مواقف وأقوال منْ جَمِيلِ بِرِ الوَالِدَيْنِ-2-
عبد الله بن علي الطريف
مواقف وأقوال منْ جَمِيلِ بِرِ الوَالِدَيْنِ-2- 7/6/ 1442هـ
إنْ الْحَمْدُ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102]
أيها الإخوة: لقد أدركَ سلفُ الأمةِ الصالحُ فضلَ برِ الوالدين وكيفَ أنَّ اللهَ تعالى حَثَّ عليه، وكَيفَ أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ أَعْلَى مَنزِلَتَهُ فَقَالَ «الوَالِدُ أَوْسَطُ أَبْوَابِ الجَنَّةِ، فَإِنْ شِئْتَ فَأَضِعْ ذَلِكَ البَابَ أَوْ احْفَظْهُ» رواه أحمد، والترمذي وابن ماجة وابن حبان وصححه الألباني عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ ومما يحفظ ذَلِكَ البَابَ، وَمِنْ جَمِيْلِ البِرِ، وجليل الفعال؛ أَمْرٌ لَهُ أثرٌ كبيرٌ فِي إدخال السرور عليهما بما لا يخطر لك على بال، وهو اخبار الوالدين بفضلهما عليك.. وأنك تدعو لهما.. في كل حين وعلى كل حال، ومما يشرح صدريهما ويشعرهما بالراحة دعوات الأبناء لهما بصوت يسمعانه، مثل قول أبي هريرة "رَحِمَكِ اللهُ، رَبَّيْتِنِي صَغِيرًا"، والدعاء لهما بطول العمر على عمل صالح والدعاء بالصحة والعافية وغيرها.. والمشاهدُ في واقعنا كثرةُ دعوات الوالدين لأولادهم، وقِلَّةُ دعوات الأولاد لوالديهم وهم يسمعون.
وَمِنْ جَمِيْلِ البِرِ: العناية بشئونهما والقيام بما يخفف عنهما التعب أو الألم "من تهميز الأرجل وعمل المساج لهما وتفقد هيئتهما وتقديم الرعاية الجسدية لهما من تقليم الأظفار ودهن الأرجل وغيرها من العناية وتقديم الطعام المناسب لسنهم" ولهذه الأعمال أثر كبير بإدخال السرور عليهما خصوصاً إذا جاء بمبادرة من أحد الأولاد في وقت حاجة أحد الوالدين له.. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ: «بَاتَ عُمَرُ يَعْنِي أَخَاهُ يُصَلِّي، وَبِتُّ أَغْمِرُ رِجْلَ أُمِّي، وَمَا أُحِبُّ أَنَّ لَيْلَتِي بِلَيْلَتِهِ» البر والصلة لابن الجوزي.
وَمِنْ جَمِيْلِ البِرِ: طاعتهما بما يأمران مهما ارتفع مقام الابن بعلمه أو جاهه، أو كِبَرِ سنه ومهما كان طلبهما صغيراً أو حقيراً مالم يكن معصية، فهذا الإِمَامُ الفَقِيهُ الجهبذ حَيْوَةُ بْنُ شُرَيْحِ بْنِ صَفْوَانَ أَبُو زُرْعَةَ التُّجِيبيُّ المِصْرِيّ، شَيْخُ الدِّيَارِ المِصْرِيَّة وفقيهها في زمانه، الذي قَالَ عَنهُ ابْنُ الـمُبَارَك: «وُصِفَ لي حَيْوَة؛ فَكَانَتْ رُؤْيتُهُ أَكْثَرَ مِنْ صِفَتِه» وقال عَنهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْب: «مَا رَأَيْتُ أَحَدَاً أَشَدَّ اسْتِخفَاءً بِعَمَلِهِ مِن حَيْوَة، وَكَانَ يُعْرَفُ بِالإِجَابَة» هذا الإمام مع علو قدره وغزارة علمه وكثرة مريديه وعبادته كان يقوم من درسه ليطعم الدجاج استجابة لأمر أمه؛ فقد كان يقعد في حلقته يعلم الناس، فتطل عليه أمه وتقول له: "قم يا حيوة، فألق الشعير للدجاج، فيقوم ويترك المجلس ويفعل ما أمرته أمه!!"
