موت مانديلا وتمييع العقيدة ..

عبدالله محمد الطوالة
1435/02/09 - 2013/12/12 16:07PM
أما بعد فقد اطلعت على بعض التعليقاتِ لبعضِ الكُتابِ حول هلاك المناضل الجنوب أفريقي نيلسون مانديلا ، وبغض النظر عما حققه من إنجازات وشهرة نضالية .. فقد رأينا وسمعنا وقرأنا انحرافًا خطيرًا في ثوابت الدين وأصل العقيدة، فهذا يترحمُ على موتِه، وذاك يحكم له بالجنة بل ويجعله مع النبيين والصدقين والشهداء ، وذاك يجعل الإنسانيةَ هي الجامع بيننا وبينه، وآخر يزري ويتهكم بمن يفتي بحرمة الترحم عليه ، وآخر يلبس فكرته بالفتاوى والآياتِ التي لا علاقة لها بالموضوع، وخامس يستدلُ بالمتشابهِ ويتركُ المحكمَ ويلوي أعناقَ النصوصِ لتوافق هواهُ، إلى آخر ما قيل من كلام أقل ما يقال عنه أنه قادح من قوادح عقيدة الولاء والبراء ..

وهذا الانحرافُ الخطير في ثوابتِ الدينِ والعقيدةِ يجب أن يرَدَّ عليه من نصوصِ الكتابِ والسنةِ والإجماعِ، ولا بد له من بيانِ الموقفِ الشرعي من أعداءِ الملةِ من اليهودِ والنصارى وغيرهم من أصحاب الأديانِ الوثنيةِ؛ ليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حيي عن بينة، قال تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ خَالِدِينَ فِيهَا لا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ الْعَذَاب وَلاَ هُمْ يُنْظَرُونَ) [البقرة:161، 162]. قال الجصاصُ في تفسيره: "فِيهِ دَلاَلَةٌ عَلَى أَنَّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ لَعْنَ مَنْ مَاتَ كَافِرًا، وَأَنَّ زَوَالَ التَّكْلِيفِ عَنْهُ بِالْمَوْتِ لاَ يُسْقِطُ عَنْهُ لَعْنَهُ وَالْبَرَاءَةَ مِنْهُ؛ لأَنَّ قَوْلَهُ: (وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) قَدْ اقْتَضَى أَمْرَنَا بِلَعْنِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ" اهـ.

وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ [آل عمران:91]، أَيْ: مَنْ مَاتَ عَلَى الْكُفْر فَلَنْ يُقْبَل مِنْهُ خَيْر أَبَدًا وَلَوْ كَانَ قَدْ أَنْفَقَ مِلْء الأَرْض ذَهَبًا فِيمَا يَرَاهُ قُرْبَة، كَمَا سُئِلَ النَّبِيّ عَنْ عَبْد اللَّه بْن جدْعَان وَكَانَ يُقْرِي الضَّيْف وَيَفُكّ الْعَانِيَ وَيُطْعِم الطَّعَام: هَلْ يَنْفَعهُ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: ((لاَ؛ إِنَّهُ لَمْ يَقُلْ يَوْمًا مِنْ الدَّهْر: رَبّ اِغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي يَوْم الدِّين)) ..
وعَنْ ‏‏أَبِي هُرَيْرَةَ ‏عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ‏‏أَنَّهُ قَالَ: ((وَالَّذِي نَفْسُ ‏‏مُحَمَّدٍ ‏‏بِيَدِهِ‏، ‏لاَ يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلاَ نَصْرَانِيٌّ ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ إِلاَ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ))رواهُ مسلم.
قال ابنُ كثيرٍ عند تفسيرِ الآية: (وَمَنْ يَكْفُر بِهِ مِنَ الأَحْزَاب فَالنَّار مَوْعِدُهُ) [هود:17]: "أَيْ: وَمَنْ كَفَرَ بِالْقُرْآنِ مِنْ سَائِر أَهْل الأَرْض مُشْرِكهمْ وَكَافِرهمْ وَأَهْل الْكِتَاب وَغَيْرهمْ وَمِنْ سَائِر طَوَائِف بَنِي آدَم عَلَى اِخْتِلاَف أَلْوَانهمْ وَأَشْكَالهمْ وَأَجْنَاسهمْ".
ومن الطوامِ التي ساقها بعضِهم أنهُ جعل مواقف مانديلا النضالية مسوّغًا لذكرِ مآثرهِ وأعمالهِ ومن ثم الترحم عليه ، فلننظر ماذا قال اللهُ ورسولهُ عن مثل هذه الأعمالِ ..
قَالَ تعالى: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ) [النور:39]، قال القرطبي: "وَهَذَا مَثَل ضَرَبَهُ اللَّه تعالى لِلْكُفَّارِ يُعَوِّلُونَ عَلَى ثَوَاب أَعْمَالهمْ، فَإِذَا قَدِمُوا عَلَى اللَّه تعالى وَجَدُوا ثَوَاب أَعْمَالهمْ مُحْبَطَة بِالْكُفْرِ، أَيْ: لَمْ يَجِدُوا شَيْئًا كَمَا لَمْ يَجِد صَاحِب السَّرَاب إِلاَ أَرْضًا لاَ مَاء فِيهَا، فَهُوَ يَهْلِك أَوْ يَمُوت. قَالَ تعالى: (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَل فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَنْثُورًا) [الفرقان:23]" اهـ.
وَقَالَ تعالى: (مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ) [إبراهيم:18]، قال ابنُ كثيرٍ عند تفسيرِ هذه الآية: "هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّه تعالى لأَعْمَالِ الْكُفَّار الَّذِينَ عَبَدُوا مَعَهُ غَيْره، وَكَذَّبُوا رُسُله، وَبَنَوْا أَعْمَالهمْ عَلَى غَيْر أَسَاس صَحِيح؛ فَانْهَارَتْ وَعَدِمُوهَا أَحْوَج مَا كَانُوا إِلَيْهَا، ذَلِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ" اهـ. وقَالَ الْقَاضِي عِيَاض رَحِمَهُ اللَّه تعالى: "وَقَدْ اِنْعَقَدَ الإِجْمَاع عَلَى أَنَّ الْكُفَّار لاَ تَنْفَعهُمْ أَعْمَالهمْ، وَلاَ يُثَابُونَ عَلَيْهَا بِنَعِيمٍ وَلاَ تَخْفِيف عَذَاب، لَكِنَّ بَعْضهمْ أَشَدّ عَذَابًا مِنْ بَعْض بِحَسَبِ جَرَائِمهمْ" اهـ.
فالخلاصةُ أن أعمالَ البرِ والنضال التي قام بها مانديلا أو أي كافرٍ لن تنفعهُ يومَ القيامةِ، بل ستكونُ هباءً منثورًا كما قررت الآياتُ وسنةُ المصطفى ..
أما أعجب ما في الموضوع فهو أن يترحّم عليه البعضَ، بل ويفتي بذلك ويستدلُ بقولهِ تعالى: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ) [الزلزلة:7]، ويترك النصوص المحكمة الدالةَ على المنعِ من الاستغفارِ للكافرِ أو الترحمِ عليه، علمًا أنّ هَذِهِ الآيَة في حق المؤمنين فقط، قَالَ تعالى: (وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ) [التوبة:114]، قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْر بْن الْعَرَبِيّ: "تَعَلَّقَ النَّبِيّ فِي الاسْتِغْفَار لأَبِي طَالِب بِقَوْلِهِ تعالى: (سَأَسْتَغْفِرُ لَك رَبِّي) [مريم:47]، فَأَخْبَرَهُ اللَّه تعالى أَنَّ اِسْتِغْفَار إِبْرَاهِيم لأَبِيهِ كَانَ وَعْدًا سابقاً قَبْل أَنْ يَتَبَيَّن الْكُفْر مِنْهُ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ الْكُفْر مِنْهُ تَبَرَّأَ مِنْهُ، فَكَيْفَ تَسْتَغْفِر أَنْتَ يا محمد لِعَمِّك وَقَدْ شَاهَدْت مَوْته كَافِرًا؟! (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَاَلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْد مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَاب الْجَحِيمِ) [التوبة:113].
