موسى والخضر عليهما السلام
الشيخ د إبراهيم بن محمد الحقيل
مُوسَى والخَضِرُ عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ
11/1/1435
الحَمْدُ للهِ العَلِيمِ الحَكِيمِ؛ عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا كَانَ بِهِ جَاهِلاً، وَلَمْ يُؤْتِهِ مِنَ العِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً، فَرَكِبَ الإِنْسَانُ رَأْسَهُ بِجَهْلِهِ، وَاسْتَكْبَرَ عَنْ عِبَادَةِ مَنْ عَلَّمَهُ، إِلَّا مَنْ هَدَى اللهُ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ، نَحْمَدُهُ حَمْدًا كَثِيرًا، وَنَشْكُرُهُ شُكْرًا مَزِيدًا، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ؛ خَلَقَ الخَلْقَ بِقُدْرَتِهِ، وَابْتَلَاهُمْ بِحِكْمَتِهِ، وَعَلَّمَهُمْ مِنْ عِلْمِهِ؛ فَأَقْرَبُ النَّاسِ إِلَيْهِ أَعْلَمُهُمْ بِهِ وَبِأَمْرِهِ، وَأَشَدُّ النَّاسِ بُعْدًا عَنْهُ أَكْثَرُهُمْ جَهْلاً بِهِ وَبِشَرْعِهِ؛ {ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المائدة: 97]، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أَعْلَمُ الخَلْقِ بِاللهِ تَعَالَى وَأَكْثَرُهُمْ خَشْيَةً لَهُ، يَقُومُ مِنَ اللَّيْلِ حَتَّى تَتَفَطَّرَ قَدَمَاهُ مِنْ طُولِ القِيَامِ شُكْرًا للهِ تَعَالَى عَلَى مَا هَدَاهُ وَأَعْطَاهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَخُذُوا مِنَ العِلْمِ مَا يَنْفَعُكُمْ، وَهُوَ العِلْمُ بِاللهِ تَعَالَى وَبِمَا يَجِبُ لَهُ، وَالعِلْمُ بِالدَّارِ الآخِرَةِ؛ فَإِنَّ فَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ.
أَيُّهَا النَّاسُ: فِي قَصَصِ السَّابِقِينَ عِلْمٌ لِلْمُتَعَلِّمِينَ، وَعِبْرَةٌ لِلْمُعْتَبِرِينَ، وَجَوَابٌ لِلسَّائِلِينَ، وَدِلاَلَةٌ لِلْحَائِرِينَ، وَهِدَايَةٌ لِلضَّالِّينَ؛ {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [يوسف: 111].
وَمِنْ أَعْظَمِ قَصَصِ القُرْآنِ قِصَّةُ مُوسَى مَعَ الخَضِرِ عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ، وَهِيَ قِصَّةٌ حَكَاهَا النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ؛ كَمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، قَالَ حَدَّثَنِي أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مُوسَى رَسُولُ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ، قَالَ: ذَكَّرَ النَّاسَ يَوْمًا (وَفِي رِوَايَة: فَذَكَّرَهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ وَأَيَّامُ اللَّهِ نَعْمَاؤُهُ) حَتَّى إِذَا فَاضَتِ العُيُونُ، وَرَقَّتِ القُلُوبُ، وَلَّى فَأَدْرَكَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: أَيْ رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ فِي الأَرْضِ أَحَدٌ أَعْلَمُ مِنْكَ؟ قَالَ: لاَ، فَعَتَبَ عَلَيْهِ إِذْ لَمْ يَرُدَّ العِلْمَ إِلَى اللَّهِ، قِيلَ: بَلَى، (وَفِي رِوَايَةِ فَقَالَ: مَا أَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ رَجُلًا خَيْرًا وَأَعْلَمَ مِنِّي، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: إِنِّي أَعْلَمُ بِالْخَيْرِ عِنْدَ مَنْ هُوَ، وَإِنَّ فِي الْأَرْضِ رَجُلًا هُوَ أَعْلَمُ مِنْكَ) قَالَ: أَيْ رَبِّ، فَأَيْنَ؟ قَالَ: بِمَجْمَعِ البَحْرَيْنِ، (وفي رواية: قَالَ مَنْ هُوَ وَأَيْنَ هُوَ؟ قَالَ: الخَضِر تَلْقَاهُ عِنْدَ الصَّخْرَةِ وَذَكَرَ لَهُ حِلْيَتَهُ) (وَفِي رِوَايَةِ قَالَ: فَادْلُلْنِي عَلَى هَذَا الرَّجُلِ حَتَّى أَتَعَلَّمَ مِنْهُ) قَالَ: أَيْ رَبِّ، اجْعَلْ لِي عَلَمًا أَعْلَمُ ذَلِكَ بِهِ ... قَالَ: حَيْثُ يُفَارِقُكَ الحُوتُ وفي رواية: قَالَ: خُذْ نُونًا مَيِّتًا، حَيْثُ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ، فَأَخَذَ حُوتًا فَجَعَلَهُ فِي مِكْتَلٍ، فَقَالَ لِفَتَاهُ: لاَ أُكَلِّفُكَ إِلَّا أَنْ تُخْبِرَنِي بِحَيْثُ يُفَارِقُكَ الحُوتُ، قَالَ: مَا كَلَّفْتَ كَثِيرًا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ} [الكهف: 60] يُوشَعَ بْنِ نُونٍ ...قَالَ: فَبَيْنَمَا هُوَ فِي ظِلِّ صَخْرَةٍ فِي مَكَانٍ ثَرْيَانَ -أَيْ مَبْلُولٍ-، إِذْ تَضَرَّبَ الحُوتُ وَمُوسَى نَائِمٌ، فَقَالَ فَتَاهُ: لاَ أُوقِظُهُ، حَتَّى إِذَا اسْتَيْقَظَ نَسِيَ أَنْ يُخْبِرَهُ، وَتَضَرَّبَ الحُوتُ حَتَّى دَخَلَ البَحْرَ، فَأَمْسَكَ اللَّهُ عَنْهُ جِرْيَةَ البَحْرِ، حَتَّى كَأَنَّ أَثَرَهُ فِي حَجَرٍ - قَالَ الراوي: هَكَذَا كَأَنَّ أَثَرَهُ فِي حَجَرٍ، وَحَلَّقَ بَيْنَ إِبْهَامَيْهِ وَاللَّتَيْنِ تَلِيَانِهِمَا، وَالمَعْنَى أَنَّ أَثَرَ الحُوتِ بَقِيَ فِي البَحْرِ وَلَمْ يَغْمُرْهُ المَاءُ - {لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا} [الكهف: 62] ، قَالَ: قَدْ قَطَعَ اللَّهُ عَنْكَ النَّصَبَ (وفي رواية قال: وفي أَصْلِ الصَّخْرَةِ عَيْنٌ يُقَالُ لها الْحَيَاةُ لاَ يُصِيبُ من مَائِهَا شَيْءٌ إِلَّا حَيِيَ، فَأَصَابَ الْحُوتَ من مَاءِ تِلْكَ الْعَيْنِ قَالَ فَتَحَرَّكَ وَانْسَلَّ من الْمِكْتَلِ فَدَخَلَ الْبَحْرَ فلما اسْتَيْقَظَ مُوسَى قَالَ لِفَتَاهُ: آتِنَا غَدَاءَنَا) فَرَجَعَا فَوَجَدَا خَضِرًا عَلَى طِنْفِسَةٍ خَضْرَاءَ، عَلَى كَبِدِ البَحْرِ مُسَجًّى بِثَوْبِهِ قَدْ جَعَلَ طَرَفَهُ تَحْتَ رِجْلَيْهِ، وَطَرَفَهُ تَحْتَ رَأْسِهِ (وَإِنَّمَا سُمِّيَ الخَضِر لِأَنَّهُ كَانَ إِذَا أَقَامَ فِي مَكَانٍ نَبَتَ الْعُشْبُ حَوْلَهُ) فَسَلَّمَ عَلَيْهِ مُوسَى فَكَشَفَ عَنْ وَجْهِهِ، وَقَالَ: هَلْ بِأَرْضِي مِنْ سَلاَمٍ (وَفِي رِوَايَةِ: وَأَنَّى بِأَرْضِكَ السَّلَامُ، وَهِيَ بِمَعْنَى أَيْنَ أَوْ كَيْفَ وَهُوَ اسْتِفْهَامُ اسْتِبْعَادٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَهْلَ تِلْكَ الْأَرْضِ لَمْ يَكُونُوا إِذْ ذَاكَ مُسْلِمِينَ) مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا مُوسَى، قَالَ: مُوسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَمَا شَأْنُكَ؟ قَالَ: جِئْتُ لِتُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رَشَدًا، قَالَ: أَمَا يَكْفِيكَ أَنَّ التَّوْرَاةَ بِيَدَيْكَ، وَأَنَّ الوَحْيَ يَأْتِيكَ يَا مُوسَى، إِنَّ لِي عِلْمًا لاَ يَنْبَغِي لَكَ أَنْ تَعْلَمَهُ، وَإِنَّ لَكَ عِلْمًا لاَ يَنْبَغِي لِي أَنْ أَعْلَمَهُ، فَأَخَذَ طَائِرٌ بِمِنْقَارِهِ مِنَ البَحْرِ، وَقَالَ: وَاللَّهِ مَا عِلْمِي وَمَا عِلْمُكَ فِي جَنْبِ عِلْمِ اللَّهِ إِلَّا كَمَا أَخَذَ هَذَا الطَّائِرُ بِمِنْقَارِهِ مِنَ البَحْرِ، (قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا، وإنما قَالَ ذلك لِمَا أَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ أَنَّ مُوسَى لاَ يَصْبِرُ عَلَى تَرْكِ الْإِنْكَارِ إِذَا رَأَى مَا يُخَالِفُ الشَّرْعَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ شَأْنُ عِصْمَتِهِ؛ وَلِذَلِكَ لَمْ يَسْأَلْهُ مُوسَى عَنْ شَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الدِّيَانَةِ بَلْ مَشَى مَعَهُ لِيُشَاهِدَ مِنْهُ مَا اطَّلَعَ بِهِ عَلَى مَنْزِلَتِهِ فِي الْعِلْمِ الَّذِي اخْتصَّ بِهِ) (فَانْطَلَقَا يَمْشِيَانِ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ فَمَرَّا فِي سَفِينَةٍ فَكَلَّمُوهُمْ أَنْ يَحْمِلُوهُمْ) حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ وَجَدَا مَعَابِرَ صِغَارًا، تَحْمِلُ أَهْلَ هَذَا السَّاحِلِ إِلَى أَهْلِ هَذَا السَّاحِلِ الآخَرِ، عَرَفُوهُ فَقَالُوا: عَبْدُ اللَّهِ الصَّالِحُ ... لاَ نَحْمِلُهُ بِأَجْرٍ، فَخَرَقَهَا وَوَتَدَ فِيهَا وَتِدًا، قَالَ مُوسَى: {أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا، لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا} [الكهف: 71]- أَيْ: مُنْكَرًا (قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا)، (وَفِي رِوَايَةِ: أَنَّ مُوسَى لَمَّا رَأَى ذَلِكَ امْتَلَأَ غَضَبًا وَشَدَّ ثِيَابَهُ وَقَالَ أَرَدْتَ إِهْلَاكَهُمْ سَتَعْلَمُ أَنَّكَ أَوَّلُ هَالِكٍ، فَقَالَ لَهُ يُوشَعُ: أَلا تَذْكُرُ الْعَهْدَ فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ الخَضِر فَقَالَ: أَلَمْ أَقُلْ لَكَ، فَأَدْرَكَ مُوسَى الْحِلْمُ فَقَالَ: لاَ تُؤَاخِذْنِي، وَإِنَّ الخَضِر لَمَّا خَلَصُوا قَالَ لِصَاحِبِ السَّفِينَةِ إِنَّمَا أَرَدْتُ الْخَيْرَ فَحَمِدُوا رَأْيَهُ وَأَصْلَحَهَا اللَّهُ عَلَى يَدِهِ) كَانَتِ الأُولَى نِسْيَانًا وَالوُسْطَى شَرْطًا، وَالثَّالِثَةُ عَمْدًا، {قَالَ: لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلاَ تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا} [الكهف: 73]، لَقِيَا غُلاَمًا فَقَتَلَهُ - قَالَ سَعِيدٌ: وَجَدَ غِلْمَانًا يَلْعَبُونَ فَأَخَذَ غُلاَمًا كَافِرًا ظَرِيفًا فَأَضْجَعَهُ ثُمَّ ذَبَحَهُ بِالسِّكِّينِ - {قَالَ: أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ} [الكهف: 74] لَمْ تَعْمَلْ بِالحِنْثِ (والمعنى: أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً لَمْ تَعْمَلِ الْحِنْثَ بِغَيْرِ نَفْسٍ) فَانْطَلَقَا فَوَجَدَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ، فَأَقَامَهُ - قَالَ سَعِيدٌ بِيَدِهِ هَكَذَا، وَرَفَعَ يَدَهُ فَاسْتَقَامَ، {لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} [الكهف: 77].
