موعظة الشتاء -مختصرة- مشكولة-
محمد بن عبدالله التميمي
1446/05/26 - 2024/11/28 21:53PM
الخُطْبَةُ الأُوْلَى
الحمد لله الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ والأَرْضَ وجَعَلَ الظُّلُمَاتِ والنُّوْر، والبَرْدَ والحَرَّ والظِّلَّ والحَرُوْر، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وفي عِبَادَتِه غَايَةُ الفَرَحِ والسُّرُوْر، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الـمُصْطَفَى عَلَى سَائرِ أهلِ الدُّهُور، صَلَّى اللهُ عليه وعَلَى آلِه وصَحْبِه وسَلَّم، ومن سار على نهجهم وجَانَبَ البِدَع وسَلِمْ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاعْلَمُوا أَنَّ التَّقْوَى: وَسِيْلَةٌ لِمَحَبَّةِ الرَّحْمَنِ، وَدُخُوْلِ الجِنَانِ، والنَّجَاةِ مِنَ النِّيْرَانِ، وَهِيَ خَيْرُ لِبَاسٍ، وَأَعْظَمُ أَسَاسٍ! ﴿أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ﴾.
عِبَادَ الله: مِنْ حِكْمَةِ اللهِ تعالى، أَنْ نَوَّعَ بَينَ الأَحْوَالِ والفُصُول، فَكُلُّ يَوْمٍ طُلُوْعٌ وأُفُوْل، والسَّنَةُ ما بَيْنَ بَرْدٍ وحَرٍّ، وَجَدْبٍ وَمَطَر، وطُوْلٍ وَقِصَر! ﴿يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ﴾.
وَهَا هُوَ بَرْدُ الشِّتَاء: قَدْ أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِزَمْهَرِيْرِهِ؛ لِيُذَكِّرَنَا بِآيَةٍ مِنْ آيَاتِ اللهِ السَّاطِعَةِ، وَحِكَمِهِ البَاهِرَةِ!
جَاءَ بَرْدُ الشِّتَاء؛ لِيُذَكِّرَنَا بِنِعْمَةِ اللهِ عَلَيْنَا: مِنَ البُيوتِ والثِّيَابِ السَّاتِرَةِ؛ قال عز وجل: ﴿وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ﴾. قال البَغَوِي: (﴿لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ﴾: يَعْنِي مِنْ أَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا وَأَصْوَافِهَا: مَلَابِسَ وَلُـحَفًا؛ تَسْتَدْفِئُونَ بِهَا).
وَفِي فَصْلِ الشِّتَاءِ: يَقْطَعُ المُسْلِمُ رَاحَتَهُ: وَيُنَازِعُ نَفْسَهُ عَنْ فِرَاشِهِ؛ لِيَقُوْمَ إِلَى صَلَاةِ الفَجْرِ (مَعَ شِدَّةِ البَرْدِ، وَغَلَبَةِ النَّوْمِ)؛ لِأَنَّهُ يَخَافُ زَمْهَرِيْرَ جَهَنَّمَ! ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ المَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ* فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾. قال ابن رجب: (إِنَّ اللهَ مَدَحَ الَّذِينَ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ المَضَاجِعِ لِدُعَائِهِ؛ فَيَشْمَلُ ذَلِكَ: كل مَن ترك النوم، وقام إلى صلاة الصبح!).
عِبَادَ الله: إِنَّ الشِّتَاءَ غَنِيمَةُ الْعَابِدِينَ، وَرَبِيعُ الْمُؤْمِنِينَ، فالشِّتَاءُ رَبِيعُ الْمُؤْمِنِ لِأَنَّهُ يَرْتَعْ فِيهِ فِي بَسَاتِينِ الطَّاعَاتِ، وَيَسْرَحُ فِي مَيَادِينِ الْعِبَادَاتِ: طَالَ لَيْلُهُ فَقَامَهُ، وَقَصُرَ نَهَارُهُ فَصَامَهُ! قال عليه الصلاة والسلام: (الغَنِيمَةُ البَارِدَةُ: الصَّوْمُ فِي الشِّتَاءِ). وَتَسْمِيَتُهُ بِالْغَنِيمَةِ الْبَارِدَةِ لِوُجُودَ الثَّوَابِ بِلَا تَعَبِ كَثِيرِ، قالَ ابنُ مَسْعُودٍ : (مَرْحَبًا بالشِّتَاءِ: تَنْزِلُ فِيهِ البَرَكةُ، وَيَطُوْلُ فِيْهِ اللَّيلُ لِلْقِيَامِ، وَيَقْصُرُ فِيْهِ النَّهارُ لِلْصِّيامِ). وقال أَحَدُ التابعين -عندَ مَوْتِه-: (مَا أَبْكِي عَلَى دُنْيَاكُمْ، وَلَكِنْ أَبْكِي عَلَى ظَمَأِ الْهَوَاجِرِ، وَقِيَامِ لَيْلِ الشِّتَاءِ!). وقال الحَسَنُ رحِمَه الله: (نِعْمَ زَمَانُ الْمُؤْمِنِ الشِّتَاءَ لَيْلُهُ طَوِيلٌ يَقَومُهُ، وَنَهَارُهُ قَصِيرٌ يَصومُهُ).
