موسى عليه السلام غريباً في أرض مدين .. نموذج لتدبر القرآن العظيم ..
عبدالله محمد الطوالة
1436/02/06 - 2014/11/28 10:41AM
الحمد لله خالق كل شيء ، ورَبُّ كُلِّ شَيْءٍ ، وبِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ ، وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ ، وَرَحْمَته وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ، سبحانه وبحمده ، أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ ، وأَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ ، وأَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ ، و{أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} ، {وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا} .. وجَعَلَ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا ..
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ، { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} ، { لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} ..
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، وصفيه وخليله ، لا خير إلا دلنا عليه ، ولا شر إلا حذرنا منه ، فصلوات الله وسلامه عليه ، وعلى آله الطيبين ، وأصحابه الميامين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ..
أما بعد: فأُوصيكم أحبتي ونفسي بتقوى الله ، فاتقوا الله رحمكم الله ، واذهبُوا حيث شِئتُم ؛ فإن إلى ربِّكم الرُّجعَى ، واعملوا ما شِئتُم ؛ فعملُكم عليكم مُحصَى ، اليوم يُقبَلُ العمل ولو كان مِثقالَ ذرَّة ، وغدًا لا يُقبَل ولو كان ملئَ الأرض ذهبًا .. من حاسبَ نفسَه ربِح ، ومن نظرَ في العواقِب نجَا ، ومن اتَّبَع هواه ضلَّ ، ومن خافَ أدلج ، ومن أدلج بلغ المنزل .. {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} ..
إلا وإنه لا تقوية لأَزْرٍ ، ولا رسوخ لقدم، ولا أُنْسَ لنفس، ولا تسلية لروح، ولا ثبوت لمُعْتَقَد، ولا بقاء لذكر، إلا بأن يتجه المرء بكل أحاسيسه ومشاعره إلى كتاب ربه، ويقبل بقلبه وقالبه على تلاوته وتدبره، يتعلمه ويعمل به، ويرتوي من معينه المعين، ويصدر عن أحكامه المحكمة، وفي حديث على بن أبي طالب رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم : ألا أنها ستكون فتنه : قال على فما المخرج يارسول الله : قال كتاب الله : حبل الله المتين ونوره المبين وصراطه المستقيم، فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم، هو الذي لا تشبع منه العلماء ولا تنقضي عجائبه ولا يخلق عن كثرة الرد ، هو الفصل ليس بالهزل، من قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن عمل به أجر، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم، ومن تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى من غيره أضله الله ..
يسَّر الله ذكرَه للذاكرين، وسهَّل حِفظَه للدّارسين، فهو للقلوبِ ربيعُها وللأبصارِ ضياؤها، إنه نورٌ مبين ، وإلى النّور يهدِي، إنه الحقّ المبين وإلى الحقِّ يرشِد، إنه الصِراطُ المستقيم وإلى الجنّةِ يوصل ، لا تملُّه القُلوبُ الصافية ، ولا تشبع منه العلماء العاملة ، ولا تنقضي عجائبه ، ولاَ يخلَق معَ كثرةِ التّرداد ..
دليلُ السائرين إلى الله ، ومنهج القاصدين للجنة ، ودُستور الموحدين المؤمِنين، أعظم أنيس وخير جليس، هو الحلاوة والجمال والعِزّ والكمال هو كلِّيّةُ الشريعة، وعَمود الملّةِ، وينبوع الحكمة، و آيَة الرِّسالة، نور الأبصار والبصائر، لا طَريقَ إلى الله سواه، ولاَ نجاةَ لأحد بغَيره، وإذا كانَ القرآن كذلك ، لزِم مَن رامَ الهدَى والنّورَ، والسعادة في الدّارين أَن يتَّخِذه سَميرَه وأنيسَه، ودليله وقائده، وطريقه ومنهجه ، نَظرًا وعمَلاً، قولاً وفعلاً، ومن فعل ذلك فيوشِك أن يَفوزَ بالبُغيةِ، وأن يَظفرَ بالطّلبَة، وأن يجِد نفسَه معَ السّابقين ..