وَمِنْ جَمِيْلِ البِرِ: ترك بعض النوافل طاعة لهما أو انشغالاً بالجلوس معهما ودفع السأأأمة عنهما، فَعَنْ عَطَاءٍ "أَنَّ رَجُلًا أَقْسَمَتْ عَلَيْهِ أُمُّهُ أَنْ لَا تُصَلِّيَ إِلَّا الْفَرِيضَةُ، وَلَا تَصُومَ إِلَّا شَهْرَ رَمَضَانَ. قَالَ: يُطِيعُهَا" البر والصلة لابن الجوزي. قَالَ ابْنُ رَجَبٍ: وَإِنَّمَا قَدَّمَ طَاعَتَهَا عَلَى التَطَوْعِ؛ لِأَنَّ طَاعَتَهَا وَاجِبَةٌ، وَهَذَا يَشْتَرِكُ فِيْهِ الوَالِدَانِ.
وَيُذْكَرُ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، أَنَّ رَجُلَا قَالَ لَهُ: إِنِّي قَدْ حَجَجْتُ، وَقَدْ أَذِنَتْ لِي وَالِدَتِي فِي الْحَجِّ، قَالَ: «لَقَعْدَةٌ تَقْعُدُهَا مَعَهَا عَلَى مَائِدَتِهَا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ حَجِّكَ» ذكره ابن أبي الدنيا في مكارم الأخلاق. وقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: "مَا يَعْدِلُ بِرَّ الوَالِدَيْنِ شَيءٌ مِنْ التَطَوْعِ لَا حَجٌ وَلَا جِهَادٌ وَلَا صَدَقَةٌ"، وقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ: «بِتُّ أَغْمِزُ رِجْلَ أُمِّي، وَبَاتَ عُمَرُ يُصَلِّي، وَمَا يَسُرُّنِي أَنَّ لَيْلَتِي بِلَيْلَتِهِ» حلية الأولياء وطبقات الأصفياء فِي الصحيحين عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ يَسْتَأْذِنُ النَّبِيَّ ﷺ فِي الْجِهَادِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "أحيٌ والدَك؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ".
وَمِنْ جَمِيْلِ لَفَتَاتِ البِرِ وجَلِيلِها: بدء بالوالدين بالتحية عند القدوم والانصراف وتقبيل رأسيهما وأيديهما لما فيه من إدخال السرور عليهما بما لا يخطر لك على بال.. وأن تخبرهما بفضلهما عليك.. فَقَدْ كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِذَا دَخَلَ إِلَى أَرْضِهِ بِالْعَقِيقِ [موضعٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ أَرْبَعَة أَمْيَال] صَاحَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: عَلَيْكِ السَّلاَمُ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ يَا أُمَّتَاهُ، فَتَقُولُ: وَعَلَيْكَ السَّلاَمُ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ، فَيَقُولُ: رَحِمَكِ اللهُ، رَبَّيْتِنِي صَغِيرًا، فَتَقُولُ: يَا بُنَيَّ، وَأَنْتَ فَجَزَاكَ اللهُ خَيْرًا وَرَضِيَ عَنْكَ كَمَا بَرَرْتَنِي كَبِيرًا." رواه البخاري بالأدب المفرد وحسنه الألباني. وكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ، فَرَأَى رَجُلَا يَطُوفُ حَامِلَا أُمَّهُ وَهُوَ يَقُولُ:
إِنِّي لَهَا بَعِيرُهَا الْمُذَلَّلُ ... إِنْ ذَعِرَتْ رِكَابُهَا لَمْ أَذْعَرُ.
أَحْمِلُهَا وَمَا حَمَلَتْنِي أَكْثَرُ.
أَتُرَانِي جَزَيْتُهَا، يَا ابْنَ عُمَرَ؟ «قَالَ: لَا وَلَا بِطَلْقَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَكِنَّك أَحْسَنْت وَاَللَّهُ يُثِيبُك عَلَى الْقَلِيلِ كَثِيرًا». رواه البخاري في الأدب المفرد وغيره بتفاوت بسيط وصححه الألباني. وَعَنْ عُرْوَةَ قَالَ فِي قَولِهِ تَعَالَى: (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ) [الإسراء:24] قَالَ: لَا تَمْتَنِعْ مِنْ شَيْءٍ أَحَبَّاهُ. رواه البخاري بالأدب المفرد وصححه الألباني. اللهم اغفر لوالدينا وأرحمهما كما ربونا صغار.. أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنبٍ وخطيئة فاستغفره يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم..