وَمِنْ دُرُوْسِ الشِّتَاءِ: أَنَّه يُذَكِّرُ بِزَمْهَرِيرِ جَهَنَّم، وَيَدْعُو إلى الاِسْتِعَاذَةِ مِنْهَا! ففي الحديث: (اِشْتَكَتِ النَّارُ إلى رَبِّهَا، فَقالَتْ: "يا رَبِّ، أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا!" فَأَذِنَ لَهَا بنَفَسَيْنِ، نَفَسٍ في الشِّتَاءِ، وَنَفَسٍ في الصَّيْفِ، فَهْوَ أَشَدُّ ما تَجِدُونَ مِنَ الحَرِّ، وَأَشَدُّ ما تَجِدُونَ مِنَ الزَّمْهَرِيرِ!). قال : ﴿هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ﴾، قال ابنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنه: (الغَسَّاقُ: هُوَ الزَّمْهَرِيرُ يَحْرِقُهُمْ بِبَرْدِهِ: كَمَا تَحْرِقُهُمُ النَّارُ بَحَرِّهَا!).
والوُضُوْءُ في البَرْدِ؛ يُكَفِّرُ السيئَات، ويَرْفَعُ الدَّرَجَات! قال صلى الله عليه وسلم: (أَلَا أَدُلُّكُمْ علَى ما يَمْحُو اللهُ بِهِ الخَطَايا، ويَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجاتِ؟) قالُوا: (بَلَى، يا رَسُوْلَ اللهِ!) قال: (إسْباغُ الوُضُوءِ علَى المَكارِهِ!).
وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ:"تَبْلُغُ الْحِلْيَةُ مِنَ الْمُؤْمِنِ حَيْثُ يَبْلُغُ الْوَضُوءُ " فَعِنْدَمَا يَكْوُنَّ الْوَضُوءَ سَابِغًا، فَإِنَّ حَلِّيَّةَ الْمُؤْمِنِينَ الَّتِي يَلْبَسُونَهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى قَدْرِ هَذَا الْإِسْبَاغِ، وَفِي الْبُيُوتِ يُوجَدُ مِنَ السَّخَّانَاتِ وَغَيْرِهَا مِمَّا أَنْعُمِ اللهِ بِهِ عَلَى أهْلِ هَذَا الزَّمَانِ مَا يَتَّقُونَ بِهِ شِدَّةَ الْبَرْدِ، فَتَذْكُرُ نِعْمَةَ رَبِّكَ عَلَيْكَ أَيِّهَا الْمُؤْمِنَ وَأَنْتَ تَتَقَلَّبُ فِي نَعَمَةِ هَذِهِ الْأَجْهِزَةِ الَّتِي تَعْزِلُ لَكَ الْبَرْدُ، وَتُسَخِّنُ لَكَ الْمَاءُ، وَتُكَيِّفُ لَكَ الْهَوَاءُ، بِحَيْثُ يَكْوُنُ مُلَائِمًا.
وَفِي الشِّتَاءِ تَكْثُرُ فِي العَادَةِ الأَمْطَارُ، وَتُرَى الصَّوَاعِقِ وَالْبَرْقَ، وَيُسْمَعُ الرَّعْد، قَالَ اللهُ سُبْحَانَهُ: {وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاء وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ}، وعن ابْنِ عَبَّاسٍ رضِيَ اللهُ عنهما قال: " أَقْبَلَتْ يهودُ إلى النبيِّ ﷺ، فقالوا: يا أبا القاسِمِ أَخْبِرْنا عن الرَّعْدِ، ما هو؟ قال ﷺ: "ملَكٌ من الملائكةِ بيدِه مخاريقُ من نارٍ يسوقُ بها السَّحابَ حيث شاء اللهُ" قالوا: فما هذا الصوتُ الذي نَسمع؟ فقال ﷺ: "زَجْرُه بالسحاب، إذا زَجَرَهُ حتّى ينتهيَ إلى حيث أُمِر" قالوا: صدقت. قال اللهُ سبحانه: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاء وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَاء يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ}.