يقول الإمام ابن القيم : لا شيء أنفع للقلب من قراءة القرآن بالتدبر والتفكر؛ فإنه يورث المحبة والشوق والخوف والرجاء والإنابة والتوكل والرضا والتفويض والشكر والصبر وسائر الأحوال التي بها حياة القلب وكماله .. ويقول أيضا رحمه الله : ليس شيء أنفع للعبد في معاشه ومعاده ، وأقرب إلى نجاته من تدبر القرآن وإطالة التأمل فيه ، وجمع الفكر على معاني آياته .. وقصص القرآن الكريم هي أصدق القصص لقوله تعالى : (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا) .. وهي أحسن القصص لقوله تعالى : (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ) .. وهي أنفع القصص لقوله تعالى : (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الأَلْبَابِ) .. فتعالوا معي أحبتي في الله إلى جولة قرآنية ماتعة ووجبة قرآنية روحانية مشبعة ، نتدارس فيها نموذجاً من قصص القرآن العظيم ... قصة موسى عليه السلام في أرض مدين ..
خرج موسى عليه السلام من مصر خائفًا يترقب، وهو يقول: (رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) .. ثم توجه تلقاء مَدْيَن، وهو يلهج بالدعاء: (عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاء السَّبِيلِ) .. ثم يدخل ديار مَدْيَن ويحدث له فيها قصة، قصةٌ عجيبة توقف عندها القرآن ليدلّ على أهمّيّتها ويؤكد على ضرورة التماس العبرة منها .. (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى) ..
دخل موسى ديار مدين، وقد أجهده التعب أيما إجهاد ، يصوّر ذلك ابن عباس رضي الله عنهما بقوله: "سار موسى من مصر إلى مدين ليس له طعام إلا البقل وورق الشجر ، وكان حافيًا ، فما وصل إلى مدين حتى بلغ منه الإجهاد كل مبلغ ، ولصق بطنه بظهره من شدة الجوع .. فورد ماء مدين ليروي عطشه ويبلّ كبده ، لكنه يرى مشهدًا ينسيه ذلك كله ، مشهد لا ترضاه النفوس الأبيّة، ولا تقبله الفِطَر السوية .. وجد الرعاةَ يُورِدون أنعامهم لتشرب ، ووجد من ورائهم امرأتين تمنَعَان غنمَهما أن تختلط مع غنم الآخرين ، خوفاً من أذيتهم فهما ضعيفتان .. ولا تستطيعان المدافعة ، وليس لهما من يساعدهما .. أثار هذا الموقف في نفس موسى من الرحمة والشفقة والمروءة ما أثار، الشيء الذي جعله ينسى رَهَقَ الطريق وتعبه وجوعه ، فيتقدم ليضع الحق في نصابه ، وينبغي أن لا يغيب عن ذهنك وأنت تتأمل هذه الصورة المشرقة أنّ موسى عليه السلام غريب في ديار مدين لا يُعرف ، ليس له سند ولا ظهير ، ومن عادة الغريب أن يكون هيّابًا ، فكيف إذا كان مع ذلك مُطارَدًا شريدًا ؟! لكن هذا كلّه لم يكن ليمنع سجاياه الكريمة أن تظهر.. فقد فعل ما أملاه عليه ضميره الحي .. ثم توجهه للظل من فوره ليرتاح .. وهذا يوحي أن الجو كان حاراً ، وأن المهمة كانت مرهقة .. وأن الجوع قد بلغ به كل مبلغ ، ومع ذلك فلم يسأل مقابل صنيعه ذلك شيئاً .. بل توجه إلى الظل وسأل الله من فضله (رَبّ إِنّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَىَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) .. فما أكرم أخلاق الأنبياء ، وما أعظم بذلهم ..
وإذا كانت النفوس كبارًا *** تعبت في مرادها الأجسام واستجاب الله دعاء كليمه سريعاً .. فها هي إحدى البنتين تقبل عليه، تبلّغه دعوة أبيها: (إِنَّ أَبِى يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا).