وأما مَا رَوَاهُ مُسْلِم عَنْ عَبْد اللَّه قَالَ: (كَأَنِّي أَنْظُر إِلَى النَّبِيّ يَحْكِي نَبِيًّا مِنْ الأَنْبِيَاء ضَرَبَهُ قَوْمه وَهُوَ يَمْسَح الدَّم عَنْ وَجْهه وَيَقُول: ((رَبّ اِغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ))، وَفِي الْبُخَارِيّ أَنَّ النَّبِيّ ذَكَرَ نَبِيًّا قَبْله شَجَّهُ قَوْمه فَجَعَلَ النَّبِيّ يُخْبِر عَنْهُ بِأَنَّهُ قَالَ: ((اللَّهُمَّ اِغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ))، فَهَذَا صَرِيح فِي الْحِكَايَة عَمَّنْ قَبْله، لاَ أَنَّهُ قَالَهُ اِبْتِدَاء عَنْ نَفْسه، فلا يعدّ دليلاً ..
وعَنْ ‏‏أَبِي هُرَيْرَةَ ‏قَالَ: ‏زَارَ النَّبِيُّ ‏‏قَبْرَ أُمِّهِ، فَبَكَى وَأَبْكَى مَنْ حَوْلَهُ، فَقَالَ:((‏اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي فِي أَنْ أَسْتَغْفِرَ لَهَا فَلَمْ يُؤْذَنْ لِي، وَاسْتَأْذَنْتُهُ فِي أَنْ أَزُورَ قَبْرَهَا فَأذِنَ لِي، فَزُورُوا الْقُبُورَ فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ الْمَوْتَ)) أخرجه مسلم. فهذا نهي صريح عَنْ الاسْتِغْفَار لِلْكُفَّارِ ولو كانوا أولي قربى ..
وجاء في الموسوعةِ الفقهيةِ ما نصه: "اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الاسْتِغْفَارَ لِلْكَافِرِ مَحْظُورٌ، بَلْ بَالَغَ بَعْضُهُمْ فَقَالَ: إنَّ الاسْتِغْفَارَ لِلْكَافِرِ يَقْتَضِي كُفْرَ مَنْ فَعَلَهُ؛ لأَنَّ فِيهِ تَكْذِيبًا لِلنُّصُوصِ الْوَارِدَةِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تعالى لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ، وَأَنَّ مَنْ مَاتَ عَلَى كُفْرِهِ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ" اهـ.
‏ولن يكون مانديلا أفضل من عم النبي صلى الله عليه وسلم أغنى أبا طالبٍ ، والذي قدم للنبيّ الكثير وعرض نفسه وعشيرته للمخاطر من أجله، فحين سأله ابن عمه عبد الله بن العباس رضي الله عنهما عن عمه أبي طالب وأنه كان قد نفعه بنفسه وماله قال: ((هو في ضحضاح من النار))، ومعنى هذا أن أعماله الجليلة التي نصر بها ابن أخيه لم تنفعه؛ لأنه مات على الكفر. قال العلامةُ الألباني رحمه الله في أحكامِ الجنائزِ: "ومن ذلك تعلمُ خطأَ بعضِ المسلمين اليوم من الترحمِ والترضي على بعضِ الكفارِ، ويكثُرُ ذلك من بعضِ أصحابِ الجرائدِ والمجلاتِ". انتهى كلامه رحمه الله ..
وبعد هذه النصوصِ نأتي على مسألةٍ مهمةٍ لها علاقةٌ وثيقةٌ بما نحن بصددهِ، ألا وهي من لا يريدُ أن يكفّرَ أو يشكِّك في كفرِ الكافرِ كمانديلا وغيره، وهذا مزلق خطيرٌ جدًا، قد يوقعُ الإنسانَ في الكفر شعر أم لم يشعر، فهذا القاضي عياض رحمهُ اللهُ ينقلُ الإجماعَ على كفرِ من لم يكفر الكافر أو شكّ في كفره، وقال شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ في الفتاوى: "فهذا كلهُ كفرٌ باطنًا وظاهرًا بإجماعِ كلِ مسلمٍ، ومن شك في كفرِ هؤلاءِ بعد معرفةِ دينِ الإسلامِ فهو كافرٌ، كمن يشكُ في كفرِ اليهودِ والنصارى والمشركين" اهـ. وهذا شيخُ الإسلام محمدُ بنُ عبد الوهابِ يعدُه من نواقضِ التوحيدِ العشرة، فيقول: "الناقض الثالث: من لم يكفرِ المشركين أو شك في كفرهم أو صحح مذهبهم".
فليحذر المميعون للدينِ الساعون لإرضاءِ الآخرين ولو كان ذلكِ بسخطِ رب العالمينِ أن يخسروا دينهم وهم لا يشعرون، قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا[الكهف:103، 104].
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) ..

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...




‏يقيني بالله يقيني ..
المشاهدات 2015 | التعليقات 0