موجبات عذاب القبر
الشيخ د إبراهيم بن محمد الحقيل
1433/11/11 - 2012/09/27 04:20AM
مُوجِبَاتُ عَذَابِ القَبْرِ
12/11/1433
الحَمْدُ للهِ الخَلاَّقِ العَلِيمِ؛ خَلَقَ الإِنْسَانَ فَابْتَلاهُ بِالإِسْلامِ، وَجَعَلَ الدُّنْيَا دَارَ بَلائِهِ، وَالآخِرَةَ دَارَ جَزَائِهِ، وَجَعَلَ القُبُورَ بَرْزَخًا بَيْنَ الدَّارَيْنِ؛ فَمَكَانُهَا فِي أَرْضِ الدُّنْيَا، وَجَزَاءُ أَهْلِهَا بِجَزَاءِ الآخِرَةِ، وَمَنْ مَاتَ فَقَدْ قَامَتْ قِيَامَتُهُ، نَحْمَدُهُ عَلَى هِدَايَتِهِ وَكِفَايَتِهِ، وَنَشْكُرُهُ عَلَى إِحْسَانِهِ وَرِعَايَتِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ أَرْسَلَ الرُّسُلَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ، وَأَقَامَ حُجَّتَهُ عَلَى الْعَالَمِينَ؛ [فَللهِ الحُجَّةُ البَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ] {الأنعام:149}، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ خَافَ عَلَى أُمَّتِهِ فَنَصَحَ لَهَا، وَبَيَّنَ سُبُلَ النَّجَاةِ لِلسَّالِكِينَ، وَطُرُقَ الرَّدَى لِلْحَذِرِينَ؛ فَمَنْ أَطَاعَهُ نَجَا، وَمَنْ عَصَاهُ رَدَى؛ صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَاعْلَمُوا أَنَّ أَمَامَكُمْ مَوْتًا وَقَبْرًا وَبَعْثًا وَحِسَابًا وَجَزَاءً؛ فَمُنَعَمٌ مَسْرُورٌ، وَمَعُذَّبٌ مَثْبُورٌ؛ [فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا * وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا * وَيَصْلَى سَعِيرًا * إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا * إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ * بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا] {الانشقاق:7-15}.
أَيُّهَا النَّاسُ: الْقَبْرُ هُوَ أَوَّلُ مَنَازِلِ الْآخِرَةِ، فَإِنْ جَاوَزَ سَاكِنُهُ فِتْنَتَهُ، وَنَجَا مِنْ عَذَابِهِ؛ كَانَ ذَلِكَ أَوَّلَ دَلَائِلِ فَوْزِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَنَجَاتِهِ مِنْ أَهْوَالِ الْحَشْرِ وَعَذَابِ النَّارِ.
وَنَعِيمُ الْقَبْرِ وَعَذَابُهُ يَقَعُ حَقِيقَةً عَلَى الْجَسَدِ أَوِ الرُّوحِ أَوْ كِلَيْهِمَا عَلَى كَيْفِيَّةٍ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللهُ تَعَالَى، وَهَذَا أَمْرٌ مَعْلُومٌ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ، قَدْ تَوَاتَرَتْ بِهِ نُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَلَا يُنْكِرُهُ إِلَّا مَفْتُونٌ ضَالٌّ، هُوَ أَقْرَبُ إِلَى الْإِلْحَادِ مِنْهُ إِلَى الْإِيمَانِ.
وَمِنْ حِرْصِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أُمَّتِهِ أَنْ بَيَّنَ صُوَرًا مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ؛ لِيَتَّقِيَهَا النَّاسُ وَيَحْذَرُوهَا، وَإِلَّا فَالْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي تُوجِبُ الْعَذَابَ، إِذَا لَمْ يَتُبْ صَاحِبُهَا مِنْهَا، أَوْ يُكَفِّرْهَا بِالْمُكَفِّرَاتِ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَأَقَلُّ النَّاسِ عِصْيَانًا هُوَ أَكْثَرُهُمْ فُرْصَةً لِلنَّجَاةِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، كَمَا أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا كَثُرَتْ مَعَاصِيهِ كَانَ أَحْرَى أَنْ يُعَذَّبَ فِي قَبْرِهِ، فَعَذَابُ الْقَبْرِ وَالنَّجَاةُ مِنْهُ مُرْتَهِنَانِ بِكَسْبِ الْعِبَادِ؛ [وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى] {النَّجم:39-40}، وَفِي آيَةٍ أُخْرَى: [كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ] {الطُّور:21}.