ولكن ثمّةَ درسٌ عظيم في هذا الموقف ، مشهد رائق فائق شائق من مشاهد الطهر والنقاء، والعفة والحياء، يصوّره حالُ تلك المرأة الصالحة وهي تأتي إلى موسى لتبلّغه دعوة أبيها: (فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاء) .. فإذا كان المشي على استحياء .. فكيف بغيره .. إن هذا ما ينبغي أن يكون عليه حال المؤمنة العفيفة ، وضوحٌ في غير خضوع .. قالت : (إِنَّ أَبِى يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا) .. بدون زيادات ، أو مقدمات ، أو غيرها من الإيماءات والإشارات .. التي قد تفسر خطأً .. فيطمع الذي في قلبه مرض ..
ويجيء موسى معها إلى أبيها كما يجيء الكرام ، يتقدم أمامها وهي من وراءه تخذفه بالحصى لتدلّه الطريق .. إنها الأمانة في أعلى مراتبها وأرفع منازلها ، ولستُ بحاجةٍ أن أذكّر مرة أخرى أن موسى عليه السلام يفعل ذلك وهو غريب ، والغريب عادة لا يبالي بما يفعل ..
أما الرجل الصالح الذي يهتدي بنور الله فإنه يدرك أنه وإن كان غريباً لا يعرفه الناس ، إلا أن مراقبة الله لا تغيب عن قلبه لحظة .. جاء موسى إلى الرجل الصالح فقصَّ عليه قصته ، فهدَّأ من روعه ، وقال له: (لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) هكذا يفعل الكرام .. لما رآه شاباً صالحاً عاقلا ، وشهماً كريماً ، أمّنه وطمئنه ، وهدّئ من روعه ، وهيئ له مكانًا يأمن فيه على نفسه .. ونعود للحيية العفيفة التي يشق عليها مزاحمة الرجال ومدافعتهم على الماء ، وتتأذى من ذلك كله .. فتطلب من أبيها أن يستأجِر موسى عليه السلام لرعي الغنم (قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) .. ثم يتكلم الأب الرجل الصالح بصراحة ووضوح ، ودون غموض أو تلكؤ : (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ) .. وليس في ذلك ما يدعو إلى الخجل أو التردّد والحرج ، فهو يعرض عليه بناء أسرة وإقامة بيت ... وإنَّ عَرضَ الرجل ابنته ومن تحت يده على رجل صالح كفء ليتزوجها أمرٌ جائز، لا غضاضة ولا عيب فيه ، بل هو سنّةٌ الأفاضل من الرجال ، والكمّل من العقلاء ، أخرج البخاري في صحيحه: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عرض ابنته حفصة على عثمان بن عفان فلم يبدِ رغبة في نكاحها ، قال عمر: فلقيت أبا بكر، فقلت: إن شئت زوجتك ابنتي حفصة، فصَمَت ولم يرجع إلي شيئًا، فلبثت ليالي ثم خطبها رسول الله فأنكحتها إياه .. فما يظنه بعض الناس من أن المرأة لا تُعرض إلا لنقصها فليس ذلك بصحيح ، فالسيرة حافلة بأمثلة كثيرة غيرُ حفصة رضي الله عنها .. ويبقى بعد ذلك أن العَرضَ ليس عَقدًا ، بل هو على اسمه مجرَّدَ عرض ، يليه البحث والتحري والاستشارة والاستخارة ، ثم رؤية المخطوبة إن عزم على النكاح .. ونعود للرجل الصالح الذي عرض على موسى أحدى ابنتيه .. لنتعلم شيئاً آخر .. ففي تخييره بين ابنتيه إشارةً رائعة بأنه لا بأس بتزويج الصغرى قبل غيرها ، فربما كان رزق الكبرى مستورًا ببابِ الصغرى، والله كتب الأرزاق كما كتب الآجال ... ثم يُختم السياق الكريم بالتنويه على شيء من سجايا وخصال الرجل الصالح وحسن دَلِّه وأدبه ، حيث قال: (وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ) .. فلن أطلب منك رَهَقًا ، ولن أكلفك شَطَطًا ، إنها رسالة قوية لأولياء الفتيات ، حيث تصل مشقة بعضهم على الزوج درجة كبيرة ، شعروا أو لم يشعروا ؟! حتى إنك لتجدُ كثيرًا من الأزواج يبقى بعد زواجه سنين عددًا يدفع أقساطًا تثقل كاهله ، وتقلق راحته ، وهذا ولا شك يؤثر في استقراره الأسري ، وما من أب إلا ويريد لابنته السعادة مع زوجها ، فيضرّها ويشقيها من حيث أراد نفعها ...