الخطبة الثانية:
أيها الإخوة: وَمِنْ جميل ما نقل عن سلفِ الأمة رضوان الله عليهم من الأقوال والأفعال في بر الوالدين ما قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: كَانَ رَجُلانِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَبَرَّ مَنْ كَانَ فِي هَذِهِ الأُمَّةِ بِأُمِّهِمَا: عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَحَارِثَةُ بْنُ النُّعْمَانِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. أَمَّا عُثْمَانُ فَإِنَّهُ قَالَ: مَا قَدَرْتُ أَتَأَمَّلُ وَجْهَ أُمِّي مُنْذُ أَسْلَمْتُ. وَأَمَّا حَارِثَةُ فَكَانَ يُطْعِمُهَا بِيَدِهِ وَلَمْ يَسْتَفْهِمْهَا كَلامًا قَطُّ تَأْمُرُهُ بِهِ حَتَّى يَسْأَلَ مَنْ عِنْدَهَا بَعْدَ أَنْ يَخْرُجَ: مَاذَا قَالَتْ أُمِّي؟
وكان حِجرُ بنُ عدي بن الأدبر يلتمس فِرَاشَ أُمِّهِ بِيَدِهِ فَيَتَّهِمُ غِلَظَ يَدِهِ، فَيَنْقَلِبُ عَلَيْهِ عَلَى ظَهْرِهِ، فَإِذَا أَمِنَ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ شَيْءٌ أَضْجَعَهَا.
وَكَانَ ظَبْيَانُ بْنُ عَلِيٍّ مِنْ أَبَرِّ النَّاسِ بِأُمِّهِ، فَبَاتَتْ لَيْلَةً وَفِي صَدْرِهَا عَلَيْهِ شَيْءٌ؛ فَقَامَ عَلَى رِجْلَيْهِ قَائِمًا يَكْرَهُ أَنْ يُوقِظَهَا وَيَكْرَهَ أَنْ يَقْعُدَ، حَتَّى إِذَا ضَعُفَ جَاءَ غُلامَانِ مِنْ غِلْمَانِهِ فَمَا زَالَ مُعْتَمِدًا عَلَيْهِمَا حَتَّى اسْتَيْقَظَتْ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهَا. ذكر هذه الآثار ابن الجوزي رحمه الله بالتبصرة. قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.: إني لا أعلم عملاً أقرب إلى الله عزوجل من بر الوالدة. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَيْرِيزٍ: مَنْ مَشَى بَيْنَ يَدَيْ أَبِيهِ فَقَدْ عَقَّهُ إِلا أَنْ يَمْشِيَ فَيُمِيطَ الأَذَى عَنْ طَرِيقِهِ، وَمَنْ دَعَا أَبَاهُ باسمه أَوْ بِكُنْيَتِهِ فَقَدْ عَقَّهُ إِلا أَنْ يَقُولَ يَا أَبَتِ.. وَقَالَ بِشْرٌ الْحَافِي: الْوَلَدُ يَقْرُبُ مِنْ أُمِّهِ بِحَيْثُ يَسْمَعُ أُمَّهُ أَفْضَلُ مِنَ الَّذِي يَضْرِبُ بِسَيْفِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالنَّظَرُ إِلَيْهَا أَفْضَلُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ! التبصرة.
وكان الربيع بن خثيم: يميط الأذى عن الطريق ويقول هذا لأمي، وهذا لأبي.. وقال حُميد: لما ماتت أم أياس بن معاوية: فبكى فقيل له: ما يبكيك؟ قال: كان لي بابان مفتوحان إلى الجنة، وأُغلق أحدهما. مكارم الأخلاق لابن أبي الدنيا. وسأل رجل ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فقال: أني نذرت أن أغزوا الروم وإن أبواي يمنعاني؟ قال: أطع أبويك، فإن الروم ستجد من يغزوها عنك.
. .
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا
تعديل التعليق