وَمِنْ أَشْهَرِ أَسْبَابِ عَذَابِ الْقَبْرِ: النَّمِيمَةُ، وَعَدَمُ اتِّقَاءِ الْبَوْلِ؛ كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَبْرَيْنِ، فَقَالَ: «إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ، وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ؛ أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ لاَ يَسْتَتِرُ مِنَ البَوْلِ، وَأَمَّا الآخَرُ فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ»؛ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَمَعْنىَ: لَا يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِهِ: لَا يَتَجَنَّبُهُ، وَلَا يَتَحَرَّزُ مِنْهُ، فَيُصِيبُهُ رَذَاذُهُ وَشَيْءٌ مِنْهُ.
قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: فَهَذَا تَرَكَ الطَّهَارَةَ الْوَاجِبَةَ، وَذَلِكَ ارْتَكَبَ السَّبَبَ الْمُوقِعَ لِلْعَدَاوَةِ بَيْنَ النَّاسِ بِلِسَانِهِ وَإِنْ كَانَ صَادِقًا، وَفِي هَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْمُوقِعَ بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ بِالْكَذِبِ وَالزُّورِ وَالْبُهْتَانِ أَعْظَمُ عَذَابًا، كَمَا أَنَّ فِي تَرْكِ الِاسْتِبْرَاءِ مِنَ الْبَوْلِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ الَّتِي الِاسْتِبْرَاءُ مِنَ الْبَوْلِ بَعْضُ وَاجِبَاتِهَا وَشُرُوطِهَا فَهُوَ أَشَدُّ عَذَابًا. اهـ.
وَمِنَ الذُّنُوبِ مَا جَاءَ فِي الْأَحَادِيثِ تَفْصِيلُ عَذَابِ أَصْحَابِهَا فِي الْقَبْرِ بِمَا يَرْدَعُ النُّفُوسَ الْمُؤْمِنَةَ عَنِ الْوُقُوعِ فِيهَا، وَالْحَذَرِ مِنْهَا، وَمِنْ ذَلِكَ مَا جَاءَ فِي رُؤْيَا النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّهُ رَأَى قَوْمًا يُعَذَّبُونَ، فَسَأَلَ عَنْهُمْ، فَقِيلَ لَهُ: «أَمَّا الرَّجُلُ الأَوَّلُ الَّذِي أَتَيْتَ عَلَيْهِ يُثْلَغُ رَأْسُهُ بِالحَجَرِ، فَإِنَّهُ الرَّجُلُ يَأْخُذُ القُرْآنَ فَيَرْفُضُهُ، وَيَنَامُ عَنِ الصَّلاَةِ المَكْتُوبَةِ، وَأَمَّا الرَّجُلُ الَّذِي أَتَيْتَ عَلَيْهِ، يُشَرْشَرُ شِدْقُهُ إِلَى قَفَاهُ، وَمَنْخِرُهُ إِلَى قَفَاهُ، وَعَيْنُهُ إِلَى قَفَاهُ، فَإِنَّهُ الرَّجُلُ يَغْدُو مِنْ بَيْتِهِ، فَيَكْذِبُ الكَذْبَةَ تَبْلُغُ الآفَاقَ، وَأَمَّا الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ العُرَاةُ الَّذِينَ فِي مِثْلِ بِنَاءِ التَّنُّورِ، فَإِنَّهُمُ الزُّنَاةُ وَالزَّوَانِي، وَأَمَّا الرَّجُلُ الَّذِي أَتَيْتَ عَلَيْهِ يَسْبَحُ فِي النَّهَرِ وَيُلْقَمُ الحَجَرَ، فَإِنَّهُ آكِلُ الرِّبَا»؛ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