ومن فوائد هذه القصة القرآنية العظيمة أيضاً .. إنه من الضروري حين يأتي تقدير المهر أن يراعى في ذلك الواقع المعيشي الذي يعيشه الزوج ، ويعيشه المجتمع ، وأن تراعى تكاليف الحياة ومتطلباتها ، فالأحوال تغيرت عن ذي قبل ، وما كان بالأمس مقبولاً قد لا يكون اليوم مقبولا ولا معقولا .. وإن على عقلاء الناس أن يراعوا ذلك ، وأن يكونوا قدوة لغيرهم في تيسير أمور الزواج وخفض تكاليفه ، و"من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده ، من غير أن ينقص من أجورهم شيء" رواه مسلم ..
{قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ * قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} .. إذن فلا بأس بالتخطيط الطويل الأجل .. فليس ذلك من طول الأمل ... ويتمّ موسى أكمل الأجلين وأطولهما ، وتلك سجية الكرام ، فهو لا يرضى لنفسه أن يقفَ عند أدنى المراتب وهو يستطيع أن يصل إلى أكملها ، ولم يكن ليحسب كما قد يحسب غيره : كم سيأخذ عليها من أجر لو كان يتقاضى راتبًا؟! وكم ستكلفه من جهد ووقت سيذهب دون عائد أو مقابل؟! لم يكن في حسابه شيء من ذلك .. فهو كريم ويتعامل مع كريم .. والكرماء أكبر من هذه الحسابات ..
ثم يسير موسى بأهله بعد انقضاء الأجل، ليرى من آيات ربه الكبرى، وليصارع بعد ذلك دولة الباطل وجنود البغي والعدوان ، في عرض قرآني وسرد قصصي يفيض بالدروس والعبر: (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ) ..
بارك الله ..
الحمد لله وكفى ..
أما بعد فاتقوا الله عباد الله .. وتدبروا كتاب الله .. لقد أدرك سلفنا الصالحون والتابعون لهم بإحسان سر عظمة القرآن ، وعرفوا قدره ، أيقنوا أنه مادة الحياة، فذابوا فيه، كشفوا أسراره، فما رضوا بسواه، وجدوا حلاوته فهانت كل اللّذائذ دونه. قال وهيب بن الورد: قيل لرجل: ألا تنام؟! قال: إن عجائب القرآن أطرن نومي. وقال محمد بن كعب: "كنا نعرف قارئ القرآن بصفرة لونه"، يشير إلى سهره وطول تهجده. وقال الحسن رحمه الله: "والله، ما أصبح اليوم عبد يتلو القرآن يؤمن به إلا كثر حزنه وقل فرحه، وكثر بكاؤه وقل ضحكه، وكثر نصبه وشغله وقلت راحته وبطالته". وقال وهيب رحمه الله: "نظرنا في هذه الأحاديث والمواعظ فلم نجد شيئًا أرقَّ للقلوب ولا أشد استجلابًا للحزن من قراءة القرآن وتفهمه وتدبره". وقال عثمان رضي الله عنه: (لو طهرت قلوبكم ما شبعت من كلام ربكم). وقال ثابت البُناني ر: "كابدتُ القرآن عشرين سنة، وتمتعت به عشرين سنة"..
فاقرؤوا القرآن مرتلين متدبرين متعظين ، وحركوا به القلوب، وقفوا عند عجائبه ، وتأملوا أسراره ، فما وقع في القلوب منه فرسخَ نفع بإذن الله، {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} .. {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} ..
اللهم صلى على محمد وعلى ..
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ، { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} ، { لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} ..
