُقَلِّبِ الدُّهُورِ وَالأَزْمَانِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ الْجَلِيلُ عَظيِمُ السُّلْطَانِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الْمَبْعُوثُ إِلَى الإِنْسِ وَالْجَانِّ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ، أَمَّا بَعْدُ:

مِنْ مَواعظِ الصَّيفِ: أَن حَرارةَ الجَوِّ لا يَنبغي أن تَكونَ عَائقَاً عَنِ الطَّاعاتِ، بَل يَتَذكَّرُ المَسلمُ أنَّ الأجرَ فيهِ يَضاعفُ دَرجاتٍ، فَلَمَّا اعتَذرَ المُنافِقونَ عَن الجِهادِ بالمَالِ والنَّفسِ، بِسَببِ حَرارةِ الشَّمسِ، مَاذا كَانَ جَوابُ اللهِ تَعالى لَهم: (فَرِحَ المُخَلَّفُونَ بِمَقعَدِهِم خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَن يُجَاهِدُوا بِأَموَالِهِم وَأَنفُسِهِم فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لا تَنفِرُوا فِي الحَرِّ قُل نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدٌّ حَرًّا لَو كَانُوا يَفقَهُونَ)، وإيَّاكم والتَّفريطَ في صَلاتَيِّ الظُّهرِ والعَصرِ في الصَّيفِ بِسَببِ السَّهَرِ والحَرِّ، فَإنَّ وَراءَكم أَيَاماً طَويلةً في ظُلمَةِ القَبرِ.

مَنْ كَانَ حِينَ تُصيبُ الشَّمسُ جَبْهَتَهُ *** أوِ الغُبارُ يَخَافُ الشَّيْنَ والشَّعَثَا

ويَألَفُ الظِّلَّ كَيْ تَبْقَى بَشَاشَتُهُ *** فَسَوْفَ يَسكُنُ يَومَاً رَاغِماً جَدَثا

في ظِلِّ مُقْفَرَةٍ غَبراءَ مُظلِمَةٍ *** يُطيلُ تَحتَ الثَّرى في غَمِّهَا اللُّبُثا

تجهَّزِي بجَهَازٍ تَبلُغينَ بِهِ *** يَا نَفسُ قَبلَ الرَّدَى لم تُخلَقِي عَبَثَا

مِنْ مَواعظِ الصَّيفِ: أَنَّهُ يَقولُ لَنَا: إنْ كُنتُم في هَذا الحَرِّ، في أَمنٍ في البِلادِ، وعَافيةٍ في الأجسَادِ، وَوَفرةٍ في الزَّادِ، فَإنَّ هُناكَ مَن يَسكُنُ في العَراءِ، حَيثُ لا مَاءَ ولا كَهرباءَ، وهُناكَ ضَحَايا الفَيَضَاناتِ، وهُناكَ حَرائقُ الغَاباتِ، وهُناكَ مَنْ جَليسُهُ الخَوفُ والفَقرُ، وهُناكَ مَنْ أَنيسُهُ الظُّلمُ والقَهرُ، وأَنتَ في نَعيمٍ في هَذا الصَّيفِ.

اللهمَّ اجعلنا لَنا شَاكرينَ، لَكَ ذَاكرينَ، لَكَ عَابدينَ، اللهمَّ إنَّا نَسألُكَ الجَنةَ وَمَا قَرَّبَ إليها من قَوْلٍ وَعَملٍ، ونَعوذُ بِكَ من النَّارِ ومَا قَرَّبَ إليها مِن قَوْلٍ وَعَملٍ، اللهمَّ أَصلحْ أَحوالَ بِلادِ المسلمينَ، وأَنزلْ عَليهم الأَمنَ والسَّكينةَ والطُّمأنينةَ بِرحمتِكَ يَا أرحمَ الراحمينَ، اللهمَّ آمِنَّا في دُورِنا وَأَصلحْ أَئمتَنا ووُلاةَ أُمورِنا، اللهمَّ وَفقْ إمامَنا ووليَ عَهدِه بتَوفيقِكَ، وأَيدْهُم بِتَأييدِكَ، وارزُقهُم البِطانةَ الصَّالحةَ النَّاصحةَ يَا رَبَّ العَالمينَ، اللهمَّ آتنَا في الدُّنيا حَسنةً، وفي الآخرةِ حَسنةً، وقِنَا عَذابَ النَّارِ، اللهمَّ صَلِّ وَسلمْ عَلى عَبدِكَ ورَسولِكَ مُحمٍد وعَلى آلِهِ وصَحبِهِ أَجمعينَ.

المرفقات

1721241983_موعظة الصيف.docx

1721241992_موعظة الصيف.pdf

المشاهدات 1170 | التعليقات 0