وَهَذَا الْحَدِيثُ يَجِبُ أَنْ يَغْرِسَ الْفَزَعَ فِي قُلُوبِ النَّاسِ، فَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ زَمَانِنَا قَدِ ابْتُلُوا بِهَذِهِ الذُّنُوبِ الْأَرْبَعَةِ الْمُوجِبَةِ لِهَذَا الْعَذَابِ الْبَشِعِ، فَمَنْ كَانَ يَنَامُ عَنْ صَلَاتَيِ الْفَجْرِ وَالْعَصْرِ هَلْ يَتَحَمَّلُ أَنْ يَكُونَ عَذَابُهُ فِي الْقَبْرِ عَلَى الَّدَوَامِ رَضْخَ رَأْسِهِ بِالْحَجَرِ؟! وَلَو شُجَّ فِي رَأْسِهِ لَتَأَلَّمَ وَطَلَبَ الْإِسْعَافَ، فَكَيْفَ يُطِيقُ اسْتِمْرَارَ رَضْخِ رَأْسِهِ بِالْحِجَارَةِ مُدَّةً قَدْ تَطُولِ إِلَى مِئَاتِ السِّنِينَ، وَلَا تَنْقَطِعُ مَادَامَ فِي قَبْرِهِ، أَمَا يَخَافُ النَّائِمُونَ عَنْ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَالْعَصْرِ مِنْ رَضْخِ الرُّؤُوسِ فِي الْقَبْرِ، وَهُمْ يَفْزَعُونَ خَوْفًا عَلَى فَوَاتِ شَيْءٍ مِنْ دُنْيَاهُمْ، أَوْ تَجَنُّبًا لِلْمُسَاءَلَةِ عَلَى تَأَخُّرِهِمْ عَنْ دِرَاسَتِهِمْ أَوْ وَظَائِفِهِمْ، وَمَهْمَا اشْتَدَّ عِقَابُهُمْ عَلَى تَأَخُّرِهِمْ، فَلَنْ يَبْلُغَ شِدَّةَ رَضْخِ الْرُّؤُوسِ بِالْحِجَارَةِ، فَمَا أَشَدَّ الْغَفْلَةَ فِي النَّاسِ!
وَأَمَّا مَنْ يَكْذِبُ الْكَذْبَةَ فَتَبْلُغُ الْآفَاقَ، فَإِنَّهُ يُشَرْشَرُ شَدِقُهُ إِلَى قَفَاهُ بِكَلُّوبٍ مِنْ حَدِيدٍ؛ أَيْ: يُشَقُّ جَانِبُ فَمِهِ إِلَى الْقَفَا، وَكَذَا أَنْفُهُ يُشَقُّ إِلَى الْقَفَا، وَكَذَا عَيْنُهُ تُشَقُّ إِلَى الْقَفَا، ثُمَّ يُنْتَقَلُ إِلَى الْجِهَةِ الْأُخْرَى مِنْ وَجْهِهِ، فَيُفْعَلُ بِهَا ذَلِكَ، وَهَذَا عَذَابُهُ فِي قَبْرِهِ، فَمَنْ يُطِيقُ هَذَا الْعَذَابَ؟!
وَبَعْضُ النَّاسِ يَكْذِبُ الْكَذْبَةَ فَتَبْلُغُ الْآفَاقَ بِمَا ابْتُلِيَ بِهِ النَّاسُ فِي هَذَا الْعَصْرِ مِنْ وَسَائِلِ تَنَاقُلِ الْمَعْلُومَاتِ؛ كَالْتَّلْفَزَةِ وَالْإِذَاعَةِ وَالصَّحَافَةِ وَالشَّبَكَةِ الْعَالَمِيَّةِ بِفُرُوعِهَا الْمُخْتَلِفَةِ، وَالْهَوَاتِفِ الذَّكِيَّةِ الَّتِي يَنْتَشِرُ الْخَبَرُ الْمَكْذُوبُ فِيهَا فِي ثَوَانٍ مَعْدُودَةٍ.