ثُمَّ فِي تَفْسِيرِ مَا فَعَلَ قَالَ: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا } [الكهف: 79]، فَأَرَدْتُ إِذَا هِيَ مَرَّتْ بِهِ أَنْ يَدَعَهَا لِعَيْبِهَا، فَإِذَا جَاوَزُوا أَصْلَحُوهَا فَانْتَفَعُوا بِهَا {وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا} [الكهف: 80] أَنْ يَحْمِلَهُمَا حُبُّهُ عَلَى أَنْ يُتَابِعَاهُ عَلَى دِينِهِ، (فَأَرَدْنَا أَنْ يُبَدِّلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً) لِقَوْلِهِ: {أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً} {وَأَقْرَبَ رُحْمًا} هُمَا بِهِ أَرْحَمُ مِنْهُمَا بِالأَوَّلِ، الَّذِي قَتَلَ خَضِرٌ، (وفي رواية عن ابن عباس: فَأَبْدَلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً قَالَ أَبْدَلَهُمَا جَارِيَةً فَوَلَدَتْ نَبِيًّا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ).
زَادَ مُسْلِمٌ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى مُوسَى لَوْلَا أَنَّهُ عَجِلَ لَرَأَى الْعَجَبَ، وَلَكِنَّهُ أَخَذَتْهُ ذَمَامَةٌ مِنْ صَاحِبِهِ فَقَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي.
وفي رِوَايَةِ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَدِدْنَا أَنَّ مُوسَى صَبَرَ حَتَّى يَقُصَّ اللَّهُ عَلَيْنَا مِنْ أَمْرِهِمَا) (أَكْثَرَ مِمَّا قَصَّ).
وَذَكَرَ الثَّعْلَبِيُّ أَنَّ الخَضِر قَالَ لِمُوسَى: أَتَلُومُنِي عَلَى خَرْقِ السَّفِينَةِ وَقَتْلِ الْغُلَامِ وَإِقَامَةِ الْجِدَارِ وَنَسِيتَ نَفْسَكَ حِينَ أُلْقِيتَ فِي الْبَحْرِ وَحِينَ قَتَلْتَ الْقِبْطِيَّ وَحِينَ سَقَيْتَ أَغْنَامَ ابْنَتَيْ شُعَيْبٍ احْتِسَابًا.