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، وصفيه وخليله ، لا خير إلا دلنا عليه ، ولا شر إلا حذرنا منه ، فصلوات الله وسلامه عليه ، وعلى آله الطيبين ، وأصحابه الميامين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ..
أما بعد: فأُوصيكم أحبتي ونفسي بتقوى الله ، فاتقوا الله رحمكم الله ، واذهبُوا حيث شِئتُم ؛ فإن إلى ربِّكم الرُّجعَى ، واعملوا ما شِئتُم ؛ فعملُكم عليكم مُحصَى ، اليوم يُقبَلُ العمل ولو كان مِثقالَ ذرَّة ، وغدًا لا يُقبَل ولو كان ملئَ الأرض ذهبًا .. من حاسبَ نفسَه ربِح ، ومن نظرَ في العواقِب نجَا ، ومن اتَّبَع هواه ضلَّ ، ومن خافَ أدلج ، ومن أدلج بلغ المنزل .. {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} ..
إلا وإنه لا تقوية لأَزْرٍ ، ولا رسوخ لقدم، ولا أُنْسَ لنفس، ولا تسلية لروح، ولا ثبوت لمُعْتَقَد، ولا بقاء لذكر، إلا بأن يتجه المرء بكل أحاسيسه ومشاعره إلى كتاب ربه، ويقبل بقلبه وقالبه على تلاوته وتدبره، يتعلمه ويعمل به، ويرتوي من معينه المعين، ويصدر عن أحكامه المحكمة، وفي حديث على بن أبي طالب رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم : ألا أنها ستكون فتنه : قال على فما المخرج يارسول الله : قال كتاب الله : حبل الله المتين ونوره المبين وصراطه المستقيم، فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم، هو الذي لا تشبع منه العلماء ولا تنقضي عجائبه ولا يخلق عن كثرة الرد ، هو الفصل ليس بالهزل، من قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن عمل به أجر، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم، ومن تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى من غيره أضله الله ..
يسَّر الله ذكرَه للذاكرين، وسهَّل حِفظَه للدّارسين، فهو للقلوبِ ربيعُها وللأبصارِ ضياؤها، إنه نورٌ مبين ، وإلى النّور يهدِي، إنه الحقّ المبين وإلى الحقِّ يرشِد، إنه الصِراطُ المستقيم وإلى الجنّةِ يوصل ، لا تملُّه القُلوبُ الصافية ، ولا تشبع منه العلماء العاملة ، ولا تنقضي عجائبه ، ولاَ يخلَق معَ كثرةِ التّرداد ..
دليلُ السائرين إلى الله ، ومنهج القاصدين للجنة ، ودُستور الموحدين المؤمِنين، أعظم أنيس وخير جليس، هو الحلاوة والجمال والعِزّ والكمال هو كلِّيّةُ الشريعة، وعَمود الملّةِ، وينبوع الحكمة، و آيَة الرِّسالة، نور الأبصار والبصائر، لا طَريقَ إلى الله سواه، ولاَ نجاةَ لأحد بغَيره، وإذا كانَ القرآن كذلك ، لزِم مَن رامَ الهدَى والنّورَ، والسعادة في الدّارين أَن يتَّخِذه سَميرَه وأنيسَه، ودليله وقائده، وطريقه ومنهجه ، نَظرًا وعمَلاً، قولاً وفعلاً، ومن فعل ذلك فيوشِك أن يَفوزَ بالبُغيةِ، وأن يَظفرَ بالطّلبَة، وأن يجِد نفسَه معَ السّابقين ..
يقول الإمام ابن القيم : لا شيء أنفع للقلب من قراءة القرآن بالتدبر والتفكر؛ فإنه يورث المحبة والشوق والخوف والرجاء والإنابة والتوكل والرضا والتفويض والشكر والصبر وسائر الأحوال التي بها حياة القلب وكماله .. ويقول أيضا رحمه الله : ليس شيء أنفع للعبد في معاشه ومعاده ، وأقرب إلى نجاته من تدبر القرآن وإطالة التأمل فيه ، وجمع الفكر على معاني آياته .. وقصص القرآن الكريم هي أصدق القصص لقوله تعالى : (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا) .. وهي أحسن القصص لقوله تعالى : (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ) .. وهي أنفع القصص لقوله تعالى : (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الأَلْبَابِ) .. فتعالوا معي أحبتي في الله إلى جولة قرآنية ماتعة ووجبة قرآنية روحانية مشبعة ، نتدارس فيها نموذجاً من قصص القرآن العظيم ... قصة موسى عليه السلام في أرض مدين ..