وَفِي هَذَا الزَّمَنِ، وَمَعَ هَذِهِ الْوَسَائِلِ الْمُتَعَدِّدَةِ لِنَقْلِ الْمَعْلُوماَتِ، صَارَ كَثِيرٌ مِنَ الْكَذِبِ يَبْلُغُ الْآفَاقَ، فَوَيْلٌ لِلْكَذَّابِينَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ فِي الْكَذِبِ رَمْيُ أَبْرِيَاءَ بِالْبُهْتَانِ، أَوْ تَزْوِيرُ الْحَقَائِقِ، أَوْ الدِّعَايَاتُ الْكَاذِبَةُ، أَوْ مَدْحُ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ الْمَدْحَ، وَذَمُّ مَنْ لَيْسَ مَحَلاًّ لِلذَّمِّ، وَكَثِيرٌ مِنَ الْإِعْلَامِيِّينَ وَالصَّحَفِيِّينَ يَقَعُونَ فِي ذَلِكَ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ، وَيَغْفُلُونَ عَمَّا يَنْتَظِرُهُمْ فِي قُبُورِهِمْ، نَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى الْمُعَافَاةَ.
وَيُعَذَّبُ الزُّنَاةُ وَالزَّوَانِي فِي تَنُّورٍ يَشْتَعِلُ عَلَيْهِمْ نَارًا، فَيَصْلَاهُمْ لَهَبُهُ، وَيَعْلُو صُرَاخُهُمْ مِنْ حَرِّهِ.. هَذَا فِيمَنْ وَقَعَ فِي الزَّنَا، فَكَيْفَ بِمَنْ دَعَا إِلَى الْفَوَاحِشِ، وَسَهَّلَ طُرُقَهَا، وَهَيَّأَ أَسْبَابَهَا، وَحَارَبَ الْفَضِيلَةَ وَالْحِشْمَةَ وَالْعَفَافَ بِنُفُوذِهِ وَقَلَمِهِ وَلِسَانِهِ، مَا أَعْظَمَ الْجُرْأَةَ عَلَى اللهِ تَعَالَى فِي هَذَا الزَّمَنِ!
وَأَكَلَةُ الرِّبَا يُعَذَّبُونَ فِي قُبُورِهِمْ بِلَقْمِ أَفْوَاهِهِمِ بِحِجَارَةٍ يَحْمِلُونَهَا وَهُمْ يَسْبَحُونَ فِي نَهْرٍ أَحْمَرَ مِثْلَ الدَّمِ، وَالرِّبَا قَدِ انْتَشَرَ فِي هَذَا الزَّمَنِ، وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ لَا يَتَحَرَّزُونَ مِنْهُ، وَأَتْعَسُ مِنْهُمْ مَنْ يَطْلُبُونَهُ وَيَبْحَثُونَ عَنْهُ وَيُشِيعُونَهُ.
وَفِي حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَمَّا عُرِجَ بِي، مَرَرْتُ بِقَوْمٍ لَهُمْ أَظْفَارٌ مِنْ نُحَاسٍ يَخْمُشُونَ وُجُوهَهُمْ وَصُدُورَهُمْ، فَقُلْتُ: مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ؟! قَالَ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ لُحُومَ النَّاسِ، وَيَقَعُونَ فِي أَعْرَاضِهِمْ"؛ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
وَهَذَا الْحَدِيثُ يُوجِبُ الْحَذَرَ مِنَ الْغِيبَةِ، وَالْإِمْسَاكَ عَنْ أَعْرَاضِ النَّاسِ، وَضَبْطَ اللِّسَانِ، فَلَا طَاقَةَ لِأَحَدٍ أَنْ يَخْمِشَ وَجْهَهُ وَصَدْرَهُ بِأَظَافِرِهِ، فَكَيْفَ إِذَا حُوِّلَتْ أَظْافِرُهُ إِلَى أَظْافِرَ مِنْ نُحَاسٍ، نَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى الْعَافِيَةَ مِنْ هَذَا الْعَذَابِ.