وَهَذِهِ القِصَّةُ العَظِيمَةُ جَاءَتْ فِي القُرْآنِ فِي سُورَةِ الكَهْفِ الَّتيِ يَقْرَؤُهَا المُسْلِمُ كُلَّ أُسْبُوعٍ، وَرَوَاهَا أَئِمَّةُ الحَدِيثِ عَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِمَا فِيهَا مِنَ العِبَرِ وَالعِظَاتِ الَّتِي تَنْفَعُ قَارِئَهَا وَسَامِعَهَا، فَلاَ يَغْتَرَّ أَحَدٌ بِعِلْمِهِ، وَيَتَعَلَّمْ عِلْمًا عِنْدَ غَيْرِهِ لَمْ يَتَعَلَّمْهُ فَقَدْ تَعَلَّمَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلاَمُ وَهُوَ كَلِيمُ الرَّحْمَنِ، وَمِنْ أُولِي العَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ، وَأُنْزِلَتْ عَلَيْهِ الصُّحُفُ وَالتَّوْرَاةُ، تَعَلَمَّ مِنْ عَبْدٍ صَالِحٍ مِنْ عِبَادِ اللهِ تَعَالَى كَانَ عِنْدَهُ مِنَ العِلْمِ مَا لَيْسَ عَنْدَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلاَمُ، وَمَا مِنْ عَلِيمٍ بِأَشْيَاءَ إِلَّا وَيَجْهَلُ أَشْيَاءَ أُخْرَى سَوَاءٌ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِعُلُومِ الدُّنْيَا أَمْ بِعُلُومِ الآخِرَةِ، وَالإِنْسَانُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّمًا إِلَى أَنْ يُوَسَّدَ قَبْرَهُ، وَلا يَسْتَنْكِفُ مِنَ العِلْمِ إِلَّا مَنْ فِي قَلْبِهِ كِبْرٌ، وَأَهْلُ الاسْتِكْبَارِ لاَ يَتَعَلَّمُونَ، وَيَمُوتُونَ وَيُبْعَثُونَ بِجَهْلِهِمْ نَعُوذُ بِاللهِ مِنْ ذَلِكَ.
اللَّهُمَّ عَلِّمْنَا مَا يَنْفَعُنَا، وَارْزُقْنَا العَمَلَ بِمَا عَلَّمْتَنَا، وَنَعُوذُ بِكَ اللَّهُمَّ مِنْ عُلُومٍ لاَ تَنْفَعُ، وَمِنْ قُلُوبٍ لاَ تَخْشَعُ، وَمِنْ نُفُوسٍ لاَ تَشْبَعُ، وَمِنْ أَدْعِيَةٍ لاَ تُسْمَعُ.
وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ...
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الحَمْدُ للهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فيه كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وُخُذُوا مِنَ العِلْمِ حَظَّكُمْ، وَأَعْلاَهُ وَأَفْضَلُهُ عِلْمُ القُرْآنِ وَالسُّنَّةِ؛ {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 151].
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: فِي قِصَّةِ مُوسَى مَعَ الخَضِرِ عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ مَعَانٍ عَظِيمَةٌ، وَدُرُوسٌ كَثِيرَةٌ، لاَ تُحِيطُ بِهَا الخُطْبَةُ وَالخُطْبَتَانِ، فَمِنْ دُرُوسِهَا:
أَنَّ الإِنْسَانَ لاَ يَدْرِي أَيْنَ يَكْمُنُ الخَيْرُ، فَخَرْقُ السَّفِينَةِ وَقَتْلُ الغُلاَمِ قَدْ بَدَا أَنَّهُمَا شَرٌّ، لَكِنْ كَانَتْ عَاقِبَتُهُمَا خَيْرًا، وَالمُؤْمِنُ يَجِبُ أَنْ يُؤْمِنَ بِاللهِ تَعَالَى وَقَدَرِهِ، وَلاَ يَجْزَعُ مِنْ مُصَابِهِ، فَلَعَلَّ فِيهِ خَيْرًا مِنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُ.