خرج موسى عليه السلام من مصر خائفًا يترقب، وهو يقول: (رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) .. ثم توجه تلقاء مَدْيَن، وهو يلهج بالدعاء: (عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاء السَّبِيلِ) .. ثم يدخل ديار مَدْيَن ويحدث له فيها قصة، قصةٌ عجيبة توقف عندها القرآن ليدلّ على أهمّيّتها ويؤكد على ضرورة التماس العبرة منها .. (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى) ..
دخل موسى ديار مدين، وقد أجهده التعب أيما إجهاد ، يصوّر ذلك ابن عباس رضي الله عنهما بقوله: "سار موسى من مصر إلى مدين ليس له طعام إلا البقل وورق الشجر ، وكان حافيًا ، فما وصل إلى مدين حتى بلغ منه الإجهاد كل مبلغ ، ولصق بطنه بظهره من شدة الجوع .. فورد ماء مدين ليروي عطشه ويبلّ كبده ، لكنه يرى مشهدًا ينسيه ذلك كله ، مشهد لا ترضاه النفوس الأبيّة، ولا تقبله الفِطَر السوية .. وجد الرعاةَ يُورِدون أنعامهم لتشرب ، ووجد من ورائهم امرأتين تمنَعَان غنمَهما أن تختلط مع غنم الآخرين ، خوفاً من أذيتهم فهما ضعيفتان .. ولا تستطيعان المدافعة ، وليس لهما من يساعدهما .. أثار هذا الموقف في نفس موسى من الرحمة والشفقة والمروءة ما أثار، الشيء الذي جعله ينسى رَهَقَ الطريق وتعبه وجوعه ، فيتقدم ليضع الحق في نصابه ، وينبغي أن لا يغيب عن ذهنك وأنت تتأمل هذه الصورة المشرقة أنّ موسى عليه السلام غريب في ديار مدين لا يُعرف ، ليس له سند ولا ظهير ، ومن عادة الغريب أن يكون هيّابًا ، فكيف إذا كان مع ذلك مُطارَدًا شريدًا ؟! لكن هذا كلّه لم يكن ليمنع سجاياه الكريمة أن تظهر.. فقد فعل ما أملاه عليه ضميره الحي .. ثم توجهه للظل من فوره ليرتاح .. وهذا يوحي أن الجو كان حاراً ، وأن المهمة كانت مرهقة .. وأن الجوع قد بلغ به كل مبلغ ، ومع ذلك فلم يسأل مقابل صنيعه ذلك شيئاً .. بل توجه إلى الظل وسأل الله من فضله (رَبّ إِنّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَىَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) .. فما أكرم أخلاق الأنبياء ، وما أعظم بذلهم ..
وإذا كانت النفوس كبارًا *** تعبت في مرادها الأجسام واستجاب الله دعاء كليمه سريعاً .. فها هي إحدى البنتين تقبل عليه، تبلّغه دعوة أبيها: (إِنَّ أَبِى يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا).
ولكن ثمّةَ درسٌ عظيم في هذا الموقف ، مشهد رائق فائق شائق من مشاهد الطهر والنقاء، والعفة والحياء، يصوّره حالُ تلك المرأة الصالحة وهي تأتي إلى موسى لتبلّغه دعوة أبيها: (فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاء) .. فإذا كان المشي على استحياء .. فكيف بغيره .. إن هذا ما ينبغي أن يكون عليه حال المؤمنة العفيفة ، وضوحٌ في غير خضوع .. قالت : (إِنَّ أَبِى يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا) .. بدون زيادات ، أو مقدمات ، أو غيرها من الإيماءات والإشارات .. التي قد تفسر خطأً .. فيطمع الذي في قلبه مرض ..