وَمِنْ مَكَارِهِ الشِّتَاءِ: أَمْرَاضُ البَرْدِ: (مِنْ زُكَامٍ وَحُمَّى)، وَهِيَ كَفَّارَاتٌ لِمَنْ صَبَرَ عَلَيْها؛ فَلَا يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَتَسَخَّطَهَا! قَالَ ﷺ -لِأُمِّ السَّائِبِ-: (لَا تَسُبِّي الحُمَّى، فَإِنَّهَا تُذْهِبُ خَطَايَا بَنِي آدَمَ، كَمَا يُذْهِبُ الكِيرُ خَبَثَ الحَدِيدِ).
أَقُوْلُ قَوْلِي هَذَا، وَاسْتَغْفِرُ اللهَ لِيْ وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ؛ فَاسْتَغْفِرُوْهُ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيم
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، والشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيْقِهِ وَامْتِنَانِه، وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا الله، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُوْلُه. أَمَّا بَعْدُ:
فَتَأَهَّبُوا لَلْبَرْدِ أُهْبَتَهُ، كَانَ عُمَرُ بْن الْخِطَابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ إِذَا حَضَرَ الشِّتَاءُ تَعَاهَدَ رَعِيَّتَهُ وَقَال: "إِنَّ الشِّتَاءَ قَدْ حَضَرَ وَهُوَ عَدُوٌّ، فَتَأَهَّبُوا لَهُ أُهْبَتَهُ مِنَ الصُّوفِ، وَالْخِفَافَ، وَالْجَوَارِبَ، وَاِتَّخَذُوا الصُّوفَ شِعَارًا، وَدِثَارًا، فَإِنَّ الْبَرْدَ عَدُوٌّ سَرِيعٌ دُخُولَهُ، بَعيدٌ خُرُوجَهُ" وَهَذَا مِنْ تَمَامِ نَصِيحَتِهِ، وَحُسْنَ نَظَرِهِ، وَشَفَقَتَهُ عَلَى رَعِيَّتِهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. وَلِذَلِكَ يَنْبَغِي تَعَاهُدُ كِبَارِ السِّنِّ وَالصَّغَارِ فِي الْبُيُوتِ بِمِثْلُ هَذَا.
وأَعِيْنُوا الفُقَرَاءَ، عَلَى مُوَاجَهَةِ الشِّتَاءِ؛ فَإِنَّ الصَّدَقَةَ تَرُدُّ البَلاءَ؛ قال صلى الله عليه وسلم: (صَنَائِعُ المَعْرُوفِ؛ تَقِي مُصَارِعَ السُّوء). فَاِدْفَعُوا أَذَى الْبَرْدِ بِاللَّبْسِ وَالْأَكْلِ وَالْفَرْشِ وَاللُّحُفِ وَالتَّسْخِينِ للْجَوَّ وَالْمَاءَ وَالْهَوَاءَ، عَنِ الْفُقَرَاءِ َوالْمَسَاكِينِ، وَمِنْ تَحْتَ أَيْدِيِكُمْ مِنَ الْخَدَمِ وَالسَّائِقِينَ، كَمَا قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَطْعِمُوهُمْ ممّا تَأْكُلُونَ، وَأَلْبِسُوهُمْ ممّا تَلْبَسُونَ".
وَإِذَا كانَ النَّاسُ يَفِرُّونَ مِنْ زَمْهَرِيْرِ الدُّنْيا: بِاللِّبَاسِ وَالكِسْوَةِ؛ فَهَلْ فَرَرْنَا مِنْ زَمْهَرِيْرِ الآخِرَةِ بِـ(لِبَاسِ التَّقْوَى)؛ فَهُوَ اللِّباسُ الَّذِي يَدُوْمُ ولا يَبْلَى، وَهُوَ الَّذِي يَحْمِيكَ مِنْ بَرْدِ جَهَنَّم!
وَلْنَتَذَكَّرْ بِهَذَا البَرْدِ؛ نَعِيْمَ أَهْلِ الجَنَّةِ! قال تعالى -واصِفًا حَالَهُم-: ﴿مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا﴾. فلَيْسَ عِنْدَهُمْ حَرٌّ مُزْعِجٌ، وَلَا َبرْدٌ مُؤْلِمٌ -نسألُ اللهَ الكَرِيْمَ مِنْ فَضْلِه-.
* مجموعة، لا مرقومة