وَمِنْ أَسْبَابِ عَذَابِ الْقَبْرِ الْغُلُولُ، وَمَا أَكْثَرَ الْغُلُولَ فِي زَمَنِنَا هَذَا! وَفِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ أُصِيبَ أَحَدُ الْمُسْلِمِينَ بِسَهْمٍ فَقُتِلَ، فَقَالَ النَّاسُ: «هَنِيئًا لَهُ الشَّهَادَةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَلْ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّ الشَّمْلَةَ الَّتِي أَصَابَهَا يَوْمَ خَيْبَرَ مِنَ المَغَانِمِ، لَمْ تُصِبْهَا المَقَاسِمُ، لَتَشْتَعِلُ عَلَيْهِ نَارًا، فَجَاءَ رَجُلٌ حِينَ سَمِعَ ذَلِكَ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشِرَاكٍ أَوْ بِشِرَاكَيْنِ، فَقَالَ: هَذَا شَيْءٌ كُنْتُ أَصَبْتُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: شِرَاكٌ -أَوْ شِرَاكَانِ- مِنْ نَارٍ»؛ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ.
فَإِذَا كَانَ هَذَا الرَّجُلُ يُعَذَّبُ فِي قَبْرِهِ بِشَمْلَةٍ تَشْتَعِلُ عَلَيْهِ نَارًا، وَهِيَ مُجَرَّدُ قِطْعَةِ قُمَاشٍ يُتَّشَحُ بِهِا، فَكَيْفَ سَيَكُونُ عَذَابُ مَنْ يَخُونُونَ الْأَمَانَاتِ، وَيَنْهَبُونَ نَفَائِسَ الْمَالِ الْعَامِّ، وَيَتَخَوَّضُونَ فِي حُقُوقِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ بِمُجَرَّدِ وُصُولِهِ إِلَى أَيْدِيهِمْ، وَاسْتِئْمَانِهِمْ عَلَيْهِ؟!
وَمَنْ تَأَمَّلَ هَذِهِ النُّصُوصَ الَّتِي جَاءَتْ أَمْثِلَةً لِعَذَابِ الْقَبْرِ، عَلِمَ كَثْرَةَ الْوَاقِعِينَ فِي هَذِهِ الذُّنُوبِ كُلِّهَا أَوْ بَعْضِهَا، مِمَّا يَعْنِي أَنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ قَدِ اسْتَوْجَبُوا عَذَابَ الْقَبْرِ؛ وَلِذَا فَإِنَّ الْعَلَّامَةَ الْمُحَقِّقَ ابْنَ الْقَيِّمِ لَمَّا عَرَضَ لِجُمْلَةٍ مِنَ الذُّنُوبِ الَّتِي تُوجِبُ عَذَابَ الْقَبْرِ قَالَ: وَلَمَّا كَانَ أَكْثَرُ النَّاسِ كَذَلِكَ، كَانَ أَكْثَرُ أَصْحَابِ الْقُبُورِ مُعَذَّبِينَ، وَالْفَائِزُ مِنْهُمْ قَلِيلٌ، فَظَوَاهِرُ الْقُبُورِ تُرَابٌ، وَبَوَاطِنُهَا حَسَرَاتٌ وَعَذَابٌ، تَغْلِي بِالْحَسَرَاتِ كَمَا تَغْلِي الْقُدُورُ بِمَا فِيهَا، تَاللهِ لَقَدْ وَعَظَتْ، فَمَا تَرَكَتْ لِوَاعِظٍ مَقَالًا، وَنَادَتْ: يَا عُمَّارَ الدُّنْيَا، لَقَدْ عَمَرْتُمْ دَارًا مُوشِكَةً بِكُمْ زَوَالًا، وَخَرَّبْتُمْ دَارًا أَنْتُمْ مُسْرِعُونَ إِلَيْهَا انْتِقَالًا، عَمَرْتُمْ بُيُوتًا لِغَيْرِكُمْ مَنَافِعُهَا وَسُكْنَاهَا، وَخَرَّبْتُمْ بُيُوتًا لَيْسَ لَكُمْ مَسَاكِنُ سِوَاهَا.
اللَّهُمَّ إِنَّا نعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَنعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ، وَنعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنَ الْمَأْثَمِ وَالْمَغْرَمِ.
وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ...
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
أَمَّا بَعْدُ، فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ؛ وَاتَّقُوا عَذَابَ الْقَبْرِ بِاجْتِنَابِ أَسْبَابِهِ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَتَعَوَّذُ بِاللهِ تَعَالَى مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ فِي كُلِّ صَلَاةٍ يُصَلِّيهَا، وَعَلَّمَ أُمَّتَهُ ذَلِكَ؛ خَوْفًا عَلَيْهِمْ مِنْهُ، وَبَيَّنَ لَهُمْ مُوجِبَاتِهِ لِيَجْتَنِبُوهَا.
وَمَنْ تَأَمَّلَ أَحْوَالَنَا، وَجَدَ أَنَنَا فِي غَفْلَةٍ شَدِيدَةٍ عَنِ الْقَبْرِ وَمَا يَجْرِي فِيهِ مِنْ أَهْوَالٍ، حَتَّى صَارَتِ الْقُلُوبُ لَا تَتَأَثَّرُ بِرُؤْيَةِ الْمُوتَى، وَلَا بِحُضُورِ الدَّفْنِ، وَمُشَاهَدَةِ الْقُبُورِ، فَحَالُ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ -إِنْ لَمْ يَكُنْ أَكْثَرُهُمْ- بَعْدَ الرُّجُوعِ مِنَ الْمَقْبَرَةِ كَحَالِهِمْ قَبْلَ الذَّهَابِ إِلَيْهَا، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا حَثَّ عَلَى زِيَارَةِ الْقُبُورِ لِتَرِقَّ الْقُلُوبُ، فَإِذَا كَانَتْ لَا تَرِقُّ بِمُشَاهَدَةِ الْقُبُورِ، فَمَعْنَى ذَلكَ أَنَّ الْقَسْوَةَ قَدْ كَسَتْهَا، وَأَنَّ الْغَفْلَةَ قَدْ جَلَّلَتْهَا، وَأَنَّ الرَّانَ قَدْ أَطْبَقَ عَلَيْهَا، فَلَا بُدَّ لَهَا مِنْ عَلِاجٍ بِالْقُرْآنِ وَالذِّكْرِ حَتَّى تَلِينَ؛ فَإِنَّ كَلَامَ اللهِ تَعَالَى يُلِينُ الْقُلُوبَ لِمْن قَرَأَهُ بِتَدَبُّرٍ.
عَنْ خَالِدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، قَالَ: مَرَّ بِالْحَسَنِ شَابٌّ عَلَيْهِ بَزَّةٌ لَهُ حَسَنَةٌ، فَدَعَاهُ فَقَالَ: «ابْنُ آدَمَ مُعْجَبٌ بِشَبَابِهِ، مُعْجَبٌ بِجَمَالِهِ، كَأَنَّ الْقَبْرَ قَدْ وَارَى بَدَنَكَ، وَكَأَنَّكَ قَدْ لَاقَيْتَ عَمَلَكَ، يَا وَيْحَكَ، دَاوِ قَلْبَكَ؛ فَإِنَّ حَاجَةَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى الْعِبَادِ صَلَاحُ قُلُوبِهِمْ».
وَعَنْ عُمَرَ بْنِ ذَرٍّ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي مَوَاعِظِهِ: لَوْ عَلِمَ أَهْلُ الْعَافِيَةِ مَا تَضَمَّنَتْهُ الْقُبُورُ مِنَ الْأَجْسَادِ الْبَالِيَةِ، لَجَدُّوا وَاجْتَهَدُوا فِي أَيَّامِهِمُ الْخَالِيَةِ؛ خَوْفًا مِنْ يَوْمٍ تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ.