وَفِي هَذِهِ القِصَّةِ حُسْنُ أَدَبِ الصَّالِحِينَ مَعَ الله تَعَالَى؛ فَإِنَّ الخَضِرَ نَسَبَ خَرْقَ السَِّفينَةِ وَقَتْلَ الغُلاَمِ لِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَ هَذَا العَمَلِ شَرٌّ قَبْلَ ظُهُورِ عَاقِبَتِهِ، فَعَلَ ذَلِكَ لِئَلاَّ يُسَاءَ الظَّنُّ بِاللهِ تَعَالَى وَلَوْ لِلَحْظَةٍ فَقَالَ فِيهِمَا: (فَأَرْدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا) (فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا).. وَأَمَّا فِي إِصْلاَحِ الجِدَارِ فَإِنَّهُ لَمَّا بَدَا أَنَّهُ خَيْرٌ لِأَوَّلِ وَهْلَةٍ نَسَبَهُ للهِ تَعَالَى فَقَالَ: { فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا} [الكهف: 82]، فَمَا أَحْسَنَ الأَدَبِ مَعَ اللهِ تَعَالَى، وَتَرْبِيَةَ النَّفْسِ وَالأَهْلِ وَالوَلَدِ عَلَيْهِ، فَهُوَ أَدَبُ اللهِ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ إِذْ خَاطَبَهُ قَائِلاً: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء: 79].
وَأَعْظَمُ دَرْسٍ فِيهَا أَنَّ الغَايَةَ الَّتِي يَجِبُ عَلَى الإِنْسَانِ أَنْ يَجْعَلَهَا مَقْصِدَهُ هِيَ الفَوْزُ بِرِضْوَانِ اللهِ تَعَالَى وَجَنَّتِهِ؛ فَإِنَّ الخَضِرَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ قَتَلَ غُلاَمًا عَلَّمَهُ اللهُ تَعَالَى أَنَّ ضَرَرَهُ الدِّينِيَّ عَلَى وَالِدَيْهِ أَعْظَمُ مَفْسَدَةً مِنْ مَصْلَحَةِ بَقَائِهِ، فَقَتَلَهُ لِحِفْظِ دِينِهِمَا مَعَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ أَلَمِهِمَا وَحُزْنِهِمَا، وَأَيْنَ النَّاسُ اليَوْمَ مِنْ هَذَا المَعْنَى العَظِيمِ؟! وَلْنُقَارِنْ حِرْصَ الآبَاءِ وَالأُمَّهَاتِ عَلَى مُحَافَظَةِ أَوْلاَدِهِمْ عَلَى الصَّلاَةِ وَشَعَائِرِ الدِّينِ بِحِرْصِهِمْ عَلَى أُمُورِ الدُّنْيَا مِنْ دِرَاسَةٍ وَوَظِيفَةٍ وَدَوْرَةٍ وَنَحْوِهَا؛ لِنَعْلَمَ أَنَّ الدُّنْيَا قَدْ تَمَكَّنَتْ مِنَ القُلُوبِ، فَأَضْعَفَتْ حَظَّ الدِّينِ مِنْهَا، وَمَا كَانَ الرُّسُلُ وَالصَّالِحُونَ كَذَلِكَ، لاَ مَعَ أَهْلِهِمْ وَلاَ مَعَ النَّاسِ فِي دَعْوَتِهِمْ، وَاللهُ تَعَالَى يَقُولُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لاَ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } [التحريم: 6].
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...
المرفقات
الأحاديث الطوال 7.doc
الأحاديث الطوال 7.doc
الأحاديث الطوال (7).doc
الأحاديث الطوال (7).doc
المشاهدات 3608 | التعليقات 4
جزاك الله خيرا شيخنا الفاضل ونفع بك الإسلام والمسلمين
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله كل خير
ماشاء الله انتقاءك للعبارات وتفسيرك للآيات تجعل الإنسان يعيد قراءة الأيات بصروة غير التي كان يقرأها من قبل وهذا من إعجاز الرب سبحانه وتعالى ..
الله يفتح عليك بركات السماء والأرض شيخي الفاضل..
اقتراح شيخ لو خصصت خطبة مستقبلًا عن خطورة اللعن لأنه لا يكاد يوم إلا وتسمع من الصغار والكبار من يلعن وكأن الأمر عادي وليس كبيرة من كبائر الذنوب .. وجزاك ربي الجنة
الشيخ د إبراهيم بن محمد الحقيل
الدهيسي وشبيب وقلبي دليلي
أشكركم على مروركم وتعليقكم وأسأل الله تعالى أن يجزيكم خيرا وينفع بكم
وننفذ مقترحك أخي الكريم متى تيسر ذلك
تعديل التعليق