ويجيء موسى معها إلى أبيها كما يجيء الكرام ، يتقدم أمامها وهي من وراءه تخذفه بالحصى لتدلّه الطريق .. إنها الأمانة في أعلى مراتبها وأرفع منازلها ، ولستُ بحاجةٍ أن أذكّر مرة أخرى أن موسى عليه السلام يفعل ذلك وهو غريب ، والغريب عادة لا يبالي بما يفعل ..
أما الرجل الصالح الذي يهتدي بنور الله فإنه يدرك أنه وإن كان غريباً لا يعرفه الناس ، إلا أن مراقبة الله لا تغيب عن قلبه لحظة .. جاء موسى إلى الرجل الصالح فقصَّ عليه قصته ، فهدَّأ من روعه ، وقال له: (لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) هكذا يفعل الكرام .. لما رآه شاباً صالحاً عاقلا ، وشهماً كريماً ، أمّنه وطمئنه ، وهدّئ من روعه ، وهيئ له مكانًا يأمن فيه على نفسه .. ونعود للحيية العفيفة التي يشق عليها مزاحمة الرجال ومدافعتهم على الماء ، وتتأذى من ذلك كله .. فتطلب من أبيها أن يستأجِر موسى عليه السلام لرعي الغنم (قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) .. ثم يتكلم الأب الرجل الصالح بصراحة ووضوح ، ودون غموض أو تلكؤ : (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ) .. وليس في ذلك ما يدعو إلى الخجل أو التردّد والحرج ، فهو يعرض عليه بناء أسرة وإقامة بيت ... وإنَّ عَرضَ الرجل ابنته ومن تحت يده على رجل صالح كفء ليتزوجها أمرٌ جائز، لا غضاضة ولا عيب فيه ، بل هو سنّةٌ الأفاضل من الرجال ، والكمّل من العقلاء ، أخرج البخاري في صحيحه: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عرض ابنته حفصة على عثمان بن عفان فلم يبدِ رغبة في نكاحها ، قال عمر: فلقيت أبا بكر، فقلت: إن شئت زوجتك ابنتي حفصة، فصَمَت ولم يرجع إلي شيئًا، فلبثت ليالي ثم خطبها رسول الله فأنكحتها إياه .. فما يظنه بعض الناس من أن المرأة لا تُعرض إلا لنقصها فليس ذلك بصحيح ، فالسيرة حافلة بأمثلة كثيرة غيرُ حفصة رضي الله عنها .. ويبقى بعد ذلك أن العَرضَ ليس عَقدًا ، بل هو على اسمه مجرَّدَ عرض ، يليه البحث والتحري والاستشارة والاستخارة ، ثم رؤية المخطوبة إن عزم على النكاح .. ونعود للرجل الصالح الذي عرض على موسى أحدى ابنتيه .. لنتعلم شيئاً آخر .. ففي تخييره بين ابنتيه إشارةً رائعة بأنه لا بأس بتزويج الصغرى قبل غيرها ، فربما كان رزق الكبرى مستورًا ببابِ الصغرى، والله كتب الأرزاق كما كتب الآجال ... ثم يُختم السياق الكريم بالتنويه على شيء من سجايا وخصال الرجل الصالح وحسن دَلِّه وأدبه ، حيث قال: (وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ) .. فلن أطلب منك رَهَقًا ، ولن أكلفك شَطَطًا ، إنها رسالة قوية لأولياء الفتيات ، حيث تصل مشقة بعضهم على الزوج درجة كبيرة ، شعروا أو لم يشعروا ؟! حتى إنك لتجدُ كثيرًا من الأزواج يبقى بعد زواجه سنين عددًا يدفع أقساطًا تثقل كاهله ، وتقلق راحته ، وهذا ولا شك يؤثر في استقراره الأسري ، وما من أب إلا ويريد لابنته السعادة مع زوجها ، فيضرّها ويشقيها من حيث أراد نفعها ...