وَأَحْوَالُ السَّلَفِ مَعَ الْمَوْتِ وَالْقَبْرِ عَجِيبَةٌ، تَدْعُو قَارِئَ سِيَرِهِمْ لِأَخْذِ الْعِظَةِ وَالْعِبْرَةِ، وَالانْتِفَاعِ بِحَيَاةِ قُلُوبِهِمْ لِحَيَاةِ قُلُوبِنَا، قَالَ الْأَعْمَشُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: أَدْرَكُتُ النَّاسَ وَإِذَا كَانَتْ فِيهِمْ جِنَازَةٌ جَاؤُوا فَجَلَسُوا صُمُوتًا لاَ يَتَكَلَّمُونَ، فَإِذَا وُضِعَتْ نَظَرْتُ إِلَى كُلِّ رَجُلٍ وَاضِعًا حَبْوَتَهُ عَلَى صَدْرِهِ كَأَنَّهُ أَبُوهُ أَوْ أَخُوهُ أَوِ ابْنُهُ.
وَقَالَ العَبَّاسُ بْنُ يَزِيدَ قُلْتُ لِسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ: لِأَيِّ شَيْءٍ كَانَ يُسْتَحَبُّ خَفْضُ الصَّوْتِ عِنْدَ الجَنَائِزِ؟ قَالَ: شَبَّهُوهُ بِالحَشْرِ إِلَى اللهِ، أَمَا سَمِعْتَهُ يَقُولُ: [وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا] {طه:108}؟
وَقَالَ صَالِحُ المُرِّي: كَانَ حَسَّانُ بْنُ أَبِي سِنَانَ إِذَا مَاتَ فِي جِيرَانِهِمْ مَيِّتٌ سَمِعْتُ مِنْ دَارِهِ النَّحِيبَ وَالبُكَاءَ كَمَا يُسْمَعُ مِنْ دَارِ المَيِّتِ فَإِذَا حَضَرَ الجِنَازَةَ ثُمَّ انْصَرَفَ لَمْ يُفْطِرْ تِلْكَ اللَّيْلَةَ وَنَظَرْتُ إِلَى وَلَدِهِ وَأَهْلِ دَارِهِ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ وَالخُشُوعُ أَيَّامًا.
فَلِلَّهِ دَرُّهَا مِنْ قُلُوبٍ حَيَّةٍ، وَنَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى أَنْ يُوقِظَ قُلُوبَنَا، وَأَنْ يُزِيلَ غَفْلَتَنَا، وَأَنْ يَتُوبَ عَلَيْنَا، وَيُخَفِّفَ عَنَّا؛ فَإِنَّا مُثْقَلُونَ بِالأَوْزَارِ.. إِنَّهُ سَمِيعٌ مُجِيبٌ.
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...
المرفقات
286.pdf
مُوجِبَاتُ عَذَابِ القَبْرِ.doc
مُوجِبَاتُ عَذَابِ القَبْرِ.doc
موجبات عذاب القبور.doc
موجبات عذاب القبور.doc
المشاهدات 5115 | التعليقات 6
أعظم الله لك الأجر والثواب - يا شيخ إبراهيم - وجزاك المولى الكريم خيرا .. ونسأله تبارك وتعالى أن يوقظ قلوبنا وجميع المسلمين من الغفلة ..
بارك الله بك شيخنا الفاضل ونفع بك..
بارك الله فيك شيخنا الفاضل واثابك
ولكن اتساءل اين شيخنا البصري منقطع عن المنتدى اسال الله ان يكون في اتم صحة وجميع من قرأ
خطبة قيمة ،، جزى الله الشيخ إبراهيم خيرًا ونفع بما كتب .
وتالله إننا لفي غفلة شديدة والتفات إلى الدنيا ونسيان للآخرة ، فإنا لله وإنا إليه راجعون .
اللهم أيقظ قلوبنا من رقدات الغفلة ، ووفقنا لما يرضيك عنا في الدنيا والآخرة .
وتالله إننا لفي غفلة شديدة والتفات إلى الدنيا ونسيان للآخرة ، فإنا لله وإنا إليه راجعون .
اللهم أيقظ قلوبنا من رقدات الغفلة ، ووفقنا لما يرضيك عنا في الدنيا والآخرة .
جزاكم الله تعالى إخواني الكرام على مروركم وتعليقكم، وأسأل الله تعالى أن يستجيب دعواتكم، وأن يقبل أعمالكم، وأن ينفع بكم..آمين.
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا ونفع بك
تعديل التعليق