ومن فوائد هذه القصة القرآنية العظيمة أيضاً .. إنه من الضروري حين يأتي تقدير المهر أن يراعى في ذلك الواقع المعيشي الذي يعيشه الزوج ، ويعيشه المجتمع ، وأن تراعى تكاليف الحياة ومتطلباتها ، فالأحوال تغيرت عن ذي قبل ، وما كان بالأمس مقبولاً قد لا يكون اليوم مقبولا ولا معقولا .. وإن على عقلاء الناس أن يراعوا ذلك ، وأن يكونوا قدوة لغيرهم في تيسير أمور الزواج وخفض تكاليفه ، و"من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده ، من غير أن ينقص من أجورهم شيء" رواه مسلم ..
{قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ * قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} .. إذن فلا بأس بالتخطيط الطويل الأجل .. فليس ذلك من طول الأمل ... ويتمّ موسى أكمل الأجلين وأطولهما ، وتلك سجية الكرام ، فهو لا يرضى لنفسه أن يقفَ عند أدنى المراتب وهو يستطيع أن يصل إلى أكملها ، ولم يكن ليحسب كما قد يحسب غيره : كم سيأخذ عليها من أجر لو كان يتقاضى راتبًا؟! وكم ستكلفه من جهد ووقت سيذهب دون عائد أو مقابل؟! لم يكن في حسابه شيء من ذلك .. فهو كريم ويتعامل مع كريم .. والكرماء أكبر من هذه الحسابات ..
ثم يسير موسى بأهله بعد انقضاء الأجل، ليرى من آيات ربه الكبرى، وليصارع بعد ذلك دولة الباطل وجنود البغي والعدوان ، في عرض قرآني وسرد قصصي يفيض بالدروس والعبر: (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ) ..
بارك الله ..
الحمد لله وكفى ..
أما بعد فاتقوا الله عباد الله .. وتدبروا كتاب الله .. لقد أدرك سلفنا الصالحون والتابعون لهم بإحسان سر عظمة القرآن ، وعرفوا قدره ، أيقنوا أنه مادة الحياة، فذابوا فيه، كشفوا أسراره، فما رضوا بسواه، وجدوا حلاوته فهانت كل اللّذائذ دونه. قال وهيب بن الورد: قيل لرجل: ألا تنام؟! قال: إن عجائب القرآن أطرن نومي. وقال محمد بن كعب: "كنا نعرف قارئ القرآن بصفرة لونه"، يشير إلى سهره وطول تهجده. وقال الحسن رحمه الله: "والله، ما أصبح اليوم عبد يتلو القرآن يؤمن به إلا كثر حزنه وقل فرحه، وكثر بكاؤه وقل ضحكه، وكثر نصبه وشغله وقلت راحته وبطالته". وقال وهيب رحمه الله: "نظرنا في هذه الأحاديث والمواعظ فلم نجد شيئًا أرقَّ للقلوب ولا أشد استجلابًا للحزن من قراءة القرآن وتفهمه وتدبره". وقال عثمان رضي الله عنه: (لو طهرت قلوبكم ما شبعت من كلام ربكم). وقال ثابت البُناني ر: "كابدتُ القرآن عشرين سنة، وتمتعت به عشرين سنة"..
فاقرؤوا القرآن مرتلين متدبرين متعظين ، وحركوا به القلوب، وقفوا عند عجائبه ، وتأملوا أسراره ، فما وقع في القلوب منه فرسخَ نفع بإذن الله، {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} .. {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} ..
اللهم صلى على محمد وعلى ..
المشاهدات 2914 | التعليقات 3
حفظك الله وراك ونفع بك شيخ عبدالله الطوالة وقفات مهمة ودروس عظيمة ولفتة تستحق التدبر والتأمل تستحق عليها الشكر نرجو مزيدا من الحضور والتواجد من أجل مزيد من النفع والفائدة.
الشيخ شبيب والشيخ زياد ، وكل من عطر الموضوع بمروره الكريم ..
جزيتم خيراً ، وجعلني الله وإياكم من المباركين ، ونفع بالجميع خيراً ..
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا
تعديل التعليق